الفصل الرابع

التفكير السريع

تناول الفصل الثالث بعض الطرق التي تؤثِّر بها المؤثِّرات الاجتماعية وسلوكيات ومواقف الآخرين على قراراتنا. ويُعد سلوك القطيع أحد الأمثلة المهمة لتلك الطرق؛ فنحن نسير على نهج الآخرين؛ لأن تقليدهم يساعدنا في تقرير ما سنفعله تاليًا بسرعة. ونستخدم هذه القواعد السريعة في الكثير من القرارات التي نتخذها في حياتنا اليومية؛ وفي هذا الفصل سنستعرض بعض الطرق الاستدلالية الأساسية وتبعات استخدامها، خاصة فيما يتعلق بالانحيازات السلوكية.

قديمًا كان يتمحور تركيز علماء الاقتصاد حول دور الأسواق في تنظيم قرارات واختيارات الكثير من المستهلكين والشركات. وتلعب الأسعار دورًا محوريًّا في الأسواق؛ إذ تعطي معلوماتٍ مهمة بشأن تكاليف الإنتاج والتوازن بين العرض والطلب. ومع أن الأسواق تخدم غرضًا شديد الأهمية في الاقتصاد، فإن آليات التسعير عُرضة للخطأ، وإخفاق الأسواق بشتى أشكاله يعني أن الأسعار لا تعبِّر عن جميع جوانب العرض والطلب بشكلٍ فعال. وعلماء الاقتصاد يعرفون هذه الحقيقة أفضل من غيرهم، ويقضي الكثيرون منهم حياتهم في تحليل كيفية وأسباب إخفاق الأسواق، مع التركيز بشكلٍ أساسي على الإخفاقات السوقية والمؤسسية.

لكن علماء الاقتصاد السلوكي أضافوا بُعدًا جديدًا لهذا التحليل، لا ينظر في أنظمة الأسواق والمؤسَّسات الداعمة لها مثل الحكومات والأنظمة القانونية، وإنما إلى سلوك الأفراد أصحاب القرار الذين يشكِّلون السوق. وهنا، يُخالِف علماء الاقتصاد السلوكي افتراضات علماء الاقتصاد التقليدي، ألا وهي أن الأفراد يستخدمون قواعدَ رياضيةً معقَّدة نسبيًّا عند اتخاذ القرارات بخصوص ما يفعلونه ويشترونه ويبيعونه، وما يبذلونه من جهد في العمل.

تقليديًّا يفترض علماء الاقتصاد أنه رغم فشل الأسواق، فإن الأفراد الذين يستخدمون الأسواق في غاية العقلانية. وأنهم في بعض الأحيان، يتخذون قرارات يُمكن تحسينُها باكتساب الخبرة والمزيد من المعلومات. لكنهم يبذلون قُصارى جهدهم، بناءً على المعلومات المتاحة لديهم في ذلك الوقت، لاتخاذ القرارات المناسبة ولا يكرِّرون الأخطاء. وهذه الخيارات المنطقية تعكسُ تفضيلاتِ أصحابها التي تدفعهم إليها بشكلٍ صارم؛ فلو فضَّل شخصٌ عاقل الكتب على الشوكولاتة، والشوكولاتة على الأحذية، فحتمًا سيفضل الكتب على الأحذية. فتفضيلات هؤلاء الأشخاص العقلانيين متسقة وثابتة. ويعود ذلك إلى أنهم يعالجون أحدث المعلومات المتاحة، ويستخدمون التفكير الرياضي المنطقي لمعرفة أفضل الحلول الممكنة وأنسبها. ومع أن كثيرًا من التحليلات الاقتصادية تعالج مسألة عدم موثوقية المعلومات المتاحة أو نقصانها بطريقةٍ ما، فإن معظم علماء الاقتصاد لا يُولُون اهتمامهم لكيفية الاختيار واتخاذ القرارات غير المنطقية. وهُنا يأتي دور الاقتصاد السلوكي بمفهومه الأوسع عن العقلانية.

بالنسبة لعلماء الاقتصاد السلوكي، تكمُن مشكلة الاقتصاد التقليدي في افتراضاته المتعلقة بأدوات صنع القرار عند الأشخاص لأنها ناقصة وغير واقعية. فنحن في الواقع نتخذ كثيرًا من قراراتنا اليومية بشكلٍ سريع ودون أي تمعُّن. وهذا ليس تصرفًا غبيًّا ولا غير عقلاني بل العكس من ذلك تمامًا. فليس من الذكاء أو المنطق أن نقضيَ ساعاتٍ طويلة في جمع المعلومات وإعداد استراتيجية لاتخاذ بعض القرارات اليومية التي ليس لها أثرٌ بالغٌ في حياتنا. في بعض الأحيان، نريد أو نحتاج اتخاذ القرارات بسرعة. ولا أقصد من ذلك أن التفكير السريع أمرٌ جيد أيضًا. فعندما نتعجَّل في اتخاذ القرارات، فإننا نرتكب الأخطاء. وحين نسترجع أحداث يومنا، فقد نجد أننا لو كنا تمهَّلنا في اتخاذ بعض القرارات، فلربما قادنا ذلك إلى خياراتٍ أفضل. لهذا نتناول في هذا الفصل بعضًا من هذه الموضوعات، مع التركيز على قواعد التفكير السريع، وما يرتبط به من أخطاء نقع فيها في قراراتنا اليومية.

القرارات السريعة باستخدام الطرق الاستدلالية

من الصعب اتخاذ قراراتٍ سريعة، إذا كنا نواجه فيضًا من المعلومات، أو ما يسمَّى ﺑ «الإغراق المعلوماتي» أو «فرط المعلومات». وكذلك من الصعب اتخاذ قراراتٍ سريعة ودقيقة، إذا كان لدينا فيضٌ من الخيارات؛ أو ما يسمَّى «فرط الخيارات». افترض علماء الاقتصاد القياسي أن القدرة على الاختيار أمرٌ جيد في حد ذاته، وأن توافر خياراتٍ كثيرة أفضل من توافر خياراتٍ قليلة. فوجود العديد من الخيارات يستلزم وجود منتجاتٍ وخدماتٍ تناسب احتياجات ورغبات كل واحدٍ منا بصورة دقيقة مما يُسهِم في رفاهيتنا ورخائنا. غير أنه على أرض الواقع، لا يبدو أن كثرة الخيارات تؤدي إلى قراراتٍ أفضل.

بحث عالما النفس المتخصصان في موضوع الاختيارات، شينا أينجار ومارك ليبر، كيف يمكن لكثرة الاختيارات أن تثبِّط عزيمة المتسوِّقين والطلاب ولماذا. وفي مجموعةٍ من التجارب، طلب الخبيران من المتسوِّقين في محل بقالة استعراض كشكَين لبيع عُلب المربَّى؛ كان أحدهما يحتوي على أربعة وعشرين نوعًا معروضًا للبيع، والآخر به خمسة أنواع فحسب. وفي حين قضى المتسوقون وقتًا أطول في استعراض الكشك الذي يحتوي على أنواعٍ كثيرة من المربى، كانت مشترياتهم أكثر من الكشك ذي الاختيارات المحدودة. ربما أربكَتهم كثرة الخيارات المتاحة وثبَّطَتهم، إلى حد إعاقة قدرتهم على اتخاذ القرار. وفي تجربةٍ أخرى عن الاختيارات، كُلِّفَت مجموعتان من الطلاب بمهمَّتَي تقييمٍ مختلفتَين. فطُلب من المجموعة الأولى كتابة مقالة عن موضوعٍ واحد من ضمن ثلاثين موضوعًا. وطُلب من المجموعة الأخرى كتابة مقالة عن موضوعٍ واحد من ضمن ستة مواضيع. وعلى غرار تجربة التسوق، أظهرَت المجموعة ذات الاختيارات المحدودة أداءً أفضل وحماسةً أكبر. فقد كتبوا مقالاتٍ طويلةً ثرية مقارنة بطلاب المجموعة الأخرى.

في عصرنا الحديث، يمثِّل فرط الخيارات مشكلةً عويصة، يزيد من تفاقمها الإغراق المعلوماتي أيضًا. فعندما يواجه المستهلكون فرط الخيارات، فإن ذلك يجعلهم يتعجَّلون في اتخاذ القرار؛ فقد يختارون، على سبيل المثال، أول الأصناف التي يجدونها في القائمة، بدلًا من النظر في كل الخيارات المتاحة لديهم. ولو كانت الخيارات شديدة التعقيد — لا سيما إن كانت تنطوي على اتخاذ قراراتٍ «مملَّة» ليس لها منافعُ ملموسةٌ وفورية (مثل اختيار خطة التقاعد) — فقد ينصرفون عن محاولة الاختيار من الأساس. وقد تضاربَت نتائج الدراسات التالية لتلك التجربة بشأن مسألة فرط الخيارات، لكن أظهرت دراسةٌ حديثة أجراها ألكسندر تشيرنيف وزملاؤه أن السياق يلعب دورًا مهمًّا؛ أي إن تعقيد الخيارات المتاحة، وصعوبة المهام المطلوبة من المشاركين، وتردُّدهم بين تفضيلاتهم، وميلهم إلى تقليل الجهد المبذول في الاختيار، كلها عواملُ مرتبطةٌ بزيادة حساسية الفرد لفرط الخيارات.

بالإضافة إلى كثرة الخيارات التي نجدها عند شراء أي شيء — بداية من المربى والخبز وانتهاء إلى المنتجات المالية المعقدة — يُوجَد كمٌّ هائل من المعلومات المعقَّدة، سواء على الإنترنت أو خارجه، قد يصعُب علينا أحيانًا معالجته بسرعة وبسهولة. وبخلاف المنظور التقليدي لعلم الاقتصاد، تشير أبحاث علماء الاقتصاد السلوكي إلى أن كثرة المعلومات المتاحة لا تؤدي إلى نتائجَ أفضلَ بالضرورة. فنحن في كثيرٍ من المواقف الحياتية لا نريد إهدار الوقت والجهد في الحسابات المعقَّدة، بل نستعين بالقواعد البسيطة لاتخاذ القرارات بسرعة. يسمِّي علماء الاقتصاد السلوكي هذه القواعد البسيطة «الطرق الاستدلالية». أحيانًا تقودنا الطرق الاستدلالية إلى نتائجَ جيدة. لكنها في بعض الأحيان يمكن أن تدفعَنا إلى ارتكاب المغالطات والوقوع في الأخطاء.

في كثيرٍ من الأحيان، يكون من المنطقي استخدام الطرق الاستدلالية في اتخاذ القرارات. فالحمقى فقط مَن سيقضون أيامًا وشهورًا في استعراض بضائع جميع المتاجر الفعلية والإلكترونية، قبل اتخاذ القرار بشأن شراء نوعٍ معيَّن من السيارات أو التلفزيونات أو الثلاجات أو الهواتف، رغبةً في توفير بضعة جنيهات. ويصدُق هذا الأمر بشكلٍ خاص على القرارات اليومية البسيطة. فنحن لا نُجري بحثًا شاملًا كلما أردنا شراءَ رغيفِ خبز. ولا نُهدِر الوقتَ في مقارنة أسعار الخبز في كل محلات السوبر ماركت في لندن؛ فإذا أفلحنا في توفير خمسين بنسًا في الرغيف، فقد يكلِّفنا الذهاب إلى أرخص سوبر ماركت خمسة جنيهاتٍ إسترلينية، هذا بالإضافة إلى الوقت المُهدَر في هذه العملية. هذه الفكرة تتوافق مع تحليلات تكاليف المعاملات في الاقتصاد التقليدي. فغالبية علماء الاقتصاد يتفقون أننا نميل إلى التوفير، لا عند اتخاذ القرارات بشأن ما نريد شرائه حسب، بل عند المتاجرة والتفاوض وجمع المعلومات أيضًا.

لكن علماء الاقتصاد السلوكي يذهبون بتلك الفكرة لأبعدَ من ذلك؛ إذ يرون أننا لا نحسب تكاليف المعاملات أيضًا. إنما نستخدم الطرق الاستدلالية التي تحول دون إهدارنا للوقت في التفكير في تكاليف خياراتنا المختلفة المباشرة وغير المباشرة. وإذا عُدنا إلى مثال شراء الخبز، نجد أننا نستعين بعدد من الطرق الاستدلالية لتحديد النوع المناسب. قد نشتري النوع نفسه الذي اشتريناه في المرة السابقة؛ لأننا نتذكَّر أن مذاقه كان لذيذًا. وإذا كنا نلتزم بنمطِ حياةٍ صحي، فقد نختار نوعًا يعطي غلافه انطباعًا بالاهتمام بالصحة، كأن يكون الغلاف ورقيًّا وليس بلاستيكيًّا وعليه رسومات لنباتاتٍ خضراء وبذور. وإذا كنا في المنزل ولا نريد بذل الكثير من الجهد، فسنذهب إلى متجر البقالة القريب، على الرغم من ارتفاع أسعاره ارتفاعًا ملحوظًا عن أسعار المتاجر الكبيرة. لكن كل هذه العمليات تكاد تحدُث بطريقة تكاد تكون لا واعية. فنحن لن نفحَص المعلومات التي تقدِّمها المخابز والمورِّدون بدقةٍ تحليلية، ولن ننظر في تكاليف الخيارات المختلفة أيضًا.

لكن تكمُن مشكلة الطرق الاستدلالية في أنها تُوقِعنا في الأخطاء والانحيازات في أحيانٍ كثيرة. كان عالما النفس دانيال كانمان وآموس تفيرسكي أول من حلَّلا الطرق الاستدلالية، واشتُهرَت أبحاثهما التي كتب عنها كانمان في كتابه «التفكير السريع والبطيء»، الذي نُشر عام ٢٠١١. أظهر كانمان وتفيرسكي، عَبْر مجموعة من التجارب والتحليلات، كيف تُوقِعنا مجموعةٌ صغيرة من الطرق الاستدلالية في أخطاءٍ منهجيةٍ مُتوقَّعة. فعندما نتخذ القرارات بسرعة، قد نجد قراراتنا تحيد عما هو أفضل لنا.

ولقد بحث كانمان وتفيرسكي ثلاثة أنواعٍ رئيسية من الطرق الاستدلالية والانحيازات السلوكية المرتبطة بها، وهي: التوفر، والتمثيلية، والارتساء والضبط.

استخدام المعلومات المتوفرة

عندما نتخذ قرارًا — لا سيما وإن كنَّا في عجَلة من أمرنا — فإننا لا نفحَص كل المعلومات المتوفرة لدينا بعنايةٍ كافية. إنما نستخدم معلوماتٍ يسهُل الوصول إليها واسترجاعها واستدعاؤها. ونحن حين نستخدم ما لدينا من معرفة فإننا نشبه موظفًا يقلِّب في خزانة ملفاته بسرعة كي يلحقَ باجتماع. إذ سنأخذ أول ملف نجده ذا صلة بالموضوع على الأغلب، ولن نجد الوقت ولا الطاقة لفحص كل الملفات المتاحة بعنايةٍ للبحث عن أوثق المعلومات صلةً بموضوع الاجتماع. وهذا يعني أننا في بعض الأحيان سنفوِّت معلوماتٍ مهمة وسنرتكب الأخطاء.

يسمِّي كانمان وتفيرسكي اعتمادنا على المعلومات التي يسهُل استرجاعها، بدلًا من النظر في المعلومات ذات الصلة نظرةً شموليةً دقيقة، ﺑ «استدلال التوفر». ويرتبط التوفر أيضًا بمفاهيم من علم النفس مثل «تأثير الأسبقية» و«تأثير الحداثة». فنحن نتذكَّر أقدمَ المعلومات التي ترِد إلينا بخصوص موضوع معين وأحدثَها، وننسى المعلومات التي في المنتصف بسهولة.

ومن الممكن أن يساعدنا استدلال التوفر في تفسير سلوكياتنا المعتادة. على سبيل المثال، أحب أنا وزوجي السفر كثيرًا، وعادةً ما أتولى حجز رحلات الطيران والفنادق. وأعرف أن هناك مجموعةً كبيرةً ومعقَّدة من وكالات السفر، على الإنترنت وخارج الإنترنت، لكني أميل إلى الاستعانة بالوكالة نفسها في كل مرة أنوي فيها السفر؛ إذ يمكنني تذكُّر كيفية التواصل معها بسهولة. كما أنني أتذكر جودة (أو رداءة) تجربتي السابقة، وتساعدني في ذلك المواقع الإلكترونية التي تُتيح لي توثيق خبراتي السابقة. كما تُسهِم في ترسُّخ هذه الذكريات إشعاراتُ التذكير المتكررة عَبْر البريد الإلكتروني من مقدِّمي الخدمة. ربما يفوتني الكثير من العروض الأفضل لأنني لا أبحث بما فيه الكفاية. ومع ذلك، أتصفح المواقع الأخرى من حين لآخر حتى أحمي نفسي من الخداع، لكنني ألاحظ تقارُب أسعار الفنادق ورحلات الطيران عادة، ولا أدري هل تآمرَت وكلات السفر فيما بينها على رفع الأسعار على المستهلكين، أم أن هذا بسبب الضغط التنافسي في التسعير، أو هو المزيج من كلَيهما. على أي حال، عندما أتأمل حقيقة الأمر، أطمئن إلى أن لجوئي المتعجل إلى المعلومات القابلة للاسترجاع بسهولة لن يقودني إلى حافة الهاوية، مع أنني قد أكون مخطئة في اعتقادي هذا.

في بعض الأحيان، نستخدم استدلال التوفر عن قصد (على سبيل المثال، عند اختيار كلمات المرور الخاصة بنا)، وهذا يزيد من خطر تعرُّضنا لانتهاكات الخصوصية والأمان على أيدي المخترقين ومُرسلي الرسائل العشوائية والمحتالين. فكلمات المرور الصعبة الاختراق لا يسهُل تذكُّرها بسهولة. لذا قد نلجأ إلى استدلال التوفر لاختيارِ كلماتِ مرورٍ سهلة التذكُّر، لكن كلمات المرور سهلة التذكُّر تكون سهلة الاختراق أيضًا. تجمع شركة «سبلاش داتا» للأمن الحاسوبي قائمةً بأسوأ كلمات المرور سنويًّا. وذكرَت أن أكثر كلمة مرور شيوعًا وانتشارًا هي ١٢٣٤٥٦ (تصدَّرَت قائمة الشركة لعدة سنواتٍ متتالية). وتأتي في المرتبة الثانية لأكثر كلمات المرور شيوعًا كلمة password. كلاهما يسهُل استرجاعهما عَبْر استدلال التوفر، لكن سيسهُل على المخترقين اكتشافُهما لشيوع استخدامهما.

يهتم صناع السياسات والهيئات المنظِّمة للمنافسة بين الأسواق، بكيفية استخدامنا للطرق الاستدلالية، خاصة في سياق سلوك «التبديل» عند المستهلكين؛ فنحن نتردَّد في تبديل مقدِّمي خدمات الطاقة، وشركات الاتصالات، والخدمات المالية، حتى إذا وجدنا عرضًا أفضل في مكانٍ آخر. ما الذي يمنعنا من التبديل إلى العروض الأفضل؟ قد يكون ذلك بسبب الكسل والتسويف، أو بسبب تأثير استدلال التوفر. فنحن نميل إلى التمسك بما جرَّبناه ونعرفه، إلا إذا كانت التجربة سيئةً لا تُنسى، وذلك لأننا نألَفُ ما جرَّبناه. في الآونة الأخيرة، شعَر صُناع السياسات بقلقٍ متزايد، من أن تسيء الشركات استغلال ميل المستهلكين لعدم التغيير. فعندما لا تكون الشركات محكومةً بالضغط التنافسي الذي يفرضه المستهلكون (عندما يقرِّرون البحث عن عروضٍ أفضل في مكانٍ آخر)، فإنها تفقد الحافز الذي يدفعُها لتحسين عروضها. ما الحل إذن؟ تساعدنا مواقع مقارنة الأسعار في الاطلاع على الأسعار المتاحة بشكلٍ أسرع. كما تطوِّر الحكومات وسائل من شأنها تسهيل عملية تبديل مقدِّمي الخدمات، كما سنرى مفصلًا في الفصل التاسع، «السلوك الاقتصادي والسياسة العامة».

استخدام التمثيلات

يذكُر كانمان وتفيرسكي طريقةً أخرى من الطرق الاستدلالية، تُوقِعنا في الانحيازات، وهي استدلال التمثيل. فنحن نتخذ كثيرًا من قراراتنا من خلال المقارنات؛ أي إننا نعقد مقارنات، قد تكون سطحيةً في بعض الأحيان، مع الأحداث المتشابهة ظاهريًّا. ولقد أجرى علماء الاقتصاد السلوكي وعلماء علم النفس تجاربَ متنوِّعة، كي يُظهِروا كيف نقفز بسرعة إلى الحكم بتشابُه السيناريوهات. كما أننا نميل إلى التوفيقِ بين تصوُّراتنا عن الآخرين والقوالب النمطية التي نحتفظ بها في أذهاننا.

ويشرح كانمان وتفيرسكي استدلال التمثيل من خلال إجراء مجموعةٍ من التجارب. وفي إحداها يطلبان من المشاركين اختيار المهنة التي يرجِّحون أن شخصًا ما يمتهنها. ويعطيان بعض المشاركين وصفًا لستيف. فيقولان إنه خجول وانطوائي ويهتم بالتفاصيل. وبعد أخذ هذه المعطيات في الاعتبار، يميل المشاركون إلى ترجيح أن يكون ستيف أمينَ مكتبة، مع أن المعلومات الموضوعية التي ترجِّح هذا الاحتمال لا تدعم هذا التخمين.

يعبِّر كانمان وتفيرسكي عن ظاهرة مماثلة في تجاربهما التي استكشفا فيها «مسألة ليندا». في تلك التجارب طلبا من مجموعةٍ أخرى من المشاركين قراءة بعض المعلومات المتعلقة بامرأة تُدعى ليندا. وقالا للمشاركين إن ليندا في الثلاثينيات من عمرها. وهي ذكية، عزباء، وصريحة. كما أنها منشغلة بقضيتَي العدالة الاجتماعية والتمييز، وقد سبق أن شاركَت في المظاهرات المناهضة للأسلحة النووية. بعد ذلك، سألا المشاركين:

ما الراجح بين هذَين الاحتمالَين؟

  • (١)

    ليندا موظَّفة في بنك.

  • (٢)

    ليندا موظَّفة في بنك وتؤيد الحركة النسوية.

اختار أغلب المشاركين الاحتمال الثاني، أن ليندا تعمل موظَّفة في بنك وتؤيد الحركة النسوية، على الرغم من أن تلك الفئة تُعد مجموعةً فرعية من المجموعة التي يشملها الاحتمال الأول وهي (جميع) موظَّفي البنوك. في المجمل، يتساوى الاحتمال الثاني مع الأول في الرجحان. ولا يمكن أن يكون أرجح من الأول. تُسمى هذه المغالطة «مُغالطة الاقتران»: وهي مغالطة يقع فيها الناس عند الحكم على احتمال وقوع ما يسمِّيه واضعو النظريات ﺑ «الأحداث المقترنة»، وهي الأحداث التي تقع متلازمة كما هو موضَّح في شكل ٤-١.
fig1
شكل ٤-١: مسألة ليندا — مغالطة الاقتران.

يحكم الكثيرون بأن اقتران الحدثَين — (١) ليندا موظَّفة في بنك، (٢) ليندا تؤيد الحركة النسوية — أكثر رجحانًا من الحدث المنفرد — ليندا موظَّفة في بنك — مع أن الحدث المنفرد يشمل احتمالاتٍ أعم؛ إذ يشمل كل موظَّفي البنوك، سواء أكانوا يؤيدون الحركة النسوية أم لا. وباعتبار أنه يُوجد احتمال ألا تكون ليندا مؤيدة للحركة النسوية وفقًا للمعلومات المقدمة؛ فقد كان من المفترض أن يجد المشاركون الاحتمال (أ) أكثر رجحانًا من الاحتمال (ب) إذا أعملوا قواعد الاحتمال.

لماذا يتجاهل الكثيرون قواعد الاحتمال البسيطة؟ الإجابة عن هذا السؤال هي أننا لا نتخذ قراراتنا بالاحتكام إلى القواعد الرياضية والإحصائية فحسب. إنما نختلق قصصًا في أذهاننا بدلًا من ذلك. هذا لأن لها تأثيرًا قويًّا على مخيِّلاتنا. حين نستخدم استدلال التمثيل، فإننا نطابق أحكامنا مع خبراتنا السابقة والقوالب النمطية في أذهاننا. على سبيل المثال، تدفعنا قصة ليندا إلى أن نرجِّح أنها تؤيد الحركة النسوية، لذا فإننا ننتقي الخيارَ الذي يشير صراحةً إلى احتمال كونها تؤيد الحركة النسوية. ومع أننا نعلم بقواعد الإحصاء والاحتمالات، فإن هذه المعرفة بقواعد الاحتمالات تبدو لنا غير ذات صلة بالمسألة؛ لذا نهملها ونتبنى بدلًا منها قصةً مترابطةً منطقيًّا، وهي القصة التي تعبِّر ظاهريًّا عن ماهية ليندا ووظيفتها.

ويمكن أن يشوِّه الاستدلال بالتمثيل أحكامنا أيضًا، إذا كنا بطيئين في تكييف معرفتنا السابقة لتتسق مع معرفةٍ جديدةٍ اكتسبناها، فيتسبَّب في مشكلتَي «الانحياز التأكيدي» و«التنافر المعرفي».

يحدُث الانحياز التأكيدي عندما نؤسِّس أحكامنا بصرامة على معتقداتنا السابقة. وتشيع هذه الظاهرة في المناظرات السياسية والخلافات بين اليمين واليسار. تناول مارتن بارليت، في كتابه الذي نُشر عام ٢٠١٤ «تشويه صورة الرئيس: تغريب باراك أوباما»، ردود الأفعال تجاه دور باراك أوباما في اغتيال أسامة بن لادن في أبريل ٢٠١١. ظاهريًّا، قد يصعُب تفسير دور باراك أوباما في اغتيال بن لادن بأنه دعمٌ للإرهاب، ومع ذلك علقَت صحيفة «واشنطن تايمز» المناصرة لحزب المحافظين بأن أوباما كرَّم بن لادن عندما سمَح لأتباعه بدفنه تبعًا للشعائر الإسلامية التقليدية. كان المحافظون يرون أوباما متعاطفًا مع الإرهاب؛ ومن ثَم فإن أي فعل كان سيُقدِم عليه — ولو كان اغتيال الزعيم الإرهابي — كانوا سيعتبرونه دعمًا للإرهاب.

مثالٌ آخر على الانحياز التأكيدي هو انتخاب جيريمي كوربن غير المتوقع زعيمًا لحزب العمال المعارض، في المملكة المتحدة عام ٢٠١٥. وفي أول حضورٍ له لجلسة «اسأل رئيس الوزراء»، أدرَج أسئلةً طرحها الناخبون، في حين أن من يصوغ هذه الأسئلة عادةً أعضاءُ البرلمان البريطاني تحت قيادة زعيم المعارضة. اعتبر مؤيدوه هذا التصرف انعكاسًا واضحًا لميوله الديمقراطية الجديرة بالثناء، في حين وجدَه منتقدوه دليلًا على افتقاره للخبرة وحُسن التصرف. في الحالتَين، لم يُحدِث تصرُّف جيريمي كوربن تغييرًا كبيرًا في آراء مؤيديه ولا معارضيه، بل أكَّد معتقداتهم السابقة بشأنه.

في حين أن الانحياز التأكيدي يتعلق بتفسير الأدلة الجديدة في ضوء معتقداتنا الحالية، فإن التنافر المعرفي يتعلق بالتناقضات بين معتقداتنا وأفعالنا. قد نرى أنفسنا صالحين أسخياء، لكننا كثيرًا ما نمُر بمشرَّدين يتسولون دون أن نلتفت لهم. في مِثل هذه السياقات، تتعارض أفعالنا مع تصوُّراتنا عن ذواتنا، فنُحاوِل تبريرها بحُججٍ منطقية. قد نرى أن المشرَّد — في المثال الذي بين أيدينا — أولى له أن يتكسب ببيع جريدة «ذا بيج إيشو»؛ ولو أنه كان يبيعها لاشترينا منه واحدة. وقد نحكم أن المُشرَّد محتالٌ يحاول استعطافنا لسرقة أموالنا. كما قد نعتقد أن منحَه المال لن يساعده حقًّا لأنه سيُنفِقه على المخدِّرات. في كل تلك الحالات، تلاعبنا في تصوُّرنا للموقف بحيث لا يمسُّ باعتقاداتنا السابقة عن سخائنا.

أكَّد جورج أكرلوف وويليام ديكنز، نزوعَنا إلى تبرير أفعالنا المتناقضة، من خلال إجراء بعض التجارب السلوكية. طلب أكرلوف وديكنز من الطلاب المشاركين توجيهَ إهانات إلى بعضهم مثل: «أنتَ سطحيٌّ وغيرُ جديرٍ بالثقة ومُمِل.» ولاحظا أن الطلاب الذين يوجِّهون الإهانات قد عدَّلوا نظرتَهم لضحاياهم، فأصبحوا بالفعل أكثر انتقادًا لهم. هُنا لم يرغب الطلاب الموجِّهو الإهانات في زعزعة تصوُّرهم عن أنفسهم بأنهم أشخاصٌ «لطفاء»، فوجدوا أن سبيلهم الوحيد للتوفيق بين ذلك التصوُّر وتصرُّفهم الذي يتناقض معه هو تعديل معتقداتهم عن الآخرين. وخلص أكرلوف وديكنز إلى أن ردود أفعال الطلاب قد تحمل تشابُهًا مع محاولات الأشخاص لتبرير سلوكياتهم العنيفة والعدوانية في السياقات الأعم.

الارتساء والضبط

يحدُث النوع الثالث من التحيز عندما نُرسي قراراتنا عند نقطةٍ مرجعية ثم نغيِّر خياراتنا تبعًا لها. استخدم كانمان وتفيرسكي مجموعةً من الأدلة التجريبية أيضًا لتوضيح هذه الفكرة. وفي إحدى التجارب طلبا من تلاميذ مدارس إعطاء تخميناتٍ سريعة عن نتائج بعض المسائل الحسابية. وكلفا المجموعة الأولى بتقدير حاصل ضرب ١ × ٢ × ٣ × ٤ × ٥ × ٦ × ٧ × ٨. وطلبا من المجموعة الثانية تقدير حاصل ضرب ٨ × ٧ × ٦ × ٥ × ٤ × ٣ × ٢ × ١. كان من المفترض أن تكون التقديرات متشابهة، لكن الطلاب الذين طُلب منهم البدء ﺑ ٨ × ٧ … أتوا بتقديراتٍ أعلى من الطلاب الذين طُلب منهم البدء ﺑ ١ × ٢ … قد تفسَّر هذه الظاهرة بأن المجموعة الأولى أرست تقديراتها عند أول رقم رأته، وهو رقم «٨»، مما أدى إلى نتيجة أعلى من المجموعة الثانية التي أرست تقديراتها عند «١». توضِّح إجابات التلاميذ المشكلة الأعم التي نواجهها عندما نضبط خياراتنا عند نقطة ارتساءٍ أولية، وهي أننا لا نقوم بالضبط الكافي. إذ تشوِّه النقطة المرجعية المبدئية قراراتنا وخياراتنا.

هناك مثالٌ حياتيٌّ آخر، يمكنه تصوير الارتساء والضبط بصورةٍ أوضح، وهو سوق العقارات السكنية في مدينة سيدني. تُباع منازلُ كثيرة في أستراليا في المزادات العلنية، وهذا يزوِّد الأكاديميين بقاعدةِ بياناتٍ ثرية لدراستها. تُعد نسب البيع بالمزادات مؤشرًا مهمًّا على ازدهار سوق العقارات في سيدني، الذي شهد نشاطًا غير مسبوق عام ٢٠١٥؛ إذ ارتفعَت أسعار المنازل في المتوسط بنسبة ٢٠٪ تقريبًا. بعد ذلك، انفجرَت هذه الفقاعة (بصورةٍ مؤقتة)، في أواخر عام ٢٠١٥، وانخفضَت نسب البيع بالمزادات من ٩٠٪ إلى ٥٠٪ (أي إن ٥٠٪ فقط من المنازل المعروضة للبيع في المزادات هي التي نجح أصحابها في بيعها؛ طالع مؤشِّرات أسعار العقارات السكنية في أستراليا عبر الرابط: www.abs.gov.au/ausstats/[email protected]/mf/6416.0). في أوائل عام ٢٠١٦، استجاب أصحاب المنازل لتراجع الأسعار، وارتفعَت نسبة البيع بالمزادات مرةً أخرى لكن بسبب الانخفاض السريع في عدد البائعين العارضين منازلهم للبيع في المزادات؛ فقد تراجع عدد المنازل المعروضة للبيع بالمزاد من المئات في أواخر عام ٢٠١٥ إلى بضعة منازل في أوائل عام ٢٠١٦. أحد التفسيرات المحتمَلة لهذه الظاهرة هي أن البائعين المحتمَلين كانوا قد أرسَوا توقعاتهم عند سعرٍ معيَّن. وفور أن أدركوا صعوبة تحقيق هذا السعر على الأغلب، قرَّروا العزوف عن البيع بدلًا من قبول السعر الذي يفرضه السوق.

هناك بعض الجوانب التي يتداخل فيها عامل الارتساء في استدلال الارتساء والضبط مع استدلال التوفُّر الذي وصفناه سابقًا. إذ غالبًا ما تكون نقاطنا المرجعية أسهل في الوصول إليها معرفيًّا من المعلومات الأخرى. على سبيل المثال، نحن نستخدم في أغلب الأحيان الوضعَ الراهنَ كنقطةٍ مرجعية؛ أي إننا نميل إلى تجنُّب تغيير الوضع الراهن. وهذا يُوقِعُنا أحيانًا في «انحياز الوضع الراهن» و«انحياز الألفة»؛ أي يجعلنا نُقاوِم التغيير أو نقيِّم الأحداث بحسب درجة اختلافها عن الوضع الراهن. في حياتنا العادية، تستند الكثير من أحكامنا في القرارات التي نتخذها إلى الدرجة التي ستُبعِدنا بها عن الوضع الراهن. عندما نبحث عن وظيفةٍ جديدة أو نريد بيع منزلنا، فإن تصوُّرنا للمرتب العادل أو سعر البيع العادل سينبني على الراتب الذي نجنيه اليوم، أو السعر الذي اشترينا به منزلنا، أو السعر الذي باع به جيراننا منزلهم. الإشكال هو أن هذه الأحكام قد لا تكون مرتبطة بقُوى العرض والطلب في السوق. وقد تُسهِم هذه الأحكام أيضًا في منع الأسواق من العمل بسلاسة.

ومن الممكن أن تستغل الشركاتُ وصانعو السياسات انحيازَنا للوضع الراهن في التلاعب بقراراتنا، وذلك من خلال تعيين الوضع الراهن عَبْر الخيارات الافتراضية على سبيل المثال. فالخيارات الافتراضية المقدَّمة إلينا تمثِّل الوضع الراهن، ولا بد من بذل جهودٍ واعيةٍ لتغيير هذه الخيارات. تستغل الشركات هذه النزعة بأنانية، من خلال تصميم خياراتٍ افتراضيةٍ معقَّدة لإرباكنا، كما يشير شكل ٤-٢.
fig2
شكل ٤-٢: الخيارات الافتراضية المربكة.

غير أن صانعي السياسات يمكن أن يوظِّفوا انحياز الوضع الراهن والخيارات الافتراضية بطرقٍ أكثر فائدة؛ من أجل حلِّ المشكلات التي يمكن أن تنشأ عن ميلنا لعدم التغيير. من أهم الأمثلة على ذلك المعاشاتُ التقاعدية. تُمثل مسألةُ تدبير المال لدفع رواتب المتقاعدين، بالنظر إلى تَعْداد المتقاعدين وطول العمر المتوقَّع، مشكلةً سياسيةً عويصة ومتفاقمة لكثير من الدول المتقدمة. وهنا ابتكر عالما الاقتصاد السلوكي، شلومو بنارتزي وريتشارد ثيلر، نظامًا للمعاشات التقاعدية يستند إلى انحيازنا للوضع الراهن وما يرتبط به من ميلنا إلى التشبُّث بالخيارات الافتراضية؛ لأن تلك الخيارات غالبًا تمثِّل الوضع الراهن. وصمَّما مشروعهما الذي أسمياه «سيف مور تومورو» (ادَّخر أكثر غدًا)، بحيث تُخصَّص نسبة من الزيادات المستقبلية للأجور لصناديق المعاشات التقاعدية للعاملين. أي إنه كلما تلقى العامل زيادةً في الراتب، ذهب جزءٌ من تلك الزيادة إلى صندوق المعاش التقاعدي، ما لم يختَر العامل الخروج من البرنامج. هذا يعني أيضًا أن العمال لا يشعرون بخسارة أي أموالٍ؛ إذ إن النسبة التي تذهب للصندوق ليست من أصل الراتب إنما من الزيادة. كما أن العاملين لا يزالون يتمتَّعون بالحرية في الاختيار. فالخيار الافتراضي هو الإسهام تلقائيًّا بجزء من زيادات الرواتب، لكن إذا لم يرغب العامل في تحويل هذا الجزء إلى صندوق معاشه التقاعدي، فبوسعه إنهاء اشتراكه في المشروع. ولاحظ بنارتزي وثيلر زيادةَ المساهمات في صناديق المعاشات التقاعدية زيادةً كبيرة من خلال استغلال الخيارات الافتراضية على هذا النحو، وقد أدت هذه الفكرة الثورية إلى إعادة تصميم مشاريع وسياسات المعاشات التقاعدية في عدد من الدول.

منذ دراسات كانمان وتفيرسكي الرائدة في السبعينيات، زاد عدد الطرق الاستدلالية والانحيازات، التي حدَّدها علماء الاقتصاد والمتخصصون في علم النفس بوتيرةٍ سريعة. في الوقت الحالي، يسردُ إدخال «الانحياز المعرفي» في ويكيبيديا ما يزيد عن مائة نوع من الانحيازات المختلفة. إذا صُغنا هذه الأفكار في منهجٍ تحليلي، فإنها ستساعدنا في الفهم الجيد للكيفية والسبب وراء تأثير هذه الانحيازات في قراراتنا. وقد انشغل العديد من علماء الاقتصاد السلوكي في ذلك؛ أي في تطوير نظريات تعبِّر عن هذه الأفكار المهمة. وأحد أهم التطورات النظرية في هذا المجال هو «نظرية التوقع». في هذه النظرية، صاغ كانمان وتفيرسكي أفكارهما الأولية عن الطرق الاستدلالية والانحيازات في صورة منهجٍ تحليليٍّ ثري لعملية صنع القرار، يمكن تطبيقه بالأخص على طريقة اتخاذنا للقرارات التي تنطوي على المخاطر. سنتناول نظرية التوقُّع ونظرياتٍ منافِسةً أخرى، في مسألة القرارات التي تنطوي على مخاطر، في الفصل الخامس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥