القرارات التي تنطوي على مخاطر
استعرضنا في الفصل الرابع كيف تُوقِعنا قراراتُنا السريعة في الأخطاء، ويصدُق هذا كثيرًا على المواقف الخطرة، أو حالات عدم اليقين. عندما نقرِّر عبور الطريق، أو شراء تذكرة اليانصيب، أو استثمار أموالنا، أو الحصول على قرضٍ قصير الأجل، فإن كل تلك القرارات تنطوي على المخاطر والشك. عادةً يعتبر علماء الاقتصاد المخاطر قابلة للقياس؛ فإذا علمنا أن احتمالية تعرُّضنا للدهس تحت عجلات حافلة عند عبور الطريق هي ١ في ٨٠٠٠، فسنقرِّر ما إذا كنا نريد المخاطرة أم لا، بناءً على تقديرنا للعواقب.
وعادةً ما يفترض علماء الاقتصاد أننا نختار من ضمن الخيارات التي تنطوي على مخاطر بناءً على مدى ميلنا للمخاطرة. وأن درجة ميلنا للمخاطرة لا تتغير بتغيُّر طريقة تقديم أو صياغة الخيارات التي تنطوي على مخاطر. فإذا اشترينا تذكرة يانصيب، فإن فرصتنا في الفوز بمليون جنيهٍ إسترليني هي ١ في ١٤ مليونًا؛ ولذا فإن فوزنا غير مرجَّح، ومع ذاك نوازن بين هذا الاحتمال الضئيل في الفوز وبين الجائزة المالية الكبيرة، ونقرِّر ما إذا كنا سنشتري تذكرة اليانصيب، بناءً على مدى ميلنا للمخاطرة. هل نحب المخاطرة؟ أم نفضِّل تجنب المخاطر قدْر المستطاع؟ أم أن موقفنا محايد يتساوى فيه هذا وذاك؟ على أي حال، إذا كنا نفضِّل تجنُّب المخاطر، فلن نشتري التذكرة؛ وإذا كنَّا نحب المخاطرة، فسنشتريها.
لكن علماء الاقتصاد السلوكي يخالفون هذه الفرضية. إذ يركِّزون على تغيُّر إدراكنا للمخاطر بتغيُّر المواقف. أحد أمثلة ذلك هو اعتماد تقديرنا لدرجة المخاطرة على مدى سهولة استرجاعنا للمعلومات التي نحتفظ بها، وهذا يرتبط باستدلال التوفُّر الذي ناقشناه في الفصل الرابع. وهكذا، نتخذ قراراتِنا ليس بناءً على المعلومات التي يمكِننا العثور عليها، وإنما بناءً على المعلومات التي تتوافر لنا بسهولة ويُسر؛ أي المعلومات التي يمكِننا استدعاؤها أو استرجاعها بسرعة وبسهولة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك، عناوينُ الصحف المرتبطة بحوادث تحطُّم الطائرات؛ فنحن كثيرًا ما نقرأ عن حوادث الطائرات، والتي غالبًا ما تكون مصحوبةً بصورٍ صادمةٍ مروِّعةٍ مثيرة للعواطف للحُطام والأقارب المفجوعين. وهذا يخلُق لدينا تصورًا خاطئًا وهو أن حوادث الطائرات أكثر وقوعًا من حوادث المشاة. لكن خطر الموت دهسًا أثناء عبور الطريق أعلى بكثيرٍ من خطر الموت في حادث سقوط طائرة، إلا أن حوادث السير نادرًا ما تُنشَر خارج نطاق الصحف المحلية. من ثَم فإننا سنُولي هذه الأخبار كثيرًا من الاهتمام والعناية عندما نقرِّر حجز رحلة طيران، والأَولى بنا أن نأخذ الحذر عند عبورنا للطريق.
أحد الأخطاء الأخرى التي نقع فيها عند اتخاذنا للقرارات التي تنطوي على المخاطر، هو تضخيم أثر الخسائر في مقابل المكاسب. أظهرَت تجاربُ سلوكيةٌ كثيرة أننا نتألم من الخسارة أكثر مما نبتهج بالفوز؛ نميل إلى الحزن على خسارة ١٠ جنيهاتٍ إسترلينية مثلًا، أكثر من الفرح بالفوز بالمبلغ نفسه. تُسمَّى هذه الظاهرة «النفور من الخسارة»، وأثبتَت الدراسات أنها تنطبق على قرارات كثيرٍ من الأشخاص.
وتؤثِّر هذه الظاهرة على أسواق العقارات السكنية أيضًا؛ فعندما يرى أصحاب المنازل انخفاض أسعار المنازل، يتردَّدون في بيعها؛ لأنه من المحتمَل أن يتكبَّدوا خسارةً من انخفاض الأسعار. وبالتالي، يؤجِّلون قرارات البيع، حتى يُضطَر الكثير منهم إلى عرض منازلهم للبيع في آنٍ واحد، بسبب تدهور الظروف الاقتصادية أو ارتفاع أسعار الفائدة على الرهن العقاري. حينها، يفيض سوق الإسكان بالعقارات المعروضة للبيع، وللمفارقة تزيد خسائر أصحاب المنازل بسبب تأجيلهم لقرار البيع كراهيةً في الخسارة.
وهُنا يطوِّر علماء الاقتصاد السلوكي نظرياتٍ تسلِّط الضوء على بعض الجوانب النفسية والإنسانية لقرارات الإقدام على المخاطرة، تقدِّم تفسيراتٍ بديلة لافتراضات علماء الاقتصاد التقليدي التي تزعم أن الأشخاص يوازنون دائمًا بدقة المعلومات المتعلقة بالمخاطر ويحسبونها رياضيًّا.
نظرية التوقُّع في مقابل نظرية المنفعة المتوقَّعة
وضع دانيال كانمان وآموس تفيرسكي النموذج الأساسي للمخاطر في الاقتصاد السلوكي، وهو إلى حدٍّ ما يصوغ بعضًا من المفاهيم الرئيسية المتضمَّنة في تحليلاتهما للاستدلالات والانحيازات التي تناولناها في الفصل الرابع. تتعلق نظرية التوقع بالاحتمالات المستقبلية التي تنطوي على المخاطر؛ عندما نريد شراء منزل مثلًا، قد نجد أنفسنا أمام احتمالَين. تخيَّل شخصًا يشتري بيتًا لأول مرة، حائرًا بين شقة في منطقةٍ عمرانيةٍ موائِمة لكنها مرتفعة الثمن، وبين منزلٍ ذي مساحةٍ أكبر في منطقةٍ ريفية أو ضاحيةٍ أقل مواءمة لكنها أرخص. وقد يُضطَر المرء إلى الموازنة بين فرصتَي عمل. تخيَّل خريجًا شابًّا لديه فرصتان؛ إحداهما تدريبٌ غير مدفوع الأجر لكنه قد يؤدي إلى وظيفةٍ مُشوِّقة أو أعلى أجرًا في المستقبل، والأخرى وظيفةٌ مستقرةٌ مرتفعةُ الأجر ستوفِّر له دخلًا ثابتًا. وهكذا، في حياتنا اليومية، نُوازن بين احتمالاتٍ مختلفةٍ محفوفةٍ بالمخاطر، ونُقارن بينها من حيث المكاسب والخسائر.
انطلق كانمان وتفيرسكي في تطويرهما لنظرية التوقُّع، من مراجعة بعض العوامل الرئيسية في نظرية علماء الاقتصاد التقليدي المتعلقة بالمخاطر، وهي «نظرية المنفعة المتوقَّعة». ما هي نظرية المنفعة المتوقَّعة؟ يستخدم علماء الاقتصاد كلمة «المنفعة» للدلالة على السعادة والرضا، وتبحث نظرية المنفعة المتوقَّعة كيف نختار من بين الخيارات المختلفة بناءً على توقُّعنا لما ستُحقِّقه لنا مستقبلًا؛ أي بناءً على توقُّعنا للنفع الذي ستعود علينا به. لكننا نُصيب في توقُّعاتنا بعض الأحيان، ونُخطئ أحيانًا أخرى.
تستند نظرية المنفعة المتوقَّعة إلى بعض الافتراضات الصارمة المرتبطة بالسلوك. يفترض متبنِّي نظرية المنفعة المتوقَّعة، أن صانعي القرارات يستغلون المعلومات المتاحة ذات الصلة استغلالًا تامًّا. ويفترضون أنهم يستخدمون أدواتٍ رياضيةً معقَّدة نسبيًّا لضمان تحصيل أكبر قدْرٍ من المنفعة؛ أي يفترضون أن متَّخذي القرارات يبذلون أقصى ما في وسعهم؛ لذا فإنهم يختارون الخيارات التي ستحقِّق لهم أعلى مستوًى متوقَّع من السعادة والرضا، باعتبار ما يتوفَّر لديهم من معلوماتٍ عند اتخاذ القرار. وما إن ينتقي هؤلاء الأشخاص أفضل الخيارات المتاحة، فإنهم لا يغيِّرونها أبدًا. فخياراتُنا لا يمكن أن يشوبَها عدم الاتساق. فلو كنا نُفضِّل التفاح على البرتقال مثلًا، والبرتقال على الموز، فلا شك أننا سنُفضِّل التفاح على الموز.
المفارقات السلوكية
الإشكالية في نظرية المنفعة المتوقَّعة، وفقًا لكانمان وتفيرسكي، هي أنها لا تستطيعُ تفسيرَ بعضِ المفارقاتِ السلوكية الشائعة بسهولة، مثل «مفارقة أليه» و«مفارقة إلسبيرج» وغيرهما.
بيَّن موريس أليه، عالم الاقتصاد الفرنسي من القرنِ التاسعَ عشر، كيف أن الأشخاص يتخذون قراراتٍ غير متسقة في المواقف المحفوفة بالمخاطر في أغلب الأحيان؛ وسُميَت إحدى أشهر المفارقات السلوكية — «مفارقة أليه» — على اسمه احتفاءً به. أظهرَت المفارقة أن استجابة الأشخاص للمواقف الخطرة المختلفة ليست ثابتة ومتسقة. على وجه التحديد، إذا طُرح على شخصٍ خيارٌ له نتيجةٌ مؤكَّدة ضمن عددٍ من الخيارات التي تنطوي على مخاطر، فإنه سيختار الاختيار ذا النتيجة المؤكَّدة، رغم أنه لو طُرحَت عليه احتمالاتٌ أخرى لقرَّر المخاطرة بكامل إرادته. سمَّى كانمان وتفيرسكي هذه الظاهرة «تأثير اليقين»، ودلَّلا على وجوده بعددٍ من التجارب التي أجرياها. في تلك التجارب أرادا معرفةَ إنْ كان الأشخاص مستعدين لتحمُّل مخاطرَ إضافيةٍ بسيطةٍ من أجل زيادة مكاسبهم بمقدار دولارٍ واحد على سبيل المثال. فلو كان موقفُ الأشخاص من المخاطرة ثابتًا لا يتغير، لخاطر مَن يهوى المخاطرة، ولتجنَّبها مَن يكرهها. اختبر كانمان وتفيرسكي مفارقةَ أليه، فأدرَجا في تجاربهما نتيجةً مضمونة، حتى يريا إذا كانت ستغيِّر خيارات الأشخاص، لا سيما أولئك الذين يميلون إلى المخاطرة أكثر من غيرهم في العادة.
اختَر خيارًا واحدًا | ||
---|---|---|
لعبة (١) | لعبة (٢) | |
خيار (أ) | ٢٤ دولارًا أمريكيًّا مضمونة | احتمال نسبته ٣٤٪ للفوز ﺑ ٢٤ دولارًا أمريكيًّا |
احتمال نسبته ٦٦٪ للفوز بصفر دولار أمريكي | ||
خيار (ب) | احتمال نسبته ١٪ للفوز بصفر دولار أمريكي | احتمال نسبته ٣٣٪ للفوز ﺑ ٢٥ دولارًا أمريكيًّا |
احتمال نسبته ٣٣٪ للفوز ﺑ ٢٥ دولارًا أمريكيًّا | احتمال نسبته ٦٧٪ للفوز بصفر دولار أمريكي | |
احتمال نسبته ٦٦٪ للفوز ﺑ ٢٤ دولارًا أمريكيًّا |
الاختلاف الأساسي بين اللعبة (١) واللعبة (٢)، هو أن اللعبة (٢) لا تقدم أي نتيجةٍ مضمونة: يمنحك الخيار (أ) احتمالًا نسبته ٣٤٪ للفوز ﺑ ٢٤ دولارًا أمريكيًّا، واحتمالًا نسبته ٦٦٪ لعدم الفوز بأي شيء. أما بالنسبة للعبة (١)، فإن الخيار (ب) يمنحك فرصةً أقل قليلًا للفوز بمبلغ أكبر قليلًا؛ إذ يمنحك فرصةً نسبتها ٣٣٪ للفوز ﺑ ٢٥ دولارًا أمريكيًّا، ولكنه يرفع احتمال عدم فوزك بأي شيء بنسبةٍ طفيفة فيجعله ٦٧٪. ولذلك فإن اللعبة (٢) تشبه اللعبة (١) في جوانبَ كثيرة، باستثناء أنها لا تحتوي على أي نتيجةٍ مضمونة.
تتنبأ نظرية المنفعة المتوقَّعة بأن النتيجة تتحدد بناءً على موقف الأشخاص من المخاطرة، وأنه سيكون هناك مفاضلة بين المخاطر والمكافآت. إذا كان لدينا صنفان من الأشخاص — أحدهما حذِرٌ كاره للمخاطرة، والآخرُ مقامرٌ محبٌّ للمخاطرة — فسيختار الحذِر الخيار الآمن دائمًا، بينما سيختار المقامر الخيار الذي فيه نسبة مخاطرة. في اللعبة (١)، سيختار المقامر الفرصة الإضافية، عله يحصل على ٢٥ دولارًا أمريكيًّا، وسيتجاهل نسبة المخاطرة المرتفعة نسبيًّا التي ينطوي عليها الخيار، في مقابل احتمال الفوز بالمكافأة المرتفعة نسبيًّا. وفي اللعبة (٢)، سيختار المقامر أيضًا الخيار الذي يمنحه فرصة الفوز ﺑ ٢٥ دولارًا أمريكيًّا؛ أي إنه في كلتا الحالتَين سيختار (ب) بسبب ميله للمغامرة.
أما الشخص الحذِر فسوف يتصرف عكس المقامر؛ أي إنه سيختار الخيار (أ)، في اللعبة (١) واللعبة (٢)؛ لأنه الخيار الآمن، حيث تقل نسبة الخسارة إلى الحد الأدنى. في اللعبة (١)، يضمن الخيار (أ) فوز اللاعب بنسبة ١٠٠٪. وفي اللعبة (٢)، تكون احتمالية الفوز بصفر دولار أمريكي أقل في الخيار (أ)، حيث تبلغ ٦٦٪، عن الخيار (ب)، التي تكون احتمالية الحصول على صفر دولار أمريكي فيها أعلى قليلًا حيث تبلغ ٦٧٪.
كيف يلعب الأشخاص الحقيقيون هذه اللعبة؟ أكدَت نتائج كانمان وتفيرسكي ما خلصَت إليه دراساتٌ سابقة، وهو أن اختيارات الأشخاص غير متسقة؛ فلا يفضِّل المقامرون المخاطرة دائمًا. إذ اختار الكثيرون الخيار (أ) — الذي تبلغ فيه نسبة المخاطرة صفر — في اللعبة (١)، لكنهم اختاروا الخيار (ب) — الذي تكون المخاطرة فيه أكبر نسبيًّا — في اللعبة (٢). وفسَّر كانمان وتفيرسكي ذلك بأنه إثبات لتأثير اليقين على اختيارات اللاعبين. إذ لن يمانع الكثيرون المجازفة والمقامرة، ولكن عندما تُعرض عليهم فرصة فوز مضمونة، فإنها تجعلهم يُعرِضون عن خوض مخاطرة إضافية في مقابل تحصيل مكافآتٍ أكبر.
كيف يرتبط تأثير اليقين باختياراتنا اليومية؟ قد يؤثِّر على اختياراتنا في المسابقات ذات الجوائز. صمم كانمان وتفيرسكي أيضًا مسابقات جوائزها رحلاتٌ مستمدة من ألعاب تأثير اليقين. وفي إحداها، طلبا من المشاركين الاختيار بين فرصة نسبتها ٥٠٪ للفوز برحلةٍ سياحية إلى إنجلترا وفرنسا وإيطاليا لمدة ثلاثة أسابيع، وفرصة مضمونة نسبتها ١٠٠٪ للفوز برحلةٍ سياحية إلى إنجلترا لمدة أسبوعٍ واحد. نلاحظ هُنا أن فرص الفوز برحلة إنجلترا، وهي الأدنى من حيث القيمة، ضعف فرصة الفوز برحلة أوروبا الأعلى قيمة. ومع ذلك، اختارت الأغلبية (٧٨ من أصل ١٠٠ مشارك) رحلة إنجلترا المضمونة رغم أنها الأقل قيمة.
وبالمقارنة في لعبةٍ ثانية، كان المشاركون أكثر استعدادًا للمخاطرة للفوز بالرحلات. كانت الاحتمالات النسبية هي نفسها كما هي في اللعبة الأولى؛ أي كانت فرصة الفوز برحلة إنجلترا ضعف فرصة الفوز بعطلة أوروبا؛ لكن اللعبة لم تنطوِ على أي فرصةٍ مضمونة بنسبة ١٠٠٪. كانت الخيارات هي فرصة نسبتها ٥٪ للحصول على رحلة أوروبا لمدة ثلاثة أسابيع، وفرصة نسبتها ١٠٪ للحصول على رحلة إنجلترا لمدة أسبوع. عندما عُرض على المتسابقين خيار فرصة الفوز برحلة أوروبا التي نسبتها ٥٪ فضله ٦٧ من أصل ١٠٠ مشارك، رغم أن نسبة الفوز برحلة إنجلترا الضعف تقريبًا. ومع أن الاحتمالات النسبية واحدة، بدَّل المشاركون تفضيلاتهم من الخيار الأقل قيمة لكنه مضمون، إلى الخيار الأعلى قيمةً لكنه أقل احتمالًا. ولذلك تبيَّن أن تأثير اليقين يسيطر على قرارات المشاركين في مسابقات الرحلات أيضًا. أرجع كانمان وتفيرسكي الأمر إلى تقديرنا لوزن الاحتمالات؛ فنحن لا نعطي جميع الاحتمالات وزنًا متساويًا، بل نميل إلى ترجيح النتائج المؤكَّدة عن النتائج غير المؤكَّدة. فاليقين يُصيبنا بالارتباك.
وذكر كانمان وتفيرسكي مفارقةً أخرى شهيرة، وهي مفارقة إلسبيرج، التي سُميَت على اسم الاقتصادي ومحلِّل الشئون العسكرية دانيال إلسبيرج، الذي عمل لبعض الوقت في مؤسسة راند للأبحاث والتطوير. كان إلسبيرج مثلًا أعلى لكاشفي الفساد والصحفيين المعاصرين، بما فيهم إدوارد سنودن وجوليان أسانج؛ فقد سرب «أوراق البنتاجون»، التي وثقَت قرارات الحكومة الأمريكية المثيرة للجدل في أثناء حرب فيتنام لصحيفة «نيويورك تايمز» في عام ١٩٧١.
ما الخيار الذي ستراهن عليه؟ | ||
---|---|---|
لعبة (١) | لعبة (٢) | |
خيار (أ) | الأحمر | الأحمر أو الأصفر |
خيار (ب) | الأسود | الأسود أو الأصفر |
نلاحظ هُنا أن مجموعتَي الاختيارات متشابهتان إلى حدٍّ كبير. في اللعبة (١) الخيار (أ) هو الأحمر؛ والخيار (ب) هو الأسود. هذه الخيارات هي نفسها تقريبًا في اللعبة (٢)، باستثناء إضافة «أو الأصفر» إلى كلا الخيارَين. قد يتوقَّع منظِّرو المنفعة المتوقَّعة أنه إذا اختار شخص الخيار (أ) (الأحمر) في اللعبة (١)، فسيختار أيضًا الخيار (أ) (الأحمر أو الأصفر) في اللعبة (٢)؛ لأن فرص سحب الكرة الحمراء لن تتغير من اللعبة (١) إلى اللعبة (٢). وبالمثل، إذا اختار الشخص الخيار (ب) (الأسود) في اللعبة (١)، فسيختار حتمًا الخيار (ب) (الأسود أو الأصفر) في اللعبة (٢).
يمكن تفسير ذلك بأن الأشخاص يمكنهم حساب احتمالات «الأحمر» و«الأسود أو الأصفر» بدقة إذا حصَلوا على المعلومات اللازمة مُسبقًا. لكن تلك المعلومات لا تتضمن معلومةً دقيقة عن احتمال سحب كرة سوداء أو كرة صفراء (إذ يعرفون فقط الاحتمال الإجمالي للونَين الأسود والأصفر). ولذلك فإن الخيار (ب) في اللعبة الأولى غامض؛ والخيار (أ) في اللعبة (٢) غامض. يتجنَّب معظم الأشخاص الخيار الغامض؛ إذ يشعرون بما يسمَّى «النفور من الغموض». وهم في ذلك ليسوا غير عقلانيين بالمرة، عندما يتجنَّبون المواقف الغامضة، لكن كانمان وتفيرسكي زعما عدم سهولة تفسير النفور من الغموض في ضوء نظرية المنفعة المتوقَّعة، وسعَيا إلى تطوير نظرية التوقع الخاصة بهم، حتى تتَّسقَ مع هذه الظاهرة.
الاختيارات غير المتَّسقة
حرص كانمان وتفيرسكي، في أثناء صياغتهما لنظرية التوقُّع، على وضع بديل لنظرية المنفعة المتوقَّعة، من شأنه أن يفسر المفارقات التي أبرزتها تجارب أليه وإلسبيرج، إلى جانب بعض التأثيرات الإضافية التي لاحظها كانمان وتفيرسكي في تجاربهما.
ما هذه التأثيرات؟ اكتشف كانمان وتفيرسكي أن الأشخاص يكونون أكثر استعدادًا لتحمُّل المخاطر عند محاولة تجنُّب الخسائر، وأقل استعدادًا لتحمُّل المخاطر عند محاولة تحقيق المكاسب. أشار كانمان وتفيرسكي أن تفضيل الأشخاص للمخاطرة عند مواجهة الخسائر هو انعكاسٌ لما يفعلونه عند مواجهة المكاسب، ولذا أسمَيا هذه الظاهرة «تأثير الانعكاس».
ما الذي ستختاره؟ | ||
---|---|---|
لعبة (١) | لعبة (٢) | |
خيار (أ) | احتمال ٨٠٪ للفوز ﺑ ٤ آلاف دولار أمريكي، واحتمال ٢٠٪ للفوز بصفر دولار أمريكي | احتمال ٨٠٪ لخسارة ٤ آلاف دولار أمريكي، واحتمال ٢٠٪ لخسارة صفر دولار أمريكي |
خيار (ب) | ربح أكيد لمبلغ ٣ آلاف دولار أمريكي | خسارة أكيدة لمبلغ ٣ آلاف دولار أمريكي |
تتساوى المكافآت في هاتَين اللعبتَين. ففي كلتَيهما يقرِّر المشاركون بين خيار فيه مجازفة (الخيار أ) وخيار مضمون النتيجة (الخيار ب). الفارق الوحيد أن اللعبة (١) تتضمَّن مكسبًا واللعبة الثانية تتضمَّن خسارة. سيتوقع منظِّرو المنفعة المتوقعة، أن يختار اللاعب الذي يفضل المخاطرة الخيار (أ) في اللعبتَين، واللاعب الذي يكره المخاطرة الخيار (ب) في اللعبتَين، لكن كانمان وتفيرسكي اكتشفا أن سلوك الأشخاص لم يتبع النمط الذي تتوقعه نظرية المنفعة المتوقعة. فقد اختار أغلب المشاركين (٨٠ مشاركًا من أصل ١٠٠) النتيجة المضمونة في لعبة (١)، لكن معظم المشاركين (٩٢ مشاركًا من أصل ١٠٠) قرَّروا الخيار المحفوف بالمخاطر في لعبة (٢). كان المشاركون مستعدِّين لتحمُّل المخاطر لتجنُّب الخسارة، لكنهم ذهبوا إلى النتيجة المضمونة عندما قُدمَت إليهم احتمالات المكاسب. وبهذه الأدلة أكد كانمان وتفيرسكي وقوع تأثير الانعكاس؛ أي إن الأشخاص مستعدون لتحمل المزيد من المخاطر من أجل تجنُّب الخسائر.
أشار كانمان وتفيرسكي أن هذا السلوك قد يفسِّر تفضيل الأشخاص التأمين المشروط (أي التعويضات التأمينية المشروطة بحوادثَ بعينها مثل الحريق والتلف والسرقة) على التأمين الاحتمالي (أي بوليصات التأمين التي لا يُوجد فيها غطاءٌ تأميني مضمون وتحدَّد فيها التعويضات بناءً على الصدفة).
يمكن أن يتضمَّن عقد التأمين الاحتمالي تخفيض أقساط التأمين العادية إلى النصف لحامل وثيقة التأمين على أن يرضى في المقابل أن يجازف بنسبة احتمال أن يتحمل جميع تكاليف الضرر بنفسه. فإذا حدثَت خسارة أو وقع ضرر، ستقرِّر الصدفة البحتة ما سيحدث تاليًا؛ إذ يُوجَد احتمال ٥٠٪ أن يدفع صاحب وثيقة التأمين النصف المتبقي من القسط وتغطي شركة التأمين جميع تكاليف الخسائر، واحتمال ٥٠٪ أن يتحمل صاحب وثيقة التأمين كل تكاليف الخسائر بنفسه وترُد شركة التأمين الأقساط التي دفعها. زعم كانمان وتفيرسكي أن ذلك يشبه في جوهره شراء جهاز إنذار من السرقة؛ أي إن الأشخاص يدفعون المال مقابل تقليل احتمال الخسارة لا نفيه تمامًا؛ ومع ذلك عندما يعرض على الناس التأمين الاحتمالي يرفضه أغلبهم. فلو كان الناس متسقين في موقفهم من المخاطرة لفضَّل أولئك الذين يميلون إليها التأمين الاحتمالي على التأمين المشروط.
لعبة (١): لعبة متعددة المراحل | لعبة (٢): لعبة من مرحلة واحدة | |
---|---|---|
المرحلة (١): لديك فرصة ٢٥٪ للانتقال إلى المرحلة (٢) (وفرصة ٧٥٪ لعدم الانتقال إلى المرحلة (٢).) إذا انتقلتَ إلى المرحلة (٢)، فما الخيار الذي ستختاره؟ | لا توجد سوى مرحلة واحدة | |
خيار (أ) | احتمال ٨٠٪ للفوز ﺑ ٤ آلاف دولار أمريكي، واحتمال ٢٠٪ للفوز بصفر دولار أمريكي | احتمال ٢٠٪ للفوز ﺑ ٤ آلاف دولار أمريكي، واحتمال ٨٠٪ للفوز بصفر دولار أمريكي |
خيار (ب) | ربح أكيد مقداره ٣ آلاف دولار أمريكي | احتمال ٢٥٪ للفوز ﺑ ٣ آلاف دولار أمريكي، واحتمال ٧٥٪ للفوز بصفر دولار أمريكي |
صُممَت هاتان اللعبتان بعناية بحيث تتطابق المكافآت التي يتوقَّعها اللاعبون من كلتَيهما. ولإيضاح هذا الأمر دعُونا ننظر في احتمالات الخيارات المختلفة.
في اللعبة (١)، يمتلك اللاعبون فرصة ٢٥٪ للانتقال إلى المرحلة (٢)، مما يعني أن هناك احتمالية ٧٥٪ ألا يفوزوا بأي شيء على الإطلاق؛ لأنهم لن ينتقلوا إلى المرحلة (٢). ولذلك لا بد أن يضع المشاركون هذه الحقيقة في اعتبارهم، أن لديهم فرصة ٢٥٪ للوصول إلى المرحلة التي يمكنهم الفوز فيها من الأساس.
وهكذا، في الخيار (أ) من اللعبة (١)، تتألف «القيمة المتوقعة» للخيارات المختلفة من مجموع ٢٥٪ (فرصة الانتقال للمرحلة (٢)) مضروبة في فرصة ٨٠٪ للفوز ﺑ ٤ آلاف دولار أمريكي، زائد احتمال ٢٠٪ لعدم الفوز بأي شيء.
٢٥٪ × {(٨٠٪ × ٤٠٠٠$) + (٢٠٪ × ٠$)} = ٨٠٠$
في الخيار (ب) من اللعبة (١)، يمتلك المشاركون فرصة ٢٥٪ للوصول إلى المرحلة الثانية، حيث يضمَنون الحصول على ٣٠٠٠ دولارٍ أمريكي، وبالتالي تكون القيمة المتوقعة لهذا الخيار ٢٥٪ × ١٠٠٪ × ٣٠٠٠$:
٢٥٪ × {(١٠٠٪ × ٣٠٠٠$)} = ٧٥٠$
في اللعبة (٢)، صمَّم كانمان وتفيرسكي القيمة المتوقَّعة للخيارات، كي تتطابق مع خيارات اللعبة (١)؛ لكن لا توجد مرحلةٌ أولى هذه المرة إذ يذهب المشاركون مباشرة إلى الاختيارَين الموضَّحَين في الجدول، لذا يسهُل حساب المكافآت لأنه حتى أذكى الرياضيين لن ينشغلوا إلا بمجموعة واحدة من الخيارات:
نلاحظ أن اللعبتَين متطابقتان فقط من حيث القيمة المتوقَّعة للخيارات. فالقيمة المتوقَّعة للخيار (أ) — في كلتا اللعبتَين — هي ٨٠٠ دولارٍ أمريكي. والقيمة المتوقَّعة للخيار (ب) — في كلتا اللعبتَين — هي ٧٥٠ دولارًا أمريكيًّا. ومن ثَم يمكننا أن نُجريَ بعض المقارنات بينهما. إذا كانت نظرية المنفعة المتوقعة صحيحة، فإن الذي يختار الخيار (ب) في اللعبة (١)، سيختار الخيار (ب) في اللعبة (٢) أيضًا. لكن وجد كانمان وتفيرسكي أن غالبية المشاركين (٧٨ مشاركًا من أصل ١٠٠) اختاروا الخيار (ب) في اللعبة (١)؛ بينما اختار غالبية المشاركين (٦٥ مشاركًا من أصل ١٠٠) الخيار (أ) في اللعبة (٢). أشار كانمان وتفيرسكي إلى احتمال أن يكون المشاركون قد نسوا أمر المرحلة الأولى في اللعبة (١). أي نسوا أنهم، بادئ ذي بَدْء، لديهم فرصة بنسبة ٢٥٪ فقط للوصول إلى المرحلة الثانية. وفسَّرا ذلك بأن الأشخاص لا يُدرِجون حقيقة أن لديهم فرصة نسبتها ٢٥٪ للوصول إلى المرحلة الثانية في حساباتهم للقيم المتوقعة لخيارات اللعبة (١). ما يقوم به المشاركون، حقيقة، هو أنهم يعزلون الخيارات المختلفة المقدمة إليهم، عَبر تركيز اهتمامهم على المرحلة الثانية من اللعبة (١) فلا يتحولون عنها إلى غيرها.
صياغة نظرية التوقع
أكَّد كانمان وتفيرسكي أن أي نظرية لاتخاذ القرارات لا بد أن تكون قادرة على تفسير التأثيرات الثلاثة التي وضحناها سابقًا؛ تأثير اليقين، وتأثير الانعكاس، وتأثير العزل. وبالتالي تمحور نقدهما لنظرية المنفعة المتوقَّعة حول عجزها عن تفسير هذه التأثيرات الثلاثة؛ وقرَّرا صياغةَ نظريةٍ يمكنها تحقيق ذلك وهي «نظرية التوقع». زعم كانمان وتفيرسكي أن نظريةَ التوقُّع لديها قوةٌ تفسيريةٌ في العالم الواقعي تفوق بكثيرٍ نظرية المنفعة المتوقَّعة.
تستند نظرية التوقُّع إلى فكرة أننا نقدِّر قيمة الخيارات المختلفة بطرقٍ معينة، لا تتفق مع نظرية المنفعة المتوقَّعة في الاقتصاد القياسي. وتتعلق الفكرة الأولى بالمقارنات النسبية التي نعقدها عند تحديد الخيارات واتخاذ القرارات. نحن لا نُقرِّر شراء هاتفٍ محمولٍ جديد مثلًا، بناءً على جميع المعلومات المقدَّمة عن ذلك الهاتف وغيره من الهواتف المعروضة، بل نقارن الهواتف المعروضة علينا بالهاتف الذي نملكه بالفعل، ونُقرِّر إن كان أحد الخيارات المعروضة أفضل من هاتفنا أم لا. وهكذا، لا نبدأ من الصفر عندما نتخذ قراراتنا، بل نعرض الخيارات المتاحة على نقطةٍ ابتدائية أو نقطةٍ مرجعية. إحدى تبعات ذلك هو أن قراراتنا تكون مدفوعةً بمدى اختلافها عن نقطتنا المرجعية لا عن كل المعلومات المتاحة لدينا.
تبلور فكرة النقطة المرجعية أفكار كانمان وتفيرسكي الأولية عن استدلال الارتساء والضبط، الذي ناقشناه في الفصل الرابع؛ أي إننا نُرسي اختياراتنا عند نقطةٍ مرجعية ثم نضبط اختياراتنا تبعًا لها. وكما رأينا في الفصل الرابع، كثيرًا ما تكون نقطتنا المرجعية هي الوضع الراهن. يربط كانمان وتفيرسكي ذلك بمفهوم الاستتباب أو التوازن الفسيولوجي، الذي ينص على وجود نقطة ضبط فسيولوجية، تحدِّد استجاباتنا الجسدية. فالحدث الواحد سيكون له تأثيراتٌ مختلفة على فسيولوجية أجسادنا بناءً على اختلاف نقطة الانطلاق؛ فإذا كنا نشعر بالحرارة الشديدة مثلا، وأحسَسنا بهبَّة رياحٍ باردة، فسنشعر بالبهجة. لكن إذا كنا نشعُر بالبرد الشديد، وأحسسنا بهبة رياحٍ باردة، فسنشعر بعدم الراحة. تتسم قراراتنا التي تستند إلى نقطةٍ مرجعية بأنها جامدة ويصعُب أن تتغير. نحن نبدي الكثير من الميل لعدم التغيير في سلوكنا اليومي. وقد يكون هذا لأن التغيير يستلزم جهدًا كبيرًا، أو لأننا مسوفون أو كسالى؛ باختصار، هناك مجموعةٌ معقَّدة من الأسباب الاجتماعية الاقتصادية والنفسية التي تفسِّر مقاومتنا للتغيير.
هناك سمةٌ رئيسيةٌ أخرى لنظرية التوقع، تبلورَت من أفكار كانمان وتفيرسكي حول تأثير الانعكاس، الذي تناولناه في موضعٍ سابق من هذا الفصل، وهي مرتبطة بمفهوم نفورنا الطبيعي من الخسارة؛ أي إننا نكترث بالخسائر أكثر من المكاسب. ويرى الكثير من علماء الاقتصاد السلوكي أن أحد مظاهر نفورنا من الخسارة وتحيُّزنا للوضع الراهن هو «تأثير المنحة». فنحن نخاف على الأشياء التي نمتلكها ويمكننا خسارتها، أكثر من خوفنا على الأشياء التي لا نمتلكها ويمكننا شراؤها. وقد دلَّل دانيال كانمان وجاك نيتش وريتشارد ثيلر على تأثير المنحة من خلال إجراء بعض التجارب على الطلاب. وقُسِّم الطلاب في تلك التجارب إلى «مشترين» و«بائعين» عشوائيًّا. وأُعطي البائعون أكوابًا كي يقوموا ببيعها. ومُنح المشترون الوسيلة لشرائها. وعُرض على البائعين أسعارٌ مختلفة مقابل بيع الأكواب. وعُرض على المشترين شراؤها بأسعارٍ مختلفة. كان هناك اختلافٌ كبير بين الأسعار التي قبل بها البائعون والمشترون؛ فقد كان متوسط السعر الذي قبِل به البائعون هو ٧٫١٢ دولارات أمريكية؛ ومتوسط السعر الذي قبِل به المشترون هو ٣٫١٢ دولارات أمريكية.
وبالنظر إلى هذا الدليل فحسب، يصعُب أن نجزم أن ما نراه هو تأثير المنحة. فقد يخطر ببالنا أن البائع الذي يسعى إلى تحقيق أعلى ربحٍ ممكن، سيبدأ المساومة بسعرٍ مرتفع لا يتناسب مع العرض والطلب، ليرى إنْ كان يمكنه تحقيقه. وستنطوي عملية المساومة على خفض البائعين للسعر المستعدين لقبوله ورفع المشترين للسعر المستعدين لدفعه حتى يتحقَّق التوازن بينهما. ومع ذلك، تُوجَد أدلة على أن التباين بين السعر المستعدين لقبوله والسعر المستعدين لدفعه ينطبق على اختياراتنا الأخرى أيضًا.
للتدليل على وجود تلك التباينات في سياقاتٍ أوسع، أجرى كيب فيسكوسي وزملاؤه بعض التجارب، حول مواقف الأشخاص من التسمُّم الكيميائي. فعرضوا على المستهلكين مبيدات حشرية ومنظفات مراحيض، وسألوهم عن المبلغ الذي يقبلون دفعه في مقابل الحصول على منتجاتٍ أكثر أمانًا يقل معها خطر الإصابة بالتسمُّم الكيميائي. بعد ذلك، سألوهم عن إن كانوا مستعدين لقبول شراء منتج أقل أمانًا يزيد معه خطر الإصابة بالتسمم الكيميائي بسعرٍ مخفض. قد يتوقع معظم علماء الاقتصاد أن إجابات المستهلكين على هذَين السؤالَين ستكون متسقة؛ أي أن يكون المبلغ الذي هم مستعدون لدفعه من أجل الحصول على المنتج الأكثر أمانًا مكافئًا لمقدار التخفيض في السعر الذي يتوقعون الحصول عليه تعويضًا عن عدم أمان المنتجات، لكن نتائج تجارب فيسكوسي وزملائه جاءت على خلاف ذلك. إذ أظهرَت استجابات الأشخاص في مسألة تقليل المخاطر نمطًا قياسيًّا تنبأَت به النظرية الاقتصادية، وهو أن الأشخاص يتردَّدون في دفع المال في مقابل الحصول على مستوياتٍ مرتفعة من الأمان. ومع ذلك، لا يقبلون على الإطلاق زيادة خطر الإصابة بالتسمم، في مقابل انخفاض السعر.

نظرية الندم
ومع أن نظرية التوقع (بنسخها المختلفة) لها تأثيرٌ قوي في علم الاقتصاد السلوكي، إلا أنها تظل مجرد واحدة من ضمن نظرياتٍ عديدة استخدمها علماء الاقتصاد السلوكي. وهناك نظرياتٌ أخرى، من بينها نموذج المحاسبة العقلية لريتشارد ثيلر، ونظرية الندم. وتنبني المحاسبة العقلية على بعض الأفكار المتعلقة بالصياغة والسياق المنبثقة من نظرية التوقع، لكنها ترتبط أيضًا بتخطيطنا للمستقبل، وهو ما سنتناوله ببعض التفصيل في الفصل السادس.
طوَّر جراهام لومز وروبرت ساجدن نظرية الندم كبديلٍ لنظرية التوقع. وزعما أن نظرية الندم تقدِّم لنا طريقةً لتفسير بعض المفارقات والتناقضات السلوكية المرتبطة بنظرية المنفعة المتوقعة، أبسط وأقرب إلى الحدْس من طريقة نظرية المنفعة المتوقعة.
ما جوهر نظرية الندم؟ تفترض نظرية الندم تعدُّد الاحتمالات المستقبلية التي لا سبيل لدينا لمعرفتها لعجزنا عن التنبؤ بالمستقبل. وتفترض أن التفاعل بين خياراتنا الحاضرة والمستقبل المجهول يُسهِم في تحديد مقدار الرضا (أو الندم) الذي ستمنحُنا إياه خياراتنا في النهاية. نندم على بعض القرارات، و«نسعد» بقراراتٍ أخرى، لكن هذا الندم أو السعادة يتحدد وفقًا للنتائج المستقبلية، التي قد تكون خارجة عن سيطرتنا تمامًا. وهذا أحد أهم جوانب الاختلاف الأساسية بين نظرية الندم ونظرية التوقع. فنظرية التوقع تفترض نتيجةً مستقبليةً واحدة، في حين تفترض نظرية الندم نتيجتَين (أو أكثر)، وسوف تتوقف تقييماتنا لسعادتنا على النتيجة التي ستتحقق في النهاية، وكذلك على توقعاتنا للندم في المستقبل.
على سبيل المثال، لنفترض أنك متردِّد في أخذ مظلتك إلى العمل. أنتَ لا تستطيع التنبؤ بحالة الطقس اليوم (لأنك تعيش في إنجلترا مثلًا). ينطوي أخذ المظلة على شيء من العناء؛ فقد لا تتلاءم مع حجم حقيبتك؛ ولو كنتَ شارد الذهن قليلًا فستضيِّعها بسهولة. لكن إذا هطلَت الأمطار، فستدرك أن الأمر كان يستحق كل هذا العناء. وبالتالي، ما يحدد السعادة أو الرضا في هذه الحالة، هو أمرٌ خارج عن سيطرتك تمامًا، وهو طقس إنجلترا. أما إذا كان الطقس مشمسًا، فستندم على أنك تجشَّمتَ عناء حمل المظلة لا سيما إذا أضعتَها. فسعادتنا لا تعتمد فقط على تصوراتنا وتفضيلاتنا واختياراتنا. إنما تعتمد أيضًا على الطريقة التي نحكم بها على اختياراتنا السابقة عندما نسترجعها، باعتبار الاحتمال المستقبلي الذي تحقق؛ بعدما يكون الأوان قد فات على الرجوع عن قرارنا. نحن لا نتحكم في هذه الاحتمالات المستقبلية، ومع ذلك تعتمد عليها سعادتنا بدرجةٍ كبيرة.
ولقد طرح علماء الاقتصاد أمثلةً أكثر تعقيدًا من المثال السابق مثل اختيار موقع محطات الطاقة النووية. لو أُقيمت محطة طاقةٍ نووية في منطقة تبيَّن أنها مُعرَّضة للزلازل والتسونامي مثلًا (كما حدث في اليابان عام ٢٠١١)، فسيندم المُخططون على اختيارهم للموقع. وهكذا لا تتحدد العواقب باختياراتنا فحسب، بل بما يجري حولنا من حوادث.
في هذا الفصل والفصل الرابع، ركَّزنا على الطرق الاستدلالية والانحيازات العقلية والمفارقات السلوكية، والنظريات السلوكية التي صاغها علماء الاقتصاد لتفسيرها. وكان تركيزنا بشكلٍ أساسي على الانحيازات المرتبطة بقراراتنا واختياراتنا التي تنطوي على مخاطر. ولعلماء الاقتصاد السلوكي مؤلفاتٌ أخرى شاملة لأنواع الانحيازات العقلية التي تظهر عند اتخاذنا للقرارات بمرور الوقت. ولا شك أن عاملَي الزمن والمخاطرة يتداخلان، لكننا لن نعقِّد الأمور لتتناسب مع غرض الكتاب الذي بين أيدينا، وفي الفصل السادس سنركِّز على الانحيازات التي تظهر بمرور الوقت.