الفصل السادس

القرارات الزمنية

تمحور حديثنا، في الفصلَين الرابع والخامس، حول الاختيارات التي تنطوي على مخاطر. لكنْ هناك جانبٌ مهمٌّ آخرُ لقراراتنا وهو نظرتنا إلى الوقت. هل نتحلى بالصبر؟ هل نحن متعجلون؟ أم أن ذلك يختلف باختلاف الموقف؟ في الحقيقة الكثير من قراراتنا اليومية تنكشف عواقبها، بمرور الوقت، وما نريده اليوم قد لا يتسق دائمًا مع ما نريده في الغد. كيف يتعامل الأشخاص مع الوقت، ومع القرارات التي يتخذونها في الحاضر ويكون لها عواقبُ جذرية في المستقبل؟ نحن لا نجيد الادخار لمعاشات التقاعد المستقبلية. وقد نواجه مشكلة ارتفاع فواتير الطاقة لأننا نحب رفع درجة حرارة التدفئة أو التبريد في المكيِّف، عندما نشعر بالبرودة أو الحرارة الشديدة، دون التفكير مليًّا في عواقب ذلك على فواتير الطاقة في المستقبل. كما لا نحسن التخطيط للمستقبل، عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على صحتنا؛ إذ نتبع عاداتٍ وأنظمةً حياتيةً غيرَ صحية في الحاضر، تؤدي إلى تراكُم مشكلاتٍ صحية ستظهر مستقبلًا في غالب الأحيان.

تفترض النظرية الاقتصادية القياسية وجود اختلافات بين الأشخاص من حيث «تفضيلاتهم الزمنية»؛ أي في درجة تحليهم بالصبر أو درجة تعجلهم. ويرى معظم علماء الاقتصاد التقليدي، التفضيلات الزمنية تتفاوت فيما بين الأفراد، لكنها ثابتة لدى كل فرد. يرى علم الاقتصاد التقليدي أنه إذا كان ثمة شخص متلهف للحصول على شيء ما اليوم ولم يطِق الانتظار للغد، فسينطبق تعجله ذلك أيضًا إذا تأجل القرار بمقدار نفس المدة (يوم واحد). تُعرف هذه الظاهرة ﺑ «الاتساق الزمني»، الذي ينص على أن مستوى صبرنا أو تعجلنا لا يتغير بتغير زمن الانتظار، بل يظل ثابتًا. على سبيل المثال، إذا خُيِّرتُ بين الحصول على كعكة الشوكولاتة اليوم أو الحصول على كعكة الشوكولاتة الغد مثلًا، واخترتُ الحصول عليها اليوم، فذلك يعني إذا كنت أتصف بالاتساق الزمني، أن تفضيلي الزمني سيظل كما هو إذا زيدت مدة الانتظار بمقدار عام. إذ سأُفضل الحصول على كعكة الشوكولاتة بعد عام على الحصول على كعكة الشوكولاتة بعد عام ويوم. ولن تتغير اختياراتي عندما أقرر للمستقبل القريب في مقابل المستقبل البعيد.

كما لا تنكر النظرية الاقتصادية التقليدية أن يتخذ الأشخاص «المختلفين» قراراتٍ مختلفة؛ فقد يُفضِّل شخصٌ الحصول على كعكته عاجلًا وليس آجلًا، في حين يُفضِّل آخر الحصول على كعكته آجلًا وليس عاجلًا. ولا يعد ذلك عدم اتساق بالضرورة. قد تكون القرارات المرتبطة بالاستهلاك والإنفاق على المدى القريب عقلانية ومتسقة تمامًا، لا سيما إذا كان الشخص يُواجِه مشاكلَ ماليةً عاجلة أو سيعيش لفترةٍ زمنيةٍ قصيرة. يعتقد غالبية علماء الاقتصاد التقليدي أنه إذا كان الأشخاص متَّسقين في تفضيلهم المكافآت الصغيرة العاجلة على المكافآت الكبيرة الآجلة، فإنهم يظلون متصفين بالعقلانية التامة.

وفي دراسة أجراها عالما الاقتصاد وارن وبليتر، على أفراد الجيش واختياراتهم التقاعدية، وجدَا اختلافاتٍ فرديةً كبيرةً بينهم. كانا قد خيَّرا أفراد الجيش بين أمرَين؛ الحصول على مبلغٍ كبير من المال دفعةً واحدة، أو الحصول على مبلغٍ سنويٍّ صغير (راتب تقاعدي)، لكنه سيستمر طوال الحياة. ووجدَا أن حوالي ٥١٪ من الضباط اختاروا المبلغ كاملًا دفعةً واحدة، لكن نسبة أعلى بكثير من المجندين — ٩٢٪ — اختارت المبلغ الكامل. وعندما حلَّل وارن وبليتر البيانات، وجدَا اختلافاتٍ جذرية بين الجماعات المختلفة؛ فقد كانت جماعات أصحاب البشرة البيضاء والإناث والحاصلين على درجةٍ جامعية أكثر ميلًا لاختيار الراتب التقاعدي. وتُظهِر هذه الأدلة وجودَ فروقاتٍ بين الأفراد، وهي ليست في حد ذاتها دليلًا على عدم الاتساق الزمني؛ لأن النظرية الاقتصادية التقليدية لا تنكر تفاوت الأفراد المختلفين في درجات الصبر أو التعجل. ما الذي يمكن أن يضيفه علم الاقتصاد السلوكي إذن؟

ماذا يعني عدم الاتساق الزمني؟

يستند علم الاقتصاد السلوكي على الأدلة المستمدة من علم النفس، التي تشير إلى أن اتساق التفضيل الزمني بحسب زعم مناهج الاقتصاد القياسي، لا ينطبق على البشر (وغيرهم من الحيوانات). فنحن نظهر درجة عالية من نفاد الصبر عند النظر إلى المستقبل القريب (نفضل الحصول على كعكة الشوكولاتة مثلًا اليوم بدلًا من الغد)، لكننا عندما نخطط للمستقبل، نُظهِر الكثير من الصبر (نحن مستعدون للانتظار عامًا ويومًا واحدًا لتناول كعكة الشوكولاتة). وهذا هو عدم الاتساق الزمني؛ أي إن تفضيلاتنا للنتائج المؤجلة تتغير بتغيُّر الزمن. فتفضيلاتنا الزمنية ليست ثابتة. إننا نعاني من الانحياز للوقت الحاضر؛ أي إننا نُفضِّل المكافآت الصغيرة العاجلة، على المكافآت الكبيرة المؤجَّلة، مما يعكس وجود عدم اتساقٍ زمني في قرارة أنفسنا. فقدرتنا على الصبر تتغيَّر بمرور الوقت. فنحن نتحلى بالصبر في بعض السياقات، ونتعجَّل النتائج في سياقاتٍ أخرى. على سبيل المثال، إذا كان معنا ١٠ جنيهاتٍ إسترلينية، وكنا نقرِّر بين إنفاقها اليوم أو توفيرها للأسبوع المقبل، فالأرجح أننا سنختار أن ننفقها اليوم. لكننا عندما نفكر في قراراتٍ أبعد زمنيًّا، فقد نتحلى بالمزيد من الصبر؛ على سبيل المثال، إذا كنا نقرِّر بين إنفاق ١٠ جنيهات إسترلينية بعد عام، أو إنفاقها بعد عامٍ واحد وأسبوع، فقد تتغير اختياراتنا ونخطط لتوفيرها لذلك الأسبوع الإضافي. تحدث المشكلة عندما يؤدي عدم صبرنا اليوم إلى عدم وجود ما ننفقه أو نوفِّره بعد عام، أو بعد عقد من الزمن، أو بعد التقاعد.

نماذج حيوانية

تأتي بعض الأدلة المبكرة عن عدم الاتساق الزمني، من النماذج الحيوانية، التي تعقد مقارنات بين السلوك البشري وسلوك الحيوانات. لاحظ الطبيب والمعالج النفسي جورج إينزلي وجود عدم اتساقٍ زمني في أثناء دراسته لمسألة التحكم في السلوك الاندفاعي في الحمام. إذ حبس الحمام في إحدى الغرف. وكان الحمام يحصل على الطعام من خلال النقر على مفاتيح تضيء باللون الأحمر أو الأخضر. فإذا نقر الحمام على المفتاح عندما يكون اللون الأحمر مضاءً، فإنه ينال مكافآت الطعام الصغيرة الكمية لكنها تأتي بسرعة. وإذا نقر الحمام على المفتاح عندما يكون اللون الأخضر مضاءً، فإنه ينال مكافآت الطعام الكبيرة الكمية لكنها تتطلب الانتظار بعض الوقت. وسرعان ما لاحظ الحمام الفرق بين المكافآت التي يحصل عليها عند الضغط على المفتاح عندما يكون أخضر، في مقابل الضغط على المفتاح عندما يكون أحمر، لكنه أظهر سلوكًا اندفاعيًّا أيضًا؛ إذ كان يُفضِّل النقر على المفتاح عندما يضيء باللون الأحمر، كي يحصل على الطعام بسرعة أكبر. إلا أن بعض العلماء الآخرين المتخصصين في سلوك الحيوان لاحظوا وجود سلوك بنَّاء يميل إلى التخطيط بعيد المدى في الحيوانات. إذ لاحظ عالما الأحياء مولكاي وكول أن قردة البونوبو وقردة الأورانجوتان تنتقي أدواتها وتخزِّنها حتى تستخدمها في وقتٍ لاحق، مما يشير إلى تخطيطها للمستقبل. كما تقوم طيور قيق الأحراج وغيرها من الحيوانات بتوفير الطعام وتخزينه.

لماذا نكون أكثر صبرًا عندما نخطط للمستقبل البعيد؟ يجيب سكوت ريك وجورج لوينستين عن هذا السؤال في ضوء المقارنة بين تصوُّرنا للمنافع الملموسة نسبة إلى التكاليف الملموسة. فمقاومةُ إغراءات الوقت الحاضر صعبةٌ جدًّا. إذ تنطوي مقاومة الإغراء على تكاليفَ ملموسة على المدى القريب، من شأنها أن تحول بيننا وبين تحقيق أهدافنا المستقبلية. وهناك أمثلةٌ كثيرة على ذلك مثل اتباع نظامٍ غذائي صحي، والذهاب إلى صالة اللياقة البدنية، والإقلاع عن التدخين. ففي تلك الحالات لا بد لنا أن نتخلى عن المنافع العاجلة الملموسة مثل تناول الشوكولاتة أو تدخين السجائر. أو أن نتحمل بعض الألم الآني (مثل الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية وممارسة التمارين البدنية). وقد تبدو الأهداف المستقبلية بعيدة وغير ملموسة بالقدْر نفسه، مما يجعل من الصعب ممارسة ضبط النفس في الوقت الحاضر. وإذا أخفَقنا في مقاومة الإغراءات العاجلة، فسنقع في مشكلاتٍ خطيرة مثل مرض السمنة وإدمان المخدرات والمقامرة، والتي لها آثارٌ جسيمة على الأفراد والعائلات وأنظمة الصحة العامة.

وتوضِّح تجارب المارشميلو الشهيرة، التي أجراها عالم النفس والتر ميشيل وفريقه، هذه الظاهرة في اختيارات الأطفال. في تلك التجارب، عرض والتر ميشيل وفريقه تشكيلة من الحلوى (تشمل المارشميلو) على الأطفال. وأخبروهم أن مَن يستطيع مقاومة إغراء تناول الحلوى الموضوعة أمامه الآن فسيُكافأ بأخرى لاحقًا. تمكَّن الأطفال من الانتظار فترة أطول عندما تم صرف انتباههم عن الحلوى، كما أنهم استخدموا أساليبهم الخاصة في صرف انتباه أنفسهم عنها. وتبيَّن لاحقًا ارتباط ذلك الأمر باختيارات الأطفال الحياتية المستقبلية. فقد أظهر الأطفال الذين تمكَّنوا من مقاومة إغراء الحلوى لفترةٍ طويلة كفاءةً أعلى في المهارات الانفعالية والمعرفية أثناء فترة المراهقة، وكفاءةً اجتماعية وأكاديمية أفضل في فترة البلوغ. وقد ألهمَت تجارب المارشميلو كاتبي النصوص السينمائية في تأليف نظيرٍ خيالي لها في عملٍ سينمائي. ففي فيلم «ذا فايف يير إنجيجمينت» (خمس سنوات خطوبة)، تقرر الاختصاصية النفسية فيوليت (التي تؤدي دورها الممثلة إميلي بلانت)، أن خطيبها، مُساعد الطبَّاخ توم (الذي يؤدي دوره جيسون سيجال)، ضعيف الشخصية؛ لأنه اندفع لتناول حلوى الدونت غير الطازجة، بدلًا من انتظار الحلوى الطازجة. (في نهاية الفيلم، عندما يكتشف توم أن فيوليت حكمَت عليه بهذه الطريقة، تعلَّل بأن هناك أسبابًا أخرى لتناول الحلوى غير الطازجة غير ضعف الشخصية).

صراع زمني

تشير الأدلة التي خلصَت إليها تجارب المارشميلو وغيرها من الدراسات إلى أن الإغراءات التي نتعرض إليها تؤدي إلى نشوب صراعاتٍ داخلية. كأننا نتصارع مع ذاتنا أو كأن لدينا شخصيتَين؛ إحداهما صبورة والأخرى مندفعة، وهما في صراعٍ دائم. واعتمد عالم الاقتصاد روبرت ستروتز على الأدلة، التي توصَّل إليها إينزلي، في ابتكاره لرؤًى اقتصاديةٍ أولية حول عدم الاتساق الزمني وربطها بذلك الصراع الداخلي. وافترض أننا نواجه صراعًا زمنيًّا بين ذاتنا الصبورة وذاتنا العجولة. وقد عرض ستروتز أفكاره بتفصيلٍ علمي دقيق، لكن فكرته الأساسية قريبة من الحدْس. فلا شك أن الكثيرين منا يؤجِّلون شيئًا ما، كالذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية مثلًا. وهذا التأجيل يثير قلق ذاتنا الصبورة، فتخشى عواقب قلة التمارين الرياضية على صحتنا المستقبلية. وفي المقابل، لا يحرِّك هذا التأجيل ذاتنا العجولة المحبة للراحة والجلوس على الأريكة وتناول الشوكولاتة والرقائق في الحاضر ولا تُبالي بالمستقبل. وستتوقف النتيجة على أيهما ستنجح في فرض سيطرتها في النهاية.

تحليلات علم الاقتصاد العصبي للمكافآت العاجلة في مقابل المكافآت الآجلة

يمكن استخدام أدوات علم الاقتصاد العصبي لملاحظة استجاباتنا العصبية عند التخيير بين المكافآت العاجلة والآجلة. استخدم سام ماكلور وزملاؤه التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وهي تقنيةٌ تستخدم لرصد تدفُّق الدم المشبع بالأكسجين عَبْر الدماغ والمناطق العصبية المسئولة. واستلهموا من حكاية النملة والجندب من حكايات أيسوب تطوير «نموذج الذات المتعددة». كانت النملة الصبورة تكدح في الصيف وتجمع الطعام. وكان الجندب العجول، في المقابل، يستمتع بوقته بالغناء طوال الصيف. والفائز معروف بالطبع؛ فعندما يحل الشتاء، يتسول الجندب الطعام من النملة من شدة جوعه، لكنها تخبره أن يغرُب عن وجهها ويغني في الشتاء كما غنى في الصيف.

هل نختبر الصراع الزمني بين النملة والجندب عند الاختيار بين المكافآت العاجلة والآجلة؟ للإجابة عن ذلك، طلب ماكلور وزملاؤه من المشاركين في التجارب، الاختيار بين المكافآت العاجلة والآجلة في أثناء خضوعهم لمسحٍ دماغي. ولاحظ ماكلور اختلاف النشاطات العصبية بحسب توقيت المكافآت. فكانت المناطق العصبية المرتبطة بالوظائف الإدراكية العُليا تنشط بقوة للمكافآت المؤجلة. والمناطق العصبية المرتبطة بالغرائز البدائية الاندفاعية تنشط بقوة عند اختيار المكافآت العاجلة. واستنتجوا من ذلك حدوث تفاعل بين العمليات العصبية المختلفة عند الاختيار بين المكافآت الصغيرة العاجلة والمكافآت الكبيرة الآجلة مما يعكس حدوث صراعاتٍ داخلية بين ذاتَينا، الذات الصبورة التي تتسم ببعد النظر والذات العجولة التي تتسم بقصر النظر.

لكن يظهر تبايُن بين أدلة علم الاقتصاد العصبي. اختبر بول جليمشر وزملاؤه بعض نتائج فريق ماكلور. فقام بإجراء بعض التعديلات على التجربة بحيث تصبح جميع المكافآت مؤجلة. وكانت أقرب مكافئةٍ مؤجلةٍ لمدةٍ زمنيةٍ قدرها ستون يومًا. لاحظ جليمشر وزملاؤه نفس الأنماط التي رصدَتها دراسة ماكلور للمكافآت العاجلة. واستنتجوا من ذلك أن عدم الاتساق الزمني ليس انعكاسًا للاندفاع والصراع الزمني الداخلي بين ذاتَينا. إنما هو إغراء مثل غيره من الإغراءات، ويمكن تفسيره في ضوء ذاتٍ واحدةٍ لديها معتقداتٌ وأهدافٌ متسقة.

استراتيجيات الالتزام المُسبق وضبط النفس

كيف نحل مشكلات ضبط النفس؟ يعتمد ذلك جزئيًّا على الوعي بالذات. يزعم تيد أودونوهيو وماثيو رابين أن بعض الأشخاص أكثر استبصارًا بسلوكهم من غيرهم، ويفرقان بين صنفَين رئيسيَّين من الأشخاص؛ صانعي القرار الساذجين وصانعي القرار المحنَّكين. وهذان النوعان المختلفان يستجيبان لعدم الاتساق الزمني بطريقتَين مختلفتَين. لا شك أن كلَيهما سيعانيان من الانحياز للحاضر، لكنَّ المحنكين سيكونون واعين بمحدودية قدرتهم على ضبط النفس، وسيطبِّقون استراتيجياتٍ كي يُجبروا أنفسهم على اتباع مسارٍ بنَّاء.

يدلِّل أودونوهيو ورابين على ذلك بالطلاب في أثناء اختيارهم لوقت الذهاب إلى السينما؛ يفضل الطلاب الذهاب إلى السينما يوم السبت عادة، لكن عليهم المذاكرة في عطلةٍ أسبوعية واحدة خلال الشهر لتسليم مقالةٍ مهمة في نهاية الشهر. لذلك يجب أن يحدِّدوا يوم السبت الذي سيذاكرون فيه بدلًا من الذهاب إلى السينما. صمَّم أودونوهيو ورابين المعضلة بحيث لا تكون الأفلام في الأسابيع الأربعة المقبلة على نفس المستوى؛ فيكون الفيلم في الأسبوع الأول متوسط الجودة، وفي الأسبوع الثاني جيدًا، وفي الأسبوع الثالث ممتازًا، وفي الأسبوع الرابع مثاليًّا؛ رائعة من روائع جوني ديب، على سبيل المثال. وهكذا، سيكون أمثل قرار هو الانتهاء من المقالة في الأسبوع الأول، ومشاهدة الأفلام الشيقة في الأسابيع التالية، ومن بينها رائعة جوني ديب في الأسبوع الرابع.

تكمُن المشكلة في أن الطلاب قد لا يمتلكون القدر اللازم من ضبط النفس، لكن على الأغلب سيكون أداء المحنكين أفضل في موازنة الاختيارات. أما الساذجون فسيستخفُّون تمامًا بمشكلات ضبط النفس التي سيواجهونها في المستقبل، وسيماطلون حتى آخر عطلةٍ أسبوعية في الشهر، ولأن في انتظارهم مقالةً مهمة يجب الانتهاء منها، فسيفوِّتون أفضل فيلم وهو رائعة جوني ديب. ولا شك في أن المحنَّكين سيواجهون مشكلات ضبط النفس أيضًا، وسيُماطلون بعض الشيء (ربما يذهبون لمشاهدة الفيلم المتوسط الجودة في الأسبوع الأول)، لكن سيكون لديهم الاستبصار الكافي لإدراك أنهم إذا أفرطوا في التسويف فسيفوِّتون أفضل فيلم. ولذلك سيُعِدون أنفسهم لحضوره بالانتهاء من المقالة في الأسبوع الثاني؛ لأنهم يدركون أنهم إذا أجَّلوها لما بعد ذلك فإنهم يجازفون بتفويت فيلم جوني ديب. ويرتبط ذلك الأمر بما يسمِّيه علماء الاقتصاد السلوكي «استراتيجية الالتزام المسبق»، حيث يقلِّل المحنكون من اختياراتهم المستقبلية من أجل بلوغ أهدافهم الطويلة الأجل.

إن فكرة إلزام النفس لضمان البقاء على الطريق الصحيح، هي ظاهرةٌ قديمة يعبِّر عنها الأدب الكلاسيكي. في ملحمة هوميروس «الأوديسة»، يُبحِر أوديسيوس (المعروف بيوليسيس أيضًا) في منطقة السيرانات، وهي مخلوقاتٌ أسطورية تُورِد البحارة موارد التهلكة بأغانيها. يربط أوديسيوس نفسه بصارية السفينة، في حين ينجح طاقم سفينته الذين صَمَّ آذانهم بوضع الشمع فيها في اجتياز منطقة السيرانات، تاركين أوديسيوس يُنصِت إلى أغانيها الحلوة، دون أن يقع في أحبالها ويُغرِق سفينته. صور الرسَّام جون وليام ووترهاوس هذه الحكاية الكلاسيكية في لوحته الشهيرة «أوديسيوس والسيرانات» المُوضَّحة في شكل ٦-١. في اللوحة، تقيِّد ذاتُ يوليسيس المستبصرة، ذاتَه الأخرى المندفعة في محاولته للنجاة.
fig4
شكل ٦-١: أوديسيوس يقيد نفسه مسبقًا في الصاري لمقاومة إغراء نداءات السيرانات.

ولنا في الشاعر صامويل تايلور كولريدج مثالٌ آخر على الالتزام المُسبق؛ إذ كان يدرك جيدًا العواقب الوخيمة لإدمانه للأفيون، فاستأجر خدمًا لإبعاده عن أماكن تعاطي الأفيون، في محاولةٍ مُستبصرَة لكبح غرائزه المُلحَّة للاستمرار في الإدمان.

تدلِّل التجارب الطبيعية على سلوكيات الالتزام الذاتي أيضًا. فهي تدرس، كما وضحنا في الفصل الأول، الاختيارات والسلوكيات الحقيقية، لا الاختيارات الافتراضية المصطنعة التي يُضطَر إليها الكثير من الباحثين. وقد حلَّل ديلَّافيجنا ومالمينديير مجموعةً من البيانات الحقيقية المرتبطة بعضويات صالات الألعاب الرياضية. فقد أظهرَت سجلات الحضور أن الأشخاص يُنفقون آلاف الدولارات على العضويات السنوية، ولا يذهبون إلى صالة الألعاب الرياضية إلا فيما ندر، مع أنهم يسعُهم ادخار الكثير من المال، باستخدام الخيار الأرخص وهو دفع ثمن الزيارة بالمرة. وقد يخطر ببالِك لأول وهلة، أن الغبي فقط هو مَن ينفق الكثير من المال على عضوية صالة ألعاب رياضية، يذهب إليها مراتٍ نادرة، لكنِ الكثيرون منَّا يفعلون ذلك السلوك، الذي قد لا يكون غبيًّا كما نظن. فبعض علماء الاقتصاد السلوكي يرون هذا السلوك على أنه نوعُ من إلزام النفس المُسبق؛ فعندما نُنفق الكثير من المال على عضوية صالة الألعاب الرياضية، فإننا نحاول إلزام ذاتنا العجولة بالتحلي بالمسئولية على المدى القريب. وتعلِّل ذاتُنا الصبورة هذا السلوك بأننا إذا أنفقنا الكثير من المال، فلن ترغب ذاتُنا العجولة في إهداره.

في الوقت الحاضر، تقدِّم الشركات خدماتٍ تستغل فكرة أن الناس يعانون من عدم ضبط النفس بدرجاتٍ متفاوتة. وأن مقاومة إغراء المكافآت القريبة المدى صعبة جدًّا؛ لذا فالكثيرون منا على استعدادٍ لشراء المنتجات التي تساعدهم في ذلك. والأمثلة كثيرةٌ على ذلك من عالم الأنظمة الغذائية، ومنتجات الإقلاع عن التدخين، مثل السجائر الإلكترونية التي ظهرَت في الآونة الأخيرة. ويستطيع الأشخاص الذين يواجهون مشكلةً في الاستيقاظ من النوم شراء مُنبهٍ متجول. المنتج الأصلي، «كلوكي»، عبارة عن منبه يتجول في أرجاء الغرفة، وعليكَ مطاردته لإيقافه، على أمل أن تكون صحوتَ تمامًا حينها.

كما وفَّر النمو الهائل في الخدمات المتاحة عَبْر الإنترنت، بعض الخدمات المرتبطة بالالتزام المُسبق، مثل منصتَي «بيمايندر» و«ستيك». تساعد منصة «ستيك» الأشخاص في معالجة مشكلات القدرة المحدودة على ضبط النفس من خلال الحوافز المالية. فتتيح للمستخدمين تحديد أهدافهم عَبْر الإنترنت. ويشكل الهدف الذي يحدده المستخدم أساس «عقد التزام»؛ وإذا لم يُوفِ المستخدم التزاماته، فسيُخصم المال من حسابه، ويذهب إلى جهةٍ مستفيدة من اختياره. ويُحبذ أن يجعل المستخدم جمعيةً خيرية يكرهها هي الجهة المستفيدة من تبرعاته. فيمكن أن يختار مناصر للحزب الديموقراطي مثلًا أن تذهب أمواله للحزب الجمهوري إذا أخفق في تحقيق أهدافه. وتعتمد منصة «ستيك» على المشاركين الذين يتحلَّون بالصدق، لكن عدم الصدق في حد ذاته هو استراتيجية الذات المندفعة في كثيرٍ من الأحيان، وكيف للمنصة أن تبتكر عقدًا مُحكمًا، في حين أنه من رابع المستحيلات، بالإضافة إلى ارتفاع التكلفة، أن تتحقَّق المنصة من صدق مُستخدميها؟

تشبه منصة «بيمايندر» منصة «ستيك»، لكن تختلف عنها في نموذج العمل (الخطة المتبعة لتحقيق الأرباح). تقدم منصة «بيمايندر» خدمة متابعة الأهداف «مباشرة» لتحقيق «ضبط نفس مرن». وعلى غرار منصة «ستيك» يحدِّد المستخدمون لأنفسهم أهدافًا تشكل أساس عقد الالتزام مع «بيمايندر». وإذا أخفقوا في تحقيق أهدافهم، تخصم منصة «بيمايندر» الأموال منهم. ومن شأن هذه الخدمات أن يكون لها تأثيرٌ بالغ، لا سيما إذا أحسنت استغلال التكنولوجيا الحديثة للتغلب على مشكلة عدم الصدق التي ظهرَت في منصة «ستيك». يستطيع المستخدم الصادق لمنصة «بيمايندر» أن يربط أهداف التمارين البدنية، ببيانات أجهزة مراقبة اللياقة الشخصية، مثل الساعة الذكية «فيت بيت» و«آي ووتش». وهُنا تتولى التكنولوجيا دور المراقبة.

نماذج دورة الحياة السلوكية

إذا كانت قدراتنا على الادخار محدودة، وإذا كانت صناديق تقاعدنا غير كافية لإعالتنا في سن التعاقد، فسيكون لذلك تداعياتٌ سيئة على ميزانيات وديون الحكومات. تنظر نماذج دورات الحياة السلوكية في هذه الأنماط من السلوك، فقد طوَّرَت رؤى ديفيد ليبسون التي مفادها أن مهارتنا في الاعتناء ﺑ «البيض الذهبي» — أصولنا غير السائلة التي نحفظها بشكلٍ أساسي في صورة صناديق تقاعد وعقارات — تفوقُ بكثيرٍ مهارتَنا في إدارة فواتير بطاقتنا الائتمانية.

تدمج نماذج دورة الحياة السلوكية بين الرؤى السلوكية المتعلقة بعدم الاتساق الزمني، ونماذج دورة الحياة لعلم الاقتصاد التقليدي التي تفترض وجود اتساقٍ زمني، لدراسة تطور أنماطنا في الادخار والاستثمار والإنفاق على مدى حياتنا. استخدم جورج ماريوس إنجليتوس وزملاؤه هذه النماذج في تفسير ظاهرة تراكُم الديون على البطاقات الائتمانية لدى البعض، ممن يملكون أصولًا غير سائلة ضخمة في صورة عقارات وصناديق تقاعد.

تفسِّر تكاليف المعاملات هذه الظاهرة بشكلٍ جزئي. فبيع منزل لسداد فواتير بطاقة الائتمان عمليةٌ معقَّدة وباهظة التكلفة. كما يعتبر الأشخاص بطاقات الائتمان مصدرًا احتياطيًّا لسداد الفواتير غير المتوقعة، لكن هذا ليس سببًا كافيًا يكفي لتفسير الظاهرة بالنسبة لإنجليتوس وزملائه. لذلك قاموا بمحاكاة أنماط الإنفاق والادخار، من خلال طرح بعض الافتراضات التي تتناسب مع التجارب المتوسطة للأشخاص في يومنا الحاضر، مثل افتراض أن الشخص سيعيش لمدة تسعين سنةً كحدٍّ أقصى، وسيعمل لمدة ثلاث وأربعين سنة في المتوسط، وسيتباين عدد أفراد أسرته المقيمين معه على مدى حياته؛ إذ سيغادر بعضهم المنزل ويتزوجون ويكوِّنون أسرهم الخاصة ثم يتقاعدون. بعد ذلك، استخدم إنجليتوس وزملاؤه بياناتٍ حقيقية في المتغيرات الأساسية مثل معدلات الفائدة ومعدلات العمالة، كي يطابقوا فرضياتهم على البيانات الحقيقية المرتبطة بأنماط الإنفاق والادخار. ووجدوا أن استنتاجاتهم تتسق مع النظريات السلوكية التي تنص على عدم الاتساق الزمني؛ فقد تطابقت أنماط المحاكاة التي افترضَت عدم الاتساق الزمني مع اتجاهات الاقتصاد الكلي الفعلية، بشكلٍ أفضل من أنماط المحاكاة المستندة إلى النماذج القائمة على افتراضات الاقتصاد التقليدي التي تنص على الاتساق الزمني.

تقسيم الاختيارات إلى شرائح وصياغتها والمحاسبة العقلية

عند الاختيار بين الاستهلاك اليوم أو غدًا، يلعب السياق دورًا شديد الأهمية في قراراتنا. على سبيل المثال، وكما وضَّحنا في الفصل الخامس؛ إذا صيغ الاختيار في إطار الخسارة فقد يختلف قرارنا النهائي عما لو كان الاختيار قد صيغ في إطار المكسب. كما أن الطريقة التي نقدم بها اختياراتنا تؤثِّر في قرارنا النهائي أيضًا. ويُسهِم ذلك بشكلٍ أساسي في تقديم تفسيرٍ آخر للاختيارات التي قد تبدو غير متسقة، وهو ما يُعرف ﺑ «تقسيم الاختيارات إلى شرائح». عندما نواجه العديد من الاختيارات المعقدة المرتبطة ببعضها، فقد نُسهِّل على أنفسنا مهمة الاختيار بتقسيم اختياراتنا إلى شرائح.

طوَّر ريتشارد ثيلر بعضًا من هذه الرؤى في نموذج المحاسبة العقلية. تساعد المحاسبة العقلية في الإجابة عن سؤال: لماذا لا ندَّخر دائمًا بالقدر اللازم أو الممكن؟ الصياغة والنقاط المرجعية والنفور من الخسارة، كل هذه الأمور تؤثِّر في تصورنا لقراراتنا المحتملة المرتبطة بالإنفاق والادخار. يعرِّف ثيلر المحاسبة العقلية بأنها مجموعة من العمليات الإدراكية التي نستخدمها لتنظيم وتقييم ومراقبة قراراتنا المالية. يفترض ثيلر أن تعاملنا مع المال لا يتساوى في جميع الحالات. فالمال بالنسبة لنا لا يُعد سلعةً قابلة للتقدير؛ أي إننا لا نعامله دائمًا بالطريقة نفسها بصرف النظر عن الوقت والمكان الذي ننفقه فيه. وتعتمد نظرتنا لأموالنا وطريقة إنفاقنا لها، على السياق الذي حصلنا من خلاله على تلك الأموال. لدينا مجموعة من الحسابات العقلية المنفصلة في أذهاننا، ونحن نُودِع المال في كلٍّ منها تبعًا للسياق. فلدينا حساب للأموال التي كسبناها بشكلٍ غير متوقع كتلك التي نفوز بها في مسابقات الحظ (اليانصيب وغير ذلك من مسابقات الحظ)، وحسابٌ للأموال التي كسبناها من عرق جبيننا، وحساب للثروة غير السائلة نُودِع فيه الأموال التي ندخرها.

وتتوقف قراراتنا المالية على الحساب العقلي الذي نوليه أهميةً أكبر. فإذا فزنا بالمال في اليانصيب، فلربما نسرف في إنفاقه على المتعة. وإذا كسبنا القدر نفسه من المال من عرق الجبين، فسندخره على الأغلب. وإذا أنفقنا مبالغَ كبيرةً من المال في التسوق الإلكتروني باستخدام البطاقة الائتمانية، فسنعتبر ما دفعناه أقل بشكلٍ ما مما لو كنا دفعنا نقدًا. نحن نعامل عمليات الشراء التي نجريها بالبطاقة الائتمانية بشكلٍ مختلف جدًّا عن عمليات الشراء التي نجريها نقدًا، وقد يعكس ذلك جزئيًّا سوء تخطيطنا للمستقبل أيضًا.

تعني المحاسبة العقلية أن الطريقة التي نقيِّم بها قراراتنا الاقتصادية تختلف باختلاف السياق. نحن نُجمِّع اختياراتنا معًا وندمجها في شرائح في أذهاننا. ولا تعتمد نظرتنا لصفقةٍ ما على الشيء الذي نشتريه فحسب؛ ففي بعض الأحيان تكون عملية التسوق أو العثور على صفقة لها قيمةٌ في حد ذاتها. يدلِّل ثيلر على ذلك بامرأة تشتري لحافًا؛ إذا تساوت جميع الألحفة في السعر بصرف النظر عن مقاسها فستشتري المرأة اللحاف الأكبر وإن كان لا يتناسب مع مقاس سريرها.

درس كولين كامرر وزملاؤه مظهرًا آخر من مظاهر التقسيم إلى شرائح، وهو تقسيم الدخل واستهدافه لدى سائقي سيارات الأجرة في مدينة نيويورك. تمكَّن كامرر وفريقه من الحصول على البيانات اليومية لإحدى شركات سيارات الأجرة الخاصة المتمثلة في سجلات رحلات السائقين، مما أتاح لهم دراسة أنماط العمل والربح. تتوقَّع النظرية الاقتصادية التقليدية أن سائقي سيارات الأجرة سيعملون على زيادة أرباحهم اليومية للحد الأقصى، فسيكسبون أكثر في الأيام المزدحمة وأقل في الأيام الهادئة. لكنهم اكتشفوا أمرًا مثيرًا للاهتمام؛ لم يكسب سائقو سيارات الأجرة أكثر في الأيام المزدحمة. بدلًا من أن يسعى السائقون لتحقيق أقصى ربحٍ ممكن، استهدفوا تحقيق دخلٍ معين؛ وبالتالي سمحوا لأنفسهم في الأيام المزدحمة بإنهاء العمل مبكرًا. قدَّم كامرر وزملاؤه تفسيرًا آخر أيضًا؛ أن سائقي سيارات الأجرة ربما كانوا يستخدمون استهداف الدخل كشكلٍ من أشكال إلزام النفس المسبق. إذا ألزم سائق الأجرة نفسه مُسبقًا بالعمل على مدار الأيام لتحقيق دخلٍ ثابت، فلن يُضطَر إلى العمل لساعاتٍ إضافية في الأيام المزدحمة؛ لأن ذاته العجولة قد تُغريه بتبذير الدخل الإضافي الذي سيكسبه لو أنه عمل ساعات إضافية على النفقات غير الضرورية والذهاب إلى الحانة. لكن إذا استهدف السائق تحقيق دخلٍ ثابتٍ يوميًّا — يعمل لساعاتٍ أكثر في الأيام الهادئة وساعاتٍ أقل في الأيام المزدحمة — فسيستطيع من حينٍ لآخر الذهاب إلى منزله مبكرًا، بدلًا من الانجرار للإسراف في الإنفاق.

الاقتصاد السلوكي التنموي

طُبقَت الرؤى المتعلقة بعدم الاتساق الزمني على دولٍ نامية أيضًا. على سبيل المثال، استخدمَت إستر دوفلو وفريقُها مجموعةً من التجارب الضابطة العشوائية لتحسين الإنتاج الزراعي للمزارعين الريفيين المحدودي الدخل. والتجارب الضابطة العشوائية، كما شرحنا في الفصل الأول، هي تقنيةٌ مستعارة من العلوم الطبية تُستخدم في التجارب السريرية لاختبار فاعلية الأدوية وغيرها من الإجراءات الطبية. وتنطوي التجارب الضابطة العشوائية على تقسيم المشاركين إلى مجموعتَين أو أكثر؛ المجموعة العلاجية والمجموعة الضابطة. لا يتلقى المشاركون في المجموعة الضابطة أي إجراءٍ طبي. وفي المقابل، يحصُل المشاركون في المجموعة العلاجية على الإجراء المراد اختباره؛ وبعد ذلك تُقارن نتائج المجموعة العلاجية بالمجموعة الضابطة لاختبار فاعلية الإجراء من عدمه.

في أحد الاختبارات التجريبية، ركَّزَت دوفلو وفريقها على المزارعين من كينيا، الذين يشترون السماد. تُعد الأسمدة باهظة الثمن نسبيًّا في المجتمعات الريفية الفقيرة، لكن إذا استطاع المزارعون ادخار المال، فسيُمكِنهم تحمُّل التكاليف المنخفضة الثابتة لشراء الأسمدة عادةً. الإشكالية هي أن كثيرًا من المناطق الريفية الفقيرة في العالم النامي تفتقر بنيتها التحتية المالية إلى أنظمة الادخار (مثل البنوك ومصارف الادخار الخاصة). عند غياب القدرة على الادخار، قد لا يتوفَّر لدى المزارعين المال لشراء الأسمدة؛ إذ يتعيَّن عليهم الانتظار حتى موسم الحصاد لكسب المال (مشكلة الاقتصاد التقليدي) ولا يكون بوسعهم استخدام مدَّخرات الحصاد السابق. كما قد تُواجِه المزارعين مشكلةٌ أخرى وهي الانحياز للحاضر؛ فقد يماطلون ويؤجلون عمليات شراء الأسمدة. في كلتا الحالتَين، سيكون إنتاجهم من المحصول أقل بكثير مما لو اشترَوا الأسمدة. في المقابل، إذا قُدمَت للمزارعين خصوماتٌ متواضعةٌ محدودة الوقت على الأسمدة للتغلب على الانحياز للحاضر، مباشرةً بعد وقت الحصاد حيث يتوافر للمزارعين المال لدفع ثمنها، فعلى الأرجح سيشترون الأسمدة التي يحتاجونها، ويحقِّقون زيادةً هائلة في إنتاجهم الزراعي وأرباحهم السنوية.

تُعد أبحاثُ علماء النفس وعلماء الأعصاب والعلماء المتخصصين في علم الأحياء التطوري، وكذلك علماء الاقتصاد السلوكي وعلماء علم النفس الاقتصادي، المتعلقة بعدم الاتساق الزمني والانحياز للحاضر، من أهم الأبحاث التي يُعنى بها علم الاقتصاد السلوكي. فلا يخفى على معظمنا الصعوبة التي نواجهها في مقاومة الإغراءات، ونموذج الاقتصاد التقليدي لا يساعدنا كثيرًا في هذا الأمر؛ إذ يفترض افتراضًا غير واقعي أننا قادرون دائمًا وأبدًا على اتخاذ القرارات، التي من شأنها أن تعزِّز رفاهيتنا على المدى البعيد، بكل مهارة. ولذا فإن استيعاب سببِ عدم تصرُّف الكثيرين بما يتسق مع مصالحهم على المدى البعيد وما يجب فعله حيال ذلك، يطرح تحديًا كبيرًا أمام علماء الاقتصاد السلوكي وصُنَّاع السياسات؛ والبحث في مسألة عدم الاتساق الزمني يُسهِم في إثراء هذه النقاشات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥