الشخصيات والحالات المزاجية والانفعالات
غالبًا ما يفترض علماء الاقتصاد التقليدي أن جميعنا نتسم بالمهارة الكافية والقدرة على اتخاذ القرارات الصائبة بكل سهولة. لكن الانحيازات النفسية — كما أشرنا في الفصول السابقة — تُوقِعنا في الأخطاء أكثر مما يتوقع علماء الاقتصاد التقليدي. حتى الآن، لم نركِّز بقوة على الأسباب النفسية الرئيسية في عملية اتخاذ القرارات؛ لذا سنتناول في هذا الفصل أسباب وكيفية تأثير العوامل النفسية، مثل الشخصية والحالة المزاجية والانفعالات، على عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية والمالية.
يستعرض هذا الفصل التأثير البالغ لشخصيتنا وانفعالاتنا في حياتنا العملية وإنجازاتنا الأكاديمية وقراراتنا المالية. يسعى البعض وراء الإثارة، فيبحثون عن الفرص التي تنطوي على المخاطر سواء كانت ممارسة الرياضات الخطرة أو المقامرة أو التداول المالي. وقد ينفر البعض الآخر من المخاطرة ويميل إلى الحذر؛ أي يُفضِّل الخيارات الآمنة دائمًا. والشخص الذي يملك سماتٍ شخصيةً مرتبطة بمستوًى عالٍ من ضبط النفس، هو القادر على مقاومة إغراء إنفاق أمواله على المدى القريب، وعلى اتخاذ قراراتٍ أفضل بشأن التعليم والتوظيف أيضًا.
وللشخصية والانفعالات تأثيراتٌ معقدة؛ لأن الظروف الاقتصادية قد تؤثر فيها أيضًا. وتلعب الحالات المزاجية والانفعالات دورها في القرارات الاقتصادية. فنحن كثيرًا ما نكون مهيَّئين لاستحضار حالاتٍ مزاجية وانفعالاتٍ معينة، تكون مدفوعة جزئيًّا بسماتنا الشخصية. إذا كنا أصحابَ شخصيةٍ مكتئبة، فقد نميل إلى الشعور باليأس والاستياء عندما نتعرَّض للغش في معاملةٍ اقتصادية. وإذا كنا أصحابَ شخصيةٍ مندفعة، فقد نكون أسرع في الشعور بالغضب، وأكثر عُرضةً للدخول في صراعات مع زملائنا وأصدقائنا وأفراد عائلتنا، مما قد يؤثِّر في الفرص المتاحة لنا.
قياس الشخصية
تأخَّر الباحثون الاقتصاديون في تضمين عامل الشخصية في تحليلاتهم، وقد يرجع ذلك جزئيًّا إلى صعوبة قياس الشخصية. وبينما يستخدم علماء النفس مجموعةً واسعة من اختبارات الشخصية، يستخدم علماء الاقتصاد، حتى الآن على الأقل، مجموعةً ضيقة نسبيًّا من الاختبارات. أحد الاختبارات الشائعة في علم الاقتصاد السلوكي هو اختبار «أوشن». ابتكر هذا الاختبار عالما النفس بول كوستا وروبرت ماكراي، وأسساه على نموذج «السمات الخمس الكبرى للشخصية»، الذي يعبِّر عن السمات الشخصية من خلال خمسة محاور؛ الانفتاح، ويقظة الضمير، والانبساط، والقبول، والعصابية.
كما يستخدم علماء الاقتصاد السلوكي اختبارات الوظائف الإدراكية. فيما يتعلق بالشخصية، تتوافر مجموعةٌ كبيرة من اختبارات الوظائف الإدراكية. ومن أحد الاختبارات القديمة الشائعة اختبار «معدل الذكاء» الذي صمَّمه عالم النفس هانز آيزنك (وهو ليس اختبارًا دقيقًا بالضرورة). ويُمكِن لعلماء الاقتصاد السلوكي الذين يريدون إجراء اختبارٍ سريع استخدام اختبار «المرونة الإدراكية» لعالم النفس شين فريدريك، الذي يشمل أسئلةً مثل: «يكلِّف المضرب والكرة ١٫١٠ دولار أمريكي إجمالًا. ويزيد ثمن المضرب ١٫٠٠ دولار أمريكي على ثمن الكرة. فما ثمن الكرة؟» (لا تتسرع في الإجابة! وراجع قسم المراجع والقراءات الإضافية لمعرفة الإجابة.) وقد صُمم هذا الاختبار لقياس الوظائف الإدراكية، لكنه يرتبط بشكلٍ كبير بتفضيلات الأشخاص المتعلقة بالزمن والمخاطرة. فبعض الأشخاص، وفيهم أشخاصٌ فائقو الذكاء، سيُسرِعون إلى الإجابة لأنهم عجولون، ولن يمنحوا لأنفسهم الوقت الكافي للتفكير في السؤال بعناية للوصول إلى الإجابة الصحيحة.
وليست عملية قياس السمات الشخصية بالأمر السهل؛ لأن تلك السمات تُقاس عادةً من خلال استبيانات التقييم الذاتي. وهذه الاستبيانات عُرضة لكثير من الانحيازات. وغالبًا ما يرغب المشاركون، في إعطاء أجوبة تجعلهم يبدون بمظهرٍ لائق أو تثير إعجاب القائمين على التجربة. وقد يُسهِم التفاعل بين شخصية المشارك في التجربة وأدائه في تعقيد النتائج أيضًا. ربما لا يكون أداء الشخص العصابي — الذي هو أكثر عُرضةً للشعور بالقلق — جيدًا في الاختبارات الإدراكية، وهذا ليس بسبب ضعف قدراته، وإنما بسبب أن وجوده في سياق الاختبار أصابه بالقلق. وتتطلب اختبارات الذكاء الكثير من الجهد، ولا يستطيع الباحثون أن يحدِّدوا بسهولةٍ إن كان ضعفُ الأداء بسبب ضعف القدرة الوظيفية، أم غياب الحافز، أم هو مزيج من كليهما. كما أن الدفع للمشاركين (أو عدمه) سيؤثِّر في عملية قياس سمات الشخصية. فعندما تُقدَّم الحلوى للأطفال يتحسن أداؤهم في اختبارات «معدل الذكاء»؛ في تلك الحالة لا تجعل هذه الحلوى الأطفال أكثر مهارة، وإنما تحفِّزهم لبذل المزيد من الجهد. ويتأثَّر البالغون بالمحفزات الخارجية أيضًا. لكن المشاركون المستقرون نفسيًّا ذوو الضمير اليقظ قد يكونون أقل تأثرًا بالحوافز الإضافية الخارجية مثل المقابل المالي؛ وبالتالي سيكون قياس أداء وظائفهم الإدراكية أسهل من غيرهم.
الشخصية والتفضيلات
بعد أن نقيس شخصية الفرد، ما الآثار الاقتصادية التي قد تترتب على ذلك؟ كثيرًا ما يفترض علماء الاقتصاد أن اختيارات الأشخاص تُحركها تفضيلاتهم، كما أن الشخصية تلعب دورها في ذلك أيضًا. فالشخص المتعاطف سيكون أكثر ميلًا لاتخاذ قراراتٍ إيثارية. والشخص المندفع سيكون أكثر ميلًا للقرارات المتعجلة، وقد لا يدخر لتقاعده جيدًا مثلًا. والشخص المغامر سيميل أكثر للمخاطرة، وسيحمله ذلك على اختياراتٍ بعينها كالمقامرة، أو العمل بوظائفَ فيها مخاطرة.
وللجينات دورها أيضًا. درس عالم الاقتصاد ديفيد تشيزاريني وزملاؤه، التوائم المتطابقة (جينات متطابقة) والتوائم غير المتطابقة (جينات غير متطابقة). بعد ذلك، أجرَوا مقارنة بين المجموعتَين لرصد تأثير التباينات الوراثية — في مقابل العوامل البيئية — على تفضيلات المخاطرة. ووجدوا أن نسبة ٢٠٪ فقط من التفاوت في السخاء والمخاطرة في التوائم غير المتطابقة، يُمكن عزوها للعوامل الوراثية. وفي إحدى الدراسات، اكتشف تشيزاريني وزملاؤه أن نسبةً تتراوح بين ١٦ و٣٤٪ من التفاوت في الإفراط في الثقة بالنفس بين التوائم، ترتبط بالتكوين الوراثي. وفي دراسةٍ أخرى تتعلق بخطط التقاعد، لاحظوا أن ٢٥٪ من التفاوت في المخاطرة في المحافظ المالية الاستثمارية، التي اختارها التوائم، يُمكن عزوه إلى العوامل الوراثية.
الشخصية والإدراك
تؤثر شخصياتنا في كثيرٍ من قراراتنا واختياراتنا الاقتصادية والمالية. في كثيرٍ من الأحيان، يتطلب اتخاذ القرارات شيئًا من التفكير، وسماتنا الشخصية يمكن أن تحدد مهاراتنا الإدراكية؛ ومن ثَم فإنها تؤثِّر في اختياراتنا من خلال الإدراك. وغالبًا ما تنكشف عواقب ذلك بمرور سنوات العمر؛ لأن هذه السمات تشكِّل تحصيلنا العلمي، وأداءنا المهني، ومهارتنا الاجتماعية. إذا كان الشخص المجتهد يميل إلى التحلي بالصبر، فقد يحرص على ادخار المال للتقاعد والاستثمار في نفسه من خلال الحصول على تعليمٍ أفضل مثلًا.
في الفصل السادس، نظرنا إلى تجارب المارشميلو لوالتر ميشيل، والأدلة التي تربط بين قدرة الطفل على ممارسة ضبط النفس ومقاومة إغراءات الحلوى وبين نجاحه مستقبلًا. ولاحظ ميشيل وزملاؤه أن الأطفال الذين أظهروا مقاومةً كبيرة لإغراءات الحلوى، كانوا أنجح في مراحلَ لاحقةٍ من حياتهم. وأظهرَت دراساتٌ أخرى أن الأطفال الذين كانت مقاومتهم ضعيفة لإغراءات الحلوى، لديهم احتمالٌ أكبر للتورط في الجرائم في مرحلةٍ لاحقة من حياتهم.
كما أجرى ليكس بورهانز وزملاؤه بحثًا دقيقًا عن الشخصية وفرص الحياة. ووجدوا أن ثمة ارتباطًا بين يقظة الضمير وبين التحصيل العلمي والأداء المهني وحس القيادة وطول العمر. ومع ذلك، لا تُوجد مجموعةٌ فريدة من السمات الشخصية من شأنها أن تضمن نجاحنا في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية. فتختلف قيمة السمات الشخصية باختلاف السياق. في العمل، نُفضِّل بصفةٍ عامة أن نحظى بزملاء جديرين بالثقة. وعند الاحتفال، سنهتَم أكثر إذا كان الشخص لديه حسُّ دعابة أم لا. والوظائف المختلفة تناسبها شخصياتٌ مختلفة. فعندما نمرض، سنريد أن يكون أطباؤنا متعاطفين وموثوقين، ويتحلَّون بمهاراتٍ إدراكية جيدة، يستطيعون من خلالها بكل سهولة إيجاد رابطٍ دقيق بين الأعراض التي لدينا وبين التشخيص الذي لديهم. بالمقابل، عندما نذهب إلى مطعم، نحب أن يكون الطهاة مبتكرين ومبدعين، بل إننا قد نعتقد أنهم سيبتكرون طعامًا لذيذًا إذا كانوا يتسمون بتقلب المزاج وسعة الخيال وسرعة الانفعال. لكننا لا نريد قطعًا أن يكون أطباؤنا متقلبي المزاج واسعي الخيال وسريعي الانفعال.
الشخصية ومرحلة الطفولة
تؤثر الشخصية في حياتنا تأثيرًا بالغًا منذ مرحلةٍ مبكرة جدًّا؛ لكن الشخصية والإدراك يكونان طيِّعَين في الطفولة المبكرة. كما أن للبيئة تأثيرًا مهمًّا أيضًا. فقد وجد ليكس بورهانز وزملاؤه أن الأطفال الذين تبنَّاهم آباء حالتهم الاجتماعية والاقتصادية مرتفعة يحققون نتائج أعلى في اختبار «معدل الذكاء»، مقارنة بأقرانهم الذين تبنَّاهم آباء حالتهم الاجتماعية الاقتصادية متواضعة. لكن من الممكن مساعدة الأطفال من البيئات الأقل حظًّا من خلال مراكز العناية بالأطفال الجيدة والزيارات المنزلية. وقد صُممَت هذه التدخلات لمساعدة الأطفال في اكتساب مهاراتٍ إدراكيةٍ جيدة في الأساس، لكنها نجحَت أيضًا في تعزيز المهارات الاجتماعية والشخصية بشكلٍ فعَّال. ومن الممكن أن تساعد التدخلات التعليمية المصمَّمة جيدًا الأطفال في تطوير مهاراتٍ معقَّدة تتطلب الكثير من الجهد والمران. وما إن يكتسب الأطفال هذه المهارات، حتى نأمل أن يتحسن نجاحهم الاقتصادي في مرحلةٍ لاحقة من حياتهم.
قد يلعب عامل الشخصية والدافع دورًا في نجاح الأشخاص في مرحلةٍ مبكرة من حياتهم، لا يقل أهميةً عن دور القدرات الإدراكية ومعدل الذكاء. درس جيمس هكمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وزملاؤه، بعض هذه التأثيرات باستخدام الأدلة من دراسةٍ أمريكية للتدخلات التعليمية، وهي الدراسة التي أجرتها مؤسسة هاي سكوب البحثية على روضة أطفال «بيري». صُمم هذا البرنامج من أجل الأطفال الأقل حظًّا من أصولٍ أفريقيةٍ أمريكية. وركَّز المنهج الدراسي على تنمية المهارات الإدراكية والاجتماعية العاطفية لدى الأطفال، من خلال التعليم النشط المفتوح وحل المشكلات. وراقب هكمان وفريقه نجاح الأطفال في مرحلةٍ لاحقة من حياتهم، وقارنوا نتائجهم بأقرانهم في المجموعة الضابطة (الذين لم يطبَّق عليهم برنامج مؤسسة هاي سكوب).
لكن الآثار الإيجابية لهذا التدخل انخفضَت مع تقدُّم الأطفال في العمر، كما زادت المنافع التي حققها الأطفال الأقل حظًّا مقارنة بأقرانهم في المجموعات الأخرى. وبحسب تقديرات هكمان وزملائه فإن الفوائد التي حصَّلها الأطفال من تلك التدخلات كانت كبيرة. فقد حقَّق الأطفال المشاركون في البرنامج نجاحًا ملحوظًا في مرحلة البلوغ. كما قلت احتمالات ارتكابهم للجرائم واعتمادهم الإعانات مستقبلًا. وسجلوا مستوياتٍ أفضل في التحصيل التعليمي والقدرة على الحصول على الوظائف ومستوى الدخل. وقدَّر هكمان وفريقه أن إجمالي عائد الاستثمار الإجمالي لتدخلات مؤسسة هاي سكوب يتراوح بين ٧ و١٠٪. في الآونة الأخيرة، تستطيع حكومات الدول المتقدمة اقتصاديًّا الاقتراض بفوائد تبلغ ١٪ أو أقل، ولو كانت أرقام هكمان دالة، فإن الحكومات التي لديها استعداد للاقتراض من أجل الإنفاق على التدخلات التعليمية المماثلة، لا سيما تلك الموجَّهة للفئات الأقل حظًّا، ستكون قد أحسنَت إنفاق المال العام.
الانفعالات والحالات المزاجية والعوامل الغريزية
يُعد عالم الاقتصاد النرويجي جون إلستر من الرائدين في دراسة تأثير الحالات المزاجية في عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية. ما الفرق بين الحالات المزاجية والانفعالات؟ يصف إلستر الانفعالات، أنها مُوجهة، في حين أن الحالات المزاجية أوسع وأقل توجهًا. وقد تُختبر الحالات المزاجية بشكلٍ جماعي أيضًا، ومن هذا الجانب فإنها أقل تأثرًا بالسمات الشخصية من الانفعالات. سنتناول بمزيدٍ من الإسهاب الحالات المزاجية في الاقتصاد الكلي في الفصل الثامن؛ لأنها ترتبط بالثقة والعاطفة، وكلتاهما تلعبان دورًا رئيسيًّا في تقلبات الاقتصاد الكلي وعدم استقرار السوق المالي.
من الممكن أن تكون انفعالاتنا — لا سيما انفعالاتنا الاجتماعية — أكثر تطورًا من غرائزنا الأساسية. ومع ذلك، كثيرًا ما يعتبرها علماء النفس عواملَ غيرَ عقلانية تؤثِّر في عملية اتخاذ القرار. وفي تحدٍّ لهذا الافتراض، يشرح إلستر وزملاؤه كيف يمكن أن تتكوَّن بين الانفعالات والعقلانية علاقةٌ تكاملية. إذ تلعب الانفعالات دور «المرجِّح»، عندما نشعر بالحَيرة أو التردُّد. وتساعدنا، في كثيرٍ من الأحيان، في اتخاذ القرارات بكفاءة؛ لأنها تعمل بسرعة. لكنها في مواقفَ أخرى لا تكون مفيدة؛ إذ إننا نشعر بالخوف عندما نواجه مواقفَ خطرةً غيرَ يقينية، مما قد يُقعِدنا عن الفعل ونحن في أمسِّ الحاجة إليه.
الاستدلال العاطفي
للانفعالات تأثيراتٌ معقَّدة على اختياراتنا الاقتصادية والمالية، لكن يمكننا فهم هذه التأثيرات المعقَّدة بشكلٍ أفضل من خلال الربط بين الانفعالات والاستدلالات. كما شرحنا في الفصل الرابع، الطرق الاستدلالية هي قواعد نعتمد عليها في اتخاذ القرارات السريعة، وهي توجِّهنا في كثير من الأحيان للقرارات الصائبة، لكنها في أحيانٍ أخرى تُوقِعنا في الأخطاء. وتنشأ الانحيازات عندما يستخدم الأشخاص استدلال التوفر، فيركِّزون على المعلومات التي يسهُل تذكُّرها، في حين يتجاهلون المعلومات التي لا يسهُل تذكُّرها لكنها قد تكون أكثر أهمية وموضوعية. وتلعب الانفعالات دورها أيضًا في ذلك. إذ تتسم الانفعالات بقوَّتها وسهولة تذكُّرها أكثر من غيرها. كما أنها ترتبط بالاستجابات السريعة التلقائية. كما تؤثِّر الانفعالات على الذكريات؛ ومن ثَم فإنها تُحدد ما نتذكَّره وما ننساه. ولذلك نستخدم الانفعالات في توجيه أفعالنا؛ فهي جزءٌ لا يتجزأ من الطريقة الاستدلالية التي تُعرف باسم «الاستدلال العاطفي».
يُمكن أن تتدخل الانفعالات والاستدلال العاطفي أيضًا في المعالجة الإدراكية. وهذا ما تستغله الوكالات الإعلانية والصحافة التي تعتمد على الإثارة في أخبارها. فالصور الحية من مميزاتها أنها تلتصق في الذاكرة. عندما نرى صورًا حيةً مخيفة لحوادث اختطاف طائرات وتحطيمها، فقد نتخذ قرارًا بتجنُّب السفر بالطائرة في حين أن السفر بالقطار أكثر خطورة. كما قد يتشوَّه إدراك من يشهدون حوادث ارتطام سياراتٍ مرعبة لخطورة قيادة السيارات، بما يعكس استجاباتهم الانفعالية السابقة للحوادث التي شهدوها. وربما يقودهم ذلك إلى اتخاذ قرار بعدم القيادة أبدًا، في حين أن حوادث المشاة أكثر وقوعًا من حوادث السيارات.
الغرائز الأساسية والعوامل الغريزية
تُميِّز إلستر بين الانفعالات و«العوامل الغريزية». ترتبط العوامل الغريزية بغرائزنا الأساسية مثل الجوع والعطش. هذا يعني أنها فطرية، بل إنها تعمل في كثيرٍ من الأحيان خارجَ حدود إرادتنا الواعية. وتشبه العوامل الغريزية الانفعالات في أنها تساعدنا في اتخاذ القرارات بسرعة. فهي ضرورية لبقاء الإنسان ولأدائه وظائفه الأساسية اليومية، لكنها أداةٌ في غاية القوة أيضًا، ومن الممكن أن تُزاحِمَ أهدافنا الأخرى؛ لأنها أكثر بدائيةً ورسوخًا وأقل تطورًا من الانفعالات.
أجرى عالم النفس «جوزيف لي دو» وعالم الاقتصاد السلوكي جورج لوينستين وغيرهم العديد من الدراسات التي توضِّح كيف تُسهِم الانفعالات والعوامل الغريزية في سلوكياتٍ مدمِّرة للذات. زعم لوينستين أننا نتسم بقصر النظر والأنانية عندما تسوقنا العوامل الغريزية، وأننا نكون أكثر أنانيةً عندما يشتد تأثيرها. كما أنها تحدُّ من قدرتنا على التعاطف أيضًا؛ فعندما نتخذ القرارات نيابةً عن الآخرين مثلًا، فإننا نتجاهل قيمة العوامل الغريزية لديهم أو نقلِّل منها. فنحن نتخيل أن الآخرين يختبرون العوامل الغريزية بطريقتنا نفسها؛ ومع ذلك نقلل من شأن تأثيرها في سلوكهم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تُسهِم العوامل الغريزية في تفسير سبب انغماسنا في الإقدام على المخاطر والسلوكيات المدمرة للذات مثل الإدمان. أحد جوانب المشكلة هو أن بيئاتنا المعاصرة الصناعية تُسهِم في تضخيم العوامل الغريزية. إذ تتيح لنا وسائل التكنولوجيا الحديثة اتخاذ القرارات بسرعةٍ أكبر من أسلافنا القدماء؛ لأن لدينا أجهزة الكمبيوتر والإنترنت. وبالنسبة لأغلب الناس في الدول المتقدمة، يتوافر الطعام بكثرة، كما يمكن تناوله وشراؤه بسرعة، وكذلك العديد من المواد الإدمانية. وبالتالي، في عالمنا الحديث قد لا نريد أو نحتاج إلى أن تتحكم بنا الرغبات الغريزية السريعة. كما تتفاقم المشكلات عندما نجهل حقيقة الدور الذي تؤديه العوامل الغريزية في قراراتنا عندما نقلِّل من شأنها أو نتجاهلها.
كل ما سبق يعني أن العوامل الغريزية قد يكون لها عواقبُ مربكة ومعقَّدة على قراراتنا واختياراتنا. إذ قد تتعارض العوامل الغريزية مع العمليات الإدراكية العُليا، وتُخل بتفاعلاتنا وعلاقتنا بالآخرين. ولعالم الأعصاب جوناثان كوهن رأيٌ متفائل نسبيًّا في هذا الأمر. فهو يقول إننا، من ناحية التطور، قابلون للتكيف إلى حدٍّ كبير. إذ تطورَت قدرتنا على التفكير المنطقي والتحكُّم في رغباتنا في وقتٍ شهدَت فيه بيئتنا الاجتماعية والمادية تغيراتٍ سريعةً للغاية، لكن استجاباتنا الانفعالية القديمة عجزَت عن مواكبة هذا التطور التكنولوجي. قد تكون الاستجابات الاندفاعية الانفعالية قد لعبَت دورًا مهمًّا في بقائنا على قيد الحياة، عندما كنا نقتات على الصيد وجمع الثمار، بسبب ندرة الموارد الأساسية وسرعة فسادها، مما استلزم اتخاذ خطواتٍ سريعةٍ غريزية لتجنُّب الموت جوعًا. لكنها قد لا تُفيدنا في عالمنا المعاصر بل قد تُسهِم في ظهور السلوكيات المنحرفة مثل الإدمان. يزعم كوهن أنه بالرغم من سوء تكيُّف انفعالاتنا الغريزية، فقد أسهَم التطور في «تصليد» الدماغ وتقويته، بحيث مكَّن التفكير المنطقي والتحكُّم في الغرائز من موازنة هذه الاستجابات الانفعالية البدائية. وهكذا أتاح للبشر ابتكار وسائل الالتزام المسبق، التي ذكرناها في الفصل السادس، مثل خطط الادخار وعلكة النيكوتين والسجائر الإلكترونية. وهكذا، تطوَّرَت عقولنا بحيث تخفِّف من تأثير الانفعالات الاندفاعية التي تُلحِق الأذى بالنفس، في عملية اتخاذ القرارات.
فرضية العلامات الجسدية
كما ينظر عالم الأعصاب أنطونيو داماسيو نظرةً أكثر إيجابية للدور الذي تؤديه الانفعالات في توجيه اختياراتنا. ترتبط الانفعالات بمؤشراتٍ فسيولوجيةٍ مهمة، تظهَر في استجاباتنا الجسدية، ويسمِّيها داماسيو «العلامات الجسدية». تُوصِل العلامات الجسدية معلومات إلينا عَبْر الانفعالات، مما يساعدنا أحيانًا في اتخاذ قراراتٍ أفضل بشكلٍ أسرع؛ لأن الانفعالات، كما ذكَرنا سابقًا، تُوجِّه الاستدلال العاطفي.
قد تكون العلامات الجسدية نتاج التفكير الواعي. لكنها، في كثيرٍ من الأحيان، تؤثِّر في عقلنا اللاوعي. إذا تعرضنا للحرق بالنار مثلًا، فإننا نخاف عند رؤية النار، ونبتعد عنها. هذا مثالٌ على تحول العلامات الجسدية إلى انفعالاتٍ من شأنها تحفيزنا على القيام بفعلٍ معين. تُوجد علاماتٌ جسدية أخرى نكون أكثر وعيًا بها، مثل الشعور الحدْسي الدفين الذي ينتاب روَّاد الأعمال تجاه استثمارٍ معيَّن بأنه سيكون ناجحًا؛ من بعض الجوانب، يمثل الشعور الحدسي مشاعر واعية تجاه الاختيارات والخطَط التي نحن بصددها. عندما يراود الخبراء حدْسٌ ما — مثل أن يشك الطبيب أن مريضه يعاني من مرضٍ معيَّن دون أن يقدر على صياغة استدلاله على ذلك بشكلٍ واضح — فهذا الحدْس أو الشعور يُمثل مجموع معارفه وخبراته.
ركَّز داماسيو وزملاؤه أبحاثهم على المرضى الذين يعانون من تلفٍ دماغي، ومن بينهم أشهر مريض تلف دماغي في التاريخ، فينيس جيج الذي كان موظفًا في السكة الحديدية في الولايات المتحدة الأمريكية. في أحد الأيام، اخترق قضيبٌ حديديٌّ دماغ فينيس. كان فيناس جيج سعيدَ الحظ من ناحية؛ لأنه شُفي من الحادث دون أي أضرارٍ جسديةٍ خارجيةٍ واضحة. لكن الحادث تسبَّب في تلف الفص الأمامي (المسئول عن الوظائف الإدراكية العُليا). أحدث التلف الدماغي تغييراتٍ جذرية في شخصيته بالإضافة إلى أنه أعاق قدرته على العمل. فقد فينيس وظيفته في نهاية المطاف، وعانى من صعوباتٍ اقتصادية وعاطفية مختلفة. لاحظ أنطونيو داماسيو وجود أنماطٍ مشابهة في مرضاه، ومن بينهم إليوت، الذي عانى من تلف في الفص الأمامي، بعد أن خضع لعمليةٍ جراحيةٍ لإزالة ورم في الدماغ. كانت الوظائف الإدراكية الأساسية لإليوت جيدة من نواحٍ عديدة، مثل فينيس جيج، لكنه أصيب بالهوس الشديد. لقد تعطلَت استجاباته الانفعالية، وبصرف النظر عن عواقب ذلك على حياته الاجتماعية، كان لذلك أثرٌ كبير على حياته الاقتصادية؛ لأنه وجد صعوبةً كبيرة في اتخاذ القرارات عندما يواجه مجموعةً من الخيارات. يُرجِع داماسيو ذلك إلى أن الانفعالات تساعدنا في اتخاذ القرار عندما نواجه خياراتٍ مختلفة؛ أي إن استجابات إليوت الانفعالية المتضررة مرتبطة بعدم قدرته على اتخاذ الاختيارات والقرارات. لقد أعاقت القيود المفروضة على استجاباته الانفعالية إنتاجيته في العمل بشكلٍ كبير.
ومع ذلك، فإن إيعاز هذا السلوك إلى التأثيرات الانفعالية وحدها أمرٌ صعب؛ إذ لا يسهُل قياس الانفعالات ورصدها. من أجل ذلك، ابتكر دان أريلي وفريقه طريقةً جديدة لمحاولة قياس التأثيرات الانفعالية، وأعطَوا المشاركين في التجارب معلوماتٍ بصرية في شكل صورٍ ملونة وصورٍ بالأبيض والأسود. كانت فكرة أريلي وزملائه أن الصور الملونة واضحةٌ جدًّا، وبالتالي ستثير استجاباتٍ انفعاليةً قوية. كما تلاعب أريلي وفريقه بإدراك المشاركين من خلال سلسلة من التمارين «التجهيزية»، فطلبوا منهم استدعاء أحداثٍ مختلفة من الماضي، ساعدتهم فيها انفعالاتهم في اتخاذ قراراتٍ صائبة. كما طلبوا منهم تذكُّر مواقف من الماضي أعانتهم فيها قدرتهم الإدراكية على حُسن الاختيار. بعد ذلك، عرضوا على المشاركين مجموعةً من المنتجات المختلفة للاختيار منها. ووجدوا أنه عندما لم يثق المشاركون في قدراتهم الإدراكية زاد اعتمادهم على الانفعالات، وعندما يكونون واثقين في انفعالاتهم فإنهم يعتمدون أكثر على الانفعالات أيضًا؛ وعندما عُرضت عليهم صور ملونة زاد اعتمادهم على الانفعالات كذلك. لاحظ فريق أريلي أن المشاركين أظهروا اتساقًا في الاختيارات عندما كانوا يختارون بين منتجاتٍ تُثير استجاباتٍ انفعاليةً قوية. هذا الدليل يؤكد بعض الأفكار التي طرحها أنطونيو داماسيو وآخرون بشأن الانفعالات، وهي أن الانفعالات قد يكون لها تأثيرٌ إيجابي، وقد تساعدنا في اتخاذ قرارات صائبة. فليست الانفعالات غير عقلانية في كل الأحوال.
نماذج النظام المزدوج
كيف يمكننا التوفيق بين الآراء المختلفة حول جدوى الانفعالات من عدمها؟ توفِّق نماذج النظام المزدوج بين بعض التعقيدات والتناقضات الظاهرية؛ إذ تُظهر التفاعل بين الانفعال/ العاطفة وبين الإدراك. في كتاب «التفكير السريع والبطيء»، يلخص دانيال كانمان الدراسات التي أجراها في هذا المجال، ويربطها بأبحاثه السابقة مع آموس تفيرسكي حول الطرق الاستدلالية والانحيازات ونظرية التوقُّع، التي تناولناها في الفصلَين الرابع والخامس. يرى كانمان أن عمليات التفكير تشبه خريطة، تفصل بين نظامَين مختلفَين أساسيَّين في اتخاذ القرارات؛ النظام الأول الآلي السريع الحدسي، والنظام الثاني التدبري المتروِّي المنضبط.
والأبحاث التي جرت حول أنظمة التفكير المنظومي في علم الاقتصاد السلوكي كثيرة ومستمرة، وتشمل مجموعةً واسعة من التجارب التي صُممَت لتسليط الضوء على بعض العوامل المؤثِّرة في اتخاذ القرار. وبالاستناد إلى الدراسات المرتبطة بالحوافز والدوافع التي استعرضناها في الفصل الثاني، بحث دان أريلي وزملاؤه فكرة أن الحوافز المالية يُمكنها أن تؤثِّر بالسلب في أدائنا؛ لأنها تصرف انتباهنا عن العمليات الآلية الفعالة. على سبيل المثال، غالبًا ما يكون أداء الرياضيين المحترفين أفضل عندما لا يُفرِطون في التفكير في حركاتهم. ولذلك فإن الجوائز الكبيرة في البطولات الرياضية الدولية رفيعة المستوى مثل ويمبلدون يمكن أن تئول بالرياضيين إلى «الاختناق تحت الضغط». ولقد أجرى أريلي وفريقه بعض التجارب في الولايات المتحدة والهند. وكلفوا المشاركين بمهامَّ مختلفة، على أن يحصلوا على مكافآتٍ مالية وفقًا لأدائهم، لكن أظهرَت النتائج أن المشاركين الذين حصَلوا على مكافآتٍ باهظة لم يحقِّقوا الأداء الأفضل بالضرورة. وهكذا افترض دان وفريقه أن المشاركين ربما اختنقوا تحت الضغط عندما كانوا يلعبون للفوز بمكافآتٍ كبيرة؛ لأن هذه المكافآت أثارت عندهم استجاباتٍ انفعاليةً عكسية، وأشعلَت الصراع بين العاطفة والإدراك داخلهم، مما أضرَّ بالأداء.
صاغ بعض علماء الاقتصاد السلوكي هذه الأفكار بديلًا لنماذج العوامل الغريزية للإدمان، التي وصفَها جورج لوينستين ولي دو. تمثل كلتا المجموعتَين من النظريات بديلًا لنماذج الإدمان العقلاني التي طرحها علماء الاقتصاد التقليدي، ومن بينهم جاري بيكر وزملائه، الذين زعموا أن غالبية أفعالنا، بما فيها الإدمان، هي نتاج اختياراتنا العقلانية. لكن يصعُب التوفيق بين هذه النماذج وبين خبراتنا الشخصية المتعلقة بالإدمان. تتسم نماذج النظام المزدوج أيضًا بفاعليتها في تفسير العوامل الدافعة للإدمان بطريقةٍ أقرب إلى الحدْس. وفي نموذج بيرنهاين ورانجل للحالات الساخنة والباردة بعض الأفكار المهمة. فهو ينص على أن الانفعالات والعوامل الغريزية تكون أكثر تأثيرًا علينا عندما نكون في حالة «ساخنة» ونشعر بالتوتر، مما لو كنا في حالة «باردة» ونشعر بالهدوء. ففي الحالة الساخنة، تزيد احتمالية الخطأ في الأحكام، والاستسلام للإغراءات. وقد تُسهِم هذه الحالة في رجوع المتعافين إلى الإدمان مرةً أخرى. يدلِّل عالم الاقتصاد ديفيد ليبسون على ذلك بمدمن الكوكايين الذي تعافى من إدمانه في السجن، لكنه عاد إليه بمجرد إطلاق سراحه؛ إذ رجع إلى الأماكن والإشارات المرتبطة بعادات الإدمان القديمة.
كما أن للانفعالات تأثيراتٍ أوسع؛ إذ تنال تأثيراتها النواحي السياسية والاقتصادية أيضًا. في مقالٍ كتبه دانيال كانمان — في صحيفة «التلجراف» البريطانية قبل تصويت المملكة المتحدة عام ٢٠١٦ على استفتاء مغادرة الاتحاد الأوروبي — أشار إلى أن السخط والغضب قد يزيدان من فرص التصويت لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي، وكان رأيه ثاقبًا إلى أبعد الحدود. ففي الفترة التي سبقَت التصويت مباشرة، تغلبَت الانفعالات على القدرة على التحليل. وبعدما انتهى التصويت، ازدادت حدة الانفعالات مرةً أخرى، وعبَّر الكثيرون من «الرافضين لمغادرة الاتحاد الأوروبي» عن شعورهم بالكآبة والضياع في حادثة لن تؤثِّر فيهم أو في عائلتهم بشكلٍ مباشر على الأقل. وربما كانت بعض التأثيرات السلوكية الأخرى، مثل النفور من الخسارة، أسهمَت في إثارة ردود الأفعال الانفعالية أيضًا.
الانفعالات في علم الاقتصاد العصبي
إن قياس الانفعالات أمرٌ في غاية التعقيد، بل إنه أعقد حتى من قياس الشخصية. وقد انشغل علماء الأعصاب بمسألة الانفعالات لمدةٍ أطولَ بكثرٍ مما انشغل بها علماء الاقتصاد، ولديهم بعض الأدوات المفيدة في دراسة عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية والمالية؛ ولذا يتعاونون مع علماء الاقتصاد في فرعٍ جديدٍ من فروع علم الاقتصاد السلوكي يسمَّى «علم الاقتصاد العصبي». يدمج العلماء المتخصصون في هذا الفرع بين نظريات وأدوات علمَي الاقتصاد والأعصاب. ولدى علم الأعصاب الكثير ليقدمه لعلماء الاقتصاد، لا سيما المصادر الجديدة المبتكَرة للبيانات. وفي هذا السياق، يربط بعض القائمين على التجارب بين عملية صنع القرارات الاقتصادية والمالية وقياسات الاستجابات الفسيولوجية مثل معدل ضربات القلب، والموصلية الكهربية للجلد، ومعدَّلات التعرق، وتتبُّع حركة العين. على سبيل المثال، استخدم سميث وديكهوت بياناتِ معدَّل ضربات القلب، للاستدلال على الحالات الانفعالية للمشاركين في تجارب المزاد.
في الواقع، لا تمنحُنا الاستجابات الفسيولوجية العامة معلوماتٍ دقيقةً عن الاستجابات الانفعالية. وفي المقابل، يتيح التصوير الدماغي معلوماتٍ دقيقة، لكنه يستلزم استخدام تقنياتٍ معقَّدة وباهظة التكلفة. كما أن العيِّنات المستخدَمة في تجارب التصوير الدماغي قليلة جدًّا مقارنةً بالعينات الضخمة المستخدمة في مجالات الاقتصاد الأخرى. ومن أكثر تقنيات التصوير الدماغي شيوعًا هو التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. استُخدمَت هذه التقنية في بعض تجارب التمويل العصبي على وجه التحديد، لمحاولة اكتشاف العلاقات بين اتخاذ القرارات المحفوفة بالمخاطر والانفعالات. وفي تجاربَ أخرى استخدم القائمون تقنياتِ التصوير الدماغي لدراسة استجابات المشاركين الانفعالية والإدراكية في المواقف الاجتماعية؛ وذلك بهدف اختبار نماذج النظام المزدوج التي ناقشناها سابقًا. وتعتمد هذه التجارب على التصنيف المرن والفَضفاض للمناطق العصبية المختلفة ودورها في المعالجة الانفعالية مقارنة بالمعالجة الإدراكية.
أحد الأمثلة الكلاسيكية على ذلك هي التجارب التي أجراها سانفي وزملاؤه. فقد استخدموا تقنياتٍ مستمدة من علم الأعصاب لوصف التفاعلات بين الانفعالات والإدراك في أثناء ممارسة المشاركين للعبة الإنذار الأخير، التي شرحناها في الفصل الثالث. وتلخيصًا، تتألف لعبة الإنذار الأخير من لاعبَين اثنَين، مقدم العرض والمستجيب للعرض؛ يقدِّم الأول عرضًا للمستجيب؛ وإذا رفض المستجيب العرض فلن يحصل الاثنان على أي شيء. في النسخة المُعدَّلة من اللعبة التي ابتكرها سانفي وزملاؤه، يلعب المشاركون ضد أشخاصٍ التقَوا بهم سابقًا، في بعض الجولات. ويلعبون في جولاتٍ أخرى ضد الكمبيوتر. وقد كان رفض المستجيبين للعروض المجحفة التي طرحها لاعبون حقيقيون أكثر من رفضهم للعروض المجحفة التي طرحها الكمبيوتر، وهو أمرٌ قد لا يكون مستغربًا. كما أظهر المشاركون استجاباتٍ انفعالية متطرفة نسبيًّا. وعبَّروا عن شعورهم بالغضب عند تلقِّيهم لعرضٍ مجحف، وعن استعدادهم للتضحية بالمكاسب المالية، في مقابل معاقبة منافسيهم في اللعبة.

يركِّز سانفي وزملاؤه على منطقة في الدماغ تُعرف باسم «الفص الجزيري» وهي ترتبط عادةً بالمعالجة الانفعالية للحالات الانفعالية السلبية مثل الألم والجوع والعطش والغضب والاشمئزاز. تُعَد هذه المنطقة جزءًا من الجهاز الحوفي، لكنها تقع في أعماق الدماغ؛ من ثَم كان من الصعب توضيحها في الشكل السابق. ويتعلق الفص الجزيري بأنماط اتخاذ القرارات الاندفاعية الآلية، التي ترتبط بالنظام الأول للتفكير. وفي سياق دراسة استجابات المشاركين في لعبة الإنذار الأخير، وجد سانفي وزملاؤه أن الفص الجزيري أظهر نشاطًا كبيرًا عند تلقي عروضٍ مجحفة من لاعبين حقيقيين، مقارنة بالعروض المجحفة من أجهزة الكمبيوتر؛ فكلما زاد العرض إجحافًا، زادت شدة استجابة الفص الجزيري. كما تبيَّن من نشاطات الفص الجزيري لدى للمشاركين أن لديه قوةً تنبُّئية؛ فقد واصل المشاركون الذين أظهَروا نشاطاتٍ كبيرة في الفص الجزيري رفض نسبةٍ كبيرة من العروض المجحفة. أشار سنافي وزملاؤه، بالاستناد إلى هذه الأدلة، أن المشاركين كانوا يستجيبون للعروض المجحفة بالطريقة نفسها التي يستجيبون بها لرائحةٍ كريهة؛ أي إن المعاملة المجحفة بعثَت داخلهم شعورًا بالاشمئزاز «الأخلاقي» إلى جانب الغضب.
هناك دراسات أخرى في علم الاقتصاد العصبي، بحثت في استجاباتنا التعاطفية. على سبيل المثال، أجرت تانيا سينجر وفريقها تجارب — باستخدام تقنيات تصوير الدماغ — أظهرت أنه عندما يشهد المشاركون خضوع شركائهم للصدمات الكهربائية المؤلمة، تنطوي استجاباتهم التعاطفية على تنشيط دوائر المعالجة الانفعالية التلقائية التي من بينها الفص الجزيري. يبدو أن هذه الاستجابات التعاطفية تنشأ من تخيل الألم الذي يشعر به الآخرون.
تجارب علم الاقتصاد العصبي حول عملية اتخاذ القرارات المالية
نظرت بعض دراسات علم الاقتصاد العصبي في أثر الانفعالات على الأسواق المالية. ودرس الباحثون القرارات المالية للمرضى المصابين بتلف دماغي. فقد درس عالم الاقتصاد العصبي «بابا شيف» وزملاؤه مجموعة من المصابين بتلف في الدماغ، وقارنوا سلوكياتهم بقرارات الأصحاء من المجموعة الضابطة. كان شيف وفريقه قد طلبوا من المجموعتين المشاركة في لعبة استثمار مالي. تعلم المشاركون الأصحاء بسرعة اختيار استراتيجيات لا تنطوي على مخاطرة كبيرة. وفي المقابل، اتخذ المرضى المصابون بتلف في الدماغ قرارات فيها مخاطرة كبيرة لكنهم حققوا أرباحًا طائلة. وقد وجدت بعض الدراسات الأخرى أن الأشخاص الذي يختبرون ردود أفعال انفعالية حادة يتصرفون بشكل مختلف في ألعاب التداول المالي؛ فقد لاحظ «أندرو لو» وزملاؤه أن المشاركين الذين يختبرون استجابات انفعالية متطرفة يتأثر أداؤهم بقوة في عمليات التداول المالي.
كما أظهرت دراسات التصوير الدماغي وجود علاقة بين الحالات الانفعالية وسلوك المتداولين. على سبيل المثال، أجرى عالم النفس والأعصاب برايان نوتسان وزملاؤه بعض دراسات التصوير الدماغي باستخدام تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، على متداولين يختارون بين الأسهم الآمنة والأسهم المحفوفة بالمخاطر. ولاحظوا أن المعالجة الانفعالية لعبت دورًا مهمًّا في القرارات المالية؛ فقد ارتبطت القرارات المحفوفة بالمخاطر بتنشيط منطقة في الدماغ تُعرف باسم «الجسم المخطط»، وهي تتدخل في معالجتنا للمكافآت، بما فيها تلك الناتجة عن المخاطرة والإدمان. كما وجدوا تفاوتاتٍ جذرية في نشاط الفص الجزيري بحسب اتخاذ المتداولين قراراتٍ آمنة أم لا. وهذا يُظهِر دور الفص الجزيري في الحالات الانفعالية السلبية، التي من بينها الخوف من الخسارة؛ إذ يرتبط الخوف من الخسارة بالقرارات الخاطئة الناتجة عن تجنُّب المخاطرة.
كما تلعب الهرمونات دورًا في ذلك أيضًا. على سبيل المثال، تمكَّن عالم الأعصاب جو هيربرت وعالم الاقتصاد جون كوتس من إجراء تجربةٍ طبيعية لدراسة سلوك مجموعة من المتداولين اليوميين في لندن؛ ونقصد بالمتداولين اليوميين أولئك الذين يسعَون للتربُّح من تقلبات أسعار الأصول على مدى اليوم.
استخدم كوتس وهيربرت عيناتٍ من اللعاب لقياس مستويات هرمونَي التستوستيرون والكورتيزول عند المتداولين. يُعتقد أن هرمون التستوستيرون مرتبط بالمواقف التي تنطوي على مخاطرةٍ كبيرة وبالسلوك المعادي للمجتمع؛ كما ترتفع مستويات الكورتيزول عند الشعور بالتوتر الشديد. لاحظ كوتس وهيربرت أن مستويات هرمون التستوستيرون عند المتداولين في الصباح لها علاقة بأدائهم في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم؛ فقد بدا أن المتداولين الذين تكون مستويات هرمون التستوستيرون عالية لديهم في الصباح يحققون أرباحًا كبيرة من عمليات التداول على مدى اليوم. ولعل ذلك يشير إلى أن المخاطرة والقسوة ناتجان — على الأقل جزئيًّا — من أنظمتنا الفسيولوجية، لا من الحساب العقلاني، كما تزعم التحليلات الاقتصادية التقليدية.
هناك دراساتٌ أخرى استخدمَت رؤًى مستمدةً من التحليل النفسي. على سبيل المثال، استعان الاختصاصي في التحليل النفسي ديفيد تاكيت ببعض خبراته لدراسة انفعالات المتداولين. وأشار إلى أن قيمة الأصول المالية التي ينشغل بها المتداولون لا تنحصر في الجانب المالي فحسب. إنما تُعد — بحسب تسمية المحللون النفسيون — «أغراضًا مُتوهمة»؛ أي أغراضًا يعتقد أصحابها أن لها صفاتٍ فائقةً استثنائية. وينشأ الصراع الانفعالي عندما يحدث انفصالٌ زمني بين الشعور بالإثارة الناتج عن جني الأرباح والشعور بالهلع المنبعث من الخوف من الخسارة. فالمتداولون يحققون الأرباح في مرحلة ويحصدون الخسائر في أخرى. وربما يفِّسر ذلك، بشكلٍ جزئي، كيف تنشأ الفقاعات التداولية؛ إذ سرعان ما ينسى المتداولون الخسائر السابقة. ويختلقون قصصًا وسردياتٍ في محاولة لتسويغ تصرفاتهم الاندفاعية بشكلٍ عقلاني. ويتبع هذا الازدهار المشوب بالنشوة، تقلباتٌ انفعالية تنتهي بانهيارٍ مدوٍّ للثقة، فور أن تنفجر الفقاعة التداولية، التي أنشأَت من الأساس الصراعات الانفعالية داخل المتداولين، حسبما يرى تاكيت.
نستنتج من ذلك أن دور الانفعالات في السلوك التداولي، قد يُسهِم في تفسير جزء من عدم الاستقرار المالي الذي يعيق أداء الاقتصاد الكلي. في الفصل الثامن، سنتناول بعضًا من هذه الموضوعات، في مجالٍ جديد نسبيًّا على علماء الاقتصاد السلوكي، وهو الاقتصاد الكلي السلوكي.