السلوك في الاقتصاد الكلي
في الفصل السابع، استعرضنا الدور الذي تلعبه الانفعالات في عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية والمالية. ومن شأن النظر في هذه العوامل الانفعالية والنفسية مجتمعة أن يساعدنا في وضع نماذجَ جديدة للاقتصاد الكلي مصمَّمة لتحليل الكيفية التي تُوجه بها التأثيرات الاجتماعية النفسية سلوكياتنا الجماعية. إن سلوكياتنا الاقتصادية الجماعية — باعتبارنا فاعلين ثانويين في الاقتصاد الكلي — تُعد مسألةً مهمة لصُنَّاع السياسات، ولكنها أيضًا مجالٌ في الاقتصاد، تدور حوله الكثير من الأفهام الخاطئة. فمنذ الأزمة المالية التي وقعَت بين عامَي ٢٠٠٧ و٢٠٠٨، تعرضَت مصداقية نماذج الاقتصاد الكلي التقليدية للتشكيك. في هذا الفصل، سنناقش كيف يمكن لعلماء الاقتصاد السلوكي الإسهام في تطوير نظرياتٍ مبتكرة حول الاقتصاد الكلي، وفي تجميع أنواعٍ جديدة من البيانات المرتبطة بعلم الاقتصاد الكلي السلوكي.
ويُعد علم الاقتصاد الكلي السلوكي مجالًا غير متطور نسبيًّا؛ لأنه يواجه بعض القيود القوية، من ضمنها صعوبة صياغة فهمٍ كلي من خيارات أصنافٍ مختلفة من الأشخاص، يمتلكون شخصياتٍ مختلفة، ويختبرون حالاتٍ مزاجية وانفعالية مختلفة، ويتخذون قراراتهم بطرقٍ معقَّدة، تستند إلى مجموعةٍ واسعة من الطرق الاستدلالية التي تولِّد مجموعةً أوسع من الانحيازات. ولذلك يميل علماء الاقتصاد السلوكي إلى التركيز على سلوك الاقتصاد الجزئي للمستهلكين أو العمال أو رجال الأعمال أو صُناع السياسات. وحتى هذا يُعد صعبًا؛ إذ ليس من السهل قياس الشخصية والمزاج والانفعالات، كما وضَّحنا في الفصل السابع. وبالتالي يُعد تحليل البيانات تحديًا صعبًا بالنسبة لعلماء الاقتصاد الكلي إذ يزيد مشكلات قياس السلوك تعقيدًا أن الأفراد في الاقتصاد الكلي يتفاعلون بأساليبَ كثيرةٍ معقدة.
تجتمع اختياراتنا فتؤثر في المتغيرات الرئيسية التي هي محور القصص الإخبارية اليومية عن الاقتصاد الكلي، التي تشمل التوظيف والبطالة، والناتج ونمو الإنتاجية، والتضخم ومعدلات الفائدة. فالحالات المزاجية والانفعالات تؤثِّر في رفاهيتنا جميعًا، وهذا ما بدأ يدركه صُناع السياسات يومًا بعد يوم. ولذلك باشروا وضع أهدافٍ جديدة لسياسات الاقتصاد الكلي تستند إلى بعضِ هذه الرؤى. ولم يعُد الاقتصاد الكلي حكرًا على علماء الاقتصاد. إذ تُظهِر لنا النتائج المستمدة من علم النفس والطب النفسي وعلم الاجتماع وعلم الطب والصحة العامة أن رفاهية الدولة لا تنحصر في الظروف المالية لمواطنيها. وسنتناول بعضًا من هذه الموضوعات لاحقًا في هذا الفصل.
الجانب النفسي للاقتصاد الكلي
يركز علم الاقتصاد الكلي السلوكي على الطرق التي يمكن للعوامل الاجتماعية والنفسية، مثل التفاؤل والتشاؤم، أن تساعدنا بها على فهم تقلبات الاقتصاد الكلي. في كثير من الأحيان، يتأثر رواد الأعمال بالتقلبات في المزاج وفي مؤشرات ثقة الأعمال، التي يشهدها الاقتصاد الكلي، مما يؤثر على سرعة نمو الشركات واستعداد أصحاب الأعمال للاستثمار في مشاريع تجارية جديدة، فينعكس ذلك في النهاية على ناتج الاقتصاد الكلي ونموه. في المقابل، عندما تدب روح التفاؤل في عالم الأعمال، يمكن لذلك التفاؤل أن يتحول إلى واقع، ويزداد الناتج المحلي الإجمالي.
ولا شك أن التفضيلات الزمنية لها دورها المهم أيضًا؛ لأن تقلبات الاقتصاد الكلي تنتج عن اختيار الأفراد للاستهلاك اليوم أو الادخار للمستقبل. إن اتصاف المستهلكين بصفةٍ عامةٍ بالصبر أو بالتعجُّل، يحدِّد إن كانوا سينفقون اليوم أم سيفضِّلون الادخار للغد. إذا كانوا صبورين وادَّخروا المزيد، فسيوفر ذلك المال لرواد الأعمال كي يبدءُوا مشاريعَ استثماريةً جديدة. أما إذا كانوا ينزعون إلى التعجُّل ويستهلكون بكثرة، فقد يحفِّز ذلك النشاط الاقتصادي على المدى القصير؛ إذ ستزيد الشركات من إنتاجها للوفاء بمتطلباتهم. كما أنه يجب على روَّاد الأعمال اختيار إن كانوا سيستثمرون في نمو شركاتهم في المستقبل أم لا. إذا نظرنا إلى كل هذه القرارات مجتمعة، فسنجد أنها تؤثِّر بشكلٍ كبير على الاقتصاد الكلي إجمالًا.
كما تتفاعل سيكولوجيتنا مع مواقفنا تجاه المستقبل أيضًا. إذ تحدِّد الانفعالات والحالات المزاجية ما إذا كنا سنُفضِّل القرارات ذات النظرة المستقبلية. يدفع الأمل والتفاؤل — إلى جانب الثقة — الاقتصاد إلى الأمام؛ ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن روَّاد الأعمال الذي يلعبون دورًا مهمًّا في بناء القدرة الإنتاجية للأنظمة الاقتصادية يتأثرون بتغيُّر الثقة والشعور العام السائد في مجتمع الأعمال. ولعل أوضح الأمثلة على ذلك هو التصويت الذي أجرته المملكة المتحدة في عام ٢٠١٦، وخيَّر الناس بين مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي أو بقائها فيه؛ عندما فاز المصوتون لمغادرة الاتحاد الأوروبي، شعر المصوتون للبقاء في الاتحاد الأوروبي، والذين كان معظمهم من رواد الأعمال وعلماء الاقتصاد بالكآبة الشديدة. وكانت عواقب ذلك على الاقتصاد الكلي مباشرة ووخيمة. فإلى جانب حالة الشك التي سادت في المجال السياسي والاقتصادي والمالي في المملكة المتحدة، انخفضت قيمة الجنيه الإسترليني، وسحب العديد من المستثمرين استثماراتهم من المملكة المتحدة. وسرعان ما شعرَت المملكة المتحدة بالآثار السلبية لهذا التصويت على اقتصادها.
ويحدِّد كوننا صبورين أو عجولين، ومتفائلين أو متشائمين، نظرتنا إلى المستقبل، وهل ستكون إيجابية أو سلبية، مما سيؤثر بدوره على شعورنا ومدى صبرنا أو تعجلنا. أثبتَت عالمة علم النفس التجريبي تالي شاروت أننا نميل بطبيعتنا إلى التفاؤل حسبما يبدو؛ أي إننا تطوَّر لدينا نزوع للتفاؤل المفرط، يجعل أغلب الأصحاء نفسيًّا أكثر عُرضة للوقوع في انحياز التفاؤل. وقد كشف تصويت المملكة المتحدة بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي هذه النزعة؛ إذ عبَّر الكثيرون ممن صوَّتوا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي عن دهشتهم وصدمتهم من النتيجة، بالرغم من أن الكثير من استطلاعات الرأي قد تنبأَت بفوز الداعمين لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، ولو بفارقٍ ضئيل، قبل بدء التصويت بأسابيع.
ويؤثِّر انحياز التفاؤل في الاستثمارات العامة في قطاعَي التشييد والبنية التحتية أيضًا، بحسب تقارير المكتب الوطني لمراجعة الحسابات في المملكة المتحدة، الذي يختص بمراقبة الإنفاق الحكومي على المشاريع. في سنة ٢٠١٣، أجرى المكتب دراسة حول التفاؤل المفرط في قطاع التشييد. ووجد أنه مرتبط بارتفاع تكاليف المشاريع الحكومية؛ لأن المخططين ليسوا واقعيين دائمًا في تطلعاتهم المستقبلية بشأن مشاريعهم، مما جعلهم لا يقدرون التكاليف بشكلٍ جيد، ولا يتوقعون حدوث التأخيرات.
في هذا السياق، استخدم عالما الاقتصاد جون إيفتشر وهوما زارجامي، أداتَين تجريبيتَين لاكتشاف بعض الروابط بين صفتي التفاؤل والصبر. فقاما بتحليل مستويات السعادة، بحسب تقدير أصحابها، الواردة في المسح الاجتماعي العام للولايات المتحدة الأمريكية. ووجدَا أن الأشخاص الذين يتصفون بعقليةٍ إيجابية، أظهروا مستوياتٍ عالية من الصبر، والتخطيط للغد وعدم «العيش لليوم فقط». كما أجرى إيفتشر وزارجامي تجربةً أخرى لتحديد أثر الانفعالات على نظرة الأشخاص للمستقبل. وفي تلك التجربة، عُرض على إحدى المجموعتَين المشاركتَين مقاطعُ مبهجة، مثل فقرةٍ كوميديةٍ ارتجالية. وعُرض على المجموعة الأخرى مقاطعُ حيادية، كمقاطع من أفلام عن الحياة البرية والمناظر الطبيعية. وطُلب من كل المشاركين التعبير عن رأيهم في اقتطاع جزء من أموالهم في الوقت الحاضر لادخارها للمستقبل. ووجدَا أن المجموعة التي شاهدَت العرض الكوميدي، أظهرَت الكثير من الصبر وفضَّلت أكثر الاستثمارات ذات العائد المستقبلي، مقارنةً بالمجموعة الأخرى، مما قد يشير إلى أن الحالات المزاجية السعيدة تجعلنا أكثر تطلعًا للمستقبل.
رواد علم الاقتصاد الكلي السلوكي: كاتونا وكينز ومينسكي
لا يُعد التركيز على الانفعالات باعتبارها محركًا للاقتصاد الكلي أمرًا جديدًا. جورج كاتونا هو أحد المؤسسين لعلم النفس الاقتصادي، ولديه الكثير من الرؤى التي يتردَّد صداها في النسخة الحديثة من علم الاقتصاد الكلي السلوكي. لاحظ كاتونا أن العوامل الانفعالية (مثل التوتر أو النشوة) قد تُحدث تحولاتٍ في مشاعر المستهلكين وثقة المستثمرين والطلب الكلي بطرق تعجز نماذج الاقتصاد الكلي التقليدي عن رصدها.
وكان لجون ماينارد كينز تأثيرٌ مهمٌّ أيضًا في ذلك الشأن. في الفصل الثاني عشر من كتابه «النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود» (١٩٣٦)، يصف كينز مجموعتَين رئيسيتَين من الفاعلين الموجهين للاقتصاد الكلي وهما: المضاربون ورواد الأعمال. ولكل مجموعة من هاتَين شخصيتها الخاصة وطريقتها المميزة في التعامل مع الانفعالات. فالمضاربون الماليون يسعَون خلف العوائد المالية؛ أي يريدون زيادة أرباحهم من شراء الأصول المالية وبيعها.
ركَّز كينز تحليله على سلوك المضاربين في أسواق الأسهم والأوراق المالية. صحيح أنه بسبب تقدُّم التكنولوجيا السريع في قطاع المال لا سيما بعد تسعينيات القرن العشرين، لم تعُد الأوراق المالية والأسهم هي الأصول المالية الوحيدة المحفوفة بالمخاطر، لكن منطق كينز الأساسي لا يزال يسري على الأسواق المالية الحديثة. توفِّر أسواق الأوراق المالية السيولة؛ وهو أمرٌ جيد من حيث إنها تضخ الأموال لرواد الأعمال كي يستطيعوا بناء قدراتهم الإنتاجية، لكن هذه السيولة تنعكس على الأسهم والأوراق المالية من حيث سهولة وسرعة بيعها وشرائها. يسعى المضاربون الماليون خلف الأرباح القصيرة الأجل، فينحصر تركيزهم على التقلبات القصيرة الأجل في أسعار الأسهم. كما أنهم يتأثرون بقوة بسلوك المضاربين الآخرين.
يفترض كينز أن المضاربين يعتقدون في كثيرٍ من الأحيان أن الآخرين قد يكونون أكثر درايةً منهم بالأرباح المحتمَلة لسهمٍ معين، ولذا يلجئون إلى تقليدهم في الشراء أو البيع، لا سيما إذا لم يكن لديهم معرفةٌ راسخة بتوجُّهات السوق. ينشغل المضاربون بما يفكر فيه الآخرون لأن ذلك سيحدِّد ذلك السعر الذي قد يدفعونه في مقابل الأسهم. ولا يهتمون كثيرًا بالقيمة الأساسية للسهم من حيث الأرباح التي سيحصِّلها في المستقبل البعيد. كل ما يشغلهم هو السعر الذين سيحصلون عليه عند بيع السهم في المستقبل القريب. ولهذا الغرض تكون آراء المضاربين الآخرين في غاية الأهمية؛ لأنهم قد يكونون المشترين للأسهم في الغد.
يستخدم كينز التشبيه الذي ساقته إحدى الصحف لوصف انشغال المضاربين بآراء الآخرين بأنه «مسابقة جمال». فهو يشبهه بمسابقة يُطلب من المشاركين فيها تقييم بعض الصور لنساءٍ جميلات، لكن مهمتهم ليس انتقاء أجمل امرأة في نظرهم، وإنما أجمل امرأة في نظر الآخرين. يجب أن يخمِّنوا أحكام غيرهم من المتسابقين؛ مما يخلق سياقًا يحكم فيه المتسابق على ما قد يظنه غيره من المتسابقين عن آراء باقي المتسابقين. وبالنسبة لعلم الاقتصاد الكلي، يزعم كينز أن المضاربين باتباعهم لهذه الأساليب وممارستهم لألعاب مسابقة الجمال، لا تكون تقديراتهم للأسهم مبنية على أساس قوي مُستمد من معتقداتٍ واقعية. ويُسهِم هذا في عدم استقرار السوق وتقلبه، بالإضافة إلى آثاره السلبية على الاقتصاد الكلي؛ إذ يمنع هذا المُناخ من عدم الاستقرار وعدم اليقين روَّاد الأعمال من الاستثمار لبناء شركاتهم الخاصة.
المجموعة الثانية من المؤثِّرين في الاقتصاد الكلي، حسب رؤية كينز، هم رواد الأعمال. يرى كينز أن قطاع الأعمال والريادة لا يتعلقان بكسب المال فحسب؛ إذا كنتَ تريد كسب المال فعليك بالمضاربة فهي تُقدِّم مكافآتٍ كبيرةً نسبيًّا وقابلة للتنبؤ؛ إذ يركِّز المضاربون أنشطتهم على المستقبل القريب جدًّا. فهم عادةً ينشغلون بتقلُّب أسعار السهم على مدار اليوم أو الأسبوع أو الشهر. ولا يهتمُّون بصفةٍ عامة بما قد يحدث لأسعار الأسهم على مدار السنوات أو العقود (يُعد خبير الاستثمار المالي وارن بافيت استثناءً لهذه القاعدة العامة).
لكن مهمة رواد الأعمال أصعَب بكثير من مهمة المضاربين. إذ يجب عليهم التفكير جيدًا في المدى البعيد، وهو أمرٌ صعب؛ لأن المستقبل أحيانًا يكون مبهمًا وغير أكيد. على سبيل المثال، سيستثمر رجل الأعمال الذي يتسم بالعقلانية الشديدة القليل من المال في شركته الخاصة، إذا استند إلى الحسابات الرياضية فحسب في اتخاذ قراراته الاستثمارية. إن عدم اليقين بشأن المستقبل — خاصة بالنسبة للمشاريع المبتكرة — يعني أنه من الصعب التنبؤ بأداء المشروع في السنة أو الخمس أو العشر السنوات المقبلة. ومع ذلك، هناك عاملٌ آخر يساعد روَّاد الأعمال في التغلب على ذلك الشعور بعدم اليقين والخوف من المستقبل، وهو «الأرواح الحيوانية». يُمكن فهم الأرواح الحيوانية، بشكلٍ جزئي، من حيث انحياز التفاؤل، الذي ناقشناه في وقتٍ سابق وفقًا لتحليلات تالي شاروت والآخرين. كان جالينوس البيرجاموني، وهو طبيبٌ إغريقي كان مسئولًا عن علاج المصارعين في روما القديمة، أول من تحدث عن مفهوم الأرواح الحيوانية. وصف جالينوس الأرواح الحيوانية بأنها تربط بين فسيولوجيتنا العصبية وأفعالنا؛ وكانت أفكاره هي الأساس الذي بنى عليه أبقراط وصفه للأخلاط الأربعة — الدم والبلغم والمُرَّتان؛ المُرَّةُ الصفراء والمُرَّة السوداء — التي يرتبط كل واحدٍ منها بحالةٍ مزاجيةٍ معيَّنة مثل السوداوية وسرعة الغضب والتفاؤل والهدوء على الترتيب.
في رؤية كينز، ترتبط الأرواح الحيوانية بالشعور بالتفاؤل، فهي تمثل الرغبة في التصرف والإتيان بعملٍ إيجابي. عودة من العالم القديم إلى العالم الحديث، قد يُسهِم مفهوم الأرواح الحيوانية لجالينوس، في تصوير التفاؤل العفْوي المرتبط بالأرواح الحيوانية لدى روَّاد الأعمال، والذي يدفعهم إلى الشعور بالثقة بشأن المستقبل والاستثمار لتنمية مشاريعهم الخاصة. ما علاقة ذلك بالاقتصاد الكلي؟ يوضح كينز أن التوزان بين أنشطة روَّاد الأعمال والمضاربين سيحدِّد تأثير سوق الأسهم على متغيرات الاقتصاد الكلي مثل الناتج والعمالة والبطالة والنمو. لكن من السهل أن تخبت هذه الأرواح الحيوانية بسبب عدم اليقين وعدم الاستقرار. لذلك عندما تكون الأسواق المالية متقلبة، يشعُر رواد الأعمال بالاضطراب ويتردَّدون في الاستثمار من أجل ازدهار مشاريعهم في المستقبل.
يربط النظام المالي بين روَّاد الأعمال والمضاربين. فروَّاد الأعمال يحتاجون إلى الأموال من الأسواق المالية لتطوير مشاريعهم على المدى البعيد، والأسواق المالية هي التي يمكنها توفير هذه الأموال. يزعم كينز أن الأمور ستسير على ما يُرام إذا تحقق التوزان بين هاتَين النزعتَين، عندما تكون المضاربة مجرد فقاعة في نهر المشاريع الذي يجري بوتيرة ثابتة. لكن عندما تصبح المضاربة دوَّامة غير مستقرة، فإنها تُزعزِع استقرار الاقتصاد الكلي، ويتضخَّم الشعور بالتقلب وعدم اليقين.
الاقتصاد الكلي السلوكي الحديث: نماذج الأرواح الحيوانية
كما أشرنا سابقًا، يُعد تحليل قرارات الأفراد مجتمعة لتفسير ظواهر الاقتصاد الكلي، تحديًا كبيرًا للمنشغلين بالاقتصاد الكلي السلوكي. فقد يواجه المختصين صعوبة في حصر كل التأثيرات المعقدة وأنماط الشخصية المختلفة التي توجِّه الأفراد، لتشكيل نموذج إجمالي متسق للاقتصاد الكلي. يتجنب التصور التقليدي للاقتصاد الكلي كل هذه التعقيدات، فيفترض أن جميع العمال والشركات على نفس الشاكلة، ويسلكون نفس السبل عند اتخاذ القرارات الاقتصادية. كما يفترض أن كل الأفراد يتمتعون بالعقلانية المطلقة، من ثم لا يواجه أي صعوبة في تصوير كيفية تفاعل هذه الأصناف المختلفة من البشر في الاقتصاد الكلي. وهكذا تصف نظريات الاقتصاد الكلي التقليدي شخصًا واحدًا، «الوكيل التمثيلي»، الذي يتخذ قراراته بطريقة بسيطة خالية من التعقيد. ويعكس الوكيل التمثيلي، في كثير من نظريات الاقتصاد الكلي التقليدي، سلوك جميع الشركات والعمال. فإذا ضاعفنا سلوك الوكيل التمثيلي، نحصل على نموذج الاقتصاد الكلي. في هذا التحليل، يستند الاقتصاد الكلي بقوة، إلى مبادئ الاقتصاد الجزئي.
ولا يستطيع علماء الاقتصاد الكلي السلوكي تجميع كل الاختيارات بطريقة فعَّالة، باستخدام أداة الوكيل التمثيلي العقلاني كما تُستخدم في الاقتصاد الكلي التقليدي؛ لأن جوهر الاقتصاد السلوكي هو رصد الاختلافات في أنماط الشخصية والانفعالات والتفاعلات بين الفاعلين. فلا يُوجد في الاقتصاد الكلي السلوكي وكيلٌ تمثيليٌّ واحد. بدلًا من ذلك، يميل الاقتصاد الكلي السلوكي إلى التركيز على الظواهر الكلية مثل مؤشِّر ثقة الأعمال ومؤشِّر ثقة المستهلكين.
وهناك طريقةٌ أخرى، يستطيع من خلالها علماء الاقتصاد الكلي السلوكي في العصر الحديث وضع نماذجهم، وهي التركيز على دوافعَ نفسيةٍ معيَّنة باعثة على العمل، مستعينين بمفهوم الأرواح الحيوانية في كثيرٍ من الأحيان، لكن بتعريف يختلف عن تعريفَي كينز وجالينوس. يصف أكرلوف وشيلر، في كتابهما «الأرواح الحيوانية»، مجموعةً من الغرائز الحيوانية التي تنعكس على الاقتصاد الكلي والأنظمة المالية. لكن تعريفهما لا يتسم بالدقة مثل تعريف كينز للأرواح الحيوانية. فبينما يساويان بين الأرواح الحيوانية والظواهر النفسية، يركِّز مفهوم كينز على الحدْس عند روَّاد الأعمال الذين يستثمرون في بناء قدراتهم الإنتاجية. وبالتالي، لا ينحصر مفهوم الأرواح الحيوانية عند أكرلوف وشيلر في الأرواح الحيوانية عند روَّاد الأعمال، بل يشمل مجموعة من خمس أرواحٍ حيوانية، ولكلٍّ منها تأثيرها السلبي على الاقتصاد الكلي مثل الثقة، والعدالة، والفساد، والوهم المالي والقصص.
ابتكر علماء آخرون في الاقتصاد الكلي السلوكي الحديث نماذجَ رياضيةً معقدة تستند إلى الأرواح الحيوانية، وعرَّفوا فيها مفهوم الأرواح الحيوانية بطريقةٍ تختلف أيضًا عن تعريف كينز الأصلي الذي طبَّق فيه مفهوم جالينوس على الاقتصاد الكلي. فصاغ علماء الاقتصاد الكلي السلوكي روجر فارمر، وبول دي جُرُو، ومايكل وودفورد نموذج دورات الأرواح الحيوانية باستخدام تقنياتٍ رياضيةٍ معقدة، تصوِّر الأرواح الحيوانية بأنها تقلباتٌ عشوائية (ضوضاء عشوائية) تدفع بالاقتصاد الكلي من حالة الازدهار إلى الركود.
التمويل والاقتصاد الكلي
يركز علماء الاقتصاد الكلي السلوكي أيضًا على التمويل والاستقرار المالي وأثرهما على الاقتصاد. تُهمِل الكثير من نظريات الاقتصاد الكلي التقليدي القطاع المالي، لكن الأزمة المالية التي حدثَت في ٢٠٠٧/ ٢٠٠٨ وما تلاها من ركود عالمي، ذكَّرت علماء الاقتصاد وصُنَّاع السياسات بأهمية القطاع المالي بالنسبة لأداء الاقتصاد الكلي. إحدى النقاط التي يمكن الانطلاق منها هي دراسة الجانب النفسي لفقاعات المضاربة. فالروايات التاريخية لفقاعات المضاربة يصعُب التوفيق بينها وبين منظور الاقتصاد التقليدي بشأن الوكلاء العقلانيين الهادئين، الذين يقومون بعملياتٍ حسابيةٍ رياضية دقيقة، عند تقييم المكاسب والخسائر المرتبطة بعملية شراء أصلٍ ما. يُعَد «هوس التوليب» — وهي أكثر حادثةٍ مثيرة للجدل في التاريخ المالي — مثالًا دقيقًا على مدى تقلُّب فقاعات المضاربة وافتقارها إلى العقلانية. فقد ازداد الطلب بشدة على بُصيلات التوليب في هولاندا، لمدة تتراوح بين ثلاثة وأربعة شهور، بدايةً من شهر نوفمبر عام ١٦٣٦. وارتفع سعر البصيلات النادرة بنسبة ٦٠٠٠٪ بحسب التقارير. وقد استأثرَت بصيلاتُ نوعٍ معيَّن بكل الاهتمام، وهي بُصيلات نوع سيمبر أوغسطس، الذي أصابه فيروس ما فجعلَها مبرقشة بأنماطٍ خلابةٍ فريدة. كان سعر بُصيلات هذا النوع، في ذروة الهوس، يساوي سعر بيتٍ كبير من ثلاثة طوابق في مركز أمستردام. لكن تلا ذلك الازدهار انهيارٌ مدوٍّ لسوق التوليب. وبحلول فبراير عام ١٦٣٧، كان من المستحيل بيع غالبية البصيلات، ولو بأسعارٍ زهيدة، وفقد الكثير من المضاربين في سوق بُصيلات التوليب ثرواتهم. لكن لم يكن «هوس التوليب» فريدًا من نوعه؛ فهناك الكثير والكثير من فقاعات المضاربة على مَر التاريخ، سنذكُر منها على سبيل المثال لا الحصر فقاعة بحر الجنوب في القرنِ الثامنَ عشر، وفقاعة المضاربة التي ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية وانتهت بالكساد العظيم في عام ١٩٢٩، وفقاعة الإنترنت في تسعينيات القرن العشرين، وأزمة الرهن العقاري الثانوي التي عجَّلَت بحدوث الأزمة المالية في عام ٢٠٠٧/ ٢٠٠٨.
وفي سياق تفسير ذلك النوع من عدم الاستقرار المالي، ألهمَت أفكار كينز مجموعة من علماء الاقتصاد، من بينهم هيمان مينسكي، لتطوير نماذجَ ثرية للأسواق المالية. وضع مينسكي نظرية دورات الائتمان لتفسير بعض جوانب عدم الاستقرار المالي الذي وصفناه سابقًا. وكانت نظريته تتمتع بقدرةٍ تنبُّئيةٍ قوية؛ إذ تنبأَت بالأزمة المالية لعام ٢٠٠٧/ ٢٠٠٨، وعواقبها الوخيمة التي أدت إلى حدوث كسادٍ عالمي. وكما هو الحال مع كينز، لعبَت العوامل الانفعالية دورًا مهمًّا في تحليل مينسكي للأنظمة المالية الهشة، والتبعات الواسعة لهذه الهشاشة المالية على الاقتصاد الكلي. كما شرح مينسكي أن الدورات الاقتصادية تكون مدفوعة بموجاتٍ من الخوف والهلع، وأن هشاشة الأنظمة المالية تلعب دورًا كبيرًا في التقلبات الاقتصادية الشديدة. وزعم مينسكي أن الدورة الاقتصادية تكون مدفوعة في البداية بنشوة المضاربين والتفاؤل المفرط لروَّاد الأعمال. فتُقرض البنوك الكثير من الأموال. وتقترض الشركات الكثير من الأموال. وأخيرًا، يدرك شخصٌ ما أن هذا الازدهار لا يقوم على أساسٍ ثابت، وتبدأ أسعار الفائدة في الارتفاع، فيحدث انهيارٌ ضخم كالازدهار الذي سبقه.

فوضى الرهن الثانوي
باشر بعض علماء الاقتصاد تحسين هذه الأفكار. فكتب روبرت شيلر بإسهاب عن «الوفرة اللاعقلانية» (وهو مصطلح ابتكره الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي آلان جرينسبان) في الأسواق المالية، وآثارها المتوقعة على التوظيف والاستثمار والناتج والنمو الاقتصادي. كما زعم الاقتصادي هيرش شفرين أن تلك الوفرة اللاعقلانية في الأسواق المالية الصاعدة تعكس التفاعلات بين مشاعر الخوف والأمل والجشع. فكثيرٌ من العوامل التي تؤدي إلى عدم الاستقرار المالي تتعلق بالمخاطرة المفرطة والانفعالات؛ وهذا له ارتباطٌ وثيق بأفكار جورج لوينستين وغيره بشأن العوامل الغريزية، التي تناولناها في الفصل السابع. وأشار لوينستين بارتباط شعور المخاطرة بحالاتنا الانفعالية، لا تفضيلاتنا البسيطة المستقرة، كما كان يفترض علماء الاقتصاد التقليدي عادة.
الحالات المزاجية والدورة الاقتصادية
إحدى المقاربات الأخرى التي استخدمها علماء الاقتصاد الكلي السلوكي هي تحليل تأثير الثقة والمزاج الاجتماعي على نتائج الاقتصاد الكلي. قد تؤثِّر عواملُ مشتركة في الحالة المزاجية للجميع؛ فأغلبنا يشعُر بالبهجة عندما تكون الشمس ساطعة مثلًا. وهكذا، استخدم علماء الاقتصاد هذه الرؤية لرصد العلاقة بين الحالات المزاجية والتقلبات المالية والاقتصادية الكلية، في مختلف مراحل الدورة الاقتصادية.
استعان الاقتصادي مارك كامسترا وزملاؤه بالبيانات المتعلقة بالاكتئاب الموسمي لاختبار صحة فرضيتهم التي تقول إن الأسواق المالية تختلف حركتها في موسم الصيف عن موسم الشتاء. ويمكننا قياس الاكتئاب الموسمي بالاستناد إلى معدل وقوع «الاضطراب العاطفي الموسمي». فالأشخاص الذين يعانون من الاضطراب العاطفي الموسمي، يميلون إلى الحذر وينفرون من المخاطرة. ولو أننا ترجمنا ذلك الأمر إلى المضاربين في الأسواق المالية، لوجدناهم يميلون إلى تجنب المخاطرة في فصل الشتاء، وفي الدول التي تقل فيها ساعات النهار. لاحظ كامسترا وفريقه أن عدد ساعات الليل والغيوم ودرجة الحرارة، لها تأثيرٌ قوي على أداء سوق الأوراق المالية. واستنتَجوا من ذلك أن الاكتئاب الموسمي يزيد من نفور المضاربين من المخاطرة. وتأكدَت أدلة كامسترا في دراسةٍ مشابهة أجراها عالما الاقتصاد ديفيد هيرشليفر وتايلر شامواي (٢٠٠٣). وتوصلا أيضًا إلى أن هناك ارتباطًا إيجابيًّا بين عدد ساعات سطوع الشمس وأداء سوق الأوراق المالية.
يرى بعض المحللين أن الحالات المزاجية التي يختبرها الناس بشكلٍ جماعي، هي المحرِّك الأساسي للاقتصاد الكلي أو هي المتغير التفسيري النهائي. وقد طبَّق روبرت بركْتر وفريقه، من معهد الاقتصاد الاجتماعي، هذه الرؤية على تحليلهم لتقلبات السوق المالي. فزعم بركتر أن «المزاج الاجتماعي» هو العامل السببي النهائي، وأقوى مُحرك لاتجاهات الاقتصاد الكلي. يتفق بركتر مع كينز وتحليله للترابط بين تقلبات السوق المالي وأداء الاقتصاد الفعلي، فيؤكد أن سوق الأسهم يرصد مزاجنا الاجتماعي اللاواعي. كما يرى أن المزاج الاجتماعي هو المحرك لمراحل التفاؤل والازدهار في دورة الاقتصاد الكلي. فعندما يشعر الأشخاص بالبهجة والتفاؤل، يكون لذلك المزاج الاجتماعي تأثيره الإيجابي الواسع النطاق، فتصبح الموسيقى أكثر بهجة والأزياء أكثر جرأة والسياسيون أكثر كفاءة. وليس هناك وقت أنسب لأن يعيد أي رئيس حالي الترشح لفترة رئاسية جديدة، من وقت ازدهار سوق الأسهم. لكن عندما تخيم السلبية والتشاؤم على المزاج الاجتماعي، يؤدي ذلك إلى عدم استقرار الأسواق المالية وإلى تحفظ الأزياء وكآبة الموسيقى. ويتأثر الاقتصاد الكلي بالمزاج الاجتماعي؛ لأن الأخير يحرِّك قرارات المستهلكين، وخطَط الشركات التجارية. كما يؤثِّر المزاج الاجتماعي السلبي على صناعة السياسات الحكومية؛ فتنزع الحكومات إلى الانعزال وتطبيق سياسات الحماية الاقتصادية. وكل هذه الجوانب المختلفة للمزاج الاجتماعي السلبي تتضافر وتتسبَّب في ركود الاقتصاد الكلي.
السعادة والرَّفاه
هناك موضوعٌ آخر في علم الاقتصاد السلوكي يعالج المسألة من منظور مختلف تمامًا. ويبتكر علماء الاقتصاد السلوكي أيضًا وسائل جديدة لتحديد أداء الاقتصاد الكلي وقياسه. تقليديًّا، كان الإحصائيون في أقسام الحكومة المختلفة يجمعون المعلومات لقياس أداء الاقتصاد الكلي إجمالًا، ومستخدمين على الأغلب بيانات الناتج/ الدخل مقيسًا بالوحدات المالية (مثل الأسعار ومتوسط الأجور) لقياس الأداء، بالإضافة إلى أدواتٍ موضوعيةٍ أخرى، من بينها عدد الموظفين في مقابل عدد العاطلين عن العمل.
وبدلًا من أن يحصر علماء الاقتصاد السلوكي تركيزهم على التقلبات التي تحدث في المقاييس النقدية للاقتصاد الكلي، مثل القيمة النقدية للناتج والإنتاج المقيسة بالناتج المحلي الإجمالي، فإنهم ينظرون أيضًا في الجوانب النفسية للسعادة والرَّفاه.
لكن إحدى المشكلات التي تواجه العلماء في قياس مستوى السعادة والرَّفاه، هي أن تصوُّرنا عن السعادة والرفاه يعتمد على السياق، وهذا مرتبط بفكرة اعتمادنا على النقاط مرجعية، التي فصَّلناها في الفصلين الرابع والخامس. كما أن غالبية مقاييس السعادة والرَّفاه تعتمد على الاستبيانات، والتقييمات الذاتية لمستويات السعادة يمكن أن تكون مثل صورٍ لحظية التُقِطَت على حين غرة. كما أنه يمكن استخدام الأسئلة التي تُطرح قبل السؤال الذي يطلب منا أن نقرر درجة سعادتنا باعتبارها «أسئلة تجهيزية». على سبيل المثال، يمكن التلاعب في التقييم الذاتي عن السعادة من خلال سؤال الطلاب عن رأيهم في الأحداث الأخيرة. في إحدى التجارب، طُرح على الطلاب أسئلة تجهيزية من قبيل «هل خرجتَ في موعدٍ غرامي ليلة أمس؟» و«كيف سار الموعد؟» وهي أسئلةٌ مصمَّمة بهدف تحفيز الطلاب لاختبار انفعالاتٍ معينة، اعتمادًا على ما حدث في موعدِ أمس، وهل كان جيدًا أم سيئًا. تغيَّر تقييم الطلاب الذاتي لسعادتهم بتغيُّر ترتيب الأسئلة. فعندما كانوا يُسألون عن مستوى سعادتهم، بعد سؤالهم عما جرى في موعدِ أمس، كان تقديرهم لمستوى سعادتهم يختلف. فإذا لم يَسِرِ الموعد على ما يُرام، يكون تقييمهم لمستوى السعادة منخفضًا. وعلى العكس من ذلك، إذا سار الموعد على ما يُرام، فإنهم سيُسجِّلون مستوياتٍ مرتفعةً نسبيًّا من السعادة. ومن الناحية الأخرى، لم تكن تقييماتُ الطلاب الذاتية لمستوى السعادة تتأثر بأحداث الليلة الماضية، إذا سئلوا عن مدى سعادتهم قبل سؤالهم عن أحوال الليلة الماضية. كانت التحفيزات لتذكُّر الأحداث الماضية تغيِّر تصورات الطلاب عن مستوى سعادتهم. ولذلك، بينما ينبغي على صُناع السياسات الانشغال بالتعريفات الواسعة للرَّفاه، فإن استخدام استبيانات السعادة سيطرح أمامهم تحديًا كبيرًا آخر، لاحتمالية تعرُّضها للتشويه بواسطة العوامل العابرة.
انعكاسًا لهذا التحوُّل للتركيز على المقاييس الأوسع نطاقًا لأداء الاقتصاد الكلي، نشر «معهد ليجاتوم» — وهو مركز بحثي سياسي اقتصادي مقره لندن — تقريرًا، عام ٢٠١٤، يعرض فيه بالتفصيل الأدبيات التي تناولَت تأثُّر الرَّفاه والسعادة والرضا عن الحياة بمجموعةٍ متنوعة من العوامل الاجتماعية النفسية والاقتصادية والمالية. كما قدَّم التقرير تحليلًا لمصادرَ جديدةٍ للبيانات لقياس السعادة والرَّفاه، وطرح بعض الأفكار بشأن كيفية تحليل هذه البيانات، باستخدام تقنياتٍ قياسيةٍ اقتصاديةٍ قوية.
ولقد ترجم علماء الاقتصاد السلوكي اهتمامهم بالسعادة والرَّفاه إلى ابتكار تلك المصادر الجديدة لبيانات الاقتصاد الكلي حول العالم. على سبيل المثال، يمكن أن تكون بيانات الصحة العامة، مثل معدَّلات الانتحار والأمراض النفسية والأمراض المرتبطة بالقلق، مؤشرًا على المزاج الجماعي. كما أن الكثير من الوكالات الوطنية والدولية تجمع البيانات عن السعادة والرَّفاه والرضا عن الحياة، عَبْر استبيانات الأسر التي تشمل أسئلة عن التقدير الذاتي للرَّفاه، إلى جانب أسئلة استبيان القوى العاملة القياسي عن التوظيف والبطالة.
فأصبح مكتب الإحصاءات الوطنية في المملكة المتحدة يُدرج في إحصاءاته إجابات الأسئلة المتعلقة بالرضا عن الحياة في استبيانات الأسر. وتباشر دولٌ أخرى — بداية من الصين إلى فرنسا — جمع بياناتٍ مماثلة، كما تعمل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية على تجميع مجموعات بياناتٍ دولية. ومن الممكن إدخال هذه البيانات الجديدة في تحليلات الاقتصاد الكلي لرصد صورة أدق وأوسع نطاقًا لأداء الاقتصاد الكلي. ولعل التطور الأكثر تأثيرًا في هذا الشأن هو إصدار البنك الدولي «التقرير العالمي للسعادة» السنوي، الذي سيمنح المنشغلين بالاقتصاد الكلي السلوكي بعض البيانات المفيدة لملاحظة كيفية تحوُّل اتجاهات الاقتصاد الكلي باختلاف الأمكنة والأزمنة، وأيضًا الفرص لربط هذه المقاييس الجديدة للسعادة والرَّفاه بالمقاييس التقليدية لأداء الاقتصاد الكلي.
كما تفيد الابتكارات التكنولوجية في جمع بياناتٍ أفضل عن الاقتصاد الكلي السلوكي. الآن يستطيع الباحثون السلوكيون إجراء استبياناتٍ واسعة النطاق عَبْر الإنترنت، كما يمكنهم استخدام الرسائل النصية، ووسائل التواصل الاجتماعي لجمع البيانات أيضًا (من عمليات البحث في جوجل، وتغريدات تويتر، ونقرات الإعجاب على الفيس بوك.) ومع ازدهار تلك الأنواع من «البيانات الضخمة»، من الممكن سد بعض الفجوات في مجموعات البيانات الخاصة بالاقتصاد الكلي السلوكي.
إن استخدام البيانات الذاتية أمر مُشكل، لكنه بدأَ يحظى بمصداقيةٍ أكبر، نتيجة التعاون بين علماء الاقتصاد والإحصاء والحكومة. كما أن رصد بيانات الرَّفاه له تحدياته أيضًا، ولا بد من إجراء المزيد من الأبحاث، لتقييم مميزات وعيوب الإحصاءات الجديدة، إلى جانب استكشاف وسائلَ أخرى يستطيع من خلالها علماء الاقتصاد السلوكي فهم السعادة والرَّفاه وقياسهما بشكلٍ أفضل.