الفصل التاسع

السلوك الاقتصادي والسياسة العامة

يمكن أن يساعد علم الاقتصاد، في صورته المثلى، صناع السياسات في إعداد السياسات التي من شأنها حل مجموعة كبيرة من المشكلات الاقتصادية والمالية للأفراد والأنظمة الاقتصادية إجمالًا. يركز علم الاقتصاد التقليدي على حل إخفاقات الأسواق؛ إذا كانت الأسواق لا تعمل بشكل جيد، والأسعار لا تعبر عن العرض والطلب النسبي بشكل فعال، فمن شأن الأدوات السياسية الحكومية أن تحل المشكلات التي تنشأ عن ذلك. في هذا الفصل، سنتناول بعض الأدلة والرؤى المهمة المستمدة من مجال السياسات العامة السلوكية، مع التركيز على سياسات الاقتصاد الجزئي. في الحقيقة، يُمثل ابتكار مجموعةٍ متسقة من الأدوات السلوكية التي يمكن توظيفها في سياسات الاقتصاد الكلي، تحديًا في غاية التعقيد لصُنَّاع السياسات، لكنه لم يُعالج، حتى الآن على الأقل، بشكلٍ مناسب.

سياسة الاقتصاد الجزئي

تقليديًّا، كانت الضرائب والإعانات الحكومية هما الأداتَين السياسيتَين الرئيسيتَين اللتَين تستخدمهما الحكومات وصُنَّاع السياسات لدعم الأسواق. ومن الأمثلة الشائعة على ذلك التدخين. إذا فرضَ التدخين تكاليفَ إضافية على دافع الضرائب، لما يتسبب فيه من ضغطٍ على نظام الصحة العامة، فإن فرضَ الضرائب على السجائر يساعد في عدم تشجيع الأفراد على التدخين، وتزويد الحكومات بالإيرادات لتغطية تكلفة أنظمة الرعاية الصحية. ومن ناحيةٍ أخرى، إذا كانت منطقةٌ معينة، في بلدٍ من البلدان، تعاني من التدهور الصناعي، فمن الممكن استخدام الإعانات الحكومية لتشجيع النشاط الاقتصادي.

لكن الضرائب والإعانات الحكومية لها بعض أوجه القصور العملية والتقنية واللوجستية؛ لذا تغطي السياسة الاقتصادية الحديثة مجموعة أشمل من الأدوات الاقتصادية، والتي من بينها الأدوات المُستوحاة من تحليلات التعاملات السوقية التي وضعها رولاند كوس، عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل. في الواقع، تشكل رؤى كوس أساس تصميم أنظمة التداول الاصطناعية، التي يمكن إنشاؤها لمعالجة المشكلات التي تنشأ عندما تعطي الأسعار إشارات غير سليمة عن العرض والطلب. وتحل هذه الأسواق الاصطناعية محل «الأسواق المفقودة»؛ وهي الأسواق التي تُفقَد نتيجة أن أسعار السوق لا تشملها. أبسط مثالٍ على ذلك هو التلوث. عندما تلوِّث إحدى الشركات الهواء أو الماء، دون أن تُحاسبها الحكومة، فإنها تفعل ذلك بالمجان؛ أي إنها ليست مضطرةً لتعويض أحدٍ عن عواقب التلوث الوخيمة. وهكذا، يُعتبر سوق التلوث مفقودًا.

يتمثل أحد حلول هذه المشكلة — وفقًا لرؤى كوس — في تصميم سوقٍ اصطناعي؛ ويمكن أن يأخذ شكل نظام تداول للانبعاثات في المثال الأخير. وفي ذلك النظام، يستطيع الأفراد والشركات تداول الحق في التلويث (أو الخضوع للتلوث) من خلال البيع والشراء. ولا يُعد إنشاء هذه الأسواق الاصطناعية أمرًا سهلًا، لكنها في المجمل — مثل الضرائب والإعانات — تهدف إلى معالجة إخفاقات الأسواق والمؤسسات لا الأفراد.

ما السياسة العامة السلوكية؟ التنبيه الخفي لتغيير السلوك

يبحث مجال السياسة العامة السلوكية هذه المشكلات من زاويةٍ مختلفة. فبدلًا من التركيز على أوجه قصور السوق، يركِّز مجال السياسة العامة السلوكية على تغيير السلوك، أو الطريقة التي يتخذ بها الأفراد قراراتهم واختياراتهم في الحياة اليومية، عَبْر تشجيعهم على اتخاذ القرارات بطريقة فعَّالة بناءة.

ويُعَد أبرز كتاب في هذا المجال هو كتاب «التنبيه الخفي» لريتشارد ثيلر وكاس صنستين، كما يستشهد صُنَّاع السياسات البريطانيون كثيرًا بأداة «مايند سبيس» التي تشترك في أفكارها الأساسية مع كتاب «التنبيه الخفي». كان ثيلر وصنستين قد استعانا بالأدبيات الكثيرة في الاقتصاد السلوكي وعلم النفس بشكل عام، لا سيما الأفكار المتعلقة بفرط الاختيارات والإغراق المعلوماتي والطرق الاستدلالية والانحيازات السلوكية التي تناولناها في الفصلين الرابع والخامس. وزعما أن صناع السياسات، في أثناء تصميمهم للأدوات السياسية الفعالة، يحتاجون إلى فهم الدور المؤثر للطرق الاستدلالية والانحيازات في قرارات الأفراد. حينئذٍ يمكنهم إعادة هيكلة عملية صنع القرارات الفردية للناس. وهكذا، شكَّلت هذه الفكرة أساسَ ما أسماه ثيلر وصنستين «هندسة الاختيار». كيف تنبني قراراتنا؟ كيف نعالج المعلومات قبل أن نتخذ القرار بشأن ما نريد فعله أو شراءه؟ وهل يمكننا إعادة تصميم عمليات صنع القرار؟

ذكر ثيلر وصنستين أنه إذا استطاع صانعو السياسات فهم بنية الاختيار لدى الأفراد جيدًا، لأمكنهم تصميم سياسات من شأنها مساعدة الأفراد في اتخاذ قراراتهم بشكل فعال. تتضمن بعض الأدوات التي يستخدمها صناع السياسات العامة السلوكية استراتيجيات مثل منح الأفراد اختيارات بسيطة، وتصميم التحفيزات والتنبيهات الخفية لتوجيه قراراتهم بشكل بناء إيجابي، وإعطائهم ملاحظات على أدائهم بشكل متكرر مما يشجعهم على اتخاذ المزيد من القرارات «الجيدة» والابتعاد عن القرارات «السيئة».

يزعم ثيلر وصنستين أن استخدام التنبيهات الخفية، هو شكلٌ من أشكال «الأبوية التحررية» من الناحية السياسية والأخلاقية. فهي تحررية في أنها تحفظ للأفراد حرية الاختيار الشخصي؛ وأبوية من جانب أنها تتضمن استخدام الحكومة للتنبيهات الخفية لتوجيه سلوك الأفراد. بمعنى آخر، هذه التنبيهات «تحررية» من منطلق أن الأفراد لا يزالون يحتفظون بحقهم في الاختيار؛ وهي «أبوية» من منطلق أنها تدخل مباشر من الحكومة. يشير ثيلر وصنستين إلى أن التنبيهات تجمع أفضل ما في الجانبين (على عكس منتقديها الذين يرون أنها تجمع بين أسوأ ما فيهما). تفرض الضرائب والإعانات الحكومية التكاليف والمنافع على مجموعات مختلفة من الأشخاص. وبشكل عام، لا يمتلك الشخص العادي حرية الاختيار بين دفع الضرائب أو عدم دفعها (مع أن الأفراد والشركات الذين يقدرون على دفع أجور المحاسبين المرتفعة قد يتمتعون بسيطرة أكبر على الموقف). كما لا يستطيع الاختيار بين تلقي الإعانات الحكومية أو عدم تلقيها بسهولة، لكن يزعم ثيلر وصنستين أن التنبيهات الخفية يمكن تصميمها بطريقة تتيح للأفراد بعض الحرية، من خلال تصميم الخيارات الافتراضية بمهارة مثلًا.

التطبيق العملي لنظرية التنبيه الخفي: الخيارات الافتراضية

ما الذي ينطوي عليه التطبيق العملي لنظرية التنبيه الخفي؟ تستند الكثير من وسائل التنبيه على التلاعب بالخيارات الافتراضية. تُستخدم هذه الخيارات الافتراضية للاستفادة من نوع معين من الانحيازات السلوكية، وهو انحياز الوضع الراهن الذي ناقشناه في الفصلين الرابع والخامس. إذا وضع صانع السياسة (أو الشركة) خيارًا افتراضيًّا (الخيار الذي سينطبق على الشخص في نهاية المطاف ما لم يفعل شيئًا لتغييره)، فإن الكثيرين سيلتزمون به. ولهذا التصرف ما يبرره. فالأفراد يميلون إلى الاستمرار في الوضع الراهن عن تغييره إلى شيء آخر. ولا يبادرون إلى تغييره بسرعة دائمًا، إذ قد ينطوي التغيير على المخاطرة أو بذل المزيد من الجهد. وقد يعتقد الأفراد أن الخيار الافتراضي هو الأفضل بالنسبة إليهم. وهكذا، إذا صُمم الخيار الافتراضي بحيث يطابق القرار البناء، فسيتخذه الكثيرون غالبًا، ولو بشكل سلبي.

وللتمثيل على ذلك، تشكل مسألة حث الأفراد على التبرع بالأعضاء تحديًا كبيرًا في معظم الدول. فالطلب على الأعضاء يفوق المعروض بكثير. كما أن ذلك الأمر ينطوي على معضلات سياسية، مثل الاعتبارات الأخلاقية المتعلقة بدفع المال للأشخاص من أجل التبرع بالأعضاء، لكننا سنركز هُنا على كيفية معالجة صانعي السياسات العامة السلوكية لهذه المشكلة. من الممكن أن يجعل صانعو السياسات التبرع بالأعضاء خيارًا افتراضيًّا، فيصبح هو الوضع الراهن. وإذا لم يرغب الشخص في التبرع، فكل ما عليه هو اختيار عدم المشاركة. وبهذه الطريقة، يحتفظ الفرد بحقه في الاختيار فلا يسلبه منه أحد.

ويمكن استخدام الخيارات الافتراضية أيضًا لمساعدتنا في ادخار المزيد من المال لسن التقاعد. في الفصل الرابع، تحدثنا عن مشروع التقاعد — «ادخر أكثر غدًا» — الذي صمَّمه بنارتزي وثيلر، والذي يعتمد على فكرة الخيارات الافتراضية. من أجل تشجيع الموظفين على ادخار المزيد لتقاعدهم، صُمم الخيار الافتراضي، في هذا المشروع، على أساس أن تذهب نسبةٌ ثابتة من إجمالي الراتب إلى صندوق تقاعد الموظفين، وتزيد هذه النسبة بزيادة الراتب. لكن الموظفين لا يُجبرون على ذلك؛ إذ يتمتعون بحرية الاختيار. ويمكنهم إلغاء الاشتراك في البرنامج متى شاءُوا. وهكذا، فإن الخيار الافتراضي هو أداة صُنَّاع السياسات، وهذا هو الجزء «الأبوي» من التنبيه الخفي. وإلغاء الاشتراك هو خيار صانع القرار، وهذا هو الجزء «التحرري» من التنبيه الخفي.

تكمُن إحدى مشكلات هذا النوع من التنبيه، في أن الشركات التجارية كثيرًا ما تستغله للإضرار بنا. على سبيل المثال، من الممكن أن تصمِّم شركات التسويق — التي ترغب في تحصيل المزيد من المال عَبْر جمع بيانات الاتصال الخاصة بالأفراد وبيعها للشركات الأخرى — استمارات بيانات الاتصال مثلًا، بحيث لا نلاحظ أننا أعطيناهم الإذن لتداول تفاصيل الاتصال الخاصة بنا. إنها تفهم هندسة الاختيار بشكلٍ جيد للغاية.

التبديل

من المشكلات المرتبطة بالخيارات الافتراضية، هي تفضيل الاستقرار على التبديل، كما ذكَرنا في الفصل الرابع. نحن نُفضِّل الاستمرار مع مورِّد طاقة، أو شركة اتصالات، أو بنكٍ معيَّن لسنواتٍ كثيرة، حتى ولو كانت الصفقة التي نحصل عليها ضعيفة القيمة. نحن لا نبدل مقدِّمي الخدمات بسرعة. أما فيما يتعلق بتغيير مورِّد الطاقة في المملكة المتحدة، أفاد تقرير «مكتب أسواق الغاز والكهرباء» (الجهاز التنظيمي لسوق الطاقة في بريطانيا العظمى)، لعام ٢٠١٦، أن ٦٠٪ من المستهلكين لا يتذكرون أنهم بدَّلوا مورِّدي الطاقة، رغم أنهم لو فعلوا ذلك لوفَّروا ما يصل إلى ٢٠٠ جنيه إسترليني في فواتير الطاقة سنويًّا. وتكمن المشكلة في انخفاض مستويات التبديل في أنها تخفِّف ضغط المنافسة على الشركات؛ إذا لم تخسر هذه الشركات بعضًا من عملائها بسبب تدني صفقاتها، فما الذي سيدفعها إلى تقديم صفقاتٍ أفضل؟ يعكس تدني مستويات التبديل أيضًا انحياز الوضع الراهن؛ مما يدفع صُنَّاع السياسات الحكوميين إلى بذل المزيد من الجهد لتشجيع المواطنين على تبديل مقدِّمي الخدمات بوتيرةٍ أعلى، في حال لم يمنحهم مقدم الخدمة الحالي صفقةً جيدة. كما ترتكز الأدوات التي يستخدمونها للتشجيع على تغيير الوضع الراهن أيضًا على فهم هندسة الاختيار بشكلٍ أفضل؛ أي إنها تُسهل على الأشخاص تغيير مقدِّمي الخدمات من خلال تقليل مشكلات فرط الاختيارات و/ أو الإغراق المعلوماتي التي تجعل التبديل تحديًا إدراكيًّا. ولقد لاقى ذلك التأكيد الزائد، من قِبل صُنَّاع السياسات، على تغيير مقدِّمي الخدمات بعض النجاح في المملكة المتحدة. وهناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن هذه السياسات تؤتي ثمارها المرجوة، مع ارتفاع معدلات تبديل مقدِّمي الخدمات. فقد أفاد مكتب أسواق الغاز والكهرباء، في عام ٢٠١٥، أن معدلات تبديل الأسر لمورِّدي الطاقة قد ارتفعَت بنسبة ١٥٪ مقارنةً بعام ٢٠١٤.

التنبيهات الخفية الاجتماعية

صمَّم صانعو السياسات نوعًا آخرَ مؤثِّرًا من التنبيهات الخفية الاجتماعية، يوظِّف استعدادنا للتأثر بالآخرين، مبنيًّا على الأفكار التي استعرضناها في الفصل الثالث. في قطاع الطاقة، توصَّل الباحثون إلى بعض الاكتشافات المهمة، المتعلقة باستهلاك الطاقة المنزلية، والتي تستند إلى النتائج المُستخلَصة من مجموعةٍ كبيرة نسبيًّا من الدراسات الأكاديمية. على سبيل المثال، حلل ويسلي شولتز وزملاؤه سلوك الأُسر في ولاية كاليفورنيا. فأعطَوا الأسر مجموعتَين مختلفتَين من المعلومات. كانت المجموعة الأولى تتعلق باستهلاك الأُسر الأخرى للطاقة في حيٍّ سكنيٍّ معيَّن. منحَت تلك المعلومات الأسر نقطةً مرجعيةً اجتماعية، يُمكنهم من خلالها تقييم استهلاكهم للطاقة. وبالاستناد إلى أفكار ثيلر وصنستين المتعلقة بهندسة الاختيار وتبسيط الاختيارات، عبَّر ويسلي وزملاؤه عن الاستحسان/ الاستهجان الاجتماعي لاستهلاك الأسر للطاقة، مقارنة بمتوسط الاستهلاك المحلي، برمزٍ تعبيري لوجهٍ مبتسم إذا كان الاستهلاك أقل من المتوسط المحلي، وبرمزٍ تعبيري لوجهٍ عابس إذا كان الاستهلاك أعلى من المتوسط المحلي. أما النوع الثاني من المعلومات، فقد كان عبارةً عن توجيهات بشأن كيفية ترشيد استهلاك الطاقة.

ماذا كان تأثير هاتَين المجموعتَين المختلفتَين من المعلومات؟ من أجل اختبار الأثر التفاضلي لهاتَين المجموعتَين المختلفتَين من المعلومات، أُعطيَت إحدى المجموعتَين المشاركتَين في التجربة (المجموعة الضابطة)، نصائح حول ترشيد استهلاك الطاقة. وأُعطيَت المجموعة الأخرى (المجموعة العلاجية)، معلومات حول المتوسط المحلي لاستهلاك الطاقة. ووجد الباحثون أن التنبيهات الخفية الاجتماعية كان لها دورٌ قوي للغاية؛ إذ كانت الأسر في المجموعة العلاجية، التي حصلَت على معلوماتٍ اجتماعية، أكثر استعدادًا لتعديل استهلاكها للطاقة ليتلاءم مع متوسط الاستهلاك المحلي، مقارنة بالمجموعة الضابطة، وحاولَت خفض استهلاكها للطاقة عندما أُخبرَت أن مُعدل استهلاكها يفوق متوسط استهلاك سكان الحي. واستنتج الباحثون من ذلك أن الأسر باشرَت تعديل اختياراتها حتى تقترب من المعيار الاجتماعي أو النقطة المرجعية. ولقد توصَّلَت مجموعةٌ واسعة من الدراسات المماثلة إلى نتائجَ شبيهة، وأُدرجَت هذه النتائج في التصاميم الجديدة لفواتير الطاقة، مثل فواتير شركة «أوه باور» الأمريكية، الموضَّحة في شكل ٩-١.
fig7
شكل ٩-١: التنبيهات الخفية الاجتماعية لترشيد استهلاك الطاقة.

لكن أحد الدروس المستفادة المهمة التي يجب أن ينتبه لها صانعو السياسات هو الحذَر من التبعات غير المحسوبة لتلك التنبيهات الاجتماعية. فقد رصد الباحثون «تأثير بوميرانج» أو تأثيرًا عكسيًّا لتلك التنبيهات الخفية؛ إذ دفع الاطلاع على متوسط الاستهلاك المحلي الأسر التي كان استهلاكها للطاقة يقل عن المتوسط المحلي إلى زيادة استهلاكها للطاقة بدلًا من ترشيده. ولو افترضنا أن استهلاك الطاقة موزَّع بالتساوي بين الأسر، فمن المحتمل أن عدد الأشخاص الذين يزيدون استهلاكهم للطاقة لينسجم مع متوسط الاستهلاك المحلي، سيتساوى مع عدد الأشخاص الذين يرشِّدون استهلاكهم للطاقة حتى لا يزيد عن متوسط الاستهلاك المحلي. وفي هذا الحالة، لن يتغير متوسط استهلاك الطاقة، وستصبح هذه السياسة عديمة الجدوى.

مبادرات سياسية أخرى

لا تنفك مبادئ السياسة العامة السلوكية تتسع لتشمل مجالاتٍ أخرى من السياسة العامة. فعلى سبيل المثال، امتدَّت نتائج التنبيه الخفي الاجتماعي في قطاع الطاقة إلى مجال الضرائب. وقد أشرنا في الفصل الثالث إلى كيف يمكن لموظفي الضرائب الاستفادة من التأثيرات الاجتماعية؛ في المملكة المتحدة مثلًا، جرَّبت إدارةُ الإيرادات والجمارك إرسالَ خطابات للأشخاص الذين تخلَّفوا عن دفع الضرائب، وأبلغتهم بنسبة الآخرين الذين سدَّدوا الضرائب في الموعد المحدَّد. وكان الهدف من هذه الرسائل هو استخدام الضغط الاجتماعي كأداة إقناع. وقد سجل هذا النوع من التنبيه الخفي الاجتماعي نجاحه في المملكة المتحدة وفي غيرها من الدول. كما يستخدم آخرون من صناع السياسات الاختياراتِ الافتراضية وغيرها من الأفكار، لجبر نقصِ السياسات التقليدية في مجالاتٍ أخرى، مثل سياسة المنافسة والخدمات المالية أيضًا.

لكن من المهم ألا يهمل صنَّاع السياسات، السياسات الاقتصادية التقليدية؛ إذ إن بعض أنجح المبادرات السياسية وأكثرها فاعلية تجمع بين أدوات السياسة الاقتصادية التقليدية والتحسينات السلوكية. وهناك سياساتٌ أخرى تدمج بالفعل بين الرؤى السلوكية والمنهجيات التقليدية من أجل تصميمِ حوافزَ فعَّالة. ومن الأمثلة على ذلك، سياسة فرض رسوم على استخدام أكياس البلاستيك، وهي سياسةٌ طبَّقَتها أيرلندا منذ سنواتٍ عديدة، للتغلب على مشكلة نفايات أكياس البلاستيك، كما هو موضح في شكل ٩-٢.
fig8
شكل ٩-٢: نفايات أكياس البلاستيك.

تُشكِّل نفاياتُ أكياس البلاستيك مشكلةً بيئية خطيرة، ولها آثارٌ جسيمة على الحياة البرية والبيئة وصحة الإنسان. وتشير بعض الأدلة إلى تلوُّث مواردنا المائية بالبقايا الدقيقة لأكياس البلاستيك التي نلقيها في الأنحاء بلا اكتراث. كما تنطوي عملية تصنيع أكياس البلاستيك على بعض الآثار السلبية مثل التلوث والإفراط في استخدام الموارد الشحيحة غير المتجدِّدة. وعندما فرضَت حكومة المملكة المتحدة رسومًا قدْرها خمسة بنسات على أكياس البلاستيك في عام ٢٠١٥، بدأ الناس يتداولون قصصًا فكاهية مفادها أن قيمة الأكياس البلاستيكية التي يمتلكها بعض الناس تتجاوز قيمة منازلهم؛ إذ يكدس البعض أعدادًا كبيرة من الأكياس البلاستيكية التي باتت قيمة الواحد منها خمسة بنسات.

على صعيدٍ أكثر جدِّية، تُعد هذه الرسوم مثالًا على كيفية الاستفادة من رؤى علم الاقتصاد السلوكي في تطوير تصميمات السياسات الاقتصادية التقليدية، وجعلها تشجِّع على تغيير السلوك. هذه البنسات الخمسة هي نوعُ من الضريبة، لكنها صُمِّمَت بهدف معالجة انحيازٍ سلوكي، لا إخفاق السوق (على افتراض أنه ليس من العقلانية في شيءٍ تكديسُ أكياسٍ بلاستيكية تكاد تكون منعدمة القيمة). وقد يكون تكديس أكياس البلاستيك انعكاسًا لتأثير المنحة؛ أي إننا نبالغ في تقدير الأشياء التي نمتلكها بالفعل. وبصرف النظر عن الأسباب النفسية التي قد تقف وراء تكديس الأكياس البلاستيكية، قد تُفيد الضريبة التقليدية في منعنا من تكديس الأكياس البلاستيكية العديمة الفائدة بالنسبة لنا أو الإفراط في استخدامها ثم التخلص منها. لكننا نؤكِّد مرةً أخرى على احتمالية وقوع نتائج غير مقصودة، كما تُوجد بعض الأدلة التي تشير إلى عدم انخفاض المعدل الإجمالي لاستخدام الأكياس البلاستيكية. فلم يعُد الكثيرون يُعيدون استخدام أكياس السوبر الماركت البلاستيكية العادية كأكياس قمامة. وفي المقابل، زاد استهلاكهم للأكياس البلاستيكية الكبيرة مثل «الأكياس المتعددة الاستخدامات» وأكياس القمامة السميكة، مما يلغي بعض (أو كل) الآثار البيئية الإيجابية المتوقَّعة من فرض خمسة بنسات على أكياس المشتريات البلاستيكية.

مستقبل السياسة العامة

يبدو أن السياسات العامة السلوكية ينتظرها مستقبلٌ واعد. فقد حقَّقَت الفرق المنبثقة عن الوحدات السياسية الحكومية نجاحًا ملحوظًا، ولعل أشهرها فريق الرؤى السلوكية الذي كان في الأصل تابعًا لمكتب رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون، والملقَّب ﺑ «وحدة التنبيه الخفي». وتُبلي وحدة التنبيه الخفي بلاءً حسنًا في المجال التجاري، وأصبحَت تحظى باهتمام الرأي العام المحلي والدولي، سواء بالإيجاب أو بالسلب.

لكن هناك بعض المخاطر التي يجب أخذها في الاعتبار. لقد لاقت السياسات العامة السلوكية رواجًا كبيرًا، لكنه كشأن كل ما يروج، يثير ضجةً مبالغًا فيها وربما يكون عُرضةً لردودِ أفعالٍ غاضبة. بالإضافة إلى ذلك، يحتفي الكثيرون بالرؤى السلوكية والسياسات القائمة على التنبيه الخفي. لكن لا بد من العثور على مزيد من الأدلة حول مدى فاعلية هذه التدخلات السياسية و«استدامتها». هل يمكننا إثبات فاعلية هذه التنبيهات الخفية على نطاقٍ واسع بالتحليلات الإحصائية القوية؟ وهل يمكن تكرار الآثار الإيجابية التي رصدناها لهذه السياسات في مجموعةٍ أكبر من الدراسات؟ وهل سياساتُ التنبيه الخفي مجرَّد أساليبَ تحايلية قصيرة الأمد ومؤقتة؟ وهل يعود أولئك الذين طُبقَت عليهم سياسات التنبيه الخفي إلى عاداتهم واختياراتهم القديمة في نهاية المطاف؟ أم أن التنبيه الخفي السياسي السلوكي له آثارٌ قويةٌ طويلة الأمد؟

ولضمان استمرارية الدروس العميقة المستفادة من السياسة العامة السلوكية، لا بد من تأسيس مجموعةٍ قويةٍ وصارمةٍ من الأدلة العلمية التي لا تكتفي بإظهار متى وأين تنجح هذه السياسات، بل متى وأين تفشل أيضًا. وتكمُن مشكلة الكثير من الأبحاث الأكاديمية، في أنه ليس من السهل نَشرُ النتائج السلبية. فالنتائج التي تشير إلى أن التدخل السياسي لم يأتِ بثماره المرجوة ليست مثيرةً للاهتمام وماتعة، مثل النتائج التي تشير إلى أن التدخل السياسي كان له تأثيرٌ إيجابيٌّ مذهل. يخبرنا علم الاقتصاد السلوكي أننا نميل إلى إعطاء أهميةٍ زائدةٍ للمعلومات التي يسهُل تذكُّرها، ومثل ذلك الشيء ينطبق على أدلة السياسة العامة السلوكية.

وقد يقع صنَّاع السياسات في مأزق آخر، إذا انصرفوا عن السياسات الاقتصادية التقليدية، التي ثبت نجاحها في حل أوجه قصور السوق والمؤسسات. لقد ازداد رواج سياسات التنبيه الخفي في الدوائر السياسية، لكن هل نجم عن ذلك إهمال أدوات السياسة العامة التقليدية التي يمكنها معالجة قصور الأسواق والمؤسَّسات الأخرى بشكلٍ فعَّال؟ إن سياسات التنبيه الخفي تُعالج انحيازات الأفراد واختياراتهم الخاطئة، لكن مساعدتهم في اتخاذ قراراتٍ صائبة لن تحل مشكلات السوق والمؤسَّسات من جذورها. في المستقبل، يجب أن يولي صنَّاع السياسات كيفية استخدام السياسات القائمة على الرؤى السلوكية اهتمامًا كبيرًا لاستكمال ما ينقص أدوات السياسة الاقتصادية التقليدية، بدلًا من استبدالها برُمتها. وفي هذا الصدد، ستكون المسألة السياسية الرئيسية، هي كيفية التنسيق بين السياسات التقليدية والسلوكية بشكلٍ أكثر فاعلية، ودون تفضيل إحداها على الأخرى. وإذا نجحنا في تحقيق هذا التوازن السياسي، فسيُزوِّدنا علم الاقتصاد السلوكي ببعض الأدوات القوية، لمعالجة نسبةٍ كبيرة من إخفاقات السوق والانحيازات السلوكية، بالإضافة إلى تأثيره الإيجابي على الأفراد والأنظمة الاقتصادية والمجتمع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥