صفقات لم تتم!
لم يَكُن الشياطين يدرون أن هذا الطائر سيكون له دور خطير في مُهمَّتهم … مما دفع «عثمان» للاعتقاد بأنه مكلَّف من إدارة العمليات بالمنظمة لمعاونتهم … لقد نشأت صداقة حميمة بين الشياطين والطائر الذي أطلقوا عليه «ممكن» … وكان هذا الاسم من اقتراح «عثمان»، عندما عدَّد الشياطين مزايا بقائه معهم على اليخت، فقد كانوا يسبقون كل ميزة بكلمة ممكن.
وهكذا أصبح ﻟ «ممكن» وجودٌ محسوم بينهم … فهو لم يترك منهم أحدًا إلا وداعبه ولاحقه ومسح رأسه بساقيه … ولأنه يحب النوم على أعلى سطح في اليخت وهو سقف كابينة القيادة … فقد كانوا يعتمدون عليه في الحصول على معلومات كاملة عن كل ما يطرأ على الأجواء المحيطة بهم … لقد حفظوا تعليقاته الصوتية التي كان يُطلقها معبرًا عن الأجواء المحيطة بهم … عند اقتراب سفينة أو هياج البحر أو قدوم عاصفة.
وهذه المرة بالذات، صاحَب تعليقه الصوتي الذي لم ينقطع … هرولته في القفز من سطح إلى سطح … حتى صار بينهم … فما سبب ذلك؟
لقد اقتربت سفينة صيد من اليخت اقترابًا مريبًا … غير أن «أحمد» رآه تصرفًا طبيعيًّا عندما عرضوا عليهم شراء أسماك نادرة من صيدهم … وسألهم «أحمد» عن كيفية اطلاعهم على هذه الأسماك … فعرضوا عليه الانتقال إلى سطح مركبهم … وفي صمتٍ دون أن يدري أحد … شاورَ «أحمد» زملاءه وقرَّر الانتقال … فأجابوه بالموافقة … وكان ذلك بتبادل النظرات.
واقترب اليخت من السفينة كثيرًا إلى أن تمكَّن «أحمد» في خفَّة واحتراف من الانتقال إليها في سهولة.
وعلا التصفيق وصفير الاستحسان من كل الموجودين على سطح السفينة، فحيَّاهم بإطراقة من رأسه … ثم سأل البحَّار عما لديه … فلم يدعه رجل آخر أن يُكمل كلامه … ودعاه وألحَّ في دعوته إلى تناول غدائه معهم.
وحاول «أحمد» جاهدًا أن يعتذر. لكنهم لم يتركوه يعتذر … فقد اشترك آخرون في الإلحاح … ولم يجد في النهاية مفرًّا من قَبوله الدعوة رغم خطورة هذا القرار.
فقد داخله شك في أن هذه السفينة تتبع «الأوغاد»، وعليه اقتناص الفرصة والتسلل إليهم الآن لا الغد.
وقد كانت مائدة الطعام حافلةً بما لذَّ وطاب من أصناف الأسماك المطهية بأساليبَ مختلفة.
ولم تخلُ المائدة من الملاعق والشوك والسكاكين … رغم أن القليلين منهم كانوا يستعملونها.
وحرَّك شهية «أحمد» بقوة … نهمهم جميعًا وإقبالهم المنقطع النظير على الأكل وسط ضحكهم ومشاغباتهم الودودة.
وقد لاحظ كبيرهم أن «أحمد» لا يأكل إلا مما أكل منه غيره … أي إنه لا يقطع سمكة … بل يأكل من سمكة قطعها غيره وأكل منها … وفهِم أنه لا يأمن لهم. وأن مَن يفعل ذلك ليس إلَّا رجل أمْن … أو … رجل عصابات.
وأثارت نظرات الرجل اهتمام «أحمد» … فآثر أن يحرك الأمر، فقال له: هل أنت سعيد لوجودي؟
الرجل: أنا لست مرغمًا على قَبولك … ولن تجلس معي على هذه المائدة إلَّا إذا كنت راضيًا عن هذا.
ابتسم «أحمد» وعلَّق قائلًا: أي إنك لست سعيدًا؟!
فقال له الرجل بفجاجة: وهل هنا أحد سعيد لوجودك؟ أنت بالنسبة لنا زَبون … انتبه الجميع وتوقَّفوا عن الأكل وهم يرقبون ما يدور متسائلين عن سبب تخلي كبيرهم عن لياقته في حديثه مع «أحمد» … فهم لم يرَوا ما رآه ولم يفهموا ما فهِمه.
ولم يتدخل أحد لتهدئة الموقف … بل شرعوا ينظرون ﻟ «أحمد» ويتفحَّصونه.
محاولين اكتشاف سبب إثارة حنَق كبيرهم … ولم يفهم أحد شيئًا. لكن «أحمد» فهِمها … وقرَّر الاستفادة منها … فقال لهم: يومًا ما سيكون لأحدكم يخت كهذا.
لم يلتفت الرجل لما يقوله «أحمد»، واندفع يسأله في لهجة جادَّة قائلًا: من أنت؟
ابتسم «أحمد» في برود، وقال له: هل استدعيتني إلى مركبك لتعرف مَن أنا؟
انتبه الرجل إلى أنه تجاوز حدود اللعبة … فحاول إصلاح الأمر بقوله: أنت هنا لتشتريَ سمكًا ومرجانيات نادرة … ولكنها غالية الثمن … فهل لديك ما تدفعه لنا؟
أحمد: أنا لم أرَ شيئًا بعدُ.
أشارَ الرجل برأسه … فانصرف بعض الرجال ثم عادوا ومعهم بعض الصناديق الخشبية … وبإشارة من رأسه وضعوها أمام «أحمد» الذي ما إن فتَح أولَ صندوق اندفع يقول لهم: هذه المرجانيات من البحر الأحمر … فكيف استخرجتموها من هنا؟
نظر الرجال إلى بعضهم ثم نظروا إلى كبيرهم ولم يعلِّقوا … فقال الرجل: هل ستشتري أم ستستجوبنا؟
اصطنع «أحمد» عدم الرضا … وقال له في حنَق: من فضلك أعيدوني إلى مركبي.
غيَّر الرجل بسرعة من أسلوب حديثه … وألان صوته وهو يقول له: يا سيدي، المفروض أني أريك نفائسي … وإن كنت تعرف قيمتها فاشترِ.
أحمد: أرني غيرَها.
وفُتحت الصناديق تلو الصناديق … ورأى «أحمد» ثروة «مصر» في «البحر الأحمر» من المرجانيات وأسماك الزينة تُهدر … بسبب مثل هؤلاء الرجال، غير أنه تأكَّد أن ما لديهم للبيع ليست هذه الأحياء … لا … فهي لا تستحق كل هذا العناء … وما يُدفَع فيها لا يزيد عن بضعة آلاف من الدولارات، لذا فقد نظر إلى الرجل الكبير بدهاء وقال له: يا سيدي … أنا لا أدفع في كل ما رأيته ألفي دولار … فهل تعتني بهذه الأشياء النفيسة كما قلت من قبل؟
الرجل: نعم.
أحمد: لكني أشعر أن لديك بضاعة أخرى تستحق كل هذه المفاوضات.
نظر الرجل ﻟ «أحمد» مليًّا … فقال له «أحمد»: إذا كنت لا تثق بي … فلا داعي لكشف ما عندك … ولأعود ليختي وأقول لك فرصة سعيدة.
وكأنَّ الرجل آثر السلامة … فقد أشار لرجاله برأسه … فاقتربت السفينة مرة أخرى من اليخت … ووقف بعضهم مستعدًّا لمعاونة «أحمد» على الانتقال لليخت.
واستسلم «أحمد» لما يجري … تاركًا النتائج للصدفة … وقد كان … فعندما همَّ بمغادرة سطح السفينة صاح الرجل قائلًا: إذا طلبت منك أن تُمهلني بعضَ الدقائق فهل ستفعل؟
لم يستمع إليه «أحمد» … وأكمل انتقاله إلى يخته … وقبل أن يَنقُل قدَمَه الأخرى عليه … قال الرجل في أدبٍ جم: عندي آثار نادرة.
لم يفكر «أحمد» قبل أن يُعيدَ قدمَيه إلى سطح السفينة؛ فقضية الآثار قضية أمن قومي … والتفت إلى الرجل يُحذِّره قائلًا: لم يَعُد لديَّ وقت، وأرجو إنهاء هذا بسرعة.
أشار الرجل برأسه لأحد الرجال … فوضع صندوقًا يحمله … أمام «أحمد»، وهمَّ بفتحه … فصاح كبيرهم قائلًا له: دعه يفتحه بنفسه، وعُدْ مِن حيث أتيت.
لم يفهم «أحمد» ما يقصده الرجل من ذلك … وقام بفتح الصندوق … فهالَه ما رأى … إنها عملات ذهبية لعصور مختلفة قديمة … واندفع يسأله قائلًا: من أين حصلتَ على هذه العملات؟
اخشن صوت الرجل، وقال في غيظ: ما لك أنت وما تسأل؟
فقال له «أحمد» مصححًا: إن موقع العثور عليها يتدخل في تحديد سعرها.
نظر الرجال إلى بعضهم في غباء قبل أن يقول كبيرهم: لقد عثرنا عليها في ميناء «أبي قير» البحري.
شعَر «أحمد» بغُصة في حلقه … فميراث «مصر» من الآثار والكنوز الغارقة يعبث به قلَّة من اللصوص والقراصنة.
وقرَّر أن يُجري لُعابهم لكي يأمَن شرَّهم، إلى أن يتمكن من القبض عليهم أو دخوله «مستعمرة الأوغاد» عن طريقهم، فقال للرجل: كم تطلب ثمنًا لها؟
تعاظم الطمع في عينَي الرجل، فقال له: خمسة ملايين دولار.
أحمد: وهل تظن أني أحمل مبلغًا كهذا على ظهر يختي؟
الرجل: وأنا لن أبيع بأقل من هذا الثمن.
أحمد: وأنا اشتريت … ولكني لن أعطيك كل المبلغ الآن.
شعَر الرجل أنه اقترب كثيرًا من النقود، فقال له في لهفة يحاول أن يُخفيَها: كم ستعطيني الآن؟
أحمد: حوالي ثلث المبلغ.
الرجل: أي أكثر من مليون ونصف؟
أحمد: نعم.
الرجل: والباقي؟
أحمد: استبقِ عندك ثلثي العملات.
الرجل: لا، سأعطيها لك كلها … فهي ليست كل الصفقة … فعندي لك هدية … ولكن ثمنها غالٍ.
نظر له «أحمد» في دهشة وقال: أغلى من خمسة ملايين؟!
الرجل: ستجني منها أرباحًا طائلة.
أحمد: ولكنك تقول إنها أغلى من خمسة ملايين.
الرجل: نعم، إن ثمنها عشرة ملايين.
صاح «أحمد» في دهشة مُصطنَعة قائلًا: ماذا تقول يا سيد …؟
الرجل: «مايكل» … اسمي «مايكل».
استطرد «أحمد» قائلًا: ماذا تقول يا سيد «مايكل» … إنْ كان هذا حقًّا اسمك؟!
مايكل: لا يهم … الآن المهم … هل لديك عشرة ملايين أخرى لهذه الصفقة؟
أحمد: هل هي تستحق العشرة ملايين؟
مايكل: ستجني من ورائها أضعاف هذا المبلغ.
أحمد: هل هي معك على هذه السفينة؟
مايكل: نعم.
أحمد: وكيف سأستلمها الآن وتتسلم أنت النقود في أوروبا؟!
مايكل: لن تتسلمها الآن.
أحمد: متى إذَن؟
مايكل: عندما تُحضر النقود.
أحمد: لن أُحضر النقود إلَّا بعدما أعرف ماذا سأشتري.
مايكل: هل أنت مجازف؟
وفي نفاد صبر أجابه قائلًا: وقلبي من حديد.
مايكل: سأبيعك سلاحًا نوويًّا.