أمواج وعواصف!
كان سؤال «عثمان» مُحيِّرًا … فالمهمة الرئيسية التي تحرَّكوا لأجلها هي القبض على «هينو» وأعوانه … وها هم الآن يدخلون في مغامرة لم يحسبوا لها حسابًا … وبعيدة كل البعد عن هذه المهمة … فماذا سيقولون لرقم «صفر» تبريرًا لما فعلوه؟
قال «أحمد» ردًّا على هذا السؤال: أولًا نحن لسنا في حاجةٍ لتبرير ما قمنا به الآن … وإن سألتموني لماذا فسأجيبكم قائلًا: أولًا؛ لقد اعترضتنا هذه السفينة وعرَض علينا رُبَّانها عَقْد صفقة لشراء أسلحة، ونحن اتفقنا مع رقم «صفر» على أن هذا هو أسلوب «هينو» في الحصول على موارده، وعليه فإن طريقة دخولنا إلى «مستعمرة الأوغاد» ستكون عن طريق قراصنتهم.
إلهام: تقصد بالاستسلام لهم أن نقابل «هينو»؟
وافقها «أحمد» قائلًا: نعم، هذا صحيح … إلى أن نقابل «هينو» ونعقد معه صفقةً تمكننا من الإيقاع به … وقد ظننت أن «مايكل» من رجال «هينو».
وهنا قال له «عثمان» متسائلًا: وهل تأكدت أنه ليس من رجالنا؟
أحمد: ليس بعد … فمنطقة عمله قريبة من «مستعمرة الأوغاد» غير أن أسلوب عمله مختلف.
إلهام: هذا يعني أننا ما زلنا داخل مُهمَّتنا ولم نعرف عنها.
في هذه اللحظة اضطرب اليخت اضطرابًا مفاجئًا … وعلَت الأمواج إلى ارتفاعات تُنذر بالخطر … وكثُرت السحب بسرعة في سماء المنطقة … وغابت الشمس حتى تَعذَّرت الرؤيةُ تمامًا … وكما قال رجل من طاقم اليخت: نحن نسبح الآن في بحر الظلمات.
انطلقت كشافات اليخت تحاول إضاءة مساره … وطفِقَت أجهزة الرصد تستطلع المكان أرضًا، وتمسح قاع البحر … وجوًّا.
ولم تمضِ دقائق إلا والأمطار قد هطلَت بغزارة … وتغيَّرت درجة الحرارة تغيُّرًا سريعًا وانحدرت من بارد إلى أبرد … واضطرب الموج اضطرابًا مُنذِرًا بعواصفَ خطيرة … فغادر الشياطين سطح المركب … وهبطوا إلى الدَّور السفلي حيث الصالون الرحب الفخم … وطاقم الضيافة الملكي … وأكواب الشاي الساخن … والكعك الشرقي اللذيد … ودفع كلُّ هذا «عثمان» أن يقول: ألا نشكر المُناخ أن أتاح لنا هذه الفرصة لالتقاط الأنفاس والشاي والكعك؟
ازدادت العواصف وازداد ارتفاع الموج … ومعه ازداد تأرجُح اليخت … وأيضًا تأرجح الشاي في الأكواب … وتأرجحت الأكواب في أيدي الشياطين … وأصبح الشرب منها متعذرًا … وقال «أحمد» معلقًا: هل تشعرون أن هذه الرحلة ستمرُّ بسلام؟
ابتسمت «إلهام» مترقبة وقالت له: إن مشاعري غير ثابتة … فهي تتأرجح مثل هذا الشاي تمامًا.
شقت السماءَ خطوطُ ضوء، فلا شيء مبشر … أخذت ترتعش لثوانٍ، ثم انطفأت، وما لبِثَت أن تكرَّرت … ولكن هذه المرَّة صاحبتها زمجرة الرعد … وازداد هطول الماء من السماء، وتحوَّل إلى سيول مغرقة.
وطرَق بابَ الصالون أحدُ البحَّارة … وعندما سمح له «أحمد» بالدخول … وارب الباب وأطلَّ برأسه باحثًا عن «أحمد» … وعندما تقابلَت عيناهما، قال له: سيد «أحمد» … الماء يُغرِق سطح اليخت، ونريد تعليماتك.
ترك «عثمان» كوب الشاي من يده … وهرولَ مغادرًا الصالون … فوجد الماء يتسرب إلى طرقات اليخت السفلية … فنادى البحَّارة والفنيين وعمال المطبخ وجميع الموجودين على ظهر هذا اليخت أن يتعاونوا في نزْح هذه المياه وإلا … فسيغرق اليخت.
وبالفعل … أسرع الرجال كلٌّ ممسكٌ بما تيسَّر له من أداةٍ تُعينه على نَزْح الماء، وتحول اليخت إلى خليَّة نحلٍ مفرط النشاط.
وتَمكَّن الرجال ومعهم «أحمد» و«إلهام» من تفريغ اليخت من مياه الأمطار … غيرَ أن ارتفاع الموج واضطرابه … مال باليخت ميلًا خطيرًا، فتحوَّل إلى وعاء كبير يغترف من ماء البحر ويعود مستويًا على سطحه.
لقد أصبح الحال أسوأ من ذي قبل … وازداد الأمر خطورة … وأصبح على الرجال أن يبذلوا جهدًا أكبر للتخلص من الماء … رغم أنهم بذلوا جهدًا كبيرًا في التخلص من مياه الأمطار … وعلق «أحمد» وهو يصيح قائلًا: لقد استنفدنا جهدنا … ولم يَعُد لنا ما نواجه به أو نقاوم.
ومن وسط الضوضاء التي يصنعها خليط أصوات الطبيعة بأصوات وقع أقدام الرجال على سطح المركب وهم يتحركون جَيْئةً وذهابًا مُحمَّلين بالأوعية مملوءة بالماء أو فارغة منه، من وسط كل هذا صاح «عثمان» يجيبه قائلًا: لن يكون حالهم أفضل من حالنا.
وفي هذه اللحظة … هرولَ ضابطُ الاتصالات وسْط هذه الجَلَبة المُكثَّفة ينادي «أحمد» قائلًا: سيد «أحمد» … سيد «أحمد»!
ومن وسط هذه الضوضاء صاح «أحمد» يجيبه قائلًا: ماذا لديك يا ضابط «أشرف»؟
ضم الضابط يدَيه حول فمه وصاح يقول له: هناك إشارة استغاثة.
كان «أحمد» قد اقترب من الضابط «أشرف»، فأمسك بيده، وسار معه بصعوبة وسْط الماء، وقال له: ماذا تقول هذه الإشارة؟
كاد الضابط أن ينزلق لولا أن أمسكَ به «أحمد» بشدَّة … وأعانه على أن يستقيم واقفًا مرة أخرى وهو يُعيد عليه السؤال قائلًا: هل قلت إنها إشارة استغاثة؟
الضابط «أشرف»: نعم يا سيدي … إنها تقول أغيثونا، المركب في طريقها إلى الغرق.
أحمد: هل يمكنك تحديد موقعها؟
الضابط: نعم. لقد حددته بالفعل … حتى نتمكن من الابتعاد عنها ولا نصطدم بها.
أحمد: هل كانوا يستغيثون بنا أم يحذروننا؟!
وفي قلق قال الضابط «أشرف»: لا أفهم يافندم … هل تعني أنك ستعمل على إنقاذهم؟
أحمد: بالتأكيد.
وفي انزعاج شديد، صاح الضابط «أشرف» معترضًا: يا سيد «أحمد»، نحن لا نضمن أن ننجوَ الآن … فكيف سنُعين غيرَنا على النجاة؟
أحمد: يجب أن نكون مستعدين … حتى إذا حانت الفرصة ساعدناهم.
وانتبه «أحمد» لخطورة بقاء الضابط «أشرف» بعيدًا عن غرفة الاتصالات، فقال له: عُدْ إلى غرفتك يا حضرة الضابط، ولا تخرج منها إلا لتبلغني عن إشارة أخرى.
ارتفع صوتُ لهاث الرجال على ظهر اليخت، وانخفض منسوب الماء كثيرًا … وبدأت الأمواج تتلاشى وسطح الماء يستقر … مما أعانهم على نزح كل الماء من على سطح المركب … ومرة أخرى عاد الضابط «أشرف» يبحث عن «أحمد» حتى وجده يقف بجوار «عثمان» في كابينة القيادة … فقال له: سيد «أحمد» … هناك إشارة استغاثة أخرى.
أحمد: هل هي السفينة صاحبة الاستغاثة الأولى؟
الضابط: نعم.
أحمد: وماذا تقول؟
أشرف: تقول نحن نغرق … نصف الرجال في الماء … والنصف الآخر في طريقهم إليه.
أحمد: ألم تحدد موقعهم؟
أشرف: نعم … إنهم قريبون منا جدًّا.
أحمد: أعطِ إحداثيات الموقع للربَّان «عثمان»، وهو سيتجه إلى موقعهم.
وبسرعة انطلقَت الأضواء المُبهرة من عشرات الكشافات المنتشرة على سطح اليخت … فشقَّت ظلام الليل … ولألأت سطح الماء حول اليخت.
وما إنْ عاد الضابط «أشرف» إلى كابينة القيادة … حاملًا الخطوط البيانية المُوضَّح عليها إحداثيات التحرك … حتى انطلق «عثمان» يدور باليخت دورةً واسعةً ناقصة، ثم ينطلق للأمام بضعة أميال، قبل أن يرَوا البقية الباقية من السفينة المستغيثة وهي تطفو على سطح الماء لدقائق قبل أن تبتلعها تمامًا.
كثير من الأسى شعَر به كلُّ الرجال على سطح اليخت … فلا يشعر بفداحة هذا الموقف أحد مثلما يشعر به البحارة.
وبأمر من «أحمد» تحرَّكت الكشافات تمسح سطح البحر مسحًا … ولاحت من بعيد أذرع الرجال تستغيث … فانطلقت من اليخت أطواق النجاة في كل اتجاه.
وأنزلَ بعض الرجال قاربًا للنجاة … وتحوَّل سطحُ البحر إلى خليَّة عمل … وبدأ توافُد بحارة السفينة الغارقة … وما إن تَطلَّع فيهم «أحمد» حتى صاح قائلًا: إنهم سماسرة البحر.
تَملَّكت الحيرةُ «إلهام» وهي تسمع هذا التصريح من «أحمد» وتقاذفتها الأفكار … وشعَر بها «أحمد»، فقد كانت تقف إلى جواره … فقال لها: تسألين نفسك الآن عمَّا يجب أن نقوم به الآن مع هؤلاء الرجال … أليس كذلك؟
إلهام: نعم … فأنت تقول إنهم لصوص ويتاجرون في كل شيء … والآن نُنقذهم … وتنوي استضافتهم على سطح اليخت!
أحمد: ألا يمكن أن يكونوا من رجال «هينو»؟
إلهام: نحن لن نُسلم أنفسَنا لهم لمجرد التخمين.
أحمد: هل أتركهم يغرقون؟
نفَت «إلهام» بشدة ذلك قائلة: أنا لم أقصد ذلك … ولكن لا تستضيفهم عل سطح اليخت.
تملَّكت «أحمد» الحيرة وقال: وأين أضعهم إذَن؟
برقَت عينا «إلهام» وكأنما اكتشفت الحل المثالي، فقالت له: نتركهم في قارب النجاة.
أحمد: وهل بهذا سيرضى ضميرك؟
إلهام: إنهم لصوص وقتلة.
أحمد: أعرف أنهم لصوص … ولكني لم أعرف أنهم قتلة.
اندفعت «إلهام» تقول في حنَق: ألا يتاجرون في الأسلحة النووية؟
فكَّر «أحمد» قليلًا قبل أن يُجيبَها قائلًا: لا يمكن أن أحكم عليهم بالموت.
إلهام: إذَن ستُقيِّدهم؟
أحمد: سأفكر في هذا.
إلهام: ليس هناك وقت للتفكير.
رأى «أحمد» أن «إلهام» مُحقَّة في كل ما طرحَته من تخوُّفات … فهؤلاء الرجال ضائعون، كانت تضمهم سفينة واحدة في طريق واحد … وهو طريق التجارة غير المشروعة … أي طريق الشر … والآن السفينة غرقت وهي وسيلتهم الوحيدة في هذه التجارة … وهم يحتاجون للبديل … وليس أمامهم الآن أجمل من هذا اليخت ولا أيسر من الحصول عليه … ولو كان هو مكانهم لَما تركَ اليخت يضيع من بين يديه … لذلك كله … اتخذ قرارَه الفوري باصطيادهم واحدًا تلو الآخر … وإيداعهم غرفةَ الماكينات حتى يقوموا بتسليمهم في أقرب ميناء … وقام بإبلاغ هذا القرار لأقرب البحَّارة إليه، وأمرَ بإبلاغه إلى جميع البحَّارة الملاصقين لسور اليخت.
وبالفعل … قام البحَّارة بانتشال أول رجال السفينة الغارقة، وقاموا بربطه بالحبل المدلى من السطح، ثم قاموا بجذبه حتى تَنبَّه البحَّارة على السطح … فشرعوا في جذبه ورفقه إليهم … وهو مستسلم تمامًا … فقد كانوا يشعرون بثقله على أذرعتهم … غير أنه بدأ يتمالك نفسه … فشرَع يتسلق جسم اليخت وهو ممسك بالحبل … وقد عرَفوا ذلك عندما هان عليهم ثقله.
وأخيرًا رأى الواقفون على اليخت رأس الرجل تُطلُّ عليهم. فأمسكوه من ذراعيه، وجذبوه إلى أن تَمكَّن من عبور سور اليخت … ثم اصطحبه أحدهم لإيصاله لغرفة الماكينات كما أمَر «أحمد».
تعثَّر الرجل في سيره … وجلس على سطح المركب وقد ارتخت كلُّ أعضائه … ولم يَعُد قادرًا على إكمال السير مع البحَّار … فأمهَله البحار الفرصة حتى يتمالك نفسه … وعندما طال رقاده طلَب من أحد زملائه الجلوس مكانه حتى يرى ما يمكن عمله … فوافق الرجل … وانتفض وهو يجري إلى أن وصل إلى «أحمد» فقال له: سيد «أحمد» … أحد الرجال يرقد على سطح اليخت قريبًا من الموت.
أحمد: وما أدراك أنه لا يخدعك؟