الفصل الأول
پُولْ ڤيرلين
PAUL VERLAINE
كان فتًى حالمًا، رقيق البدن، بارز الجبهة، عميق النظرة، مرح النفس، قذفت به الحياة
إلى معتركها غمرًا، لم تكشف له تجاربه المحدودة عن طبائع الناس، ولم يهيئه طبعه الرقيق
ومزاجه الحاد لمكابدة شظف العيش وضنك الحال؛ وإن هيَّأتهُ روحه ليكون حيث هو الآن من
نباهة الذكر وسُمُوِّ المنزلة وخلود الأثر.
ولو قد عرف «البارناسيون»
١ ما ناطته السماء بمستقبل هذا الصبي الشاعر، وهو يختلف إليهم من حين إلى
حين، ولو قد تَبَيَّن جماعة «مالارمي» ما تنطق به مخايل هذا الشاب العابث في أبهاء الحي
اللاتيني؛ لحموه أحداث الزمن، ولما تركوه غرضًا للفاقة والتشريد والعذاب، ولضنوا بصاحب
هذه النفس الشاعرة الموهوبة والعبقرية المبدعة الفذة، ألَّا يجد وهو في مستهل حياته قوت
يومه، ثم لفزعوا إلى القدر فما صرف أمه عن العناية به صغيرًا، فشبَّ مطلق العنان يرتاد
المواخير ويدمن الخمر، ثم لَمَا غادر زوجه وأمه وولده هائمًا بين باريس ولندن وبروكسل،
ليعود إلى وطنه ضحية اتهام قاسٍ ينال من رجولته، ويلقي على نجمه المتوقد سحابة من
الزراية والامتهان، ثم لَمَا ارتفعت من حوله صيحات العار تلاحقه من مكان إلى مكان
فغلَّقت في وجهه أبواب الرزق، وسدَّت على ذلك الهارب المسكين منافذ الرجاء والطمأنينة،
فمضى يستنبت الأرض في الريف البعيد في كثير من اليأس والعناء، وهو ذلك الروح المرح الذي
لم يُخْلَقْ لغير الشعر والغناء، ثم لَمَا تحالف هذا الشر كله على ذلك الضعيف المكدود،
فاستبدَّ به المرض، فقضى غريبًا وحيدًا، منبوذًا إلا من امرأة بائسة مثله، ساهمتُه
حبَّهُ الأخير وشقاءه الأخير، فلفظ في ظل قربها وعطفها نَفَسَهُ الأخير.
حقًا!! لقد كانت حياة ڤيرلين فاجعة محزنة؛ فمن الحان إلى السجن إلى الماخور إلى
الهيام في الطرقات إلى ملاجئ البِر.
هذا هو الشاعر الخالد الذي كان أرخم صوت غنائي صدح به الشعر الفرنسي في القرن الذي
أنجب هيجو، لامارتين، جوتيه، موسيه، بودلير، رامبو، جول لافورج، مالارمي وغيرهم.
إن في حياة هذا المتشرد الكبير ضروبًا من العبث وألوانًا من الألم، ولكنه العبث الذي
تستقيم به حياة الفنان البوهيمي، والذي يتيح للأدب في كل جيل فنونًا شتَّى من الإجادة
والإبداع، ولكنه الألم الذي يفرض العذاب على القلوب الشاعرة فينطقها بالنغمات الفريدة
الساحرة، ويصل ما بينها وبين السماء، فتشرب من روعة اللانهاية وصفائها، وتمنح البشرية
الوضيعة المعذبة لحظات من السعادة والسمو.
وُلِدَ پول ڤيرلين في مدينة «متز» من ولايات فرنسا الشمالية، في الثلاثين من شهر مارس
عام ١٨٤٤، أي بعد مولد بودلير الشاعر بثلاثة وعشرين عامًا، وكان أبوه ضابطًا ممتازًا
في
الجيش الفرنسي، وعندما بلغ السابعة من عمره رحلت به عائلته إلى باريس، فألحقته بمدرسة
خاصة، ثم بمعهد «ليسي بونابرت» حيث أظهر ڤيرلين على حداثته تفوقًا مشهودًا في اللغتين
اليونانية واللاتينية وفي علوم البلاغة والأدب، فمنح جائزتها مع درجة شرف ثم استمرَّ
في
دراسته قليلًا من الزمن حتى ظفر بوظيفة حاسب في إحدى دوائر باريس المالية.
ولكن حياة ڤيرلين الشاعر تبدأ عام ١٨٦٦؛ ففي الثانية والعشرين من عمره أخرج أول
مجموعة شعرية عنوانها «قصائد
عابسة» “Poèmes Saturniens”، وبعد ثلاث سنوات نشر مجموعته الثانية «أعياد مرحة» “Fètes Galantes”، فأصاب ڤيرلين من تينك
المجموعتين حظًّا كبيرًا من الشهرة والتقدير كشاعر غنائي نابغ، كما أصاب حظًّا من
التعاسة والشقاء، وكانت الأيام قد مهَّدت لهذه المتناقضات؛ فقبْل نشر ديوانه الأول بعام
مات والده، وعاش الشاعر الصغير في رعاية أمه فدَلَّلَتْهُ، وأعانته على عبث الشباب
ونزقه بما كانت تمده به من المال، فانغمس الفتى في شهواته، وانطلق يعبُّ من مَلَذَّاتِ
الحياة كيفما اشتهت نفسه الظامئة وشبابه المضطرم.
ثم أعانته الأقدار بعد ذلك على الحياة التي بدأ يشغف بها ويستمرئها، حياة الشرود
والهيام، فصادف جماعة من الشعراء البوهيميين الذين كانوا يجتمعون كل مساء في مطعم
«ريفولي» بالحي اللاتيني فما لبث أن مال إليهم واندمج في عشيرتهم، كانوا يجتمعون
فيتناولون الأدب والفن بالدراسة والنقد، ويتجادلون في شئون الشعر، وكان لڤيرلين من هذه
الجماعة حظ كبير من الخير، فصقلت محاوراتهم طبعه، وأظهرته على ألوان مختلفة من الجمال
والخيال، ولكن كان له إلى جانب هذا الخير حظ كبير من الشر؛ لفقد حببت إليه عشرتهم
احتساء الخمر أولًا، وإدمانها ثانيًا، وكان ڤيرلين رقيق البدن، عصبي المزاج، حاد الطبع،
وكان الخمر سمَّه القاتل!
وصار ڤيرلين بعد ذلك من المترددين على صالون «لويس كافير دي ريكارد» فاتصل
بالبارناسيين
“Parnassians” جماعة «ليكونت دي
ليل»، ولقيت شاعريته المبدعة هوى وتقديرًا من الشعراء والنقاد النابهين في الأوساط
الأدبية العالية، الذين تضمهم هذه الجماعة، أمثال جوزي ماريا، سوللي برودوم، فرنسوى
كوبيه وكاتول منيدي وغيرهم، ولعل هؤلاء خير ما صادفه الشاعر في حياته الأدبية، فقد أثبت
اتصاله بهم شخصيته كشاعر مرموق الحاضر مرجوِّ المستقبل، كما أصبح فيهم بعد ذلك ظاهر
الشخصية نابه الشأن.
كان هذا في الفترة ما بين عام ١٨٦٦ وعام ١٨٦٩ أو ما بين ظهور ديوانيه الأول
والثاني.
وفي ربيع عام ١٨٦٩ قابل فتاة تُدْعَى ماتيلد
موتِ Mathild Mautè أخت أحد أصدقائه، فتحابَّا من النظرة الأولى، وزاد شغف ڤيرلين
بفتاته كما استمرأت ماتيلد مطارحاته الغرامية، ففكَّرا في الزواج، ولم يكن أمره
مُستطاعًا فقد كانت ماتيلد فتاة صغيرة، وكانت حداثة سنها تحول دون الزواج، وأخيرًا ظفرا
بهذه السعادة، ولم يكن ثَمَّةَ من سعادة يحلم بها ڤيرلين بعد ذلك، فقد كان مُدلَّهًا
يستغرقه الحب، وكان يرى في الزواج رابطة مقدسة، كما كان يرى فيه منقذًا له من نقائصه،
مطهِّرًا لكل آثامه، ولكن هذا الحلم الجميل لم يتحقق!
فقد بدأت الحرب السبعينية بين فرنسا وألمانيا، وكان البروسيون يطوِّقون باريس؛ فتطوع
ڤيرلين في جيش المواطنين المدافعين عن مدينتهم، وهكذا فارق الشاعر زوجه بعد شهور قليلة
من زواجهما، وعاشت الشابة الصغيرة في بعض غرف شارع «الكردينال ليموان» تنتظر زوجها
الشاب.
ووضعت الحرب أوزارها، وعاد ڤيرلين إلى باريس، ولكنه كان قد تغير، كان لا يزال على
عهده من الحب لزوجته، ولكنه عاد سيرته الأولى، مستغرقًا في حمأة نقائصه، عاد ڤيرلين إلى
باريس ولكنه فقد وظيفته الأولى، وكان الإسراف قد أودى بأمِّه إلى الفاقة والعوز، فاضطر
ڤيرلين أن يغادر باريس، صحبة أمه وزوجه إلى «شارڤيل» لا ليشاركوا والدي «ماتيلد»
غرفتهما الوحيدة فحسب، بل ليعيشوا أيضًا عالة عليهما.
ولم يكن هذا كل ما أعدَّته الأقدار لڤيرلين في «شارفيل»، فقد بدأت أخطر دقائق حياته
من الاقتراب، وكانت النكبة التي لوَّثت حياة هذا الشاعر المسكين، في خطاب تلقَّاه من
شاعر يُدْعَى «آرثر رامبو»
Arthur Rimbaud ضمَّنه
إعجابه الذي لا حد له بأشعار ڤيرلين كما ضمَّنه شيئًا من أشعاره.
ووجد ڤيرلين في هذا الخطاب رجلًا يرفعه إلى مَصَافِّ العبقريين، كما وجد في هذا الرجل
شاعرًا مبدعًا، في شعره قوةٌ جديدة وصوت جديد وخيال جديد؛ فاندفع ڤيرلين يدعو صاحبه إلى
«شارڤيل» دون رَوِيَّةٍ أو إمعان، وحل رامبو ضيفًا على هذا الخليط المزدحم، يشاركهم
نومهم ويقظتهم، ويساهمهم زادهم وشرابهم، وكان رامبو شابًّا في السابعة عشرة من عمره
ولكنه كان مخلوقًا غريبًا حقًّا!! كان مديد القامة، قذر الثياب، وكان عاطلًا أيضًا،
وكان مَخْبَرُهُ أحطَّ من مظهره، كان شريرًا بكل ما في كلمة الشر من المعاني، وكان
رجلًا سكيرًا، فظًّا كثير اللجاج، محبًّا للمشاكسة، فلم تستطع ماتيلد وأمها صبرًا على
هذا الضيف وسرعان ما تَخَلَّصَا منه.
ولكن رامبو وجد مأوى آخر، واستطاع أن يتصل بالكثير من الشعراء أصدقاء ڤيرلين، فسرعان
ما أثَّر فيهم وتسلَّط عليهم، ومن ثَمَّ وقع ڤيرلين روحًا وعقلًا تحت سلطان هذا الساحر،
أما ما انتهى إليه أمر هذه العلاقة بين الشاعرين فقد اختلف في اكتناه أسراره الكُتَّاب
والمؤرخون، وإن أجمعوا على أنها العلاقة الشاذة التي يتأثَّم بها اثنان من جنس واحد،
وهو اتهام لم يفرغ النقاد من تحقيقه حتى اليوم، أما الذي لا سبيل إلى الشك فيه فهي
النتائج المحزنة التي انحسرت عنها مأساة هذه العلاقة، ولا ندحة من أن نمسَّها مسًّا
رفيقًا؛ فقد جعلت حياة ماتيلد مع ڤيرلين أمرًا مستحيلًا فدفعته إلى هجرها، ثم ساقته
وصاحبه رامبو إلى إنجلترا، ثم إلى بروكسل ثم أورثته إدمان الخمر، فبالغ في نشوته إلى
حدٍّ نال من صحته وأوهن أعصابه، وأوقعه في جنون التخيُّل والتوهُّم “Pasomania”، ثم استمرت المأساة في عملها فدفعت
الشاعرين إلى الخصام الشديد، ثم رفعت يد ڤيرلين بالنار يطلقها على صاحبه مرات، فإذا
صاحبه جريح، وإذا ڤيرلين رهين سجن «مونز» ثم تخلص المأساة من رامبو لتتصل بحياة ڤيرلين
وحده، فيخرج من السجن بعد عامين ويعود إلى فرنسا، ثم يحصل على وظيفة مدرس بأحد المعاهد
ليفقدها بعد زمن قصير، ثم يضيق به الحال فيذهب بأمه إلى «إردن» مؤثرًا فلاحة الأرض،
ولكنه لا يصيب حظًّا من النجاح، فيغادر فرنسا كلها ويعود إلى إنكلترا للمرة الثانية،
ثم
يحن إلى وطنه فيرجع إليه عام ١٨٧٨ ويظفر بمنصب أستاذ في كلية «رتل» Rethal ومنها إلى باريس، وإذا بالمتشرد الكبير يظهر مرة أخرى في الحي
اللاتيني، ويتصل بأصدقائه القدماء من الشعراء الرمزيين رُوَّادِ هذا الحي، ثم يبتسم له
الحظ قليلًا فينشر مجموعة جديدة من شعره وكتابًا آخر في تصوير بعض الشخصيات الأدبية،
فيصيب من ورائهما بعض المال وكثيرًا من الشهرة والمجد، ثم يعبس الحظ له إلى الأبد،
فيتخطف الموت أمَّه عام ١٨٨٦ ويقع ڤيرلين تحت وطأة المرض هيكلًا محطمًا، ولكنه رغم هذا
لم يقلع عن إدمانه الخمر؛ ثم تذهب به المأساة الكبرى إلى نهاية الشوط، فتأبى ماتيلد
الصفح عنه وترفض لقاءه، وتستأثر وحدها بطفلهما الوحيد، وهكذا يقف ڤيرلين حيال العالم
وحده، ثم تعبر به عشر سنوات أخرى وهو يضرب في هذا التيه الغامر والعذاب المطلق حتى
يصادف «أوچيني كرانتس» فيؤلف بينهما البؤس ويصدح بلبل الحبِّ فوق طلل هذا القلب المهدم
الحزين، فينتعش قليلًا ولا يكاد يخفق للحياة الجديدة، حتى تتألب عليه الأمراض فيعجز عن
مقاومتها، فيصرعه الموتُ، وبذلك تنتهي حياته أو مأساتهُ المفجعة عام ١٨٩٦.
كان ڤيرلين شاعرًا غنائيًّا محبوبًا، وقد ظهر ميله إلى الشعر أيام دراسته الأولى
فأظهر في قرضه مقدرة ونبوغًا لا يتكافأ معهما عمره الصغير، أما ديوانه الأول «قصائد
عابسة» فقد كانت عملًا فنيًّا رائعًا، وكان كله شعرًا غنائيًّا تضطرد فيه الموسيقى
اضطرادًا عجيبًا، تجد في بعضه الأناقة والجمال، وفي بعضه الآخر العظمة والرقة، ولعل
أجمل قصائده قصيدته في الخريف، أترجمها شعرًا وإن كانت الترجمة تفقدها أجل ما فيها وهو
الموسيقى.
تنهداتُ الرياحِ
رتيبة النواحِ
تجرح قلبي بها
قيثارةُ الخريفِ
وثمَّ صوتٌ عابرْ
من السنين الغوابر
يهتف بي فأصغي
للهاتف المطيفِ
ويستفيض خيالي
بالذكريات الخوالي
أنشدها فأبكي
بالمدمع الذريفِ
وعند ذات تحملني
ورَيْقة من فننِ
قد ذبلت وانطلقت
في العاصف الشفيفِ
وما كاد ديوانه الثاني «أعياد مرِحة» يظهر في المكتبات، حتى أقبل عليه الأدباء، وكان
حظُّه عظيمًا من الناقد الكبير «سنت بيف» فبدأ يكتب عن ڤيرلين الشاعر كاكتشاف جديد،
وذخيرة نفيسة في الشعر الفرنسي، كما كتب عنه الكاتب الكبير «فرنسوى كوبيه» فوصفه بأنه
خلق شعرًا يمتاز بطابعه الفردي، ويسترعي أرق اهتزازات العصب الإنساني، وأن قوافيه
وأوزانه تجمع بين الحرية والترسُّل في أسلوب كله قوة وكله عذوبة، واستعارات رائعة
وموسيقى فريدة.
والحق أن ديوانه الثاني «أعياد مرحة» كان له من عنوانه نصيب عظيم، فكانت قصائده أكثر
احتفالًا بالبهجة، وهكذا تكون روح الشاعر، فغناؤها يترجم دائمًا عن شعوره بالحياة
وتأثره بأفراحها وأتراحها، فهي في ديوانه الأول يغشاها الاضطراب، وهي في ديوانه الثالث
Romances sans Parole الذي نظمه في السجن، تتجاوب
بأصداء الألم الذي تضطرب به روح الطائر الحبيس وهي في ديوانه الثاني مرحة تصدح بالفرح
وتغرد بالأمل الجميل، وكما أنطق البؤس ڤيرلين كذلك أنطقه الحبُّ، ولم يكن غرام ماتيلد
عبثًا محضًا، فقد ألهم ڤيرلين أرقَّ أشعاره وأعذب أغانيه، وكشف عن جوهر روحه الصافية
وإبداع عقله، فمن العيون الضاحكة، ومن الشعر الأشقر المتموِّج، ومن هذا الصوت الرخيم،
استمد ڤيرلين ألوان خياله المتلألئة، ومرح قوافيه، وروعة أنغامه، ولعلك تحس هذا كله في
هذه القصيدة:
هذا هو القمر الفضي يملأ الغابة نورًا
وثَمَّ صوتٌ ساحر يهتف تحت كل فرع ومن ذؤابة كل غصن «يا محبوبتي»
هذا هو الغدير الرقراق كصفحة المرآة
يسبح فيه خيال الصفصافة السوداء حيث تئنُّ الريح
ألا فلنحلم يا حبيبتي فتلك ساعتنا
فالكون يلفُّه السكون ويهفو به الحنان
كأنما تُسلسِل اللانهاية المشرقة ألوانها
ألا إنها الساعة المنتظرة!!
وليست أشعار ڤيرلين كلها بهذه البساطة، نعم إن منها ما يعد من الأغاني الشعبية، ولكنه
أيضًا كان شاعرًا رمزيًّا عميقًا، ومن الواضح أن ڤيرلين تأثر ببودلير إلى حدٍّ ما، فقد
أسلفنا القول إن بودلير سبقه بثلاثة وعشرين عامًا، ولعل الجانب الرمزي في بودلير هو
الذي استهوى ڤيرلين، ولعلَّه الجانب الشهواني، بيد أن الفرق بين الرجلين كان بعيدًا
جدًّا، فهما يختلفان في الطبع وفي النظرة إلى المرأة، فقد كان لڤيرلين طبع لين، ونفس
رقيقة رغم مزاجه الحاد، ثم إنه كان يحب المرأة حبًّا أقرب إلى الروحانية منه إلى الشهوة
المجردة ولم تفسد المرأة حياته ولكنه الذي أفسد حياتها، ولكن بودلير كان شهوانيًّا إلى
حد بعيد، وكان ذا فلسفة خاصة، فقد رمى الْقَدَرُ في أحضانه بنسوة يستمرئن متعة الجسد،
فراح ينشد من وراء فلسفته «حواء» أخرى لا تتصل بطريدة الجنة، لقد كان بودلير ضحية
المرأة أما ڤيرلين فكان ضحية الخمر!!
إن أهمية شعر ڤيرلين في موسيقاه، تلك التي وصفها النقاد بالموسيقى الموزارية نسبة
لموزار الموسيقي الألماني العظيم، فڤيرلين من هذه الناحية من طائفة ڤيلون وهايني وإدجار
ألن پو، ولكنه زاد عليهم تلك اللغة البارعة التي استحدثها في شعره، فهي لغة لها أهمية
موسيقاه، لقد سكب فيها كل ما اضطرم به قلبه من الألم والحماسة والحب والقوة، وكل ما
اضطرب بين جوانحه من الأحلام والكآبة والمرح، ويجدر بي القول قبل أن أختم هذه الدراسة:
إن ڤيرلين لم يَعِشْ خامل الذكر في جيله، ولا منكور الأثر، فقد رأى بعينه تألق نجمه في
عالم الأدب، وشهد أشعاره مترجمة إلى غير لغة واحدة، وسمع أغاريده تملأ أفواه الشعب
الفرنسي، كما سمع الكثير من إعجاب أعظم كتَّاب جيله شأنًا وأخطرهم رأيًا، وكان الاعتراف
بمكانته من المدرسة الرمزية الحديثة أمرًا مسلَّمًا به، ولكن أملًا واحدًا من آماله
الكثيرة الضائعة لم يتحقق، فأضاف إلى عذابه الروحي وشقائه المادي شقاءً آخر وعذابًا
جديدًا ظل يحزُّ في قلبه حتى وقف عن ضرباته؛ فقد دفعه بؤسه وعار علاقته برامبو أن يخلص
منهما ويمحوهما بترشيح نفسه «للأكاديمي فرنسيز» ويشير بعض النقاد إلى أسباب أخرى ترجع
إلى غروره في أيامه الأخيرة واعتداده بنفسه، ولكن من المحقَّق أنه كان يطمح إلى
الظَّفَرِ بقوة الاحترام وإلى مكافأة الأكاديمية الضئيلة لينعم بالراحة بين دنان الخمر،
وكان يرى في تحقيق هذا الأمل مجدًا خطيرًا يتوِّج حياته بالخلود، وقد وصف النقاد ذلك
بأنه «كوميديا خطيرة» كما عابوا عليه طموحه لذلك «القبر المزخرف البغيض الذي يئد
القريحة ويطفئ النبوغ»، ولكن الزمن حقَّق بعد مماته ما عجز عنه في حياته فرفعه إلى
مَصَافِّ العبقريين وكتب اسمه في ثبت الخالدين.
وحسبنا أن نختم هذا الفصل بهذه الآية لأناتول فرانس نتوج بها سيرة ڤيرلين قال:
إنه شيخ متعب من الشرود والهيام في الطرقات مدى ثلاثين عامًا! إن منظره يَكْلُمُ
النفس ويصدم النظر، إنه يجمع بين الشراسة والوداعة؛ سقراطي بالفطرة، أو خيرٌ من ذلك،
حيوانُ غابة، مخلوقٌ خرافي، نصفه حيوان ونصفه إنسان، نصفه وحش ضارٍ ونصفه إله، هائلٌ
كقوة طبيعية غير خاضعة لشريعة ما، فهو شبيه ڤيلون ونِدُّه وضريبه:
إنما ولدان شِرِّيران!!
رُزِقضا التعبير وأُوتِيَا البيان،
فباحا بأجمل ما في الدنيا من الأشياء والأحلام!!