في ميدان إسِدْرَا
هذه روما الخالدة تتأهب لاستقبال البعثة المنشوكية، وكأنما غمرتها موجة من مباهج أيامها الخالية، فحيثما سرت أعلام خافقة، وثريَّات متألقة، وقد ازدحمت أرصفة الشوارع والطرقات بالغادين والرائحين وهم يتطلَّعون إلى النوافذ الموشحة بأوراق الشجر وضفائر الورد، أو إلى الفترينات المرصعة بألوان الثياب الزاهية، والقطع الفنية الخلابة؛ وكنت في طريقي إلى شارع الناسونالي وأنا أجتاز ميدان فينسيا محتشد الخواطر، مفعم النفس بالأثر الفني الرائع الذي أقيم إلى جانبه للجندي المجهول، ذلك البناء الرخامي ذو الدرج العريض العالي، يشرف عليه تمثال عمانويل الثاني وهو ممتطٍ صهوة جواده، وتحته أربعة من الجند الأحياء مسمرين في أماكنهم حول إكليل كبير من الورد اليانع، حتى لتخالهم جزءًا من هذا الأثر الرائع، أو بعض تماثيله يستكمل بها رونقه، ويستتم بها الفكرة التي رفع من أجلها لذلك الجندي الباسل.
وكانت رفيقتي في هذا اليوم الصحفية السويسرية «تنجلفدر»، وقد استرعى انتباهها استغراقي في تأملاتي ونحن ننحدر إلى شارع الناسونالي، فشدت على يدي بلطف، وهمست قائلة: «أفق يا صديقي فإن للسير في الشارع نظامًا خاصًّا»، فنظرت إليها نظرة المفيق من حلم جميل، فاستطردت قائلة: يجب أن نجتاز عرض الطريق إلى الرصيف المقابل حيث نندمج في موكب العابرين إلى الميدان، وعليك أن تضع قدمك وأنت منتبه؛ لأن السيارات هنا لا أبواق لها، وترفَّقت ساعدي وسرنا حيث أشارت، وغرقنا في تيار مندفع من الناس، نتسمع إلى لهجاتهم المختلفة، فهؤلاء بقية من الإنجليز والأمريكان العائدين من الشرق في طريقهم إلى باريس، وأولئك طلائع الألمان الوافدين في موسم العنب الذي تحتفل به إيطاليا كل عام احتفالها بأعيادها الوطنية والدينية، وبين هؤلاء وأولئك الإيطاليون المرحون وهم يتأملون هذه الوجوه الغريبة التي لفحتها شمس إيطاليا السافرة.
قلت لصديقتي وأنا أحاورها: «ماذا أعددت لي من فجاءات البهجة والمرح؟ فأشارت إلى الأمام قائلة: «انظر أيها الشاعر، فهنا الليلة شعر، وغناء، وموسيقى» وكُنَّا قد أشرفنا على ميدان إسدرا، أبهج ميادين روما في الليل، ذلك الميدان الذي يرسم محيطه نصف دائرة يبلغ مداها مئات الأمتار، ويحيط به بناءان متماثلان من الطراز الروماني انتثرت المصابيح الكهربائية في عقودهما الوسطى انتثارًا عجيبًا، ففي منتصف كل عقد مصباح من الحديد المشغول لا يختلف عن نظائره في أرجاء الميدان، والتفَّت أنابيب الضوء الزئبقي حول الشرفات والمظلات خطوطًا أفقية وهَّاجة أحالت الليل نهارًا، وبدت النافورة الرائعة في منتصفه، وقد انثالت شآبيب مائها متلألئة تحت الأضواء العاكسة المختفية كأنها دهاليز من أشعة الشمس تمرق خلال الغمام الأبيض، وهذه العقود المتشابكة بمصابيحها السوداء تخيل لك كأنك في طريق «اللوفر» عند المساء، وهذه النافورة تذكرك بنوافير ميدان الكونكورد، ولكن أين هذه من تلك، إن نافورة واحدة من نوافير الكونكورد لا يتسع لها هذا الميدان الذي أراه الآن رحبًا، والذي أشعر بالغبطة وانشراح الخاطر كلما اجتزته عابرًا، واندفعت وصديقتي إلى أحد المشارب، حيث الموسيقى الوترية المترجمة عن أدق اهتزازات العصب الإنساني، والمُعَبِّرة عن أرق ميوله وأحاسيسه!! خلصنا من زحام الواقفين المتسمعين وأخذنا مكاننا حول مائدة صغيرة ساقتنا الصدفة السعيدة إليها؛ إذ لم يكن هناك غيرها خاليًا من الموائد.
وانتهت الموسيقى من عزفها بين عاصفة من التصفيق المهذب المحبوب، وقامت فاة رشيقة فوق المنصة فنزعت لوحة لم أتبينها وعلقت لوحة جديدة، ما كاد الجمهور يقرأ ما كتب عليها حتى اشرأبت أعناقه وتنصتت أسماعه؛ ذلك أن عنوان اللحن «مدام بترفلاي موسيقى بلليني» وبدأت الموسيقى عزفها وسط ذلك الصمت الرهيب الذي لم تعكره صيحة بائع، ولا بوق سيارة، ولا بكاء طفل، ولا نباح كلب، ولا تهامس مستهتر! نحن في ميدان مفتوح يجتازه حولنا ألوف وألوف من الناس، ومع هذا فلن تحس إلا ما أخبرتك به.
صورت لنا الألحان شتى أحلام وذكريات خلتها أطيافًا مرفرفة في ذلك الجو السحري البديع الذي يخلقه الفن القادر خلقًا، ويعيده كيفما شاء، حتى خلت أن الليل نفسه بدأ يزفر، وأن النسمات الندية أقبلت من قمم الجبال والمروج البعيدة وحوافي الجداول، لتسمع هي الأخرى صوت الطبيعة المتفجر بالسحر والجلال، واختتمت الموسيقى عزفها، والتفت المايسترو مواجهًا تلك القلوب الشاعرة والوجوه الشاكرة والأكف الثائرة.
وقامت الفتاة الأولى فنزعت اللوحة الصغيرة، وعلقت لوحة جديدة تبينت اسم لحنها فإذا به «سونيا» تغنيه الآنسة «كارلوتا».
همست صديقتي السويسرية قائلة: هذا لحن رائع، وأغنية عاطفية شاجية! وأخذت تتمايل من الطرب ولمَّا تبدأ الفتاة إنشادها، وهنا ارتفع في وسط المنصة عمود معدني رفيع يحمل معجزة العصر الحديث، معجزة اللاسلكي، وصعدت فتاة ما كاد الجمهور يلمحها حتى دوَّت الأكف بالتصفيق هادرة صاخبة، كانت ذهبية الشعر، وردية الوجه، في ثوب أبيض ناصع يحتكم في جسمها احتكامًا عجيبًا، لم يترك ثنية من ثناياه أو حنية من حناياه إلا أظهرها، فأظهرنا بذلك على المعجزة الكبرى التي تتحدى كل معجزة … المرأة، أو معجزة الخلق.
وقفت الفتاة أمام الجهاز اللاقط تصلحها بيدها حتى استوى إزاء فمها الباسم، ثم دارت في الجالسين بعينين تستبدان بالغرائز، وتستأثران بالمشاعر، وتَرَسَّلَ صوت الأوتار رفيقًا، رخيًّا، ناعمًا، وبدأت إنشادها وهي تضم يديها إلى صدرها الخافق ضمًّا حبيبًا كلما اهتاج اللحن شجاها، أو وافق هواها، أو كلما أومأ لها الفن أن تصدع بما أمرها به، هذه القيثارة الإلهية التي رُكِّبت في لهاتها والتي أخذت تهتز تحت أنامل القدرة، لم تدع للقياثير الصادحة حولها على صدور الشبان والشواب من أترابها صوتًا يشعرك بغير وجودها هي، وغير غنائها الساحر، اللهم إلا حين تسمو النبرة، وتغلو العاطفة غلوها الفني المقدر، ويجأر «الڤيلنشلو» بصوته الأجش الشجي، فهنالك لا إنسان ولا إنسانة، ولا عازفة ولا شادية، ولكنها أرهام من السحر تسمع لوقعها على قلبك نقرًا يستثير أجمل مشاعرك، ويستخف أنبل خلائقك.
وانتهى برنامج الليلة وبدأ الخدم يدورون بالشراب على طلابه، ويجمعون نقودهم ممن همُّوا بمغادرة المكان، وأخذ عشاق الرقص في ارتقاب الفتيات حيث يبدأ ليل جديد بين الكأس والمخاصرة في أبهاء المكان.
وكانت صديقتي — على رقة طبعها ودقة انتباهتها ولطف إشارتها — معنية بكتابة بعض خواطرها أو مذكراتها في مفكرة صغيرة، وكنت أرقبها باسمًا وما كادت ترفع وجهها حتى صاحت معتذرة عن انصرافها عني بهذا الشاغل البريء، وأخذت تجمع حقيبة يدها وهي تقول: هيا يا صديقي فأنت متعب ولا شك … قلت: كلَّا والأمر على خلاف ذلك، ولنا الآن أن نشرب قدحين من الأوروم، وأن نتحدث فيما وعدتني به هذا الصباح، لأن طريقي غدًا إلى «نابولي» كما تعلمين! فأجابت وهي تغض من نظراتها: لقد غلبت حيائي هذا اليوم عندما أرسلت لك بتحية الصباح مع خادمة غرفتك، وحدثت نفسي: ماذا يقول هذا الرجل الغريب عني؟! وماذا يكون ظنه بي؟! على أنك كنت وحيدًا على مائدتك، وكنت أنا وحدي أيضًا، وكنت فاضلًا عندما شكرتني ودعوتني إلى زيارة كنيسة سان بيتر، فإني كاثوليكية ولم يكن أحب إلي من زيارة هذا المعبد، ولست صحفية بصحيح المعنى كما أخبرتك وإن لم أكذب عليك، فإني أشتغل محررة خطابات في بنك … وأراسل بعض الصحف والمجلات بما يهم قراءها من شئون المرأة في الممالك والمدن التي أغشاها كل صيف، وقد جهزت أمس لشقيقتي — رغم الخلاف الذي بيني وبين أسرتي البروتستانتية — هدية جميلة بمناسبة زفافها الذي يتم هذا الأسبوع، وعلي أن أرسلها غدًا، وقد أعددت لها عرضًا جميلًا في غرفتي فقم بنا الآن إلى الفندق حتى أقف على رأيك في هذه الهدية، فإن ملاحظاتك تعجبني … قلت: أوليس لكِ رغبة في القدح الأخير؟ فربَّتت على كتفي وهي تقول: أتريد أن تحتال على تكوين رأي جميل بهذا الشراب؟ قلت: إني رجل متضارب الآراء لا أستقر على حال، والمرأة تزيد في حيرتي إذا وكلت إلي بأمورها، وإنما يشجعني الشراب على البت في شئون النساء فإنهن بارعات في انتحال العيوب، لاذعات النقد يتطلبن من الرجل السداد والكمال في كل شيء … قالت: كفى مزاحًا أيها الشاعر وسأبادلك النخب على أن يكون القدح الأخير، وأفرغنا قدحينا نهلة واحدة ونهضة واقفة وهي تقول: هلم يا صديقي؛ فمشيت إلى جانبها وهي متكئة على ذراعي ونفسي تحدثني بأمرها، وسألتها: وهل شقيقتك يا صديقتي أكبر منك سنًّا؟ قالت: بلى! إنها شقيقتي الوحيدة. فاستطردت قائلًا: أوَليس لكِ خطيب؟ فاصطبغ وجهها حياء وتعثرت لفظة بين شفتيها، قلت: معذرة فما أردت إلا الحديث. قالت: يا صديقي لست تعرفني كل المعرفة فأحدثك طويلًا عن حياتي، ولا علي أن أخبرك أن زفافي أيضًا كاد يكون هذا الأسبوع لو لم أفسد حياتي بالصراحة؛ لأني لم أكن خبيثة يومًا ما. قلت: معنى ذلك أن الرجل أفسد حياتك! فابتسمت قائلة: ليس من حقك أن تعرف أكثر من هذا، وإن كان من حقي أنا أن أخبرك، بيد أني أختصر الحديث اختصارًا، فأقول لك إنك تحمل صورة الرجل المتفتح القلب، فإذا أحببت يومًا فاحذر أن تقول لعذراتك إنك تحبها، كن غامضًا فإن لذَّة الحب في الشعور المبهم، لقد قلت يومًا للرجل: إني أحبك، فتقلص حبه سريعًا، وزايله اندفاعه نحوي، وفارقني عطفه، واستحال مخلوقًا آخر يستغل عاطفتي، ومنذ هذه اللحظة وأنا أخاف الرجل، الرجل الذي يريد أن ينتزع من أفواه العذارى كلمة «أحبك» … وكنا قد وصلنا إلى الفندق.