يومٌ في ڤِرْسَاي
ما أجمل الصباح، وأرق نسماته، وأصفى سماءه، بهذا كنت أحدث نفسي وأنا أنحدر من شارع غاليلي إلى الشانزليزيه العظيم، متذكرًا وقفتي منه من أيام وأنا أستعرض جماله من قمة قوس النصر ذي الشعلة الخالدة اللهب، هذا البناء الضخم متوسطًا ميدان النجمة، تمثَّلتُه في هذه اللحظة فريسة وقعت في خيوط عنكبوت جبار، امتدت من أركان مدينة خيالية، وكأنَّ الشعلة الخافقة اللهب، روح الفريسة المضطربة تتحدَّى المصرع، وتعلن عن قوة الحياة المشبوبة المضطرمة؛ كم من مساء فاتن في باريس، وكم من ليلة ساحر، وكم من صباح جميل عذب كهذا الصباح، يحبب إليك مصافحة النور والنسيم، عاري الرأس، خفيف القدم، وأنت تعبر الشانزليزيه والكونكورد والتويلري حتى اللوفر، الذي احتقب كنوز الأمم، أو إذا جنحت بك النفس، فعطفت من الكونكورد على المادلين وسان ميشيل وحدائق اللوكسمبرج وانسربت بعدها في أبهاء الحي اللاتيني لتستعيد بعض ذكريات جميلة حملتها من مطالعاتك لكتاب وشعراء وفنانين مرحين، ماجنين، عابثين، استقامت بمرحهم ومجانتهم وعبثهم حياة جادة مذخورة بالأدب الحي، والفن المشرق العالي.
لو سلفت لي حياة في هذه الأماكن المعطرة بروح القِدم، لاستغرقتني الذكريات، ولكني رجل حائر قلق، تطالعني الصور من هنا ومن هناك، فألحظها بالنظرة العابرة والتأملات الخاطفة، وسرعان ما أعود إلى نفسي، لأسكن إلى طبيعة هادئة، أفكر فيما أنا مقبل عليه في يومي من عمل أو لهو، ولست رجل مغامرات، ولكن الأقدار تأبى إلا أن تضع في طريقي أينما سرت حادثًا غريبًا، وشاغلًا عجيبًا، وعبثًا أحاول أن أكون الهادئ الناعم البال، وكل ما في هذه المدينة يتآمر علي، شدَّ ما يُشقي الخيالُ أصحابه … فإن كل حجر من أحجار الطريق، وكل ورقة صفراء تنتفض في يد الريح الهبوب، وكل نافذة يضطرب وراء زجاجها النور، وكل مقعد خشبي منتبذ بالظلام تحت أشباح الشجر السوداء، يغريه بالاندفاع، ويدعوه إلى المرح، ويصرخ به: إن الحياة في باريس للمتمرد الخطير، والمتشرد الكبير، فماذا عليك وأنت هنا طليق من أسر العادات واصطناع الوقار، لو عببت من هذه العيون الدافقة وتخفَّفت من ثيابك، وقذفت بنفسك في هذا المضطرب الساحر!
أقتحم هذا الجو العاصف بالشهوات، وانظر من وراء هذا الزجاج، فإن الضوء الضعيف المترقرق في أوكار مونبارناس يؤكد ذلك أن حياة القوم هنا ليست حسًّا محضًا ولا جسدية مطلقة … وأن الخمر التي تعاقرها في الكوبول تحدَّرت من أكرم أعصاب الحياة، وليست من حدائق الرين وكروم الجنوب … وهذه الأجساد العارية في التابوران وأسفينكس والهومير والفولي برجير، هي أسمى ما وصل إليه الفن الإلهي تمثيلًا وتصويرًا، وهي في طريقك غدًا تماثيل وتصاوير يقسرك السحر المودع فيها على التطلع إليها واكتناه سرها العظيم … وإن نبأة صوت تصل إلى أذنك وأنت تجتاز الڤندوم في هدأة الليل، وحركة سيارة تقف إزاءك في الحلك القاتم، فإذا بك مندفع نحوها، وإذا صوت رقيق يسألك عود ثقاب، ويد مرتعشة ترفع سيجارة إلى فمٍ رقيق باسم، وعينان شاخصتان إلى وجهك، فإذا ما أضاء الثقاب، وامتدّضت يدك، واقترب وجهك، أحسست هذه الرغبات التي تتجاوب بها الأدغال في أول فجر للربيع! في هذا المكان، وهذا الظلام الرهيب، وهذا الغموض، وهذا الحنين المبهم الذي يتنازع كائنين غريبين. المجهولُ أيها الشاعر، أروعُ وأغلى ما تبحث عنه في حياتك من كنوز …
وهكذا سرت أحاور نفسي، وأنا أتصفح وجوه الباريسيات المبكرات إلى عملهن، وهن يتخطرن فوق الأرصفة وفي عيونهن من أسرار الليل الذاهب ألق، وفي شعورهن من خمر المساء الغابر عبق، وكنت على موعد، وما هي إلا دقائق حتى كنت أشرب القهوة الفرنسية اللذيذة على إحدى موائد «كافيه دلاييه» ملتقى الغرباء من أبناء الشرقين الأدنى والأقصى، وكان شريكي في المائدة شاب أنيق البزة، حسن الوجه، عرفت منه أنه سوري وُلد بالإسكندرية وأنه يشتغل بتنظيم بعض الرحلات في باريس وضواحيها، وتحدثنا عن ذلك ودعاني إلى الاشتراك في رحلة تمتعني بحظ وافر من البهجة. قلت له: لقد رأيت كل شيء. قال: ولكنك لم تقرأ البرنامج. ودفع إلي ببضع ورقات وأشار بأصبعه إلى إحداها. قلت: لقد زرت فرساي وعرجت على ملمازون وانتهيت إلى فونتنبلو … قال: ولكنها حفلة مساء في حدائق فرساي الفاتنة، موسيقى ورقص أكروباتيك على الأضواء المختلفة الألوان وأسهم من نار وكانت هذه آخر حفلات الموسم. فوافقته على رأيه وفي الميعاد المحدد كنت في السيارة المختارة سيارة المتكلمين الإنجليزية، ودرجت بنا في طريق ضاحية «سان كلو» التي حفل بذكرها القصص الفرنسي، وشاءت الصدفة أن يكون معنا هذا الشاب السوري المرح، فأخذ يمزح مع الركاب بلهجة إنجليزية فكهة، وهو ينظر إلي من حين إلى حين باسمًا، كأنما يحفزني إلى مساجلته، ولكن هذا الخبيث كان قد أعد شيئًا في طوايا نفسه، فوقف وسط السيارة خطيبًا وهو يقول: «سادتي: هنا جنتلمان مصري غريب مثلكم، يتكلم الإنجليزية، وقد لاحظت عليه انفراده بينكم، وكلكم أزواج تتسلون وتضحكون، فمن دواعي سرورنا كجماعة تعنى بتوفير مباهجكم، أن يكون له حظ مشاطرتكم سمركم وحديثكم.» انطلقت كلمات هذا الشاب كأنها أنباء خطيرة يتسمعها قوم معنيون بها، وشخصت العيون إلي، السيدات يبتسمن ويغمغمن علامة المجاملة والتحية، والرجال ينظرون ويشيرون بأصابعهم على الطريقة الفاشتية، والآنسات أين هن؟! هناك وجهان يشرقان بنضارة الصبا، ويتلظيان صحة وعافية. يتوسطهما وجه سيدة كريمة لمَّا تفارقه وسامته وقسامته، عرفتهنَّ فيما بعدُ، فهذه السيدة دينماركية من كوبنهاجن وهاتان ابنتاها، وهما كأمهما من الفتنة والخفَّة ورقة الجانب وعذوبة النفس على قدر عظيم، وددت لو شكرت هذا الخبيث على ما صنع؛ فإن سحر أوروبا ليس ببالغ من نفسك أثره إلا في ظل صديقة تشاطرك غدوك ورواحك، أو تقاسمك مائدتك، أو تبادلك حديثها، أو يناسم عطفها قلبك. ورحت من طربي أشعل سيجارة وأنا أتأمل مفاتن الطبيعة من زجاج السيارة، وإذا بيد تربِّت على كتفي، فالتفتُّ أرى ما هنالك … فوجدت سيدًا أمريكيًّا يسألني عود ثقاب … وأدنيت الثقاب منه فأشار إلى جانبه، فإذا سيدة مشيقة، ناضرة العمر، أنيقة، ضاحكة الوجه، صففت شعرها على طريقة القرن الثامن عشر، وقصَّت جانبيه على طريقة القرن العشرين، عيناها العسليتان يشرق في كل منهما قبس من السحر في إنسانين ضارعين، كأنها طفلة إلهية هبطت لأول مرة عالم الأرض، كانت يدي المرتجفة تدني لهب الثقاب من سيجارتها وعيناها لا تفارقان وجهي كأنهما بوغتتا برؤية مخلوق غريب لا عهد لهما به، واضطربت روحي تحت نظراتها وانطلقت صيحات مجهولة شريرة تصرخ من أعماقي: إنها … إنها المرأة المنتظرة … وفرَّت هذه الأشباح والأصداء على صوت السيارة وهي تقف على أبواب فرساي؛ وجزنا أسوار القصر ودخلنا ردهته وكانت لا تزال إلى جانبي، وكان الزحام عظيمًا جدًّا حتى لا يكاد يعرف الإنسان من أين يمضي وإلى أين يتجه، وصاح الدليل بنا أن نحرص على متابعته، وألَّا نبطئ في ذلك وإلا ضللنا طريقنا في أبهاء القصر وهيهات إلى أن نهتدي من سبيل، واندفعنا إلى الحجرات نتملى جمالها، ونتحسس بأبصارنا المبهورة روعة النقوش ودقة الرسوم، والدليل يروي من أنباء القوم وأسرار حياتهم في هذا القصر المنيف ما يشبه الأساطير، أين لويس الرابع عشر؟ وأين سميَّاه العظيمان من بعده؟ وأين ابن الثورة التي عقها؟ أين أولئك الذين مرحوا في هذه الحجرات، وطالعوا الأمل واليأس من هذه الشرفات؟! كل ما في القصر ينطق بالنعيم الزائل والسلطان المندثر، جدران تكاد لا تعرف فيها أثرها اليد الصناع المقتدرة، وصور يذهب الخيال بين الظل والنور فيها، وسقوف مُوِّجت صفحاتها بالنقوش ومُوِّهت حواشيها بالذهب، كأنها لجة ضربت في شفقين ملتهبين ما بين المشرق والمغرب، وجزنا عتبة الباب العاشر إلى صالة المرايا الكبرى، وانتثرنا في أرجائها نصوب العين حينًا، ونصعدها حينًا آخر، وننقل خطانا على ريث، نستعرض ذكرياتها ونتأمل ما أسبغ التاريخ عليها من جلال وخطر، يا للقدر الساخر والزمن الوثاب!! كم مرت بهذه المرايا أشباح طواها الموت، وتطلعت وجوه زواها التراب وأشرقت ابتسامات أطفأها القدر، ولم يبق إلا صوت يقول إني أشم رائحة الدم!!
خلصت من مآسي هذه الحجرة إلى حجرة المرأة الطفلة، إلى اللاهية العابثة، هذه صورتها معلقة في مكانها كما نقلت عن الأصل المودع في متحف روما، وهذا تمثالها النصفي، ورأسها المترفع الجميل، تيَّاهًا بعنقها المرمري الرقيق الذي حزَّه الفولاذ القاسي، بين الضحك والاستهزاء، أو بين الحقد والبغضاء، يا للأسى! كنا نمر في الحجرات والمخادع التي داسها بقدميه اليائس المحروم، واقتحمها الناقم الغضوب، إنه ثأر لإنسانيته، كان شعوري ذاك الذي صورته لك وأنا أضطرب في هذه الحجرة المشئومة التي احتفظت ببعض أثاثها، حجرة ماري أنتوانيت! جئت لأتسلَّى ساعة من زمن فأعقبتني مسلاتي حزنًا وندمًا، وأورثتني إشفاقًا وألمًا، وهممت بالهرب من هذا الجو، فألقيت نظرة الوداع على وجهها الباسم، وملت عنها إلى النافذة المريضة أتأمَّل الحدائق التي تملأ الأفق، فالتقت نظراتنا … كانت هي أيضًا تنظر من النافذة القريبة، كنت أظنها بعيدة عني، وكنت أحسبني منفردًا بنفسي، ولكنها هي … حيث وقفت بها الأقدار على قيد خطوتين مني، باسمة مشرقة الوجه، ملتهبة الخدَّين بما تحير فيهما من ماء الشباب، كنت أجدها دائمًا إلى جانبي والجماعة تضغطنا ضغطًا كلما جزنا بابًا، أو عبرنا دهليزًا، أو اجتمعنا حول صورة نتملاها، أو أثر ثمين نتحرَّاه، وعبثًا حاولت ألا يمس ثوبي ثوبها أو يمر ظلي بظلها، فقد كنت مأخوذًا بها وكان جمالها خطرًا لا يُستطاع دفعه أو توقِّيه، وكان رجلها ولا شك يعرفها أكثر مني، فكان يرمقني من حين إلى حين بنظر صارم حديد، حتى خُيِّل لي أني مطارَد يلاحقه خوف، أو هارب يتأثره حتف، ولكن هذه الملكة المسكينة كما جنت على زوجها جنت علي … والتفتت إلي قائلة: خسارة فادحة أن تفقد هذه الحجرات أثاثها وأن تُعرَّى من رياشها! قلت: إن الثورة لا عقل لها فهي بنت العاطفة الشرهة الهائجة، وقد أكلت في طريقها ما صادفته. قالت: أعرف ذلك. ولم تكد تتم عبارتها حتى أقبل الرجل، ومشينا معًا إلى خارج القصر ونحن نتندر بما كان من أهله، وأي عدوى من الترف الفاجر قد أصابت خدمه حتى أورثتهم شر أمراض الاستهتار فكانوا يقذفون بالقدر من النوافذ بلا حرج وبلا وازع، وكيف أن طرق التدفئة جميعها قد عجزت عن إرضاء الأميرات والوصيفات والخليلات والمضيفات في الشتاء القارس، فكن يستلقين على الأرائك الوثيرة متأطرات على فوهات المدافئ المتنقلة، مشمرات عن سوقهنَّ، نصف عاريات، لينعمن بالدفء، ويعرضن أجسامهن للحرارة بينما تستغرقهن الأحاديث اللذيذة والأسمار العذبة، وكان طربها بهذا الحديث شديدًا فألقت سؤالًا غريبًا قالت: أشيِّد قصر فونتنبلو لماري أنتوانيت؟ فلم أحر جوابًا، ودس الرجل يده في جيبه فأخرج كتابًا صغيرًا قلَّب فيه بضع صفحات وهو يغمغم بأنفه: وأقامت فيه مدام دي پاري، فهتفت مازحة: وهنَّ مشيداتُ القصور! قلت: ما في ذلك غرابة ولا هو بمستكثر عليهن. فاسترسلت في مزاحها قائلة: ومن تعني؟ فتدخل الرجل قائلًا: يعني الجميلات الفاتنات. وكأنما أراد بهذه العبارة أن يشعرني بوجوده، فاندفعت قائلًا: وفيهن خيِّرات فاضلات، وإن أنس يا سيدتي، فلن أنسى ذلك القلب المودع في صندوق على رفرف الأنڤليد، قلب المرأة التي شاركت چيروم حياته أملًا وألمًا، فأوصت بأن يرفرف قلبها على قبر زوجها، حقًّا لقد كان چيروم عظيمًا كشقيقه نابليون.
وانصرفنا إلى حديث الفنِّ فسألتني أرأيت أروع وأفخم من هذا القصر وحدائقه الغنَّاء؟
فأجبتها قائلًا: ليس للفخامة ولا الضخامة حساب كبير في رأي الفن الحديث، فإن للرشاقة جمالًا، وللبساطة روعة، وهذا الطابع المعماري نراه في كثير من قصور أوروبا بله فرنسا، وليس غريبًا على فونتنبلو واللوڤر والتريانون والباليه رويال والأنڤليد أيضًا، وأنت ترين الصور والنقوش المزدانة بها تلك الحجرات وكأنَّما استعيرت من بعضها البعض وإن شئت فهي من بلاد غير بعيدة، في قصر السنيوريا بفلورنسا، وقصر الدوج بالبندقية، ولا أحدثك عن الفاتيكان وروائعه، أما هذه العمد الضخمة والرفارف العريضة المطلة من فوقها فهي من بلاد أخرى غير بعيدة أيضًا، وقد أخذ الفرنسيون عن الفن الروماني أجمله وأبدعه، وأخذوا عن الفن الإغريقي أرشقه وأروعه.
قالت: وهناك أيضًا بلاد غير بعيدة عن روما وأثينا، وعنها أخذ العالم أرفع الفنون. قلت: بل لا يزال يأخذ عنها يا سيدتي! فابتسمت قائلة: ومن أنبأك أنها بلادك؟ قلت: في إشارتك اللطيفة ما يغني يا سيدتي، ومصر تحمد لك هذا الاعتراف بلسان أحد أبنائها. فبدت على وجهها علائم بهجة خفية وهي تنظر إلى ذوائب الأشجار السابحة في لجة الشفق الأحمر وكنا قد وصلنا إلى تمثال فاتن يمثل فتاة عارية تسبح في الماء.
فسألتني قائلة: أيعجبك هذا التمثال؟ فأجبتها: بل ويكاد يفتتني. قالت: وما سر إعجابك؟ قلت: هذه الحياة التي تكاد تدبُّ فيه، بل هذا الجسد الفاتن وإن صيغ من جماد هامد! قالت: ولماذا خلا فنكم القديم من هذا اللون؟ قلت: تعنين الأجساد العارية؟ قالت: بلى. قلت: كان ذلك خضوعًا ولا شك لروح الديانة، وأنت تعرفين أن الفراعنة وهم أبناء الآلهة قد خضعوا في حياتهم وحكمهم للكهنة وطقوسهم، فكيف بالفنانين وهم من أبناء الشعب الذين كانوا لا رأي ولا سلطان لهم. ولا عجب في أن يتأثر كل شيء في هذا البلد بروح الديانات، فمنه استمدت الشرائع جميعها هذه الطقوس التي نقرأها، ولقد كان المصريون القدماء أعلى بصرًا بالحياة وأسمى بالروحانيات دنيا، بيد أني أحب أن ألقي ضوءًا على هذه الناحية فأنت ولا شك قد زرت مصر! قالت: وأتمنى عودة إليها من جديد، وحياة طويلة على ضفاف نيلها، بين رمال صحرائها وأشباح نخيلها. قلت: وهل زرت الأقصر؟ قالت: وعرفت سِر القرود في مقبرة توت عنخ آمون.
قلت: وهل رأيت ذلك «الكاباريه» في مقبرة «نَخْتْ»؟ قالت: ورأيت «الأرتست» العاريات. قلت: حسنًا؛ فهذه المقبرة صورة من الرغبات المكبوتة التي كانت تضطرب تحت ضغط الكهنة؛ فقد حرَّموا على الفنانين تمثيل الأجساد العارية! ومما أذكره أنَّ فنَّانًا حُرًّا لم يطق صبرًا على هذا الحرمان فصنع تمثالًا عاريًا صغيرًا، ولكنه خشي العاقبة فتخلص منه بإلقائه في مقبرة الأميرة «تِسِنْ» التي اكتشفت منذ أعوام في حرم الأهرام؛ وقد رأيت هذه التمثال غير متقن الصنع، نتيجة الاضطراب الذي يطوف بأفكار الثوار ويظهر أثره في أعمالهم، ولكن هناك يا سيدتي أمرًا آخر مرجعه النفس، فإن للأجواء آثرها الغالب في تكوين الميول وصقل الأذواق كأثرها في تكوين الأجسام، وفي ذلك الجو المصري السافر الذي يكاد يروع البصر إشراقه، حتى لتعظم فيه دقائق التركيب وتبرز خفايا الصنع، في مثل ذلك الجو تنزع النفس إلى شيء من الحجاب، وتحاول إخفاء بعض النواحي المكشوفة المفضوحة، إنها اللا شعورية الفنية التي تؤثر الغموض والإبهام أحيانًا وهذا على العكس من الأجواء الأوروبية المحجبة القائمة التي يختنق فيها البصر، فإنها تقتضي الكشف وتلزم السفور، ومن هذا ترين يا سيدتي أن الفنان المصري نصيبه من الإحساس الفني بالجمال، وقدره الرفيع من التعبير عنه.
وكنت أتكلم بحماسة واندفاع بَالِغَيْنِ كأنني أُنشد قصيدة من ذات نفسي، وكنت ألمح إعجاب السيدة ورضاء الرجل وانتهى مطافنا إلى المطعم القريب فتناولنا عشاء شهيًّا وأقبل المساء … وانتهى الليل بانتهاء حفلة عيد الحرية في حدائق فرساي … وطلع علينا الفجر والسيارة تجتاز بنا غاية بولونيا بين سقسقة العصافير وتغريد العنادل.
وبعد أيام، وقفت أتأمل أنوار باريس الباهرة وأنا واقف في ممر العربة والقطار ينهب بنا الطريق إلى لوزان فإذا بصوت عذب ووجه ساحر أعرفه، وابتسامة تومض بها شفتان، ويد غضة ترفع سيجارة إلى فم رقيق … وهي تضحك وكأنها تذكرني بأول ثقاب أشعلته لها … ورحت أتنسم عطر دخانها وقد همَّت بالانصراف وهي تقول: أرجو لك سفرًا سعيدًا ولعلك ذاكري يومًا في مغرب شمس على ضفاف النيل، أو في أمسية من أمسياتك المصرية المرحة، ومدت يدها إلى يدي مودعة، فرفعتها إلى فمي وانحنيت أطبع عليها بقية القبلة وقد انزلقت شفتي الجافة على بشرتها الناعمة … ووقفت أرقبها وأنا أكاد أنوء بالسِّر العظيم وقد بدأ خيالها يختفي في الممر الطويل وهي في زيها البديع ومشيتها الساحرة.