الشَّاعرُ وكتابه
إلى الوراء أيها الموت، إلى وجرك أيها المتلوِّن الختَّال، إني أسترقُ أنفاسي من جذور هذا النبات، أَنشِبْ براثنك ما شئت، واستثر كل ما فيك من قوة، فستجهد كثيرًا، وستضيق بضجرك ليالي طويلة، وستطمر كثيرًا من العظام قبل أن تسحق عظمةً واحدةً من هيكلي الرقيق.
ومتى يدركني الموت؟ ومتى يحل بي الفناء؟
أعندما يشيع الذبول في هذا الجسد، ويلفُّ نبات الأرض هذا الرأس بضفائره الصُّفر؟ أعندما يقف العشاق يعجبون مني ويتساءلون عني، مَنْ أكون؟ أنا ذلك الراقد تحت أطباق الثرى محتجبًا عن ضوء القمر؟
أهذا فنائي الأبدي أيها الموت؟ أعندما يقف هذا القلب عن خفقانه فلا يردد شهيقًا ولا يُصَعِّدُ زفيرًا؟
أبهذه النهاية المهينة تلاشى روحي أيها الموت؟
آه … عندما يذوب ثلج الشتاء، أيها الأصدقاء، ويساقط ذوبُهُ الرغام والهشيم فلا تبكو علي، ولا تندبوني يا رفاقي.
ليس في شيء من هذا معنى من معاني فناني … بل تحققوا موتي الخالد، في تلك الساعة التي لا يجد كتابي قارئًا له … ساعة تتلقفه الأرض ويطويه الخمول ويحجبه النسيان، فلا يضمُّهُ صدر، ولا ترتفع له صيحةُ مُعجَبٍ بالشيء الذي لم يُروَ بعد، هذا الذي تنطوي عليه صحائفه.
وعندما تُرِثُّ كثرة العرض نسخةً من أكداسه، فلا تجدُ من عَرَضِ الناس شاريًا بعد طول انتظار، ينقدها الثمن البخس، ويأخذها صفقة غبن.
وعندما تُلقى أكوامًا مهملة مركومة في طريقٍ قذر، تلطخُه العجلات العابرة بالوَحْل والدنس.
أيها المعجب … قف قليلًا وانظر خلال غبار القرون، وتناول هذا الكتاب ثم قلِّبْ صفحاته المهلهلة بيدٍ رفيقة؛ اقرأني ولا تكلني للموت!
تَقَصَّ هذه الرسائل الذَّابلة، والمس المناعة في هذا الغلاف الحزين، تجدني ملء قلبك وسمعك، فقد كنتُ يومًا ذات هذا الكتاب!
عندما تحول هذه الشرايين أليافًا في جسم الأرض، فانظر إلى هذين المحجرين الغائرين، تحت هذا الحَبِّ النامي المستوفز لعودة الربيع، وهو يخترقهما بجذوره المنطلقة انطلاق النيازك المنقضَّة، واشهد هذه العروق الوردية، وهي تهوي إلى قرارة هذا الأصيص الأسود (يعني جمجمته) ثم تنفتل لتصوب صعدًا كأنَّما تتنسم المطر!
أيها الصبية … أيتها الصبايا، إذا استلقيتم تحت هذا السياج، وأخذتم بأسباب النجوى، فاذكروني ولا تكلوني للفناء؛ أيها الشبان، أيتها الشابات، أنتم أيها المتخطرون في الغابات محدِّقين إلى طَلْع الغار الوردي، مستغرقين في البكاء والعتاب، امزجوني بعهودكم ووعودكم.
لا تتركوني للموت! أيها المزارعون الرائحون تحت الغيم الرقيق، وتحت الشمس المتلألئة، واذكروني عندما تهيئون حصادكم، وتجمعون الحبَّ من ذوائب الشجرات اليابسة، وعندما يلوِّح لفحُ الظهيرة القائظة ثمر الفِرصاد فيستحيل جَنًى شهيًّا.
وأنتم أيها الرعاة المتطلعون من أعالي التلال، حيث المروجُ الخضرُ وسنانة تحلم بجلجلة الأجراس، مُرِنَّةً في أعناق القطيع الأمعط.
وأنتم أيها الملاحون! أيها الصارخون في صخب العاصفة، أيها الصيادون التائهون في صقيع الشتاء وفي بُهر الجليد الأشهب.
اذكروني ولا تكلوني للموت!!
أيها الرجال! يا من يشتهون الرقاد، ويا من يشترون باليقظة لحظات من المرح، إذا ما مرَّت بكم أغنية قديمة، ذات روعة وصفاء، فاذكروني، إنها صادرة مني.
أيتها النساء المكدودات، أيتها المتلمسات شيئًا من الراحة إلى أن يغلي القِدْرُ، انتزعنَ مني بعض السلوى وخذنَ مني مسراتكنَّ؛ وأنتنَّ أيتها الباكيات في أعماقهنَّ حتى لا يكدِّرن بالبكاء نوم الرجال، امزجنني ببكائكنَّ.
أيها الأطفال، أيها السارقون من ضحكات العجائز، لتركعوا عند جِزع مُنَقَّط بالندى، أو تحت طنفٍ تَزويه الأشجار العارية، لتتندروا بأحاديث القداسة والحب، وأقاصيص الأبطال واللصوص، وأساطير المَرَدة! اذكروني ولا تكلوني للموت.
إن الشمس التي تضيء في الليل، والجبال الراسية على هذه الأودية، تحملني إلى النور حيث أُراوحكم وأُغاديكم من هذه الشرفة كهذه الطيور المرفرفة عليها.
وأنت أيها اللحاد!! امضِ في عملك، اغمرني بوابلٍ من حصبك، ثم ثَنِّ بهذا المعول، فستنفرط عقود كثير من الأزهار، وسيصدأ كثير من الأكاليل وضفائر الذهب، وسأمضي أنا في غنائي بينما تطمر أنت هذه الأكوام صلصالًا سافيًا في الأرض.