وشعر دي فيني كما وصفه «سنت بيف» يجمع بين الآلام والاستسلام والفخار وهو شعر البطولة
والمآسي، شعر القلب الأبي الجريح، شعر المتشائم الرقيق الشعور، الناطق في حالتي اليقظة
والشرود بروح المتصوف العذبة، ورموزه الساحرة، في أسلوب يبدو أحيانًا غامضًا، ولكنه
عظيم وخلَّاب؛ ويبدو أحيانًا أخرى فظيعًا في صراحته ولكنه لم يقل فيه كل شيء عن أسرار
قلبه التي ظل محتفظًا بها حيال القدر الأخرس.
فهذه العبارات الغامضة التي تحتمل الكثير من التأويل وهذه الأخيلة المتشعبة التي يذهب
فيها الفكر بعيدًا، حاولنا أن نوفِّق بين أمانة النقل وبين تعريبها واضحة جلية في هذه
الترجمة التي ننسخ بها ترجمة أخرى سبق نشرها من قبل.
إن يَكُنْ قلبُكِ الشجي المعنَّى
أرهقتْه حياتُنا أعباءَ
مثل نسرٍ دامي الجناحين مُضْنًى
مستميتًا يصارعُ الإعياءَ
حاملًا فوق مُسْتَرَقِّ جناح
مثل قلبي من بؤس هذي الحياة
عالمًا قاتلًا سَحيق النواحي
باردَ الجوِّ، حالك الظلمات
رازحًا في عذابه يتلوَّى
مُثْقَلًا من فوادح الأعباءِ
كلما ضجَّ تحتهن تنزَّى
جرحُه الخالدُ السخينُ الدماءِ
أو يَكُنْ بات لا يرى الحبَّ، هذا
الكوكبَ الهادي الصدوق الوفيَّا
من له وحده يضيء، ويجلو
الكون في ناظريه أفقًا وضيَّا
أو تَكُنْ روحُكِ السجينة عافتْ
ذلك الخبز في الحياة طِلابا
هو خبزُ الأسير في القيد باتتْ
نفسُه من مواردِ الحتفِ قابا
يَتلقَّاه مُكْرَهًا بيديه
ملقيًا من يمينه المجدافا
وهو يحني للبحر شاحبَ وجه
بينما يندبُ الحياة اعتسافا
وهو بينا يقتافُ في الهدَّارِ
مَنْفَذًا بين موجه للفرارِ
إذ يَرَى فوق مِنْكَبٍ منه عاري
وصمة الذلِّ صُوِّرَتْ بالنارِ
أو يَكْن جِسمُك الحيي عَرَتْه
هِزَّة من عواطفٍ كامناتِ
بعدما ملَّ عالمًا أرهقتْهُ
في حماءُ جوارحُ النظرات
باحثًا في قصي تلك الحزونِ
ليداري جماله الفتَّانا
عن مكان من العيون مصونِ
فيه يَحمي جلالَه أن يُهانا
أو تَكُنْ منكِ عافتِ الشفتانِ
كاذبَ القول تستقيه سُماما
أَو يكُن قد تورَّدَ الخدَّانِ
خجلًا من رُؤًى مُلِئْنَ أثاما
فاهجري المُدْنَ وارحلي لَا يسِمْكِ
ذل عيش فيهنَّ غيرُ طليق
ارحلي الآن! لا يَنَلْ قدميكِ
دَنَسٌ من غبار هذا الطريق!
أشرقي من سماء فكرك حينًا
وانظريها في ذِلَّة وإسار
نُصِبَتْ للخلائق المرهقينا
كصخور قُدَّتْ من الأقدار
وانظري للحقول والغابات
حُرَّةً طَلْقَة كهذا البحر
حول تلك الجزائر المعتماتِ
وَلْتكُنْ في يديك طاقة زهر
تجدين الطبيعة الآن منكِ
في انتظار رهيبة الإصغاءِ
والثرى مرسلًا على قدميكِ
من تعاشيبه سحابَ الماءِ
وإذا الأرضُ من غروبِ الشمس
رتَّحتْها تَنَهُّدَاتُ الوداعِ
وإذا هذه الزنابق تُمسي
وهي تهتز بالأريج المضاعِ
واختفى في فضائه الجَبَلُ النا
ئي، ومُدَّتْ معابدُ الصفصافِ
ناصلاتِ الألوانِ في صَفْحَة الما
ءِ غصونًا نَقيَّة الأقوافِ
وتهادى هنالك الشَّفَقُ العا
ني لِيَلْقَى وِسادَه في الوادي
فوق عشبٍ من الزمرد فتَّا
نٍ وعُشْبٍ مُذَهَّب الأبراد
تحت هذي الجزوع مستحييات
حيث هذا النبع الفريد النائي
بين هذي الخمائلِ الحالمات
وهي تهتز رِعْدَةً في الفضاءِ
حيث يسري مُسْتخفيًا في حجبه
لائذًا بالكروم مِثْلَ الظلِّ
ملقيًا في الغدير شاهب ثوبه
فاتحًا في المساءِ سِجن الليلِ
فوق طودي نَبْتٌ كثيف تحامى
خطواتِ الصيَّاد عند الدبيبِ
عاليًا عن جباهنا يتسامى
وهو مثوى الراعي، ومأوى الغريبِ
فتعالَي هنا نجددْ ذمامَا
ونخبِّئْ خطيئة وغرامَا
قُدِّسَتْ من خطيئة، لا أثامَا
قد دفعنا لفعلها إلهامَا
وإذا كان ذلك العشبُ خفضَا
وهو يهتزُّ هِزَّة المرتاعِ
فَتعالَي! إني أدحرجُ أرضَا
لك تحت الظلام بيتَ الرَّاعي!
هو بيتٌ يسري على عجلاتِ
سَمْتَ عينيك سَقْفُه المزدانُ
عاطرُ الباب مُعْتِمُ الرحباتِ
مثل خَدَّيْكِ لونُه المرجانُ
فيه ظِلٌ وفيه زهرٌ نضيرُ
بينها خلوةٌ لنا وتداني
مُخْدَعٌ صامتُ الفراش وثيرُ
يلتقي فيه شَعْرُنا في حنان!