رؤية المجرة
بدا لنا الآن أنَّ متاعب العوالم العديدة في هذه المجرَّة قد انتهَت أخيرًا، وأنَّ الرغبة في دعم طوباوية المجرة قد أصبحَت الآن عامة، وأنَّ المستقبَل سيَجلب بلا شك مجدًا بعد مجد. وقد كنا مُتيقِّنين من حدوث التقدم نفسه في المجرات الأخرى. ومن سذاجتنا رحنا نتطلَّع إلى النصر السريع والنهائي والمكتمل للروح المجاهدة في جميع أنحاء الكون، بل إننا قد تصوَّرنا أيضًا أنَّ صانع النجوم قد ابتهج بإتقان صنعه. وإذ رحنا نستخدم مثل هذه الرموز بقدر ما كنا نستطيع للتعبير عما لا يُمكن وصفه، تخيلنا أنه قبل البداية، كان صانع النجوم وحيدًا، وأنه قد قرَّر من أجل الحب والاتحاد أن يصنع مخلوقةً مثالية لتكون رفيقة له. وقد تخيلنا أنه صنعها من شغفه بالجمال ورغبته في الحب، لكنه أيضًا قد جلدها في أثناء الصنع وعذَّبها كي يتسنَّى لها في نهاية المطاف الانتصار على جميع الشدائد؛ فتتمكَّن من تحقيق ذلك الكمال الذي لم يتمكَّن هو بعظمتِه قط من تحقيقه. وقد تصوَّرنا أنَّ تلك المخلوقة هي الكون. ومن سذاجتنا بدا لنا أننا قد شهدنا بالفعل الجزء الأكبر من النمو الكوني، وأنه لم يتبقَّ سوى ذروة ذلك النمو، وهي أن يُصبح الاتحاد التخاطري بين جميع المجرات هو رُوح الكون المفرَدة المُكتمِلة اليقظة، والتي تكون مثالية ولائقة بأن يتأمَّلها صانع النجوم إلى الأبد ويستمتع بها.
بدا لنا ذلك كله صوابًا على نحو مهيب، غير أننا لم نجد فيه أي متعة. كنا قد تشبعنا بمشهد التقدم المستمر والظافر في العصر المتأخِّر في مجرَّتنا، ولم يَعُد لدينا من حب للاستطلاع بشأن المضيفين في المجرات الأخرى. من شبه المؤكَّد أنهم كانوا شديدي الشبه بالمضيفين في مجرتنا. لقد كنا في حقيقة الأمر في أشد حالات الإرهاق وخيبة الأمل؛ فعلى مدار الكثير جدًّا من العصور، تابعنا مصائر العديد من العوالم. وفي معظم الأحيان اختبرنا عواطفها، التي كانت جديدة عليها، لكنها كانت مكرَّرة بالنسبة إلينا في مُعظمها. لقد تشاركنا معهم جميع أنواع المعاناة، وكذلك جميع أنواع المجد والعار. والآن حين بدا أنَّ المثل الكوني الأعلى، وهو التيقُّظ الكامل للرُّوح، على شفا الإدراك، وجدنا أننا قد سئمناه بعض الشيء. ماذا يهمُّ إن كانت الروح المثالية تدري بدراما الوجود الضخمة بأكملها على نحو دقيق وتتلذَّذ بها أم لا؟ ماذا يُهمُّ أن نُكمِل نحن أنفسنا رحلتنا أم لا؟
على مدار الكثير جدًّا من الحقب، تمكَّنت رفقتنا الموزَّعة في جميع أرجاء المجرة بصعوبة من الحفاظ على عقليتنا الواحدة المشتركة. كنا في جميع الأوقات على الرغم من تعدُّدنا «أنا» واحدة، هي المراقب الوحيد للعوالم الكثيرة، غير أنَّ الحفاظ على هذه الهوية كان يُصبِح في حدِّ ذاته أمرًا مُضنيًا. كان النعاس يغلب على هذه «الأنا» وكنا «نحن» الأفراد المتعدِّدين نتوق إلى عَوالِمنا الأصلية الصغيرة، إلى بيوتنا، إلى مخابئنا، إلى البلادة الحيوانية التي كانت تعزلنا عن جميع الأمور الضخمة. أنا، الرجل الإنجليزي على وجه التحديد، كنتُ أتوقُ إلى النوم بأمان في تلك الغُرفة حيث كنتُ أنا وهي ننام معًا؛ فتتلاشى مطالب اليوم الملحَّة جميعها، ولا يتبقَّى سوى النوم وذلك الوعي الغامِض المسالم لكلٍّ منَّا بالآخر.
وبالرغم من أنني كنتُ مُتعبًا بما يفوق قدرتي على التحمُّل، فقد جافاني النوم. ظللتُ بحكم الضرورة مع زملائي ومع العوالم الكثيرة المُنتصِرة. وببطء، استفقنا من نعاسنا على اكتشاف؛ لقد اتَّضح لنا تدريجيًّا أنَّ المزاج السائد على ذلك العدد الهائل للغاية من أنظمة العوالم الطوباوية كان في صميمه مختلفًا كل الاختلاف عن مزاج النصر. لقد وجدنا أنَّ العوالم جميعها على اقتناع عميق بضآلة جميع الكائنات المُتناهية وعجزها مهما بلغت درجة سموها. التقَينا في أحد العوالم بشاعِر من نوعٍ ما، وحين أخبرناه بمفهومنا عن الهدف الكوني قال: «حين تَستيقظ الكون، إن كانت ستَستيقِظ على الإطلاق، فلن تجد أنها هي المحبوبة الوحيدة لصانِعها، بل محضُ فقاعة صغيرة تَنساب بغير هُدى على محيط الوجود اللانهائي السحيق.»
ما قد بدا لنا في أول الأمر على أنه مسيرة جبارة للأرواح العالَمية الشبيهة بالإله، والتي كلُّ موارد الكون في أيديها والخلود بالكامل بانتظارها، صار يبدو لنا الآن تدريجيًّا على شاكلة مُختلِفة للغاية. لقد جلب التقدُّم العظيم في القدرة الذهنية وتحقق العقلية المُشتركة على مستوى الكون، تغيرًا في خبرة الزمن؛ فقد توسَّع النطاق الزمني للعقل بدرجة كبيرة للغاية. لقد كانت العوالم المُتيقِّظة تشعر بالحقبة على أنه يوم مُزدحِم فحسب. لقد كان شعورُها بمرور الزمن يُشبه ما قد يَشعُر به رجل يبحر بزورق في نهر بطيء عند منابعه، لكنه يتحوَّل إلى جنادل بعد ذلك ويُصبح أسرع فأسرع، إلى أن يَندفِع بعد مسافة ليست بالكبيرة على هيئة شلال أخير في البحر، أي النهاية الأبدية للحياة، والتي تتمثَّل في انقراض النجوم. ومع مقارنة الفترة الصغيرة المُتبقية بالمهمَّة العظيمة التي كانت ترغب بشدة في تنفيذها؛ وهي تحقيق اليقظة الكاملة للروح الكونية، رأت أنه في أحسن الظروف ما من وقت لديها لتُضيِّعَه، والأكثر ترجيحًا أنَّ أوان تحقيق هذه المهمة قد فات بالفعل. وقد راودها توجُّسٌ غريب بأنَّ كارثة غير متوقَّعة تكمُن في انتظارها. فكان يُقال في بعض الأحيان: «إننا لا نَعرف حتى ما تُخبئه النجوم لنا، فما بالنا بصانع النجوم!» وكان يُقال في بعض الأحيان: «يجب علينا ألَّا نطمئنَّ ولو للحظةٍ واحدة، إلى صحةِ أفضلِ ما توصلنا إليه من معارف عن الوجود؛ فهي ليست سوى وعيٍ بالألوان التي ترسمها رؤيتنا على غشاء فقاعةٍ واحدةٍ في طبقة واحدة من الزَّبد على محيط الوجود.» إنَّ هذا الشعور بحتمية عدم كمال جميع المخلوقات وجميع إنجازاتها، قد منح اتحاد عوالم المجرة سحرًا وقداسة، وكأنه زهرة رقيقة قصيرة الأجل. وبشعور متزايد بالجمال المتداعي، كنا نحن أنفسنا نتعلم الآن كيفية النظر إلى تلك الطوباوية البعيدة. وفي تلك الحالة المزاجية مرَرنا بخبرة مُميزة.
كنا قد انطلقنا في عطلة من الاستِكشاف طالِبِين الراحة من التَّحليق غير المتجسِّد في الفضاء. بعد أن جمعنا رفقتنا من جميع العوالم، تمركزنا بأنفسنا في وعي واحد متحرِّك، ثم رحنا ننساب وندور فيما بين النجوم والسُّدُم، على هيئة كائن واحد. الآن كان الهوى قد ساقنا إلى الاندفاع نحو الفضاء الخارجي. أسرعنا حتى تحوَّلت النجوم الأمامية إلى اللون البنفسجي، والخلفية إلى اللون الأحمر، ثم حتى تلاشت النجوم الأمامية والخلفية كلتاهما، وحتى اختفت جميع المعالم الظاهرة بفعل السرعة الجنونية التي كنا نُحلِّق بها. وفي الظلمة التامة، تَفكَّرنا في منشأ المجرات ومصيرها، وفي التناقُض المروع بين الكون وحيواتنا المنزلية الضئيلة التي كنا نتوق إلى العودة إليها.
الآن كنا في فترة من الراحة، وقد اكتشفنا حينئذٍ أنَّ موقعنا ليس كما توقعناه. فالمجرة التي انطلقنا منها كانت تقع خلفنا بالفعل على مسافة بعيدة، ولم تكن تزيد في الحجم عن غيمة كبيرة لكنها لم تكن بالشكل الحلزوني البارز الذي كان ينبغي أن تكون عليه. وبعد فترة من الارتباك الذهني، أدركنا أننا كنا ننظر إلى المجرَّة في مرحلة مبكِّرة للغاية من وجودها، بل قبل أن تصبح مجرة بالفعل على الإطلاق. إن الغيمة لم تكن غيمة من النجوم بل غيمة رقيقة مستمرة من الضوء. رأينا في قلبها بريقًا مُبهمًا راح يخبو بهدوء في المناطق الخارجية المعتمة ويندمج دون حدٍّ واضح في السماء السوداء. وحتى السماء نفسها كانت غريبة بعض الشيء؛ فبالرغم من أنها كانت خالية من النجوم، اكتظَّت بعدد كبير من الغيوم الشاحبة. بدا أنَّ المسافة بيننا وبينها أكبر مما هي عليه بيننا وبين المكان الذي أتينا منه، لكنَّ العديد منها قد تكتَّل في مجموعة كبيرة في حجم كوكبة الجبار في سماء الأرض. كانت السماء مكتظة للغاية حتى إنَّ العديد من الأجسام الضخمة قد التحمت أطرافها الرقيقة بعضها ببعض، والعديد منها لم يكن يَفصل بينها سوى قنوات من الفراغ التي بدَت من خلالها آفاقٌ من السُّدُم الأكثر بعدًا، والتي كان بعضها بعيدًا للغاية حتى إنها لم تكن تبدو إلا كبُقعة من الضوء.
كان من الواضح أننا سافَرْنا عبر الزمن إلى الماضي حين كانت السُّدُم العظيمة ما تزال جيرانًا قريبة بعضها من بعض، قبل أن تكون الطبيعة التفجُّرية للكون قد فعلت ما هو أكثر من فصل هذه السُّدُم من المادة الأولية المُلتحِمة المكتظَّة.
وبينما رُحنا نُشاهد، اتَّضح لنا أنَّ الأحداث كانت تتكشَّف أمامنا بسرعة مُذهِلة. كانت كل غيمة تَنكمِش على نحوٍ ظاهر وتنسحب بعيدًا، وكانت تُغيِّر شكلها أيضًا. كل مدار مُبهَم المعالم كان يُسطَّح بعض الشيء ويصبح أكثر تحديدًا. وإذ كانت السُّدُم تتراجَع ومن ثمَّ تتضاءل؛ فقد صارت تبدو الآن كغيوم عدسية الشكل مائلة من جميع الزوايا. بالرغم من ذلك، فحتى في أثناء مُشاهدتنا، كانت تَنسحِب بعيدًا إلى أعماق الفضاء؛ حتى صار من الصعب مراقبة تغيُّراتها. سديمنا الأصلي فقط هو الذي ظلَّ بجوارنا على هيئة شكل بيضوي ضخم يمتدُّ إلى مُنتصَف السماء. وعلى هذا، قد ركزنا انتباهَنا الآن.
بدأت الاختلافات تتَّضح فيه؛ صارت الغيوم الرقيقة في بعض المناطق أكثر سطوعًا، وفي البعض الآخر أقل سطوعًا، فتشكَّلت شرائط وتموُّجات خافتة كالزَّبد على موج البحر. تحرَّكت هذه المعالم المبهمة ببطء مثلما تتحرك قطع السحاب على التلال. صار من الواضح الآن أنَّ التيارات الداخلية في السديم تَتبع في مجملها نمطًا مشتركًا. كان ذلك العالم العظيم من الغاز يَدور حول نفسه ببطء في واقع الأمر، على نحوٍ شديد الشبه بالإعصار. ومع دورانه حول نفسه، كان يستمرُّ في التسطُّح. كان يبدو الآن كصورة ضبابية لحصاة مُسطَّحة ومُقلَّمة بالخطوط، تصلح للعبة «رمْي الحَصى على الماء»، تقع على مسافة قريبة للغاية من العين فلا تتَّضح معالمُها. لاحظنا الآن بحاسَّة بصرنا الجديدة والمُدهِشة، أنَّ نقاطًا مجهرية من الضوء الأقوى كانت تَظهر الآن في مناطق مُتفرِّقة على الغيمة، لا سيما في المناطق الخارجية. وفي أثناء مشاهدتنا، ازداد عددها وأظلمَت المسافات فيما بينها. وبهذه الطريقة، وُلِدت النجوم.
كانت الغيمة العظيمة ما تزال تتمدَّد وتتسطح. وسرعان ما صارَت قرصًا من تيارات النجوم الدوارة وجدائل من الغاز غير المُتكاثِف، وهي آخر الأنسجة المُتفكِّكة من السديم الأوَّلي. استمرَّت هذه في الحركة ضمنَ الكيان الكُلي من خلال نشاطها شبه المُستقِل، فراحَت تُغيِّر أشكالها وتزحف كالكائنات الحية، وتُمدِّد أقدامها الكاذبة وتختفي بوضوح مثلما تَختفي الغيوم، لكنها كانت تفسح المجال لأجيال جديدة من النجوم. كان قلب السديم يَتكاثَف الآن إلى كتلة أصغر تزداد معالمها وضوحًا. صار كرة ضخمة مُحتقنة بالبريق. وفي أرجاء القرص، ظهرت عقد وتكتُّلات من الضوء كانت هي أجنَّة عناقيد النجوم. وانتثرت في السديم بأكمله تلك الكرات الزغبية الرقيقة الشبيهة بكرات الزينة الخيالية المُتلألئة، وكلٌّ منها كانت حُبلى في حقيقة الأمر بكون صغير من النجوم.
استمرت المجرة؛ إذ صار من المُمكن الآن تسميتها بهذا الاسم، في الدوران على نحو ظاهر بانتظام شديد. انتشرت جدائلها المؤلَّفة من تيارات النجوم على امتداد الظلام. الآن قد بدَت كأنها قبعة ضخمة بيضاء عريضة الحافة، ذروتها كتلة لامِعة، وحافتها حيز رقيق من النجوم. لقد كانت قبعة كاردينالية دوَّارة. كانت الجديلتان الطويلتان الدوارتان على الحافة تيارَين حلزونيَّين طويلَين من النجوم. وقد انفصَلَت أطرافهما المُهترئة وأصبحت مجرَّات فرعية تدور حول النظام المجرِّي الأساسي. تأرجح الكيان الكلي كقمة دوارة ومال أمامنا، وبدَت الحافة كشكلٍ بيضاوي يَزداد ضيقًا أكثر فأكثر، حتى صارت الآن حدًّا رفيعًا فحسب، وشكَّل طرفها الأقصى الذي كان يتألَّف من مادة غير لامعة، خطًّا رفيعًا مظلمًا من العُقد ينتشر على امتداد المادة الداخلية المتوهِّجة المكونة للسديم والنجوم. وإذ دقَّقنا النظر لكي نتمكَّن من رُؤية نسيج هذه الأعجوبة اللامعة والمتلألئة — هذا النوع الأكبر على الإطلاق من الأجسام الموجودة في الكون — وجدنا أنَّه بالرغم من أنَّ رُؤيتنا الجديدة كانت تشمل المجرة بأكملها والمجرات البعيدة، فإنها كانت ترى كل نجم بمفرده على أنه قرصٌ ضئيل يبتعد عن أقرب جيرانه بقدر ما تَبتعِد شجرة فلِّين في المحيط القطبي الشمالي عن أخرى في المحيط القطبي الجنوبي؛ ولهذا فبالرغم من الجمال السديمي البراق الذي يتَّخذه الشكل الإجمالي للمجرة، فقد بدتَ لنا فراغًا يتناثَر عليه وميض شحيح للغاية.
حين راقبنا النجوم عن كثب، رأينا أنَّ تياراتها كانت تتداخل أحيانًا بينما كانت هي تسبح في جماعات كأسراب الأسماك. وقد بدا بعد ذلك أنَّ النجوم التي تَسبح في تيارات مختلفة حين يقطع بعضها مسار بعض، يسحب بعضُها بعضًا فتتحرَّك في منحنيات ضخمة واسعة حين تمرُّ من تأثير جار إلى آخر؛ لذا فبالرغم من بُعد النجوم بعضها عن بعض، فمن المُثير أنها كثيرًا ما كانت تبدو كأنها كائنات حية دقيقة يفهم بعضُها بعضًا عن بُعد. وفي بعض الأحيان كان بعضها يدور حول بعض في حركة زائدية المقطع أو يبتعد بعضها عن بعض، وفي حالات أكثر ندرة كانت تتحد لتُكوِّن أنظمة ثنائية.
كان الوقت يمرُّ أمامنا بسرعة كبيرة، حتى إنَّ الدهور كانت تمرُّ في لحظات. كنا قد رأينا النجوم الأولى تتكاثَف من النسيج السديمي كعَمالقة حُمر، بالرغم من أنها كانت تبدو من على بُعدٍ ضئيلة للغاية. عدد مُدهِش من هذه النجوم قد انفجر إربًا، ربما بفعل قوة الطرد المركزي لدورانها، ليُكوِّن أنظمة ثنائية؛ بحيث أخذت السماء على نحو مُتزايد تمتلئ بهذه الأزواج الراقصة في السماء. وفي هذه الأثناء، كانت النجوم العملاقة تتقلَّص ببطء ويزداد سطوعها. كانت تتحوَّل من اللون الأحمر إلى اللون الأصفر ثم إلى اللونين الأبيض البرَّاق والأزرق. ومع تكاثُف النجوم العملاقة الأخرى الأصغر سنًّا حولها، كانت تتقلَّص في الحجم أكثر فأكثر ويتغيَّر لونها مرة أخرى إلى الأصفر والأحمر المُحترق. الآن كنا نُشاهد أقدم النجوم وهي تنطفئ الواحدة تلو الأخرى مثلما يَنطفئ الشرر من النار. ازدادت حوادث الموت هذه ببطء لكن بثبات. وفي بعض الأحيان، كان أحد «المستعرات» يتوهَّج فيُغطِّي على ضياء جميع جيرانه للحظة، ثم يَخبُو. وبين الحين والآخر، يَنبِض نجم «مُتغيِّر» بسرعة لا يُمكن تصورها. وبين الفينة والأخرى، كنا نرى أحد الأنظمة النَّجمية الثنائية ونجمًا آخَر يقترب كل منهما من الآخر بشدة حتى إنَّ أحدهما يصل بخيط من مادته باتجاه شريكِه. ومع التدقيق ببصرنا الخارق للطبيعة، رأينا هذه الخيوط تَنكسِر وتَتكاثَف إلى كواكب. وقد كُنا في غاية الدهشة من الحجم المُتناهي الصغر لبذور الحياة هذه وندرتها بين العدد الضَّخم من النجوم العديمة الحياة.
غير أنَّ النجوم نفسها كانت تُعطي انطباعًا لا يُقاوَم بالحيوية. من الغريب أنَّ حركات هذه الأشياء المادية الخالصة، تلك الكرات النارية، التي تدور وتسير وفقًا للقوانين الهندسية لجزيئاتها المتناهية الصِّغَر، تبدو حيوية للغاية وباحثة للغاية. غير أنَّ المجرَّة بأكملها كانت هي نفسها حيوية للغاية؛ إذ كانت شديدة الشبه بكائن حي، بزخارفها الدقيقة من تيارات النجوم التي تُشبه التيارات الموجودة في الخلية الحية، وأكاليلها المُمتدَّة كاللَّوامس، ونواتها من الضوء. لا بد أنَّ هذا الكائن العظيم الجميل هو كائن حي، ولا بد أنَّ له خبرة ذكية عن نفسه وعما سواه من أشياء.
في خضمِّ هذه الأفكار الجامحة تحقَّقنا من خيالنا، مُتذكِّرين أنَّ الحياة لا يمكن أن تحظى بموطئ قدم إلا على تلك الحبات النادرة المسمَّاة بالكواكب، وأنَّ كل هذه الثروة من الجواهر المُتملمِلة ليسَت سوى كتل من النيران.
بعاطفة واشتياق متزايدَين، وجهنا انتباهنا بدقة أكبر إلى أولى الحبات الكوكبية وهي تتكاثف من خيوط اللهيب الدوَّارة لكي تُصبح في البداية قطرات سائلة تدور وتَنبض، ثم تُغلفها قشرة من الصخور، وتُغطِّيها طبقة رقيقة من المحيطات، ويُحيط بها غلاف جوي. تمكَّن نظرنا الثاقب من رؤية مياهها الضحلة تَختمِر بالحياة التي سرعان ما انتشرت إلى المحيطات والقارات الخاصة بها. ورأينا قِلَّةً من هذه العوالم المُبكِّرة تبلغ الرتبة البشرية في الذكاء، وسرعان ما أصبحت هذه العوالم تُعاني من الصراع الأعظم من أجل الرُّوح، والذي لم يخرج منه مُنتصِرًا سوى عدد أقل.
في تلك الأثناء، أدَّى ميلاد الكواكب الجديدة، والذي كان حدثًا نادرًا بين النجوم، ولكن كان في المجمل منتشرًا، إلى ظهور عوالم جديدة وسير جديدة. رأينا الأرض الأخرى، بنجاحتها وإخفاقاتها المتكرِّرة، ثم اختناقها الأخير. رأينا العديد من العوالم الأخرى الإنسانية الطابع، مثل شوكيات الجلد والقنطورية وغيرها. رأينا الإنسان البشري العادي على أرضه الصغيرة يتخبَّط عبر العديد من المراحل المتغيِّرة بين البلادة والصفاء الذهني ثم البلادة المدقعة من جديد. ومن حقبة إلى أخرى، كان شكله الجسدي يتغير كما تتغير أشكال الغيوم. ورأيناه في صراعه المستميت مع الغزاة القادمين من المريخ، وبعد لحظة تضمَّنت المزيد من عصور الظلام وعصور من النور، رأيناه قد هرب بعيدًا إلى كوكب الزهرة غير المؤهَّل للحياة خوفًا من سقوط القمر. وبعد فترة أخرى، بعد دهر لم يكن سوى تنهيدة في حياة الكون، هرب قبل انفجار الشمس إلى كوكب نبتون، ليَغرق هناك في الحيوانية الخالصة من جديد على مدار دهور أخرى. بالرغم من ذلك، فقد نهَض منها مرةً أخرى ووصَل إلى أرقى مُستويات ذكائه فقط ليحترق كحشرة عثٍّ في نارٍ بفعل كارثة لا يُمكن مقاومتها.
كل هذه القصة البشرية الطويلة بما فيها من أقوى العَواطف والمآسي في الحياة لم تكن سوى جهد تافه عقيم مُهمَل على ما يبدو، لم يستمرَّ إلا لبضع لحظات في حياة المجرَّة. وحين انتهَت هذه القصة، استمرَّت مجموعة الأنظمة الكوكبية في الحياة، مع حدوث كارثة، أو ميلاد كوكبي جديد بين النجوم، أو حلول مُصيبة جديدة هنا وهناك.
قبل الحياة البشرية المضطربة وبعدها، رأينا العشرات بل المئات أيضًا من السلالات الأخرى الإنسانية الطابع، والتي كانت حفنةٌ منها فقط هي التي قُدِّر لها التيقظ إلى مدى روحاني يتجاوز أعلى ما وصل إليه البشر، وأداء دورٍ في «اتحاد عوالم المجرة». كنا نرى هذه السلالات الآن من بعيد وهي على كواكبها الصغيرة الشبيهة بالأرض، المتناثِرة بين تيارات النجوم الضَّخمة، وهي تُناضِل من أجل التغلب على كل تلك المشكلات العالَمية، الاجتماعية منها والرُّوحانية، التي يُواجهها الإنسان في عصرنا «الحديث» للمرة الأولى. وبالمِثل، رأينا مرةً أخرى العديد من أنواع السلالات الأخرى، كالسلالة النوتية، والبحرية، والطائرة، والمركَّبة، والتكافُلية النادِرة، وكذلك كائنات أكثر ندرة تشبه النباتات. ومن كل نوع منها، قلة فقط هي التي فازت بالوصول إلى المرحلة الطوباوية وشاركت في المشروع المشترك العظيم للعوالم، هذا إن قام أيٌّ منها بذلك على الإطلاق. أما البقية، فقد انهارت في الطريق.
من مكان مُراقبتنا البعيد، كنا نرى الآن في جزيرة بإحدى المجرات الفرعية انتصار السلالات التكافلية. هنا تحققت أخيرًا بذرة اتحاد حقيقي بين العوالم. الآن قد بدأت نجوم هذا الكون الواقع على جزيرة في أن تُطوق بلآلئ حية إلى أن أصبحت المجرَّة الفرعية بأكملها حيَّة بالعوالم. في هذه الأثناء، اندلع في النظام الرئيسي ذلك الجنون الفظيع المُعدي الخاص بتكوين إمبراطوريات، والذي شاهَدْنا تفاصيله بالفعل. غير أنَّ ما قد بدا قبل ذلك على أنه حرب الجبابرة، والتي ناوَرَت فيها العوالم العظيمة في الفضاء بسرعة لا تُصدَّق ودمرت بعض الشعوب بعضها في مَحارق، بدا الآن على أنها حركة مندفعة لبضعٍ من الشرارات المجهرية؛ بضعة من الكائنات المجهرية اللامعة المحاطة بحشود لا مُبالية من النجوم.
بالرغم من ذلك، فقد رأينا الآن نجمًا يَنفجر ويُحطِّم كواكبه. لقد قتلت الإمبراطوريات شيئًا أرقى من نفسها. وقد ارتكبت هذا القتل ثانيًا وثالثًا، ثم اختفى هذا الجنون الإمبريالي وانهارت الإمبراطوريات تحت تأثير المجرة الفرعية. وسرعان ما استحوذ على انتباهنا المجهد ذلك الظهور الرائع للطوباوية في المجرة بأكملها. وقد اتَّضح لنا هذا بصفة أساسية على هيئة زيادة مستمرَّة في الكواكب الاصطناعية. ازدهر النجم تلوَ النجم بمدار مُزدحِم تلوَ الآخر من هذه الجواهر الحيوية، تلك البراعم الحُبلى بالروح. وكوكبة نجمية تلو الأخرى، بدَت المجرَّة بأكملها حية بالكثير من العوالم، التي يسكن كلًّا منها سلالة كبيرة فريدة من الأفراد الأذكياء ذوي الحساسية الذين يُوحِّدهم مجتمع حقيقي، والذي كان هو نفسه كائنًا حيًّا تملكُه رُوح مُشترَكة. وكلُّ نظامٍ من العديد من المدارات المأهولة كان هو نفسه كائنًا مشتركًا. وقد كانت المجرَّة بأكملها المنسوجة في وشيج تخاطري واحد، كائنًا ذكيًّا متلهفًا يتمثَّل في الروح المشتركة، تلك «الأنا» الواحدة لجميع أفراده المتنوِّعين الكثيرين السريعي الزوال. كان هذا المجتمع الشاسع بأكمله ينظر الآن إلى ما هو أبعد من ذاته باتجاه رفاقِه من المجرَّات. وإذ قرَّر السعي خلف مغامرة الحياة والروح في الدائرة الكونية الأوسع على الإطلاق، فقد كان على تواصُل تخاطُري مُستمر مع رفاقه، وفي الوقت نفسه بينما كان يتصوَّر جميع الأشكال الغريبة من الطموح العملي، بدأ يستفيد من الطاقات الكامنة في نجومه على نطاق لم يكن مُتخيَّلًا قبل ذلك الوقت. لم يتوقف الأمر عند إحاطة جميع الأنظمة الشمسية بنسيجٍ رقيق من المصائد الضوئية التي كانت تركز الطاقة الشمسية الهاربة للاستخدام الذكي؛ ومن ثم فقد كانت المجرة بأكملها معتمة، بل إنَّ العديد من النجوم التي لم تكن تصلح لأن تكون شموسًا قد فُكِّكت وسُلِبت منها مخزوناتها الجبارة من الطاقة دون الذرية.
وفجأة، استحوذ على انتباهنا حدث قد بدا، حتى من على بعد، أنه متعارض بوضوح مع الطوباوية. انفجر نجم كان محاطًا بالكواكب مدمِّرًا جميع حلقات العوالم خاصته ثم غرق بعد ذلك في حالة من الوهن والشحوب. حدث نفس الشيء لنَجم ثانٍ ثمَّ لثالث، وكذلك لنجوم أخرى في مناطق مختلفة من المجرة.
ومن أجل التقصِّي بشأن سبب هذه الكوارث المُحيِّرة، فقد قُمنا طوعًا مرة أخرة بتوزيع أنفسنا على مراكزنا بين العوالم المُتعدِّدة.