روح كونية ناقصة
حين تمكَّنَت مجرتنا أخيرًا من القيام باستكشاف تخاطري كامل لكون المجرات، اكتشفتُ أنَّ حالة الحياة في الكون متداعية. عدد قليل فقط من المجرات هو الذي كان في شبابه، وكان مُعظمُها قد تخطَّى أَوْجَه منذ زمنٍ بعيد. كان عدد النجوم الميتة المُعتِمة يفوق عدد النجوم الحية المضيئة بدرجة كبيرة في جميع أنحاء الكون. كان الصراع بين النجوم والعوالم في العديد من المجرات أشدَّ فَداحة مما كان عليه في مجرتنا؛ فلم يتحقَّق السلام إلا بعد أن تداعى كلا الجانبَين بما يَتجاوز الأمل في التعافي. بالرغم من ذلك، ففي معظم المجرات الأصغر سنًّا، لم يكن هذا الصراع قد ظهر بعد، وقد كانت هناك جهود تبذل بالفعل من جانب أكثر الأرواح المجرية يقظةً من أجل أن تعرف المجتمعات النجمية والكوكبية الكثير عن بعضهما البعض قبل أن يَندفعا إلى الصراع.
كانت الروح المشتركة لمجرتنا قد انضمت الآن إلى الزُّمرة الصغيرة المؤلَّفة من الكائنات الأكثر يقظة في الكون، تلك العُصبة المتشرذمة من الأرواح المجرِّية المتقدمة والتي كان هدفها أن تخلق مجتمعًا كونيًّا حقيقيًّا له عقل واحد يُشكِّل روحًا مشتركة تتألف من عوالمه الكثيرة المتنوعة، وأنواع ذكائه الفردية. وبهذا فقد كانت تأمل في اكتساب قُوى البصيرة والإبداع التي لا يُمكن تحقيقها على مستوى المجرة فحسب.
بفرح عظيم، وجدنا أنفسنا الآن، نحن المُستكشِفِين الكونيين الذين كنا قد جُمِعنا بالفعل في العقل المشترك لمجرتنا، في اتحاد حميمي مع مجموعة من العقول المجرِّية الأخرى. كنا نَختبر الآن، أو بالأحرى كنت أختبر الآن، الانسياب البطيء للمجرات على نحو شديد الشبه بما يشعر به المرء عند تأرجُح أطرافه. من مجموعة نقاط المراقبة التي أشغلها، شاهدت العواصف الثلجية العظيمة في ملايين المجرات وهي تتدفَّق وتدور وتستمر في الابتعاد بعضها عن بعض في «تمدُّد» لا يهدأ للفضاء. وبالرغم من أنَّ اتساع الفضاء كان يزداد مقارنة بحجم المجرات والنجوم والعوالم، فإنه لم يَبدُ لي وأنا في جسدي المركب المتناثر في الفضاء بأكبر من قاعة مُقبَّبة كبيرة.
تغيَّر شُعوري بالزمن أيضًا؛ فمثلما حدث قبل ذلك، صارت الدهور الآن تبدو وجيزة للغاية كالدقائق. تصوَّرت حياة الكون بأكملها لا على أنها رحلة طويلة وبطيئة بشدة تمتدُّ من مصدر بعيد ومبهم إلى أبدية مجيدة أكثر بعدًا، بل بدت لي على أنها سباق قصير، بائس ومتهوِّر، ضد الزمن الراكض.
وإذ صرت في مواجهة المجرات المتخلِّفة العديدة، شعرت بأنني ذكاء وحيد في برية من الهمج والوحوش. الآن قد أطبق عليَّ لغز الوجود وعبثه والرعب منه بقسوة شديدة. لقد بدا لي، أنا روح تلك الفرقة الصغيرة من المجرات المتيقظة، والمحاطة في آخر أيام الكون بالحشود غير المتيقِّظة المحكوم عليها بالهلاك، أنه ما من أمل في تحقيق أي انتصار في أي مكان آخر. فقد هُيئ لي أنني قد اطَّلعتُ على حدود الكون بأكمله؛ فلا يُمكن أن يكون هناك من «مكان آخر». كنت أعرف إجمالي المادة الكونية على وجه التحديد. وبالرغم من أنَّ «تمدُّد» الفضاء كان يَسحب معظم المجرات بعيدًا بعضها عن بعض بالفعل بسرعة كبيرة تفوق قدرة الضوء على رأب الصدع، فقد أبقاني الاستِكشاف التخاطري على اتصال مع حدود الكون بأكمله. كان العديد من أعضائي قد تفرَّق بعضها عن بعض من الناحية المادية بفعل الفجوة المنيعة التي خلقها «التمدُّد» المُتواصِل، غير أنها كانت ما تزال في اتحاد تخاطري.
الآن قد بدوت لنفسي، أنا العقل المشترك لمجموعة من المجرات، على أنني العقل العقيم المعاق للكون نفسه. لا بد أنَّ الكون الشاسع الذي دعَّمني قد تمدَّد ليحتضن الوجود بأكمله. ولا بد أنَّ عقل الكون الكامل اليقظة في ذروة التاريخ الكوني قد بلغ المستوى الأعلى من المعرفة والعبادة. غير أنَّ ذلك لم يحدث؛ فحتى الآن في هذه المرحلة المتأخرة من الكون، حين كانت القدرة الفيزيائية قد استُنفِدت بأكملها تقريبًا، كنت قد وصلتُ إلى مرحلة متواضعة من النمو الروحاني فحسب. كنت ما أزال يافعًا من الناحية الذهنية، غير أنَّ جسدي الكوني كان قد بدأ في التداعي بالفعل. كنت كجنين يعاني في البيضة الكونية، وكان صفار البيضة يَتداعى بالفعل.
وإذ رحت أنظر إلى الماضي في آفاق الدهور، صار انبهاري بطول الرحلة التي قادتني إلى حالتي الحالية أقل من انبهاري بسرعتها وارتباكها، بل حتى بقصرها. اطَّلعتُ على أول العصور قبل أن تولد النجوم، بل قبل أن تتشكل السدم من الفوضى، غير أنني ظللتُ عاجزًا عن رؤية أي مصدر واضح، ولم أرَ غير لغز مُبهَم بقدر إبهام أي لغز يواجه سكان الأرض الضِّئال.
وبالمثل، حين حاولت سبر أغوار وجودي، وجدت لغزًا مُستغلقًا. وبالرغم من أنَّ وعيي بذاتي كان متيقظًا إلى درجة تتجاوَز مُستوى الوعي الذاتي لدى البشر بمقدار ثلاثة أضعاف؛ إذ تيقَّظ من مُستوى العقل الفردي إلى مستوى العقل العالَمي ثم إلى العقل المجرِّي ومنه إلى العقل الكوني العقيم، فقد كان جوهر طبيعتي غامضًا.
بالرغم من أنَّ عقلي كان يجمع الآن حكمة كل العوالم في كل العصور، وبالرغم من أنَّ حياة جسدي الكوني نفسها كانت حياة مجموعات لا نهائية التنوع من العوالم، ومجموعات من الكائنات الفردية الذين يتسمون بتنوعٍ لا نهائي، وبالرغم من أنَّ نسيج حياتي اليومية كان يتمثَّل في مغامرة مبهجة ومبتكرة، فإنَّ هذا كله لم يكن يُمثِّل أي شيء؛ فمن حولي كانت تقبع مجموعة المجرات غير الناجحة، وحتى جسدي نفسه كان قد صار هزيلًا للغاية نتيجةً لموت نجومي، وكانت الدهور تمر بي بسرعة قاتلة. لا بد أنَّ نسيج عقلي الكوني سيتحلَّل سريعًا، وسوف أسقط بعدها لا محالة عن حالة الصفاء العقلي التي أعتز بها وإن لم تكن مثالية، وعندها سأهبط عبر جميع مراحل الطفولة الثانية للعقل، إلى الموت الكوني.
كان من الغريب للغاية أنني، أنا الذي كنت أعرف الحدود الكاملة للزمان والمكان، وكنت أعد النجوم الطوافة كالأغنام دون أن أغفل أيًّا منها، أنا الأكثر تيقظًا من بين الكائنات، أنا المجد الذي أعطت الحشود الغفيرة في جميع العصور حيواتها لتحقيقه، وعبَدَتْه حشود غفيرة؛ أنظر الآن حولي بتلك الرهبة الطاغية نفسها، وذلك التعبُّد المُرتبِك الذي يعقد الألسن، والذي يشعر به البشر المسافرون في الصحراء تحت النجوم.