البداية والنهاية
(١) عودة إلى السُّدم
بينما كانت المجرات اليَقِظة تسعى إلى تحقيق الاستفادة الكاملة من المرحلة الأخيرة من صفاء وعيها، وبينما كنت — أنا العقل الكوني المعيب — أسعى إلى ذلك أيضًا، بدأت أمر بتجربة جديدة وغريبة. بدا أنني كنت أتعثر تخاطريًّا بكائن أو كائنات من رتبة لم أستطع أن أفهمها في بداية الأمر.
افترضت في البداية أنني قد تواصَلتُ عن غير قصد مع كائنات من الرتبة دون البشرية في العصر البدائي على أحد الكواكب الطبيعية؛ فربما تواصلتُ مع كائنات أميبية دقيقة دنيا تطفو في بحر أولي. لم أكن واعيًا بأي شيء سوى مشاعر الشغف الصريحة للجسد؛ كالتلهُّف على امتصاص الطاقة الفيزيائية للحفاظ على الحياة، والتلهُّف على الحركة والتواصل، والتلهف على الحصول على الضوء والدفء.
رحت أدفع عني هذه الأشياء التافهة على عجل، غير أنها ظلَّت تُطاردني وتُصبِح أكثر توغلًا ووضوحًا. وتدريجيًّا راحت تتحلَّى بعنفوان مادي شديد وثقة إلهية لم تتمتَّع بها أيٌّ من الأرواح على مرِّ العصور منذ أن ظهرت النجوم.
لن أذكر المراحل التي عرفت من خلالها أخيرًا معنى هذه التجربة. لقد اكتشفت تدريجيًّا أنني لم أتواصَل مع كائنات دقيقة ولا حتى مع عقول عالَمية أو نجمية أو مجرِّية، بل مع عقول السُّدم العظيمة قبل أن تتحلَّل مادتها إلى نجوم لتُكوِّن المجرات.
صرت الآن قادرًا على تتبُّع تاريخها منذ أن تيقَّظت للمرة الأولى، حين كانت تُوجَد على هيئة غيوم منفصِلة من الغازات، تطير بعيدًا بعضها عن بعض بعد فعل الخَلق الانفجاري، حتى الوقت الذي سقطت فيه في الشيخوخة والموت حين وُلِدت حشود النجوم من مادتها.
في مرحلتها الأولى، حين كانت هي الغيوم الأقل كثافة من الناحية الفيزيائية، لم تكن عقليتها بأكثر من اشتهاء مُبهَم للحركة وإدراك فاتر للاحتقان الطفيف للغاية في مادتها الفارغة. شاهدتها وهي تتكثَّف إلى كرات مُتماسِكة ذات معالم أكثر تحديدًا ثم إلى أقراص عدَسية الشكل تظهر عليها خطوط براقة وصدوع قاتمة. ومع تكثُّف هذه الكرات، اكتسب كلٌّ منها قدرًا أكبر من الترابط، وصار تركيبها أكثر تناغمًا. وبالرغم من أنَّ الاحتقان كان طفيفًا للغاية، فقد جلب قدرًا أكبر من التأثير المتبادل على ذراتها والتي لم تكن قد أصبحت متراصَّة مقارنة بحجمها كالنجوم الموجودة في الفضاء. كل سديم قد صار الآن تجمعًا كبيرًا من الإشعاع الخافت؛ نظامًا واحدًا من الموجات الشاملة النفاذ والتي تنتشر من ذرة إلى ذرة.
وعلى المستوى الذهني، بدأت هذه الوحوش العظيمة، هؤلاء الجبابرة الأميبيون، في أن تتيقظ الآن على حالة غامضة من وحدة الخبرة. وفقًا للمعايير البشرية، بل حتى وفقًا لمعايير العقول العالَمية والنجمية، كانت خبرة السدم بطيئة الحركة على نحو لا يُصدَّق؛ فنظرًا لأحجامها العملاقة، وبطء مرور التموجات التي كانت ترتبط بوعيها من الناحية الفيزيائية، كانت تشعر بالألف عام كأنها لحظة فحسب. أما الفترات التي يدعوها البشر بالحقب البيولوجية، والتي تتضمن ظهور أنواع واندثار أخرى، فقد كانت تشعر بها مثلما نشعر نحن بالساعات.
كلٌّ من هذه السدم العظيمة كان يُدرِك وجود جسده العدسي الشكل على أنه كتلة واحدة مُحتشِدة بالتيارات الوخازَة. كلٌّ منها كان يشتهي استغلال قدراته الطبيعية، والتخلُّص من ضغط الطاقة الفيزيائية التي تتدفَّق داخله بهدوء، وكذلك التعبير الحر عن جميع قدراته في الحركة، وكان يشتهي أيضًا شيئًا أكثر من ذلك.
بالرغم من أنَّ هذه الكائنات الأولية كانت تَتشابه في طبيعتها المادية والذهنية على نحو غريب مع الكائنات الأولية الدقيقة التي كانت تعيش على الكواكب، فقد كانت تختلف عنها اختلافًا بارزًا في الوقت نفسه؛ أو لنقل على الأقل إنها كانت تتميَّز بسمة، حتى أنا، العقل الكوني البدائي، قد أغفلتها في الكائنات الدقيقة. وقد كانت تلك السمة هي نوع من الإرادة أو الرغبة التي لا يُمكن أن أصفها إلا بالاستعارات العرجاء.
بالرغم من أنَّ هذه الكائنات كانت في أفضل أحوالها بسيطة للغاية من الناحيتَين الفيزيائية والفكرية، فقد كانت تتمتَّع بهبة أجد نفسي مضطرًّا إلى وصفها بأنها وعيٌ ديني بدائي لكنه قوي. لقد كانت تحكم هذه الكائنات رغبتان كلتاهما دينية الجوهر. كانت ترغب في الاتحاد بعضها مع بعض، أو تشعر بالأحرى بدافع أعمى تجاه ذلك، وكانت تشعر أيضًا بتَوقٍ قويٍّ أعمى إلى أن تجتمع مرةً أخرى في المصدر الذي جاءت منه.
كان الكون الذي تسكنُه بالطبع بسيطًا للغاية، بل كونٌ قد أصابه الفقر. وقد كان صغيرًا أيضًا للغاية بالنسبة إليها. كان كل سديم منها يرى أنَّ الكون يتألَّف من شيئين هما: جسد السديم نفسه، الذي كان عديم الملامح، وأجساد السُّدُم الأخرى. في هذه المرحلة المبكرة للغاية من الكون، كانت السدم توجد على مقربة كبيرة بعضها من بعض؛ إذ كان حجم الكون في هذه المرحلة صغيرًا بالنسبة إلى أجزائه، سواء أكانت السُّدم أو الإلكترونات. السدم التي قد صارت في عصر الإنسان في حجم الطيور في السماء على أكثر تقدير، كانت مقيَّدة في ذلك العصر وكأنها داخل قفص ضيق؛ ولهذا فقد كان لكلٍّ منها تأثير بارز على رفاقه. ومع زيادة التنظيم وتماسُك الوحدة المادية في كلٍّ منها، صارت تميز بصورة أسرع بين نمطها المَوجي الأصلي وبين الأنماط الشاذة التي يفرضها جيرانها على ذلك النمط. ومن خلال نزعة قد غُرِست فيها عند انبثاقها من الغيمة السلف المشتركة، كان تفسيرها لهذا التأثير هو أن ثَمة وجودًا لسدم أخرى عاقلة.
وبهذا، فقد كان بعض السُّدم في أوجه يدرك وجود بعضها بوصفها كائنات مُنفصِلة، وقد كان هذا الإدراك قويًّا للغاية وإن كان مُبهمًا. لقد كان بعضها يدرك وجود بعض، لكنَّ تواصُلهما معًا كان شحيحًا وبطيئًا للغاية. ومثلما يُعبر بعض السجناء المحبوسين في زنازين منفصلة لبعض السجناء الآخرين عن شعور الرُّفقة بالطَّرق على جدران زنازينهم، حتى إنهم قد يتوصَّلون مع الوقت إلى نظامٍ أولي للإشارات، فقد كانت السُّدم تُعبِّر عن علاقتها بعضها ببعض بمُمارسة ضغط الجاذبية لبعضها على بعض، أو عن طريق إصدار النبضات الطويلة الأمد من ضوئها. حتى في المرحلة المبكِّرة من وجود السُّدم، حين كان بعضها قريبًا للغاية من بعض، كانت الرسالة تستغرق آلاف الأعوام كي تُشكِّل نفسها من البداية إلى النهاية، وملايين الأعوام كي تصلَ إلى وجهتها. وحين كانت السدم في أوجها، كان صدى حديثها يتردَّد في الكون بأكمله.
في أولى المراحل على الإطلاق، حين كانت هذه الكائنات الضخمة ما تزال قريبة جدًّا بعضها من بعض وغير ناضجة في الوقت نفسه، لم تكن مناقشاتها تُعنى بأي شيء سوى محاولة أن تكشف عن وجودها بعضها لبعض. وبجزل طفولي، راحت تتواصَل بجهد لتُعبِّر عن فرحتها بالحياة، ورغباتها الملحة وآلامها ونزواتها وسماتها الخاصة المميِّزة ورغبتها المشتركة في الاتحاد من جديد، والتوحُّد، مثلما كان يقول البشر أحيانًا، في الإله.
بالرغم من ذلك، فحتى في هذه الأيام المبكرة، حين لم يكن قد نضَجَ من السدم سوى عدد قليل، ولم يكن معظمها يتمتع بالوضوح الذهني، صار من الجلي للأكثر تيقظًا منها أنها لا تقترب من الاتحاد على الإطلاق بل تتباعَد على نحو مُنتظِم. ومع ضعف التأثير الفيزيائي الذي يبذله أحدها على الآخر، صار كل سديم يشعر بأنَّ رفاقه يتضاءلون مُبتعدين عنه. وصارت الرسائل تَستغرِق وقتًا أطول في الوصول ووقتًا أطول من ذلك للحصول على الردود.
لو أنَّ السدم تمكَّنَت من التواصل التخاطري، لربما واجهت «تمدد» الكون دون يأس. غير أنَّ هذه الكائنات كانت بسيطة للغاية على ما يبدو بدرجة لا تسمَح لها بأن تقوم بتواصُل ذهني مباشر وواضح بعضها مع بعض؛ ومن ثمَّ فقد وجدت أنَّ مصيرها إلى الانفصال. ونظرًا لأنَّ إيقاع حياتها بطيء للغاية، فقد بدا لها أنها لم تكد يَجدُ بعضُها بعضًا حتى كان عليها أن تفترق. وبمرارة قد أسفت على عمى طفولتها؛ ذلك أنها حين بلغت مرحلة النضوج، لم تدرك عاطفة السعادة المشتركة التي ندعوها بالحب فحسب، بل أدركت جميعها أنَّ الاتحاد الذهني أحدها مع الآخر هو الطريق إلى الاتحاد مع المصدر الذي جاءت منه.
وحين صار من الجلي أنَّ الانفصال حتمي لا بد منه، حين كان الترابط الصعب المنال بين هذه الكائنات البسيطة يَفشَل بالفعل بسبب الصعوبات المُتزايدة في التواصل، وكانت السدم الأكثر بُعدًا تَنفصِل بالفعل بعضها عن بعض بسرعة كبيرة، اضطُرَّ كلٌّ منها بمقتضى الظروف أن يستعدَّ لمواجهة لغز الوجود في عزلة مطلقة.
جاء من بعد ذلك دهر، أو بالأحرى فترة قصيرة بالنسبة إلى هذه الكائنات التي تعيش ببطء، قد سعت فيه (من خلال ضبط النفس فيما يتعلَّق بجسدها وكذلك من خلال الانضباط الروحاني) إلى العثور على الاستنارة الفائقة التي يجب على الكائنات المتيقِّظة كلها أن تسعى إليها.
بالرغم من ذلك، فقد ظهرت الآن مشكلة جديدة. اشتكت بعض السُّدم الأقدم من مرض غريب كان يعيق من تأملاتها بدرجة كبيرة. كانت الأهداب الخارجية في أجسداها الرقيقة قد بدأت تتكثَّف إلى عُقَد صغيرة صارت بمرور الوقت حبات من النيران الشديدة المُحتقنة. وفي الفراغ البيني، لم يكن هناك من شيء سوى القليل من الذرات الضالة. في البداية، لم تكن الشكوى خطيرة، وكانت أشبه بطفح بسيط على البشرة البشرية، غير أنها قد امتدَّت بمرور الوقت إلى الأنسجة العميقة في السديم وصحبَتْها مشكلات ذهنية خطيرة. وعبثًا قرَّرت هذه الكائنات المحكوم عليها بالهلاك أن تستفيد من هذا الوباء لمصلحتها بالتعامل معه على أنه اختبار للرُّوح قد أرسلته السماء. وبالرغم من أنها قد تمكَّنت لبعض الوقت من السيطرة على الوباء من خلال الاستهانة به على نحوٍ بطولي، فإنَّ آثاره المُخرِّبة قد أوهنت من عزيمتها في نهاية المطاف. والآن قد اتَّضح لها أنَّ الكون مكان يقوم على العبث والهلع.
الآن كانت السُّدم الأصغر سنًّا تُراقب الأكبر منها وهي تَتساقط الواحد بعد الآخر إلى حالة من البلادة والارتِباك كانت تنتهي على الدوام بالنوم الذي يدعوه البشر بالموت. وسرعان ما اتَّضح حتى إلى الأرواح الأكثر تفاؤلًا أنَّ هذا المرض ليس حادثة عارضة بل مصير متأصِّل في طبيعة السدم.
وواحدًا تلوَ الآخر، فنَت الوحوش السماوية العظيمة، وقد أفسحت المجال لظهور النجوم.
وإذ نظرت إلى تلك الأحداث الماضية من موقعي في المستقبل البعيد، حاولت، أنا العقل الكوني البدائي، أن أُوصِّل للسُّدُم الميتة أنَّ موتها في الماضي السحيق أبعد ما يكون عن النهاية بل هو مرحلة مبكرة في حياة الكون. لقد كان أملي أن أواسيها بأن أمنحها تصورًا عن المستقبل الشاسع المعقَّد، وعن تيقُّظي. بالرغم من ذلك، فقد اتضح أنَّ التواصل معها أمر مستحيل. ومع أنها كانت تتمتع داخل دائرة خبرتها المعتادة بنوع من القدرات الفكرية، فقد كانت بلهاء تقريبًا خارج هذه الدائرة. لقد كان الأمر شبيهًا بأن يُحاول المرء أن يعزي الخلايا الجنسية التي انبثق هو نفسه منها بأن يخبرها عن مسيرته الناجحة في المجتمع البشري.
ولمَّا ذهبت هذه المحاولة للمواساة عبثًا، نحيتُ التعاطُف جانبًا، واكتفيت فقط بأن أتابع انهيار المجتمع السديمي إلى نهايته. وفقًا للمعايير البشرية، طالت المعاناة بدرجة عظيمة للغاية؛ فقد بدأت بتفكك أقدم السدم إلى نجوم، واستمرت (أو سوف تستمر) إلى فترة طويلة بعد دمار آخر السلالات البشرية على كوكب نبتون. الواقع أنَّ آخر السدم لم تسقط في هوة اللاوعي إلى أن تحولت العديد من جثث جيرانها بالفعل إلى مجتمعات تكافلية من النجوم والعوالم العاقلة. غير أنَّ السدم نفسها، والتي كانت تعيش حياة بطيئة الوتيرة، قد شعرت بأنَّ هذا الطاعون مرض مُتسارع. ووحدًا تلو الآخر، وجدت هذه الوحوش الدينية العظيمة نفسها في مواجهة مع العدو المستتر، وحاربت ببسالة في معركة خاسرة إلى أن غلبها السبات. لم يعرف أيٌّ منها أنَّ جسده المتفتِّت كان يعجُّ بالكثير من الحيوات الأصغر والأسرع المتمثِّلة في النجوم، أو أنه قد امتلأ بالفعل بين الحين والآخر بحيَوات أقصر وأسرع وأكثر ثراءً على نحو كبير لكائنات كالبشر، والتي كانت عصورهم التاريخية المزدحمة مضغوطة بأكملها في اللحظات الأخيرة القليلة الكئيبة من حيوات هذه الوحوش البدائية.
(٢) اقتراب اللحظة الأسمى
إنَّ اكتشاف الحياة السديمية قد أثَّر بعمق في العقل الكوني الابتدائي الذي أصبحتُ أنا عليه. بصبر، رحتُ أدرس هذه الوحوش التي تكاد تكون عديمة الشكل، مُستوعبًا داخل كياني المركب ما كانت تتَّسم به طبيعتها العميقة البسيطة من حماس. لقد كانت هذه الكائنات البسيطة تسعى إلى هدفها بعزم وحماس قد تفوَّقا على كل ما كانت تتمتَّع به جميع العوالم والنجوم. وبهذا الخيال المتَّقد دخلتُ إلى تاريخ تلك الكائنات حتى إنني أنا نفسي، العقل الكوني، قد تشكَّلت على نحوٍ ما من جديد من خلال تأملها. حين تأملتُ من وجهة النظر السديمية ما تتَّسم به العوالم الحية من تعقيد شاسع ودقة شديدة، بدأتُ أتساءل عما إذا كانت الشطحات اللانهائية للعوالم تعود في حقيقة الأمر إلى ثراء وجودها أم إلى ضعف إدراكها الروحاني، إلى ما تتَّسم به طبيعتها من إمكانات هائلة التنوع أم إلى افتقارها إلى أي تحكم جادٍّ في خبراتها. إنَّ مؤشِّر البوصلة المُثبَّت بمغناطيس ضعيف يظلُّ يتأرجَح مرارًا وتكرارًا إلى الشرق والغرب ويَستغرق وقتًا طويلًا لتحديد اتجاهه الصحيح. أما المؤشر الحساس فإنه يستقر على الفور باتجاه الشمال. أيمكن أن يكون التعقيد الشديد لكل عالم بأفراده الضئيلين المعقدين هو ما قد أدى إلى تشويش إدراكه للاتجاه الصحيح للروح؟ أيمكن أن تكون بساطة هذه الكائنات الأولى العملاقة وعنفوانها الروحاني قد حقَّقا شيئًا ذا قيمة سامية للغاية لم يتمكن تعقيد العوالم ودقتها من تحقيقه على الإطلاق؟
لكن كلا! مهما كانت براعة العقلية السديمية بطريقتها الخاصة الغريبة، فقد كانت العقلية النجمية والكوكبية تتمتَّعان بفضائلهما الخاصة أيضًا. ولا بد أنَّ العَقلية الكوكبية هي الأعلى فيما بينها؛ إذ إنها هي الأقدر على فهم العقليات الثلاث على أفضل نحو.
كنت الآن قد سمحت لنفسي باعتقاد أنني، إذ صرت أخيرًا أضمُّ في وجودي وعيًا شديدًا بالمرحلة الأولى من الحياة الكونية وليس بالمجرات العديدة فحسب، يمكنني الآن ببعض الإنصاف أن أرى نفسي العقل الابتدائي للكون بأكمله.
غير أنَّ المجرات اليَقِظة التي دعمتني كانت ما تزال أقلية صغيرة من بين إجمالي عدد المجرات. من خلال التأثير التخاطري، واصلت تقديم المساعدة لتلك المجرات العديدة التي كانت على أعتاب النضج الذهني. لو أنني استطعت أن أضم في المجتمع الكوني للمجرات اليَقِظة مئات من المجرات بدلًا من العشرات، فلربما تحليتُ أنا العقل الكوني بدرجة كبيرة من القوة وتمكنت من الارتقاء من حالتي الحالية المتمثلة في الطفولة الذهنية المقيدة إلى حالة أشبه بالنُّضج. لقد اتضح لي أنني كنتُ أنضج استعدادًا لاستجلاء ما هو جديد، بالرغم من تلك الحالة الجنينية التي أنا عليها، وأنني قد أجد نفسي، مع محالفة الحظ، في حضور ما يُدعى في اللغة البشرية لهذا الكتاب باسم صانع النجوم.
في هذا الوقت، كان تَوقي لذلك الحضور قد استبد بي بشدة. لقد بدا لي أنَّ الحجاب الذي ظل يخفي مصدر جميع السدم والنجوم والعوالم وهدفها كان يتكشَّف بالفعل، وشعرت الآن بأنَّ ذلك الذي ألهم الكثير من الكائنات المتنوعة بعبادته ولم يكشف عن نفسه بوضوح لأيٍّ منها بعد، ذلك الكيان الذي جاهدت جميع الكائنات بغير هدى من أجل الوصول إليه، وراحت تُمثِّله لأنفسها بصور الكثير من الآلهة المتنوعة، على شفا أن يكشف عن نفسه لي، أنا روح الكون الناقصة التي لا تزال تنمو.
أنا مَن عبدني العديد من أعضائي الضِّئال، أنا مَن فاق إنجازي كل أحلامهم، كنت الآن مقهورًا مدحورًا لشعوري بضآلتي ونقصي. لقد كان حضور صانع النجوم المُحتجِب يتملَّكني بالفعل بقوة رهيبة. وكلما صعدت في مسار الروح، بدَت القمم التي كانت تقع أمامي أكثر رقيًّا؛ ذلك أنَّ ما كنت أظن قبل ذلك أنه القمة وقد تجلَّت لي بكاملها، قد بدت لي الآن أنها ليست سوى سفح. وفيما وراء ذلك، كان يقع السلَّم الحقيقي منحدرًا متعرجًا بالصخور جليديًّا يرتفع إلى الضباب القاتم. لا ينبغي بي أبدًا أن أتسلَّق ذلك المنحدر، وبالرغم من ذلك، فلا بد لي من أن أتقدم إلى الأمام. التوق العارم قد تغلب على الرهبة.
في هذه الأثناء، راحت المجرات غير الناضجة واحدةً تلو الأخرى تكتسب تحت تأثيري تلك الدرجة من الصفاء التي مكَّنتها من الانضمام إلى المجتمع الكوني وإثرائي بخبراتها المميزة. بالرغم من ذلك، بدا أنَّ ضعف الكون مستمر من الناحية الفيزيائية؛ فحين بلغ نصف مجموع المجرات مرحلة النضج، بدا من الواضح أنَّ قلة فقط هي التي ستنجح.
لم يتبقَّ من النجوم الحية في أيٍّ من المجرات سوى عدد قليل للغاية. أما مجموعة النجوم الميتة، فقد خضع بعضها إلى التفكُّك الذَّري واستُخدِمت كشموس اصطناعية، وأُحيطت بعدة آلاف من الكواكب الاصطناعية. غير أنَّ الغالبية العظمى من النجوم كانت الآن مغلَّفة بقشرة ومأهولة هي نفسها. وبعد فترة، صار من الضروري أن يتم إخلاء جميع الكواكب؛ إذ كانت الشموس الاصطناعية تستهلك قدرًا مفرطًا من الطاقة؛ ومن ثمَّ فقد قامت السلالات المتوطِّنة في الكواكب بتدمير نفسها سلالةً تلو الأخرى، واهبةً مادة عوالِمها وجميع حكمتها إلى قاطني النجوم المطفأة. ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا، صار الكون الذي كان يَحتشد فيما سبق بالمجرات المتوهجة التي تحتشد كل منها بالنجوم، مؤلفًا من جثث النجوم على نحوٍ كامل. وانجرفت هذه الحبات القاتمة عبر الفراغ المظلم كدخان فائق الرقة يتصاعَد من حريق منطفئ. وفوق هذه الذرات، هذه العوالم الضخمة، قد أوجدت الشعوب النهائية بإضاءتها الصناعية هنا وهناك وهجًا خافتًا، لا يُرى حتى من أعمق حلقات الكواكب العديمة الحياة.
كان نوع الكائنات الأكثر انتشارًا على الإطلاق في هذه العوالم النجمية، هو الحشد الذكي من الديدان الضئيلة أو السلالات الحشرية. بالرغم من ذلك، فقد كان هناك العديد من السلالات لكائنات أكبر حجمًا من نوع غريب للغاية قد تكيف مع الجاذبية العملاقة في عوالمها الضخمة. كان كل من هذه الكائنات يشبه بطانية حية، ويحمل سطحه السفلي مجموعة من الأرجل الضئيلة الحجم التي كانت تؤدي وظيفة الفم أيضًا. كانت هذه الأرجل تحمل جسمًا لم يكن سُمكُه يزيد عن البوصة الواحدة في أي حال من الأحوال، بالرغم من أنَّ عرضه كان يُمكن أن يبلغ بضع ياردات بينما يصل طوله إلى عشر ياردات. عند الطرف الأمامي، كانت «أذرع» التناول تنتقل على أفواجها من الأرجل. كان السطح العُلوي من الجسم يَحتوي على مسامات للتنفس في شكل قرص العسل، ومجموعة متنوعة من أعضاء الحس. وبين السطحَين، كانت تنتشر أعضاء الأيض والجزء الكبير من الدماغ. وإذا ما قورنت هذه الكائنات الشبيهة بالأمعاء مع أسراب الديدان وأسراب الحشرات، نجد أنها تتمتَّع باتحاد ذهني أكثر استقرارًا ودرجة أكبر من تخصص الأعضاء، غير أنها كانت أكثر بطئًا وأقل تكيُّفًا على الحياة تحت الأرضية، والتي كانت ستُفرَض بعد ذلك على جميع الشعوب.
هذه العوالم الضخمة القاتمة بغلافها الجوي الشديد الثقل ومحيطاتها الهائلة الاتساع التي لم تكن أمواجها حتى في أعتى العواصِف لتَزيد أبدًا عن تلك التموُّجات الصغيرة التي نعرفها في الزئبق، قد اكتظَّت سريعًا بالحضارات الشبيهة بقرص العسل من الديدان والحشرات المتنوعة، والملاجئ المتقلقِلة للكائنات الشبيهة بالأمعاء. كانت الحياة على هذه العوالم شديدة الشبه بالحياة على «أرض مسطحة» ثنائية الأبعاد. حتى أقوى العناصر الاصطناعية كانت أضعف كثيرًا من أن تَسمح بأي بِنًى مرتفعة.
مع تقدم الوقت، نفدت الحرارة الداخلية للنجوم المغلفة بقشرة، وصار من الضروري دعم الحضارة عن طريق التفكيك الذري لقلب النجم الصخري؛ ومن ثمَّ فقد صارت العوالم النجمية بمرور الوقت كرة جوفاء على نحو متزايد تقوم على نظام من الدعامات الداخلية الكبيرة. وواحدًا تلو الآخر، راحت الشعوب، بل السلالات الجديدة المنحدرة من الشعوب القديمة، والتي تكيَّفت على نحو خاص، تأوي إلى ألباب النجوم الخامدة.
كانت هذه الشعوب، رغم انحباس كلٍّ منها في عالمه الأجوف، وانعزاله المادي عن بقية الكون، تدعم العقل الكوني تخاطريًّا. كانت هذه الشعوب هي جسدي. في «التمدُّد» الحتمي للكون، ظلت المجرات المظلمة على مدار دهور يتباعَد بعضها عن بعض بسرعة كبيرة حتى إنَّ الضوء نفسه لم يكن ليرأب الصدع الموجود بينها. غير أنَّ هذا التفكُّك الهائل للكون كان أقل أهمية لهذه الشعوب النهائية من الانعزال الفيزيائي للنجوم بسبب توقُّف الإشعاع النجمي بالكامل وجميع أشكال السفر بين النجوم. حافظت جميع الشعوب الموجودة في العوالم العديدة على اتحادها التخاطري. كان الواحد منها يعرف الآخر على نحو حميمي بالرغم من جميع تنويعاتها. ومعًا، دعمت العقل الكوني بوعيه لماضي الكون الحيوي المعقَّد بأكمله، وجهوده التي لا تكل من أجل تحقيق هدفه الروحاني قبل أن تؤدي زيادة الإنتروبيا إلى تدمير نسيج الحضارة المتأصِّل فيه.
كانت تلك هي حالة الكون حين اقترب من أسمى اللحظات في مسيرته، ومن الاستنارة التي كانت جميع الكائنات في جميع العصور تُحاوِل جاهدة على غير هدى من أجل الوصول إليها. ومن الغريب أن تتمكَّن الشعوب التي عاشت في هذه الأيام الأخيرة فقيرة ومتكدسة وهي تُتابع ما تبقَّى لها من طاقة، من تحقيق هذه المهمة التي أعيت الشعوب البارعة التي عاشت في الماضي. لا شك بأنَّ مثلهم في ذلك كان كطائر النمنمة الذي تغلَّب على النسر في الطيران لأعلى ارتفاع. وبالرغم من ظروفهم الصعبة، تمكَّنت هذه الشعوب من الحفاظ على البنية الأساسية للمجتمع الكوني والعَقلية الكونية. وبالبصيرة الفطرية، تمكَّنت من استخدام الماضي في تعميق الحكمة لديهم بما يفوق أي حكمة سابقة. إنَّ اللحظة الأسمى في الكون لم تكن (أو لن تكون) لحظة بالمعايير البشرية، لكنها محض لحظة خاطفة وفقًا للمعايير الكونية. حين كان تقريبًا نصف الشعوب الموجودة في ملايين المجرات قد دخلت إلى المجتمع الكوني بصورة كلية، وصار من الجلي أنه من غير المتوقَّع أن ينضمَّ المزيد، تلَتْ فترة من التأمل الكوني. حافظت الشعوب على حضاراتها الطوباوية المقيدة، وعاشت حيواتها الخاصة في العمل والاتصال الاجتماعي، وقامت في الوقت نفسه بإعادة صياغة البِنية الكلية للثقافة الكونية على المستوى العام. لن أرويَ شيئًا عن هذه المرحلة، ويكفي القول إنَّه قد تم تعيين وظيفة ذهنية إبداعية محددة لكل مجرة وكل عالم، وأنَّ الجميع كان يستوعب عمل الجميع. وقرب نهاية هذه الفترة، أنا، العقل المشترك، قد انبثقت بعد أن تشكَّلت من جديد، وكأنني قد خرجت من شرنقة؛ وللحظة وجيزة، كانت هي دون شك اللحظة الأسمى للكون، واجهت صانع النجوم.
لم يتبقَّ للمؤلف البشري لهذا الكتاب من هذه اللحظة الأبدية الخالدة التي اختبرتها بصفتي العقل الكوني، سوى بعض من الغبطة المريرة، مع بضع ذكريات مفكَّكة عن هذه الخبرة نفسها والتي منحتني تلك الغبطة.
لا بدَّ لي من أن أحكيَ شيئًا عن تلك الخبرة على نحو ما. ومثلما هو متوقَّع، أواجه هذه المهمة بشعور فظيع بعدم الأهلية. إنَّ أعظم العقول البشرية عبر جميع عصور التاريخ البشري قد عجزت عن وصف اللحظات التي اختبرت فيها أعمق الرؤى. فكيف أجرؤ أنا على محاولة تنفيذ هذه المهمة؟ بالرغم من ذلك، فلا بد لي أن أفعل. وحتى مع المخاطرة بما قد أناله من استهزاء وازدراء ولوم أخلاقي، وسيكون ذلك كله مستحقًّا عن جدارة، لا بد لي أن أذكر ما رأيت. إنَّ البحَّار إذا تحطمت سفينته وجرفته عوامته دون حول منه أو قوة إلى سواحل مدهشة ثم إلى وطنه مجددًا، فإنه لا يستطيع أن يبقى صامتًا. ربما يعرض عنه المثقفون اشمئزازًا من لهجته الفظة وأسلوبه غير المتقن. وقد يسخر الحكماء من عجزه عن التمييز بين الحقيقة والوهم. غير أنه لا بد أن يتحدث.
(٣) اللحظة الأسمى وما بعدها
في اللحظة الأسمى للكون، بدا لي أنا، العقل الكوني، أنني التقيت بمصدر جميع الأشياء المتناهية وهدفها.
من المؤكد أنني في تلك اللحظة لم أُدرِك وجود الرُّوح اللامتناهية؛ أي، صانع النجوم، على نحو حسِّي. من الناحية الحسية، لم أدرك وجود أي شيء يختلف عما قد أدركته سابقًا، وهو العديد من العوالم المأهولة بالسكان الواقعة في ألباب النجوم المحتضرة. بالرغم من ذلك، فمن خلال الوسط الذي يُسمى في هذا الكتاب بالوسط التخاطري، كنت قد مُنِحت الآن إدراكًا أكثر عمقًا. لقد شعرت بالحضور المباشر لصانع النجوم. وكنت قبل فترة قصيرة مثلما ذكرت بالفعل، قد تملَّكني بالفعل شعور قوي للغاية بحضور محتجب لكائن ما سواي، كائن يختلف عن جسدي الكوني وعقلي الواعي، كيان يختلف عن أعضائي الأحياء وحشود النجوم الخامدة. غير أنَّ الحجاب قد ارتعش الآن وصار نصف شفاف للرؤية الذهنية. إنَّ مصدر كل شيء وغايته، وهو صانع النجوم، قد تجلَّى لي الآن بإبهام على أنه كيان يختلف عن ذاتي الواعية، كيان يخضع لرؤيتي، غير أنني قد شعرت به أيضًا في أعماق طبيعتي على أنه نفسي فحسب، وإن كان أكبر من كياني على نحو لا متناهٍ بكل تأكيد.
بدا لي الآن أنني رأيت صانع النجوم على وجهين؛ رأيته باعتباره النسق الإبداعي الخاص بالروح والذي أدى إلى نشأتي أنا الروح الكونية، وأيضًا بكل الرهبة رأيته كيانًا أكبر من الإبداع على نحو لا يُقارن؛ رأيته باعتباره الكمال الأبدي للروح المطلقة.
كم هي عقيمة وتافهة هذه الكلمات! غير أنَّ الخبرة التي تصفها ليست كذلك على الإطلاق.
حين واجهت، أنا العقل الكوني، زهرة كل النجوم والعوالم، هذه اللانهائية التي تَكمن في مُستوى أعمق من أعمق جذوري وأعلى مما قد يُمكن أن أبلغه على الإطلاق، قد فزعت مثلَما يَفزع همجي من البرق والرعد. وحين سقطت متذلِّلًا أمام صانع النجوم، كان عقلي مغمورًا بفيض من الصور. الآلهة الخيالية لجميع السلالات في جميع العوالم احتشدَت جميعها أمامي من جديد باعتبارها رموز العظمة والرقة والقوة الغاشمة والإبداع الأعمى والحكمة البصيرة. وبالرغم من أنَّ هذه الصور لم تكن سوى خيالات قد اختلقتْها عقول مُبتكِريها، فقد بدا لي أنَّ كلًّا منها يجسد بالفعل سِمة حقيقية لتأثير صانع النجوم على مخلوقاته.
بينما رحتُ أتأمَّل حشد الآلهة الذي انبثق أمامي كغيمة دخان من العوالم العديدة، تشكلت في عقلي صورة جديدة أو رمز جديد للروح اللانهائية. وبالرغم من أنها قد انبثقت من مخيلتي الكونية؛ فقد تولَّدت من خلال قوة أعظم من أناي. إنَّ هذه الرؤية التي أربكتني بشدة، أنا العقل الكوني، ومنحتني شعورًا ساميًا بالانتشاء، لم يتبقَّ منها للمؤلف البشري لهذا الكتاب سوى أقل القليل. بالرغم من ذلك، لا بد لي من أن أحاول أن أصورها من جديد في شبكة واهية من الكلمات بأفضل ما أستطيع.
بدا لي أنني عدت في الزمن إلى الماضي حيث لحظة الخلق. لقد شاهدت ميلاد الكون.
تفكرت الروح. بالرغم من أنها لا نهائية وأبدية، فقد قيَّدت نفسها بوجود متناهٍ ومؤقَّت، وتفكرت في ماضٍ لم يسعدها. لم تكن راضية عن بعض خلق سابق كان محجوبًا عني، ولم تكن راضية أيضًا عن طبيعته العابرة. وهذا الاستياء قد استفزَّ الروح إلى خلق جديد.
أما الآن، فوفقًا للرؤية الخيالية التي تصوَّرها عقلي الكوني، فإنَّ الروح المُطلَقة التي قصرت نفسها على الإبداع، قد جسَّدت من نفسها ذرة من إمكاناتها غير المحدودة. وهذا الكون المصغَّر قد حَبِل بجنين من الزمان والمكان الملائمين وجميع أنواع الكائنات الكونية. داخل هذا الكون النُّقطِي، كانت مراكز القوة الفيزيائية المتنوِّعة وإن كانت محدودة العدد، والتي يعرفها البشر على نحو مُبهَم بالإلكترونات والبروتونات وغير ذلك، تقترن في بداية الأمر بعضها ببعض، وكانت خامِلة. المادة التي كونت عشرة ملايين من المجرات كانت تكمن خاملة في نقطة.
ثم قال صانع النجوم: «ليولد الضوء.» فكان الضوء. من جميع مراكز القوة المقترنة والنقطية، انبثق الضوء وتوهج. انفجر الكون، محقِّقًا قدرته المتمثلة في الزمان والمكان. اندفعت مراكز القوة مُبتعِدة بعضها عن بعض مثلَما تَبتعِد شظايا قنبلة مُتفجِّرة، غير أنَّ كلًّا منها قد احتفظ بداخِلِه على سبيل الذِّكرى والاشتياق، الروح الواحدة للكل، وأظهرت كلٌّ منها سمات لجميع القوى الأخرى على مدار المكان والزمان الكونيَّين بأكملهما.
لم يَعُد الكون الآن نقطة، بل صار كتلة من مادة تتَّسم بكثافة مهولة ونشاط إشعاعي عنيف للغاية، والتي ظلَّت تتمدَّد باستمرار. وقد كان روحًا نائمة مفكَّكة على نحو لا نهائي.
بالرغم من ذلك، فالقول بأنَّ الكون كان يتمدَّد يعني أننا نقول بأنَّ عناصرَه كانت تَنكمِش. إن مراكز القوى النهائية، والتي كانت مقترنة في البداية بالكون النقطي، هي نفسها التي ولَّدت المكان الكوني بتفكُّكها بعضها عن بعضٍ؛ فلم يكن تمدُّد الكون بأكمله سوى انكماش لجميع وحداته الفيزيائية وللأطوال الموجية لضوئه. وبالرغم من أنَّ الكون كان محدَّد الحجم على الدوام؛ فقد كان بلا حدود أو مركز فيما يتعلَّق بتفاصيل موجاته الضوئية. ومثلما يكون سطح الكرة المنتفِخة بلا حدود أو مركز، كذلك كانت كتلة الكون المنتفِخة عديمة الحدود والمركز. ومثلما يتمركز السطح الكروي على نقطة خارجه، في «بعد ثالث»، كانت كتلة الكون مرتكزة على نقطة خارجه، في «بعد رابع».
انتفخت تلك الغيمة النيرانية المُحتقِنة المتفجِّرة إلى أن صارت في حجم كوكب، ثم في حجم نجم، ثم في حجم مجرة بأكملها، ثم في حجم عشرة ملايين من المجرات. ومع انتفاخه، صار أقل كثافة وأقل لمعانًا وأقل اضطرابًا. الآن تمزقت الغيمة الكونية بفعل ضغط التمدد المتعارض مع الالتصاق المتبادل بين أجزائها؛ فتقطعت إلى عدة ملايين من الغيوم الصغيرة، والتي شكَّلت حشد السُّدُم العظيمة.
على مدار فترة من الوقت، كانت درجة القرب بين هذه الغيوم مقارنةً بحجمها، شبيهة بدرجة القرب بين نُدف الغيوم في سماء مرقطة. غير أنَّ القنوات الموجودة بينها قد اتسعت إلى أن انفصلت الغيوم عن بعضها كانفصال الورود على شجيرة، كالنحل في سربه الطائر، كالطيور في رحلة للهجرة، كالسفن في البحر. راحت تتباعد بعضها عن بعض بسرعة تتزايد أكثر فأكثر. وفي الوقت نفسه، انكمشت كل غيمة إلى أن أصبحت في البداية كرةً من الزغب ثم عدسة دوَّارة ثم دوامة من تيارات النجوم.
استمر الكون في التمدد إلى أن صارت المجرات الأبعد إحداها عن الأخرى تسبَح مُبتعِدة بدرجة كبيرة، حتى إنَّ الضوء الكوني الزاحف لم يَعُد قادرًا على رأب الصدع بينها.
بالرغم من ذلك، فمن خلال الرؤية التخيُّلية، استطعتُ الحفاظ على مشاهدتها جميعًا. كان الأمر كما لو أنَّ ضوءًا آخر، آنيًّا يفوق الضوء الكوني ولم يكن يصدر من داخل الفضاء الكوني، كان ينير كل الأشياء داخليًّا.
ومجددًا، لكن هذه المرة في ضوء جديد بارد نافذ، رحتُ أراقب جميع حيوات النجوم والعوالم والمجتمَعات المجرِّية، وحياتي أنا نفسي حتى اللحظة التي كنت أقف فيها الآن في مواجَهة الكيان اللانهائي الذي يدعوه البشر بالإله، ويتصوَّرونه وفقًا لرغباتهم البشرية.
أنا، أيضًا، كنت أسعى الآن إلى فهم الرُّوح اللانهائية، أي، صانع النجوم، في صورة قد نسجتها طبيعتي المتناهية وإن كانت كونية. الآن قد بدا لي، بدا فحسب، أنني على حين غرة، قد تجاوزت الرؤية الثلاثية الأبعاد الملائمة لجميع الكائنات، وأنني قد رأيتُ صانع النجوم بحاسة البصر المادية. لقد رأيت في غير المكان الكوني المصدر المتوهِّج للضوء الفائق للكون كما لو أنه كان نقطة مهولة اللمعان، نجم أو شمس أعتى من الشموس كلها مجتمعةً معًا. بدا لي أنَّ هذا النجم الساطع هو مركز كرة رباعية الأبعاد كان سطحها المُنحني هو الكون الثلاثي الأبعاد. هذا النجم المتسيِّد على كل النجوم، هذا النجم الذي كان في واقع الأمر هو صانع النجوم، قد تجلَّى لإدراكي، أنا مخلوقه الكوني، للحظة واحدة قبل أن يحرق بهاؤه بصري. وفي تلك اللحظة، عرفت أنني قد رأيت بالفعل المصدر الفعلي لجميع الضوء والحياة والعقل الكوني، ومصدر الكثير جدًّا مما لم أكن قد حظيت بمعرفته بعد.
غير أنَّ هذه الصورة، هذا الرمز الذي تخيَّله عقلي الكوني تحت وطأة الخبرة التي لا يُمكن تصورها، قد تعطلت وتحوَّلت في أثناء فعل التصوُّر نفسه، ولقد كانت غير ملائمة للغاية مقارنةً بحقيقة الخبرة. وإذ استدعيت في عماي لحظة الرؤية، وجدتني الآن أتخيل أنَّ النجم الذي كان هو صانع النجوم، والمركز الجوهري للوجود بأكمله، قد بدا أنه ينظر إليَّ أنا مخلوقه، من عليائه اللامتناهي، وأنني حين رأيته نشرت أجنحة رُوحي الهزيلة على الفور وحلَّقت إليه، فما كان إلا أن عَميتُ واحترقت وصُعِقت. كان قد بدا لي في لحظة الرؤية، أنَّ جميع اشتياق الأرواح المتناهية وأملها في الاتحاد مع الروح اللامتناهية كان يَمنح أجنحتي القوة. بدا لي أنَ صانع النجوم، صانعي، لا بد أن يتقدَّم لكي يلتقي بي ويَرفعني إليه ويشملني في بهائه. لقد بدا لي أنني، رُوح العديد من العوالم وزهرة الكثير جدًّا من العصور، كنتُ الكنيسة الكونية، والتي صارت تليق أخيرًا بأن تكون عروسَ الإله. غير أنني بدلًا من ذلك قد عَميتُ وحُرِقت وصُعِقت بالنور الرهيب.
لم يكن البريق المادي فقط هو الذي صعَقَني في تلك اللحظة الأسمى من حياتي. في تلك اللحظة، خمنت أي حالات الروح اللامتناهية هي التي صنَعَتِ الكون في حقيقة الأمر وظلَّت تدعمُه باستمرار، مع مراقبة نموِّه المؤلم. وقد كان ذلك الاكتشاف هو ما صعقني.
إنني لم أُقابَل بالحب العطوف المرحب، بل برُوح مختلفة للغاية. وفورًا أدركت أنَّ صانع النجوم لم يَصنعني لأكون عروسَه ولا حتى طفله العزيز، وإنما لغاية أخرى.
لقد بدا لي أنه تمعَّن النظر فيَّ من علياء ألوهيته بالاهتمام المتحفِّظ الشغوف الذي يوليه الفنان إذ يحكم على عمله النهائي؛ فيبتهج بإنجازه بهدوء، غير أنه يَكتشِف في النهاية ما يحتوي عليه تصوره المبدئي من عيوب غير قابلة للإصلاح؛ فيَشتهي بالفعل خلقًا جديدًا.
حللتْنِي نظرته ببراعة هادئة، ونحت جانبًا عيوبي واستخلصت لثرائه الخاص جميع مظاهر التفوق القليلة التي حقَّقتها في صراع العصور.
ومن ألمي، صرخت ثورةً على صانعي القاسِي. صرخت قائلًا بأن المخلوق، في نهاية المطاف، أنبل من الخالق؛ فالمخلوق قد أحب واشتهى الحب حتى من النجم الذي كان هو صانع النجوم، لكنَّ الخالق، صانع النجوم، لا هو أحب ولا كان في حاجة إلى الحب.
غير أنني بمجرَّد أن صرخت في تعاستي العمياء، أدركت بخزيٍ حماقتي؛ إذ تجلَّى لي فجأة أنَّ الفضيلة عند الخالق تَختلِف عن الفضيلة عند المخلوق. إن الخالق إن أحب مخلوقه، فإنما يكون بذلك يحبُّ جزءًا من نفسه فحسب، لكنَّ المخلوق إن يمجد الخالق فهو يمجد كيانًا غير محدود يتجاوزه. لقد رأيت أنَّ الفضيلة عند المخلوق هي أن يحب ويعبد، أما الفضيلة عند الخالق فهي أن يخلق، وأن يكون هو الهدف اللامتناهي الذي يستعصي على إدراك مخلوقاته العابدة وفهمها.
ومجددًا صرختُ إلى صانعي، لكن في خزي وافتتان هذه المرة. وقلت: «يكفي، بل إنَّ هذا أكثر مما يكفي بكثير، أن أكون مخلوقًا لروح جميلة ورهيبة للغاية مثلك، رُوح لا متناهية القدرة تسمو طبيعتها على الإدراك، حتى وإن كان إدراك كون عاقل. يكفي أنني قد خُلِقت، وأنني للحظة قد جسدتُ الروح اللامتناهية العظيمة الإبداع. يكفي تمامًا أن أكون قد استُخدِمت، يكفي أنني كنت التخطيط المبدئي لنوع متقَن من الخلق.»
بعد ذلك، حلَّ بي سلام وبهجة غريبان.
حين نظرتُ إلى المستقبل، رأيتُ اضمحلالي وسقوطي، بنوعٍ من الاهتمام الهادئ لا الحزن. رأيت شعوب العوالم النجمية تَستنفد المزيد والمزيد من مواردها من أجل الحفاظ على حضاراتها المقتصِدة. لقد استخدمت من المادة الموجودة في بواطن النجوم قدرًا كبيرًا للغاية حتى إنها قد تفكَّكت؛ فتعرَّضت عوالمها إلى خطر الانهيار. وقد تحطَّمت بعض العوالم بالفعل إلى شظايا عند مراكزها الجوفاء؛ مما أدى إلى تدمير الشعوب المتوطِّنة فيها. كانت مُعظَم العوالم تُصنَع من جديد قبل أن تصل إلى النقطة الحرجة، فكانت تُقسَّم بصبر إلى أجزاء ويُعاد بناؤها من جديد على نطاق أصغر. وواحدًا تلوَ الآخر تحول كل نجم إلى عالم في الحجم الكوكبي فحسب، بل إنَّ بعضها لم يكن يكبر عن حجم القمر. الشعوب نفسها قد تقلَّصت إلى محض واحد على مليون من أعدادها الأصلية، مُحتفِظة داخل كل حبة جوفاء صغيرة بحضارة بسيطة في ظروف كانت تُصبِح أشد فقرًا على نحوٍ متزايد.
حين نظرت إلى الدهور المستقبلية من اللحظة الأسمى للكون، رأيتُ الشعوب ما تزال تحافظ بكل ما أوتيت من قوة على أساسيات ثقافتها القديمة، ولا تزال تعيش حيواتها الشخصية بحماس وابتكار لا نهائيَّيْن، ولا تزال تُمارس الاتصال التخاطُري بين العوالم، وكانت ما تزال تَتشارَك كلَّ ما كان ذا قيمة من وجهة نظر أرواحها العالَمية، وكانت ما تزال تدعم الاتحاد الكوني الحقيقي من خلال عقلِها الكوني الوحيد. ورأيت نفسي ما أزال مُحتفِظًا بصفاء وعيي، لكنَّ ذلك كان بصعوبة مُتزايدة، محاربًا بداية الخمول والخرف. ولم يَعُد ذلك أملًا في أن أرتقي إلى مرحلة أرقى مما قد وصلت إليها بالفعل، أو أن أضع أمام صانع النجوم جوهرة عبادة هي أليق بعض الشيء، وإنما كان ذلك بدافع الشغف بالتجربة والولاء للروح فحسب.
غير أنَّ الانحلال قد تمكَّن مني في نهاية المطاف. واضطُر العالم تلوَ العالم، في ضوء الصعوبات الاقتصادية المتزايدة، إلى تقليص شَعبِه إلى ما هو أقل من العدد اللازم لعمل عقليته المشتركة؛ ومن ثمَّ، وكما هو الحال بالنسبة إلى مركز دماغي مُتحلِّل، لم تَعُد تلك العقلية قادرةً على أداء دورها في التجربة الكونية.
وإذ رحت أتطلع للمُستقبَل من موقعي في اللحظة الكونية الأسمى، رأيتُ نفسي، أنا العقل الكوني، أهوي بثبات إلى الموت. بالرغم من ذلك، ففي عهدي الأخير هذا حين كانت جميع قواي آخذةً في الضعف، وكان لعبء جسدي المُتداعي وطأةٌ شديدة على شجاعتي الواهنة، ثمة ذكرى مُبهَمة من صفاء الحقب الماضية كانت تُعزيني. لقد كنت أعرف على نحوٍ مُبهَم أن صانع النجوم كان لا يزال ينظر إليَّ، حتى في عصري الأخير المُثير للشفقة هذا، نظرة تتَّسم بالشغف بالرغم من حياديتها.
وأنا لا زلت أستَكشِف المستقبل من لحظة نضجي الأسمى الذي لا يعرف الذبول، رأيت موتي، الانقطاع الأخير لهذه الاتصالات التخاطُرية التي كان وجودي يعتمد عليها. وبعد ذلك، عاشت العوالم الناجية القليلة في عزلة مطلقة، وفي تلك الحالة الهمجية التي يدعوها البشر بالتحضُّر. وبعد ذلك، بدأت تتهاوى المهارات الأساسية للحضارة المادية في عالمٍ تلو الآخر، لا سيما مهارات التفكيك الذرِّي والبناء الضوئي. كانت العوالم إما أن تُفجِّر مخزونها القليل المتبقِّي من المادة عن غير قصد وتتحوَّل إلى كرة من الموجات الضوئية التي تَنتشِر ثم تخبو في الظلام الهائل، وإما أن تموت بتعاسةٍ من الجوع والبرد. الآن لم يتبقَّ في الكون بأكمله سوى الظلام وبقايا الغبار القاتمة التي كانت مجرات فيما سبق. مرَّت دهور لا تُحصى. وشيئًا فشيئًا، انكمشَت بقايا حبات الغبار تلك على نفسها بفعل تأثير جاذبية أجزائها، ومع بعض التصادُمات المتَّقدة بين الحبات المتجوِّلة، تكثفت في النهاية جميع المواد الموجودة في كل حفنةٍ من الغبار لتُصبِح كتلة واحدة. أدى ضغط المناطق الخارجية الضخمة إلى تسخين مركز كل كتلة في هذه الكتل، مما أدَّى إلى حدوث نشاط توقدي، بل حتى انفجاري. بالرغم من ذلك، شيئًا فشيئًا، اتجهت آخر الموارد الموجودة في الكون بإشعاعها بعيدًا عن هذه الكتل الآخذة في البرودة، ولم يتبقَّ شيء سوى الصخور وتموجات خافتة للغاية من الإشعاع راحت تنتشر في جميع أرجاء الكون الدائم «التمدُّد»، وببطءٍ شديد لا يسمح برأب الصدوع المتزايدة بين حبات الصخور المنعزلة.
في هذه الأثناء، ولأنَّ جميع الكرات الصخرية التي كانت مجرات فيما سبق قد حُمِلت إلى مكانٍ بعيد للغاية عن التأثير الفيزيائي لرفاقها، ولم يَعُد هناك من عقول للحفاظ على الاتصال التخاطُري بينها؛ فقد كانت كلٌّ منها في حقيقة الأمر تُمثِّل كونًا مُستقلًّا بالكامل. ولأنَّ جميع التغيُّرات قد توقَّفَت، فقد توقَّف الزمن أيضًا في كلٍّ من هذه الأكوان القاحلة.
ولأنَّ هذا الوضع كان هو ما سيُمثِّل النهاية الثابتة الأبدية على ما يبدو، فقد انسحبتُ بانتباهي المُرهَق مجددًا إلى اللحظة الأسمى التي كانت هي حاضِري في واقع الأمر، بل ماضيَّ القريب على وجه الدقة. وبجميع قُوايَ العقلية الناضِجة، حاولت أن أرى بوضوحٍ أكبر ما كان حاضرًا أمامي في ذلك الماضي القريب؛ ففي تلك اللحظة التي رأيتُ فيها النجم المتوهِّج الذي كان هو صانع النجوم، لمحتُ في أم عين ذلك البهاء، مَشاهدَ غريبةً من الوجود، وكأنَّما في أعماق الماضي الكوني الفائق والمستقبل الكوني الفائق أيضًا، يقبع كونٌ وراء كون، وكل ذلك يوجد في الأبدية.