الصانع وأعماله
(١) الخلق غير الناضج
وفقًا للأسطورة الخيالية أو الحلم الذي انبثق من عقلي بعد خبرة اللحظة الأسمى، فإنَّ الكون المحدد الذي صرتُ أعتبر أنه «ذاتي» يقع في مرتبة لا هي بالمبكرة ولا بالمتأخرة في السلسلة الشاسعة للمخلوقات. وبدا أنه، في بعض الجوانب، أول الأعمال الناضجة التي أبدعها صانع النجوم، غير أنه كان يبدو، في العديد من الجوانب، طفولي الرُّوح مُقارنةً بأعماله اللاحقة.
وبالرغم من أنَّ الأعمال المبكرة لا تعبِّر عن طبيعة صانع النجوم إلا في مرحلته غير الناضجة، فإنها في الغالب تقع في جوانب مهمة في اتجاه يَختلف عن اتجاه التفكير البشري؛ ولهذا فأنا لا أستطيع الآن أن أستعيدها ثانية. إنها لم تترك لديَّ سوى انطباع مبهم بتعدد أعمال صانع النجوم وتنوعها. بالرغم من ذلك، فما تزال هناك بضعة أمور يُمكن للبشر إدراكها ولا بد من تسجيلها.
في الوسط البدائي لحلمي، جاء الكون الأول على الإطلاق بسيطًا للغاية على نحو مثير للدهشة. لقد بدا لي أنَّ صانع النجوم الطفل، بعد أن أثارته قدرته غير المعبر عنها، قد تصور سمتين من ذاته وجسَّدهما. وبهاتين السمتين فقط، صنع أول كون دمية له. ولم يكن هذا الكون سوى إيقاع زمني وكأنه يتألَّف من الصوت والصمت. ومن دقِّ الطبول الأول البسيط هذا، والذي كان مُنذرًا بالآلاف من الأكوان، طور صانع النجوم بحماس طفولي، لكنه إلهي في الوقت ذاته، قرعًا إيقاعيًّا منتظمًا؛ نمط معقد ومتغير من الإيقاع. بعد ذلك بفترة قصيرة، من خلال التأمُّل في الهيئة البسيطة لِمَخلوقه، تَصوَّر صانع النجوم إمكانية وجود كونٍ أكثرَ براعة؛ ومن ثمَّ فقد ولَّد أولُ المخلوقات في خالقه حاجةً لم يتمكن قطُّ من إشباعها؛ ومن ثمَّ فقد أسدل صانع النجوم الطفل الستار على كونه الأول. وحين نظر إليه صانع النجوم من خارج الزمن الكَوني الذي ولَّده، أبقى مسيرته بأكملها في الزمن الحاضر. وحين انتهى من تقييم عمله بهدوء، حوَّل انتباهه عنه وراح يفكر مَليًّا في كون ثانٍ.
بعد ذلك، راح الكون تلو الآخر ينبثق من مخيلته المتقدة، وكل منها أثرى مما سبقه وأكثر دقة. في بعض المخلوقات الأولى، بدا أنه لا يهتم إلا بالجانب الفيزيائي من المادة التي جسَّدها من نفسِه. كان غافلًا عما بها من إمكانات فيزيائية. بالرغم من ذلك، ففي أحد الأكوان المبكِّرة، أدَّت أنماطُ السِّمة الفيزيائية التي لعب بها إلى تحفيز طبيعة فردانية وحياة لم تكن هذه الأنماط تمتلكها في حقيقة الأمر، أم هل يا ترى كانت تمتلكها؟ في كون لاحق، انبثقت الحياة الفعلية على نحو شديد الغرابة بالفعل. لقد كان ذلك كونًا قد أدركه صانع النجوم من الناحية الفيزيائية مثلما كان يدرك البشر الموسيقى. لقد كان تسلسلًا ثريًّا من السمات المتنوعة في الحدة والشدة. لعب صانع النجوم الطفل بهذه الدمية بسرور، مخترعًا مجموعة لا نهائية من الألحان والنغمات المُرافِقة. بالرغم من ذلك، فقبل أن يتمكَّن من تحديد جميع الفوارق النمطية الدقيقة في هذا العالم الصغير من الموسيقى الرياضية الباردة، وقبل أن يكون قد خلق ما يزيد عن بضعة فقط من الأكوان الموسيقية العديمة الحياة، اتضح له أنَّ بعض مخلوقاته تبدي علامات على تمتُّعها بحياة خاصة بها تتمرد على الهدف الواعي لصانع النجوم. بدأت موضوعات الموسيقى تَكشِف عن أنماط سلوكية لم تكن مُتوافِقة مع القانون الذي قد سنَّه لها. بدا لي أنه كان يُراقبها باهتمام شديد، وأنها استثارت فيه تصوُّرات جديدة تتجاوَز قدرة المخلوقات على تحقيقها؛ ولهذا فقد انتهى من هذا الكون وبطريقة جديدة. لقد خطَّط لأن تُؤدِّي الحالة النهائية للكون إلى الحالة الأولى على الفور. ربط الحدث الزمني الأخير بالبداية؛ ومن ثمَّ فقد شكَّل الزمن الكوني حلقة لا نهائية. وبعد أن تأمَّل عمله من خارج زمنه المناسب له، نحاه جانبًا، وبدأ التفكير في خلق جديد.
في الأكوان التالية، تعمَّد وضع شيء من فطنته وإرادته؛ فقضى بأن تكون بعض الأنماط والإيقاعات المحدَّدة هي الأجسام المادية لعقول تتمتَّع بالقدرة على الإدراك. يبدو أنَّ هذه المخلوقات كان من المفترض أن تَعمل معًا لإنتاج التناغُم الذي كان هو قد تخيَّله لهذا الكون، غير أنَّ كلًّا منها قد سعى جاهدًا لأن يصوغ الكون بأكمله بما يتَّفق مع صورته. تقاتَلَت المخلوقات قتالًا مُستميتًا، وهي مُقتنعة بصلاحها واستقامتها. وحين تضرَّرت، عانت من الألم. ويبدو أنَّ هذا كان أمرًا لم يَختبِره صانع النجوم الصغير أو يتخيَّله. وباهتمام مُستغرِق مُندهِش، وبجذل يكاد أن يكون شيطانيًّا أيضًا (مثلما بدا لي)، راح يراقب حماقات أولى مخلوقاته الحية ومعاناتها، إلى أن حوَّلت هذا الكون بصراعاتها ومذابحها إلى الفوضى.
ومنذ ذلك الوقت، لم يتجاهَل صانع النجوم قطُّ إمكانية وجود الحياة في مخلوقاته. بالرغم من ذلك، فقد بدا لي أنَّ العديد من تجاربه الأولى في الخلق الحيوي كانت تَنحرف عن مسارها على نحو غريب، وأنه في بعض الأحيان، كان يعود لبرهة إلى الخيالات الفيزيائية الخالصة، تقززًا على ما يبدو من الطبيعة الحيوية.
لا يُمكنني أن أصف مجموعة الأكوان الأولى إلا باختصار شديد. ويكفي القول إنها قد انبثقت من خيال إلهي ما يَزال في مرحلة الطفولة. لقد انبثقت واحدًا تلو الآخر كأنها فقاعات زاهية مبهرجة الألوان لكنها عديمة القيمة والتي كانت ثرية بجميع أنواع التفاصيل الفيزيائية الدقيقة، وشاعرية ومأساوية في معظم الأحيان بما فيها من مظاهر الحب والكراهية والرغبات والطموحات والمشروعات المشتركة لأولى الكائنات التجريبية الواعية التي خلقها صانع النجوم.
كانت العديد من هذه الأكوان المبكِّرة أكوانًا لا مكانية، غير أنها كانت فيزيائية بالرغم من ذلك. وقد كان عدد غير قليل من هذه الأكوان اللامكانية، يَنتمي إلى النوع «الموسيقي»، والذي كان المكان يُمثَّل فيه على نحوٍ غريب ببُعدٍ مُماثِل للحدة الموسيقية، وهو ثريٌّ بمجموعة متنوعة من الفروقات اللحنية. كانت المَخلوقات يبدو بعضُها لبعض على أنه أنماط وإيقاعات معقَّدة من السمات اللحنية. كانت تستطيع تحريك أجسادها اللحنية في بُعد الحدة، وفي أبعادٍ أخرى في بعض الأحيان لا يُمكن للبشر تصوُّرها. كان جسد الكائن يُشبه نمطًا لحنيًّا ثابتًا بدرجة أو بأخرى، وكان يتمتَّع بالدرجة نفسها من المرونة والقُدرة على التغيُّر البسيط التي يتمتَّع بها الجسد البشري. وكان يستطيع أيضًا أن يجتاز غيره من الأجساد الحية في بُعدِ الحدَّة، مثلما تتقاطع سلاسل الموجات في بحيرة بعضها مع بعض. لكن رغم أنَّ هذه الكائنات كانت تَستطيع أن تتجاوَز إحداها الأخرى فحسب، فقد كان يُمكنها الشجار أيضًا وتدمير الأنسجة اللحنية بعضها لبعض. لقد كان بعضها يعيش بالفعل على الْتِهام الآخرين؛ ذلك أنَّ الأجساد الأكثر تعقيدًا كانت تحتاج إلى أن تضم في أنماطها الحيوية الأنماط الأبسط التي كانت تنتشر مباشرة من القوة الإبداعية لصانع النجوم في الكون بأكمله. استطاعت الكائنات الذكية استخدام عناصر مستخرجة من البيئة اللحنية من أجل تحقيق غاياتها؛ ومن ثمَّ فقد صنعت أدوات ذات نمط لَحْني. استُخدِمت بعض هذه الأدوات في المتابعة الأكثر فعالية للأنشطة «الزراعية» التي تمكنت من خلالها من تعزيز وفرة غذائها الطبيعي. وبالرغم من أنَّ هذه الأكوان اللامكانية أبسط للغاية وأكثر ضآلة على نحوٍ لا يُقارَن من كوننا، فإنها كانت تتمتَّع بالثراء الكافي لإنتاج مجتمعات قادرة على «الصناعة اليدوية»، لا «الزراعة» فحسب، بل إنها قد تمكَّنت أيضًا من إنتاج فنٍّ خالص يجمع بين سمات الغناء والرقص والشعر. كان أول ظهور للفلسفة بمعناها العام لا الفيثاغورثي، على أحد هذه الأكوان «الموسيقية». وفقًا لحُلمي، كان الزمن لا المكان، هو السِّمة الأكثر جوهرية في الغالبية الساحقة من أعمال صانع النجوم. ورغم أنه قد استبعد الزمن من بعض مخلوقاته الأولى، مجسِّدًا تصميمًا ثابتًا فحسب، فسرعان ما تخلَّى عن هذه الخطة. لقد كانت تُقيد مهارته بنطاق صغير للغاية. ثم إنها كانت تستبعد إمكانية العقل والحياة، فلم تتوافَق مع أيٍّ من اهتماماته سوى اهتماماته في المرحلة الأولى على الإطلاق.
أوضح حلمي أنَّ المكان قد ظهر أولًا باعتباره تطويرًا لأحد الأبعاد اللامكانية في كونٍ من النوع «الموسيقي». لم تكن الكائنات اللحنية في هذا الكون تستطيع التحرك إلى «الأعلى» و«الأسفل» على السلَّم الموسيقي فحسب، بل كانت تستطيع الحركة «جانبيًّا» أيضًا. في الموسيقى البشرية، يُمكن أن تبدو بعض الموضوعات المحدَّدة أنها تقترب أو تبتعد وَفْقًا لاختلافها في جهورية الصوت وجرسه الموسيقي. وعلى نحوٍ مُشابهٍ لهذا، كانت الكائنات في هذا الكون «الموسيقي» تستطيع الاقتراب بعضها من بعض أو الابتعاد إلى أن تختفي نهائيًّا من مدى السمع. وعند تحرُّكها «جانبيًّا» كانت تَنتقِل عبر بيئات لحنية دائمة التغير. وفي كون تالٍ، أُثريَت هذه الحركة «الجانبية» للكائنات بخبرة مكانية حقيقية.
تلا ذلك أكوان تتمتَّع بسمات مكانية ذات أبعاد متعددة، أكوان إقليدية وغير إقليدية، أكوان تُجسِّد تنوعًا هائلًا في المبادئ الهندسية والفيزيائية. في بعض الأحيان، كان الزمان أو الزمكان، هو الحقيقة الجوهرية في الكون، ولم تكن الكائنات سوى صورٍ مُعدَّلة عابرة منها. وبالرغم من ذلك، ففي معظم الأحيان كانت الأحداث الكيفية هي الجوهرية، وكانت مُترابطة على نحوٍ مكاني-زماني. في بعض الحالات، كان نظام العلاقات المكانية لا نهائيًّا، وكان نهائيًّا في بعضها الآخر لكن دون حدود. في بعض الحالات، كان لمدى المكان المحدود قدرٌ ثابت يتناسب مع مكونات المادة الذرية في الكون، وفي بعضها الآخر، مثلما هي الحال في كَونِنا، كان يبدو في العديد من الجوانب أنه «يتمدَّد». وفي بعض الأكوان الأخرى، كان المكان «يَنكمِش»؛ ومن ثمَّ تكون نهاية مثل ذلك الكون، الذي قد يكون ثريًّا بالمجتمعات الذكية، هي اصطدام جميع أجزائه وتكدُّسها معًا، ثم اجتماعها في النهاية معًا وتلاشيها في نقطة عديمة الأبعاد.
في بعض الأكوان، كان التمدُّد والسكون النهائي يُتبعان بالانكماش وأشكال جديدة تمامًا من النشاط الفيزيائي. في بعض الأحيان، مثلًا، كانت اللاجاذبية تحلُّ محلَّ الجاذبية. إن جميع الكُتَل الكبيرة من المادة كانت تميل للانشطار، في حين كانت تهرب الكتل الصغيرة مبتعدةً بعضها عن بعض. وفي مثل ذلك النوع من الأكوان، كان قانون الإنتروبيا يَنعكِس أيضًا. فكانت الطاقة بدلًا من أن تتوزَّع تدريجيًّا وعلى نحوٍ مُتساوٍ في جميع أنحاء الكون، تتراكم تدريجيًّا على الوحدات المادية النهائية. وقد شككتُ بمرور الوقت أنَّ كوني قد تُبع بكون معكوس من هذا النوع، والذي تكون فيه طبيعة الكائنات الحية بالطبع مختلفة بشدة عن كل ما يستطيع الإنسان أن يتخيَّله. غير أنَّ ذلك انحراف عن السرد؛ إذ إنني أصف الآن أكوانًا أبسط كثيرًا قد جاءت في مرحلة مبكِّرة للغاية. كانت العديد من الأكوان سائلًا مستمرًّا مُتدفقًا تسبح فيه الكائنات الصلبة. وقد صُمِّم بعضها الآخر على هيئة سلسلة من الدوائر المتحدة المركز، التي تسكنُها أنواع متعدِّدة من الكائنات. وقد كانت بعض الأكوان المبكرة نسبيًّا أكوانًا شبه فلكية تتألَّف من فراغ يتناثر فيه عدد قليل للغاية من مراكز القوى صغيرة الحجم.
في بعض الأحيان، كان صانع النجوم يصوغ كونًا ليس له أيُّ طبيعة فيزيائية موضوعية واحدة. ولا يكون لمخلوقاته أيُّ تأثير لبعضها على بعض على الإطلاق، وإنما يتصوَّر كلٌّ من الكائنات، بفعل التحفيز المباشر من صانع النجوم، عالَمًا فيزيائيًّا وهميًّا لكنه جدير بالثقة ونافع، ويكون هذا العالم خاصًّا به، وهو يُسكنه كائناتٍ من نسج خياله. كانت هذه العوالم الذاتية التي تُمثِّل العبقرية الرياضية لصانع النجوم مُترابِطةً على نحو مَنهجي بصورة مثالية.
لا يَنبغي بي أن أستفيض أكثر من ذلك في ذكر التنوُّع الهائل في الأشكال الفيزيائية التي اتَّخذتها الأكوان الأولى. يَكفي القول أنَّ كل كون، بوجه عام، كان أكثر تعقيدًا وعلى نحوٍ ما أكثر ضخامةً مما سبقه؛ إذ كانت الوحدات الفيزيائية النهائية في كلٍّ من هذه الأكوان تَصير أصغر مقارنةً بالمجموع، وأكثر عددًا. كذلك، كانت الكائنات الفردية الواعية في كل منها بوجه عام تزداد في العدد والتنوع، وكان الأكثر تيقظًا منها في كل كون يصل إلى عقلية أصفى من جميع الكائنات في الأكوان السابقة.
كانت الأكوان الأولى شديدة التنوع بيولوجيًّا ونفسيًّا. في بعض الحالات، كان هناك تطوُّر بيولوجي مثل ذلك الذي نعرفه. تتطوَّر أقلية صغيرة من الأنواع على نحوٍ غير ثابت باتجاه امتلاك قدرٍ أكبر من الفردية والوضوح الذِّهني. وفي بعض الأكوان الأخرى، كانت الأنواع ثابتة من الناحية البيولوجية، وإذا شهدت تقدمًا فإنه يكون ثقافيًّا خالصًا. وفي بضعة من الأكوان الأكثر إلغازًا، كان الكون يبلغ أقصى حالات اليقظة في البداية، وبهدوء، كان صانع النجوم يُشاهد هذا الوعي الصافي وهو يَتداعى.
في بعض الأحيان، كان الكون يبدأ بوصفه كائنًا بدائيًّا مفردًا ذا بيئة داخلية غير عُضوية. وكان يتكاثر بعد ذلك بالانشطار إلى مجموعة مُتزايدة من الكائنات مُتزايدة الصغر ومتزايدة التفرُّد واليقظة. في بعض هذه الأكوان، كان التطور يستمر إلى أن تُصبح الكائنات صغيرة للغاية بما لا يسمح بتكيفها مع تعقيد التركيب العضوي الضروري للعقول الذكية. وكان صانع النجوم حينها يُشاهد هذه المجتمَعات الكونية وهي تسعى باستِماتة لتجنُّب ما قُدِّر على سلالاتها من تداعٍ.
في بعض الأكوان، كان الإنجاز الأهم هو وجود مزيج من المجتمعات التي لا يفهم أحدها الآخر والتي يتفانى كلٌّ منها في خدمة جانب واحد من جوانب الرُّوح ويُعادي كلَّ ما سواه. وقد تحقَّقت الذروة في بعض هذه الأكوان في صورة مجتمع طوباوي واحد يتكوَّن من عقول مُختلِفة، وفي البعض الآخر في صورة عقل كوني مركَّب واحد.
في بعض الأحيان، كان يسرُّ صانع النجوم أن يَقضي بأن تكون جميع الكائنات في كونٍ ما تمثيلًا حتميًّا لتأثير البيئة على أسلافها وعلَيها. وفي بعض الأكوان الأخرى، كانت الكائنات تتمتَّع ببعض القدرة على الاختيار العشوائي، وبنَزر يسير من إبداع صانع النجوم نفسه. كان هذا هو ما بدا لي في حلمي، لكن حتى في حلمي كنت أشك أنَّ الأمر كان سيبدو لملاحظ أكثر دقة على أنَّ كلًّا من النوعين مسيَّر في حقيقة الأمر، ومع ذلك تلقائي ومبدع أيضًا.
في معظم الأحوال، كان صانع النجوم بمجرَّد أن يسن المبادئ العامة لكونٍ ما ويخلق حالته الأولية، يكتفي بمشاهَدة ما يحدث بعد ذلك، لكنه كان يختار التدخل أحيانًا إما بخرق أحد قوانين الطبيعة التي كان هو نفسه قد وضعها، أو بوضع مبادئ تكوينية جديدة ناشئة، أو بالتأثير في عقول مخلوقاته من خلال الوحي المباشر. وفقًا لحلمي، كان الهدف من هذا التدخُّل في بعض الأحيان هو تحسين أحد التصميمات الكونية، غير أنَّ الأغلب أن هذه التدخلات تكون موجودة في خطته الأصلية. في بعض الأحيان، كان صانع النجوم يطرح مخلوقات هي في حقيقة الأمر مجموعات من عدة أكوان مترابطة عبارة عن أنظمة فيزيائية من أنواع مختلفة للغاية، لكنها تترابط من خلال حقيقة أنَّ الكائنات كانت تعيش حيواتها على نحو مُتتابع في كون تلو الآخر، وتتَّخذ في كل موطن طبيعي بِنيَة فيزيائية أصلية، لكنها تحمل معها في تناسُخها ذكريات خافتة ويَسهُل تحريفها لحالات وجودها السابقة. كان مبدأ التناسخ هذا يُستخدم بطريقة مختلفة أيضًا في بعض الأحيان؛ فحتى الأكوان التي لم تكن مترابطة بتلك الطريقة المنهجية كان يُمكِن أن تُوجد بها كائنات تحاكي ذهنيًّا على نحو غامض لكنه مُلح خبرة نظائرها من الكائنات التي تعيش في كون آخر أو طبعها.
ثمة خط درامي للغاية قد استُخدِم في كون تلو الآخر. لقد ذكرتُ قبل ذلك أنه قد بدا في حلمي أنَّ صانع النجوم غير الناضج قد بدا مُبتهجًا على نحو شيطاني بالفشل المأساوي لأُولى تجاربه البيولوجية. وفي العديد من الأكوان التالية أيضًا قد بدا مزدوج الرأي؛ فكلما فشلت خطته الإبداعية الواعية بفعل إحدى القدرات الكامنة غير المتوقَّعة في المادة التي جسدها من أعماق لا وعيه، بدا أنَّ مزاجه لا يتضمن الإحباط فحسب، بل الرضا المندهش أيضًا، وكأنَّ ثمة شغفًا خفيًّا قد أُشبِع على نحو غير متوقع. وقد أدَّت هذه الازدواجية في الرأي بعد فترة من الوقت إلى ظهور نمط جديد من الخلق. لقد أتت مرحلة في نموِّ صانع النجوم، مثلما بدا لي في حلمي، قد سعى فيها لأن يَفصل نفسه إلى رُوحَين مُستقلتَين؛ إحداهما رُوحه الجوهرية التي كانت تسعى إلى الخلق الإيجابي لقوالب روحانية وحيوية ووعي متزايد الصفاء على الدوام، أما الروح الأخرى فهي الروح المتمردة التدميرية الساخرة التي لا يمكن أن يكون لها أي وجود إلا على شكل طفيل لتتطفَّل على أعمال الروح الأخرى.
راح صانع النجوم يفصل بين هاتين النزعتين في نفسه مرارًا وتكرارًا، ويجسدهما بصفتهما روحين مستقلتين، وسمح لهما بأن يتصارعا في أحد الأكوان على السيادة. كان هذا الكون يتألَّف من ثلاثة عوالم مُترابِطة ويذكرنا بعض الشيء بالمعتقد المسيحي. كان أول هذه العوالم الثلاثة المُترابطة مأهولًا بأجيال من الكائنات التي تتمتَّع بدرجات متفاوتة من التعقُّل والذكاء والنزاهة الأخلاقية. هنا كانت الروحان تَتصارَعان على أرواح الكائنات. كانت الروح «الخيِّرة» تعظ وتساعد وتكافئ وتعاقب، وكانت الروح «الشريرة» تُخادِع وتغوي وتحطم الأخلاق. عند الموت، ذهبت الكائنات إلى أحد العالَمين الآخرين، واللذَين كانا يُمثلان نعيمًا أبديًّا وجحيمًا أبديًّا. وهناك كانت هذه الكائنات تختبر لحظة أبدية تتمثَّل في نشوة الإدراك والعبادة أو في عذاب الندم الشديد.
حين مثَّل لي حلمي هذه الصورة البدائية الهمجية، شعرت بالرعب والتشكُّك في بادئ الأمر. كيف يُمكن لصانع النجوم، حتى وإن كان في مرحلة الرعونة، أن يحكم على مخلوقاته بالمعاناة بسبب نقاط الضعف التي وضعها هو نفسه فيهم؟ كيف لهذا الإله المحب للعقاب أن يأمر بالعبادة؟ وعبثًا حاولت أن أخبر نفسي أنَّ الحلم ولا بد قد زيَّف الحقيقة تمامًا؛ إذ إنني كنت مقتنعًا أنه في هذا الجانب لم يزيف الحقيقة، بل كان على نحوٍ ما صحيحًا، وإن كان ذلك بصورة رمزية على الأقل. بالرغم من ذلك، فحتى حين واجهت هذا الفعل الوحشي، حتى في نُفوري شفقةً ورعبًا، كنت أمجِّد صانع النجوم.
ولكي أبرر عبادتي، أخبرت نفسي أنَّ هذا اللغز المريع يتجاوَز قدرتي على الفهم، وأنَّ حتى هذه القسوة الشنيعة لا بد أن تكون على نحوٍ ما هي الصواب إن جاءت من صانع النجوم. هل من الممكن أن تكون الهمجية من سمات صانع النجوم في مرحلة رعونته فحسب؟ أيتجاوزها بعد ذلك حين تتحقَّق ذاته بالكامل؟ كلا! كنت أعرف في أعماقي بالفعل أنَّ هذه القسوة سوف تظهر حتى في الكون النهائي. أيُمكن إذن أن تكون هناك حقيقة أساسية يُمكن تبرير هذه الأفعال التي تبدو انتقامية في ضوئها، لكنني قد أغفلتها؟ أيكون الأمر ببساطة هو أنَّ كل هذه المخلوقات ليست سوى صور من القوة الخالقة في حقيقة الأمر، وأنَّ صانع النجوم في تعذيبه لمخلوقاته إنما يُعذِّب نفسه على مدار مغامرته في التعبير عن الذات؟ أم يكون الأمر أنَّ صانع النجوم نفسه، بالرغم من عظمته، محدود في جميع خلقه ببعض المبادئ المنطقية المطلقة، وأنَّ أحد هذه المبادئ يتمثَّل في الرابطة الأزلية بين الخيانة والندامة في الأرواح نصف المتيقظة؟ أيكون قد تقبَّل في هذا الكون الغريب القيود الحتمية لفنه واستخدمها؟ أم أنَّ احترامي لصانع النجوم كان موجَّهًا لروحه «الخيِّرة» دونًا عن «الشريرة»؟ وهل كان يُحاول في حقيقة الأمر أن يطرد الشر من نفسه من خلال خطة الانفصال تلك؟
كان التطور الغريب في هذا الكون يطرح مثل ذلك التفسير؛ فنظرًا لأنَّ معظم سكانه كانوا يَمتلكُون درجة منخفضة للغاية من الذكاء والنزاهة الأخلاقية، سرعان ما ازدحم الجحيم، بينما ظلَّت الجنة فارغة تقريبًا. بالرغم من ذلك، فقد كان الجانب «الخيِّر» من صانع النجوم يحب مخلوقاته ويشفق عليهم؛ ومن ثمَّ فقد دخلت روحه «الخيِّرة» إلى العالم الدنيوي لتُطهر المذنبين بمعاناته. وبهذا، فقد عُمرت الجنة أخيرًا بالسكان، غير أنَّ الجحيم لم يخلُ منهم.
ألم أكن أعبد إذن سوى الجانب «الخيِّر» في صانع النجوم؟ كلا! على نحو لا عقلاني لكن عن اقتناع، توجهتُ بعشقي لصانع النجوم بصفته التي تضم جانبي طبيعته المزدوجة؛ توجهت بالعشق إلى كلا جانبيه: «الخيِّر» و«الشرير»، اللطيف والمريع، الإنساني على نحوٍ مثالي واللاإنساني إلى أبعد الحدود. وكعاشق مفتون يُنكِر العيوب الفجَّة في محبوبه أو يَختلِق لها الأعذار، سعيت جاهدًا إلى التلطيف من الجانب اللاإنساني لدى صانع النجوم، بل إنَّني افتخرتُ به على نحو إيجابي. أكان هناك إذن جانب قاسٍ في طبيعتي؟ أم أنَّ قلبي قد أدرك على نحو مُبهَم أنَّ الحب، الذي هو الفضيلة الأسمى في المخلوقات، لا ينبغي أن يكون مُطلقًا في الخالق؟
واجهتني هذه المشكلة الملحَّة العويصة مرارًا وتكرارًا على مدار حلمي؛ فقد كان هناك كون على سبيل المثال سُمِح فيه للروحين بأن يتصارعا بطريقة جديدة وأكثر خفاءً. في مرحلته المبكرة، لم يظهر في هذا الكون سوى السمات الفيزيائية، غير أنَّ صانع النجوم قضى بأن تفصح إمكاناته الحيوية عن نفسها بصورة تدريجية في شكل أنواع محدَّدة من الكائنات الحية التي ستظهر جيلًا بعد جيل من السمات الفيزيائية الخالصة، وتتطوَّر نحو الذكاء والصفاء الروحاني. وفي هذا الكون، سمح صانع النجوم لروحيه: «الخيِّرة» و«الشريرة» بأن يتنافَسا حتى في عملية صنع الكائنات نفسها.
في العصور الأولى الطويلة، تصارعَت الرُّوحان على تطور الأنواع الكثيرة. عملت الروح «الخيِّرة» على إنتاج كائنات تتمتَّع بدرجة أعلى من التنظيم والفردانية والارتباط الدقيق بالبيئة، والبراعة في الفعل والوعي الواضح والشامل بالعالم وبأنفسهم وبالآخرين. أما الرُّوح «الشريرة» فقد حاولت إحباط هذا المشروع.
تبدى الصراع بين الروحَين في تركيب أعضاء جميع الأنواع وأنسجتها. أحيانًا كانت الروح «الشريرة» تضع ما يبدو أنه سمات تافهة في الكائن لكنها خبيثة سامة تؤدي إلى هلاكه. كانت طبيعته تتضمَّن قابلية خاصة لإيواء الطفيليات، أو بعض مواطن الضعف في آلية الهضم، أو شيء من عدم الاستقرار في التنظيم العصبي. وفي بعض الحالات الأخرى، كانت الرُّوح «الشريرة» تُزوِّد بعض الأنواع الأدنى بأسلحة خاصة لتدمير طلائع التطور حتى يذعنوا إما إلى مرضٍ جديد أو إلى الأوبئة التي تُسبِّبها آفات هذا الكون، أو إلى الأكثر وحشية من أفراد نوعهم.
كانت الروح «الشريرة» تستخدم أحيانًا خطة أكثر براعة تؤدِّي إلى تأثير عظيم. حين تكون الروح «الخيِّرة» قد توصلت إلى خطة واعدة، وطورت من بدايات صغيرة في الأنواع المفضلة لها تركيبًا عضويًّا أو نمطًا سلوكيًّا ما، فإنَّ الروح «الشريرة» كانت تُخطِّط لأن تُبقي على استمرار عملية التطور لفترة طويلة للغاية بعد أن تكون قد بلغت المرحلة المثالية في تلبية احتياجاته. فتنمو الأسنان حتى تصبح كبيرة للغاية فيصبح تناول الطعام أمرًا شديد الصعوبة، وتُصبح الأصداف الواقية ثقيلة للغاية مما يُعيق التنقل الحركي، وتُصبح القرون مُلتوية للغاية حتى إنها تضغط على الدماغ، ويُصبح الدافع إلى الفردانية ملحًّا للغاية حتى إنه يُدمِّر المجتمع أو يُصبح الدافع الاجتماعي متملكًا للغاية حتى يسحق الفردانية.
وبهذا ففي عالَمٍ تلوَ الآخر في هذا الكون، والذي كان قد تجاوَز جميع الأكوان السابقة في التعقيد، كانت الغالبية الساحِقة من الأنواع تتعرَّض عاجِلًا أو آجلًا إلى الهلاك. بالرغم من ذلك، فقد وصل نوع واحد في بعض العوالم إلى المُستوى «البشري» من الذكاء والوعي الرُّوحانيَّين. وكان من المفترض أن تحميه هاتان القوتان من جميع الهجمات المُحتمَلة، غير أنَّ الروح «الشريرة» قد شوَّهت الذكاء والوعي الرُّوحانيَّين كليهما على نحوٍ شديد البراعة. ذلك أنه بالرغم من تكامُلهما بحكم الطبيعة، فإنهما قد يتصارعان أيضًا، أو يُمكن المبالغة في أحدهما أو كليهما ليكون مُهلكًا كالقرون والأسنان الشديدة الطول في الأنواع السابقة؛ ومن ثمَّ فالذكاء، الذي كان يُؤدِّي من جانب إلى التحكُّم في القوى المادية وإلى البراعة الفكرية على الجانب الآخر، يُمكِن أن يُؤدي إلى حدوث كوارث إذا انفصَلَ عن الوعي الروحاني. غالبًا ما كان التحكُّم في القوى المادية يُؤدِّي إلى توليدِ هوَسٍ بالسلطة وتقسيم المجتمع إلى طبقتين غريبتَين؛ الأسياد والعبيد. أما البراعة الفكرية فكانت يُمكِن أن تُؤدِّي إلى توليد هوَسٍ بالتحليل والتجريد مع إغفال جميع ما لا يُمكن للفكر أن يُفسِّره. أما الوعي الرُّوحاني نفسه، فحين كان يرفض النقد الفكري ومُتطلبات الحياة اليومية، فإنه يُصبح مختنقًا بين الأحلام.
(٢) الخلق الناضج
وفقًا للأسطورة التي تصوَّرَها عقلي حين عشت اللحظة الأسمى في خبرتي الكونية، فقد دخل صانع النجوم أخيرًا في حالة من التأمُّل المُستغرِق مرَّت فيها طبيعته بتغيُّر ثوري؛ ولهذا فأنا على الأقل كنت أحكم على الأمور من خلال هذا التغيُّر العظيم الذي حل الآن بنشاطه الإبداعي.
بعد أن راجع صانع النجوم جميع أعماله السابقة بعين جديدة، رافضًا كلًّا منها، مثلما بدا لي، بشعور مختلط من الاحترام ونفاد الصبر، اكتشف في نفسه تصورًا جديدًا وخصبًا.
الكون الذي كان قد خلقه الآن هو الذي يتضمَّن قراء هذا الكتاب وكاتبه. وقد استخدم في صنعه العديد من المبادئ التي أثبتت كفاءتها في الأكوان السابقة، لكنه قد صاغها ونسجها معًا بفنٍّ أكثر براعة لتشكل وحدة أكثر دقة وثراءً من ذي قبل.
وقد بدا لي، في تخيُّلاتي، أنه قد أقبل على مشروعه الجديد بمزاج جديد. كانت الأكوان السابقة جميعها تبدو أنها قد صُمِّمت بإرادة واعية لتجسد مبادئ محدَّدة، فيزيائية وبيولوجية ونفسية. ومثلما ذكرت من قبل، كثيرًا ما كان هناك صراع بين غايته الفكرية والطبيعة الأولية التي كان قد استدعاها من أعماق وجوده المبهم من أجل مخلوقه. غير أنه في هذه المرة قد تعامل مع وسط الخلق بقدر أكبر من الحساسية. إن «المادة» الروحانية الخام التي جسدها من أعماقه الخفية من أجل تشكيل مخلوقه الجديد قد تشكَّلت بما يتلاءم أيضًا مع هدفه، الذي لا يزال مبدئيًّا، بقدر أكبر من الذكاء المتفهِّم والاحترام لطبيعة مخلوقه وإمكاناته الكامنة، لكن مع التجرُّد في الوقت نفسه من متطلباته الأكثر تطرفًا.
إنَّ الحديث عن الروح الكونية الخالقة بهذه الطريقة يُعطيها صفاتٍ بشرية على نحوٍ طفولي. ذلك أنَّ حياة هذه الروح، إن كان لها أي وجود على الإطلاق، لا بد أنها تختلف اختلافًا تامًّا عن العقلية البشرية، ولا بد أنها تَستعصي تمامًا على الإدراك البشري. بالرغم من ذلك، فبما أنَّ هذه الرمزية الطفولية قد فرضت نفسها عليَّ، فأنا أسجِّلها؛ إذ بالرغم من سذاجتها لربما تنطوي على انعكاس صادق للحقيقة، وإن كان انعكاسًا مشوهًا.
في الكون الجديد، حدث نوع غريب من التباين بين زمن صانع النجوم والزمن الملائم للكون نفسه. قبل ذلك الوقت، كان يَستطيع أن يعزل نفسه عن الزمن الكوني حين يكمل التاريخ الكوني نفسه، ويراقب العصور الكونية بأكملها على أنها وقتٌ حاضر، لكنه لم يكن يستطيع أن يخلق المراحل اللاحقة في الكون قبل أن يكون قد خلق المراحل السابقة. أما في خلقه الجديد، فلم يكن محدودًا بهذه القيود.
ولذلك، بالرغم من أنَّ هذا الكون الجديد هو كوني، فقد نظرت إليه من زاوية مُدهشة. لم يعد يبدو لي سلسلة مألوفة من الأحداث التاريخية التي تبدأ بالانفجار الفيزيائي الأولي وتتقدَّم إلى الموت الأخير. لم أَعُد أراه الآن من داخل تدفُّق الزمن الكوني، بل العكس. لقد شاهدت تشكيل الكون في الزمن الملائم لصانع النجوم، وقد كان تسلسل أحداث الخلق التي قام بها صانع النجوم مختلفًا للغاية عن تسلسل الأحداث التاريخية.
في بداية الأمر، جسَّد من أعماق وجوده شيئًا لا هو بالمادة ولا بالذهن، بل شيئًا ثريًّا بالاحتمالات وبالسمات والومضات والتلميحات الموحية لخياله الإبداعي. لقد تأمَّل هذه المادة الراقية لفترة طويلة. لقد كانت وسطًا يستلزم أن يكون الفرد والجميع فيه يعتمد أحدهما على الآخر على نحوٍ في غاية الدقة، وأن جميع الأجزاء والشخصيات الموجودة فيه يتخلَّل بعضها بعضًا، وأن يبدو كل شيء فيه محضَ تأثيرٍ في جميع الأشياء الأخرى، وألَّا يكون الكيان الكلي في الوقت ذاته سوى محصلة لمجموع الأجزاء الخاصة به، ويكون كلُّ جزءٍ فيه معرفًا للكيان الكلي. لقد كانت مادة كونية لا بد أن تكون كلُّ روح فردية فيها، على نحو ملغز، ذاتًا مطلقة ونسجًا خياليًّا من جانب الكيان الكُلي في الوقت ذاته.
كان صانع النجوم الآن قد نحت هذا الوسط الأكثر دقة بصورة مبدئية ومنحه البنية العامة للكون. وهكذا صمَّم نظامًا غير محدَّد بعدُ للزمان والمكان، وكأنه لم يُمنَح صيغته الهندسية بعد؛ فكان شيئًا فيزيائيًّا غير مُتبلوِر لا يتمتَّع بما للقوانين الفيزيائية من تعقيد وليس له صفة أو اتجاه، وتوجُّه حيوي له تصور مميز ومغامرة ذهنية ملحمية، وذروة محدَّدة على نحو مدهش من الصفاء الروحي. وهذا الأمر الأخير، بالرغم من أنَّ موقعَه في الزمن الكوني سيكون مُتأخِّرًا في الأغلب، كان أول العوامل الكونية التي قد مُنِحت شكلًا دقيقًا في التخطيط في تسلسل العمل الإبداعي. وقد بدا لي أنَّ ذلك قد حدث لأنَّ المادة الأولية نفسها قد كشفت بوضوح شديد عما بها من إمكانات لمثْل هذا الشكل الروحاني. وهكذا قد تجاهَل صانع النجوم التفاصيل الفيزيائية في عمله في البداية، وتجاهل العصور الأولى من التاريخ الكوني أيضًا، وكرَّس مهارته في البداية بصورة كلية تقريبًا إلى تشكيل الذروة الروحانية للكون بأكمله. وهو لم يُحدِّد أيًّا من التوجُّهات النفسية المختلفة التي يجب أن تؤدي في الزمن الكوني إلى المرحلة الأكثر تيقظًا للروح الكونية إلا بعد أن يضع تمامًا ملامح تلك المرحلة. وهو لم يُخصِّص كامل انتباهه لوضع أنظمة التطور البيولوجي والتعقيد الفيزيائي والهندسي الأقدر على استثارة الإمكانات الأكثر دقة في الرُّوح الكونية التي كانت ما تزال في مرحلة التشكيل المبدئي إلا بعد أن حدَّد محاورَ النمو الذهني الفائقة التنوع. بالرغم من ذلك، فحتى وهو يضع النظام الهندسي، كان يعود في بعض الأحيان ليُعدِّل الذروة الروحانية نفسها ويَزيدَها جلاءً. وهو لم يمنَحْ تلك الذروة الروحانية الفردانية الواضحة المعالم إلا بعد أن أشرف على الانتهاء من البنية الفيزيائية والهندسية للكون بأكملها تقريبًا.
بينما كان لا يزال يعمل في تفاصيل ذلك العدد الهائل من الحيوات الفردية المؤثِّرة، ومصائر البشر والسمكيات والنوتيات وبقية السلالات، صرتُ مقتنعًا بأنَّ موقفه تجاه مخلوقاته مختلف للغاية عما كان عليه في أيِّ كون آخر. إنه لم يكن لا مباليًا بشأنهم ولم يكن ببساطة يحبهم. كان لا يزال يحبهم بالتأكيد، لكن بدا أنه قد تجاوز كل رغبة في إنقاذهم من عواقب طبيعتهم المحدودة والتأثيرات القاسية للبيئة. كان يُحبُّهم لكن دون شفقة؛ إذ رأى أنَّ الفضيلة التي تُميِّزُهم هي طبيعتهم المحدودة، وخصوصيتهم الدقيقة، وتوازنهم المعذب بين البلادة والصفاء، وأن إنقاذهم من هذه الأمور يعني القضاء عليهم.
حين أضفى اللَّمسات الأخيرة على جميع العصور الكونية بدايةً من اللحظة الأسمى رجوعًا إلى الانفجار الأولي ووصولًا إلى الموت الأخير، تأمل صانع النجوم عمله، ورأى أنه حسن.
وبينما راح بحب، وانتقاد أيضًا، يراجع كوننا في تنوعه اللانهائي وفي لحظته الوجيزة من الصفاء، شعرت بأنه قد امتلأ فجأة بمشاعر التبجيل للمخلوق الذي صنعه أو طرحه من أعماقه السرية من خلال نوع من التوليد الذاتي الإلهي. كان يعرف أنَّ هذا المخلوق، بالرغم من عدم كماله، وبالرغم من أنه محض مخلوق، ومحض نسج خيالي من مقدرته الإبداعية، هو أكثر واقعية منه هو نفسه بطريقة ما. فماذا يكون هو نفسه مقارنةً بهذا التألق المجسد سوى قدرة مجرَّدة للخلق؟ إضافةً إلى ذلك، فقد كان ذلك الشيء الذي صنعه متفوقًا عليه ومعلمًا له أيضًا في أحد الجوانب الأخرى؛ ذلك أنه حين تأمل هذا الشيء الذي هو أجمل أعماله وأكثرها براعة، بانتشاء وإجلال، كان لهذا العمل تأثير عليه قد غيَّره، تأثير قد نقَّى إرادته وعمَّقها. وحين حدَّد مزايا مخلوقه ومواطن ضعفه، نضج إدراكه هو ومهارته. أو على الأقل هكذا بدا الأمر لعَقلي الحائر المترع بالرهبة.
ومن ثمَّ فقد حدث مثلما كان يحدث غالبًا من قبل، وهو أنَّ صانع النجوم قد بدأ يملُّ من مخلوقه شيئًا فشيئًا. وصار استياؤه من ذلك الجمال الذي كان لا يزال يعتز به، يزداد بصورة مستمرة. بعد ذلك، وعلى نحو يبدو أنه صراع بين التبجيل ونفاد الصبر، وضع كوننا في مكانه الخاص بين أعماله الأخرى.
ومرةً أخرى، استغرق في التأمل. ومرةً أخرى، استحوذت عليه رغبة الخلق.
أما الأكوان العديدة التي تلَت كوننا، فلن أقول عنها شيئًا؛ إذ إنها تَتجاوز قدرتي الذهنية في العديد من الجوانب. لم أستطع أن أُلمَّ بأي شيء عنها إلا أنها كانت تضمُّ إلى جانب الكثير من الأشياء التي لا يمكن تصورها، بعض السمات التي لم تكن سوى تجسيدات رائعة لمبادئ كنت قد صادفتها من قبل؛ ومن ثمَّ فقد فاتتني جميع الجوانب الأساسية التي تمثل بما بها من جدَّة.
يُمكنني بالتأكيد أن أقول إنَّ جميع هذه الأكوان، كما هو الحال بالنسبة إلى كوننا، بالغة الثراء وبالغة الدقة، وإنَّ كلًّا منها يتضمَّن، بطريقة غريبة أو بأخرى، جانبين، أحدهما مادي والآخر ذهني؛ وإن كان الجانب المادي في العديد منها، رغم أهميته الشديدة لنمو الروح، أكثر شفافية وأكثر غرابة على نحو واضح مما هو عليه في كوننا. وفي بعض الحالات، كان ذلك ينطبق بالقدر نفسه على الجانب الذهني أيضًا؛ إذ كانت الكائنات أقل عرضة بكثير لأن تُخدع بغموض عمليتها الذهنية الفردية، وأكثر حساسية للشعور باتحادها الكامن.
يُمكنني أن أقول أيضًا إنه في هذه الأكوان جميعها، كان الهدف الذي بدا لي أنَّ صانع النجوم يسعى إلى تحقيقه هو ثراء الوجود ورقته وعمقه وتناغُمُه. أما ما تعنيه هذه الكلمات بالتفصيل، فذلك مما أجد صعوبة في قوله. لقد بدا لي أنَّه في بعض الحالات، كما في كونِنا، قد سعى إلى تحقيق هذه الغاية عن طريق عملية تطورية يكللها عقل كوني يقظ سعى إلى جمع ثروة الوجود الكوني بأكملها في وعيه وزيادتها بالنشاط الإبداعي. غير أنَّ هذا الهدف قد تحقق في العديد من الحالات بمقدار أقل كثيرًا من الجهد والمعاناة من جانب المخلوقات مقارنةً بما حدث في كوننا، ودون الضياع التام الكارثي للحيوات وهو الأمر الذي يؤلمنا للغاية. بالرغم من ذلك، ففي بعض الأكوان الأخرى، بدا أنَّ المعاناة تبلغ على الأقل تلك الدرجة نفسها من الفداحة والانتشار التي هي عليها في كوننا.
في مرحلة نضجه، تصور صانع النجوم العديد من الأشكال الغريبة للزمن. إن بعض الأكوان اللاحقة على سبيل المثال قد تضمَّنت في تصميمها بُعدَين زمنيَّين أو أكثر، وكانت حيوات المخلوقات فيها هي تسلسلات زمنية في أحد بُعدَي الزمن: «المساحة» أو «الحجم». كانت هذه الكائنات تختبر كونها على نحو غريب للغاية. كان كل منها يعيش لفترة وجيزة على أحد البُعدَين، ويختبر كل لحظة من حياته على أنها مشاهد متزامنة، والتي كانت بالرغم من تفرقها وغموضها، هي في حقيقة الأمر رؤية لتطور كوني «مستعرض» فريد للغاية يحدث على البعد الآخر. في بعض الحالات، كان لكل من الكائنات حياة نشطة في البعدَين الزمنيَّين للكون. إنَّ المهارة الإلهية، التي صممت «الحجم» الزمني بتلك الطريقة التي تتلاءم معًا فيها جميع الأفعال التلقائية اللانهائية التي تصدر عن جميع الكائنات لتنتج نظامًا متماسكًا من حالات التطور المستعرضة، قد تجاوزت حتى براعة التجربة السابقة في «التناغم المسبَق التأسيس».
في بعض الأكوان الأخرى، كان الكائن يُمنح حياةً واحدة فقط، لكنها تتمثل في «خط متعرج» ينتقل من بُعدٍ زمني إلى الآخر وفقًا لنوعية الخيارات التي اتخذها الكائن؛ فكانت الخيارات القوية أو الأخلاقية تؤدِّي إلى اتجاه زمني محدَّد، بينما تؤدِّي الخيارات الضعيفة أو غير الأخلاقية إلى اتجاه آخر.
وفي أحد الأكوان البالغة التعقيد، كان الكائن متى واجَهَ العديد من المسارات المحتملة للأفعال، اتخذها جميعًا؛ فيخلق العديد من الأبعاد الزمنية المختلفة والعديد من المسارات التاريخية للكون. ولأنَّ كل تسلسُل تطوري في الكون كان يتضمَّن الكثير جدًّا من الكائنات، وكلًّا منها يواجه العديد من المسارات المحتملة بصفة مُستمرَّة، وكانت توليفات جميع مساراتها لا حصر لها؛ فقد كانت كل لحظة في كل تسلسل زمني تنتج عددًا لا نهائيًّا من الأكوان المختلفة.
في بعض الأكوان، كان كل كائن يتمتَّع بإدراك حسي للكون المادي بأكمله من عدة نقاط مكانية، أو حتى من جميع النقاط الممكنة. في الحالة الأخيرة، كان إدراك العقول جميعها يتطابق بالطبع في النطاق المكاني، لكنه كان يختلف من عقل إلى آخر في التعمق أو البصيرة. وقد كان هذا يتوقف على المقدرة الذهنية للعقول المحدَّدة واستعدادها. وفي بعض الأحيان، لم تكن هذه الكائنات تتمتع بإدراك كلي الوجود فحسب، بل بإرادة كلية الوجود أيضًا. كانت تستطيع القيام بالأفعال في جميع مناطق المكان، وإن كان ذلك بدقة وقوة تختلفان وفقًا لمقدرتها الذهنية. لقد كانت على نحوٍ ما، أشبه بأرواح غير متجسدة تطوف فوق الكون المادي كلاعبي الشطرنج أو كآلهة الإغريق فوق سهل طروادة.
في أكوان أخرى، لم يكن هناك ما يُشبه الكون المادي المنهجي المألوف، بالرغم من وجود الجانب المادي بكل تأكيد. كانت الخبرة المادية للكائنات تتحدَّد بالكامل بناءً على تأثيرها المتبادل على بعضها. لقد كان كل منها يغمر رفاقه ﺑ «الصور» الحسية، وكانت نوعية هذه الصور وتسلسلها يتوقفان على القوانين النفسية التي تحكم تأثير كل عقل على الآخر.
في أكوان أخرى، كانت عمليات الإدراك الحسِّي والتذكُّر والتفكير وحتى الرغبة والمشاعر، مختلفة كل الاختلاف عما نعرفه حتى إنها تُشكِّل في حقيقة الأمر عقلية ذات تنظيم مختلف تمامًا. وبالرغم من أنني على ما يبدو ما زلت أتذكر لمحات من هذه العقول، فلا يُمكنُني أن أذكر عنها أي شيء.
من الأحرى أن أقول إنه بالرغم من أنني لا أستطيع الحديث عن الأنماط النفسية الغريبة لهذه الكائنات، فثمة حقيقة غريبة عنها يُمكنني أن أذكرها. بالرغم من أنَّ أنسجتها الذهنية الأساسية والأنماط التي ترتبط بها معًا تَستعصي على الإدراك، استطعت أن أحظى بفهم عابر لأحد الجوانب في هذه الكائنات. بالرغم من اختلاف حيواتها عن حياتي، كانت تُشبهني في جانب من الجوانب. إن جميع هذه الكائنات الكونية الأعلى مرتبةً مني، والتي قد وُهِبت قدرًا أكبر من القدرات، كانت تواجه باستمرار الوجود بالطريقة التي ما زلت أنا نفسي أسعى أحيانًا إلى تعلُّمها؛ إنها، حتى في الألم والأسى، وحتى في النضال الأخلاقي والشفقة المتأجِّجة، كانت تُلاقي قرار القدر بابتهاج. ربما تكون الحقيقة الأكثر إدهاشًا وتشجيعًا في جميع خبراتي الكونية والفائقة للكون هي هذا التشابه وفهم أغرب الكائنات فيما يتعلَّق بالخبرة الروحانية الخالصة. بالرغم من ذلك، فسرعان ما اكتشفت أنَّ هناك الكثير مما يجب عليَّ أن أتعلمه في هذا الشأن.
(٣) الكون النهائي والروح الأبدية
عبثًا راح انتباهي المجهد والمرهق يحاول أن يتبع الأكوان المُتزايدة التعقيد والبراعة والتي، وفقًا لحلمي، قد تصورها صانع النجوم. انطلق الكون تلو الكون من مخيلته المتقدة، وكل منها بروح مميزة متنوعة على نحو لا نهائي، وكل منها تصلُ في أعلى مستوياتها إلى حالة أكثر تيقظًا من سابقاتها، وكل منها تَستعصي على إدراكي بقدر أكبر.
بعد برهة، كشف لي حلمي أو أسطورتي، أنَّ صانع النجوم قد خلق كونه النهائي والأكثر براعة على الإطلاق، والذي لم تكن غيره من الأكوان سوى تحضيرات بدائية له. لا يُمكنني أن أقول عن هذا المخلوق الأخير سوى أنه كان يضمُّ في نسيجه الأساسي، الأسس الجوهرية لجميع سابقيه، وأكثر منها بكثير. لقد كان شبيهًا بالحركة الأخيرة من إحدى السيمفونيات، والتي يُمكن أن تتضمن من خلال دلالة محاورها، جوهر الحركات السابقة ومزيدًا عليه، غير أنَّ هذا التشبيه المجازي يخل بوصف براعة الكون النهائي وتعقيده إخلالًا عظيمًا. لقد دُفِعت تدريجيًّا إلى الاعتقاد بأنَّ العلاقة بينه وبين أي كون آخر سابق عليه، كالعلاقة بين كوننا وبين الإنسان، بل وذرَّة مادية واحدة. اتَّضح أنَّ كل كون من الأكوان التي شاهدتها حتى الآن هو مثال واحد على رتبة متعدِّدة الجوانب كأحد الأنواع البيولوجية أو رتبة تضمُّ جميع ذرات عنصر واحد. بدا أنَّ الحياة الداخلية في كل كون «ذري» تنطوي على النوع نفسه من الارتباط (والنوع نفسه من عدم الارتباط) بحياة الكون النهائي، كالعلاقة بين الأحداث في خلية دماغية، أو في أحد ذراتها، وبين حياة أحد العقول البشرية. وبالرغم من ذلك التبايُن العظيم، بدا أنني قد شعرت في ذلك الترتيب الهرمي المربك للأكوان بتطابق صارخ في الروح؛ فقد كان الهدف في هذه الأكوان كلها في النهاية يتضمَّن الاتحاد والعقل الإبداعي الصافي.
أجهدت ذكائي المتلاشي ليُدرك شيئًا عن تركيب الكون النهائي. وبإعجاب مختلط بالاعتراض، لمحت على نحو غير تامِّ الأوجه الخفية الأخيرة في العالم والجسد والرُّوح واتحاد هذه الكائنات الفردية الأكثر تنوعًا والتي وصلت إلى أعلى مراحل اليقظة المتمثِّلة في المعرفة التامَّة للذات والبصيرة المشتركة، لكنني حين حاولتُ أن أُصغيَ في ذاتي إلى موسيقى تلك الأرواح المجسدة في عددٍ لا يُحصى من العوالم، لم تكن الأصداء التي وجدتها لمباهج لا يفي الحديث بالتعبير عنها فحسب، بل كانت أيضًا لأحزان لا عزاء عنها؛ ذلك أنَّ بعض هذه الكائنات النهائية لم تكن تُعاني فحسب، بل إنها كانت تُعاني في الظلام. وبالرغم مما كانت تتمتَّع به من قوة البصيرة الكاملة، كانت قوتها عقيمة. كانت الرؤية محجوبة عنها؛ فذاقت من المعاناة ما لم تذقه الأرواح الأدنى منها. لقد كانت شدة هذه التجربة القاسية لا تُحتمَل بالنسبة إليَّ، أنا الروح الواهنة لكون أدنى في المرتبة. وفي حسرة الرعب والشفقة، أوقفت بيأس عمل آذان عقلي. صرخت على ضآلتي في صانعي بأنه ما من مجد أبدي ومطلق يمكن أن يعوض حسرة هذه الكائنات. حتى إن كان البؤس الذي لمحته لم يكن في واقع الأمر سوى بضعة خيوط قاتمة قد حيكت في النسيج الذهبي لتثريه، وكان كل ما عدا ذلك نعيمًا؛ فقد صرخت قائلًا بأنَّ هذا العناء للأرواح المتيقِّظة، ما كان من المفترض له أبدًا أن يحدث. تساءلت: بأي غلٍّ شيطاني ذاقت هذه الأرواح المجيدة العذاب، بل حُرِمت أيضًا من العزاء الأسمى المتمثل في نشوة التأمل والتسبيح التي هي الحق الطبيعي للأرواح المكتملة اليقظة جميعها؟ لقد مر بي وقت نظرت فيه أنا نفسي، العقل المشترك لكون ذي مرتبة دنيا، إلى خيبات أفرادي الضِّئال وأحزانهم برصانة، واعيًا بأنَّ معاناة هذه الكائنات الناعسة ليست بالثمن الكبير مقابل ما قد ساهمت به أنا نفسي في الواقع من صفاء. غير أنَّ الأفراد الذين كانوا يذوقون المعاناة في الكون النهائي بالرغم من عددهم القليل مقارنةً بالعدد الكبير من المخلوقات السعيدة، فقد بدوا لي أنهم كائنات من رتبتي الكونية الذهنية نفسها، لا تلك الكائنات الواهنة التافهة التي ساهمت بأحزانها البليدة في صنعي. وهذا هو ما لم أَستطِع أن أتحمَّله.
بالرغم من ذلك، فعلى نحو مبهم، كنت أرى أنَّ الكون النهائي جميلٌ على أيِّ حال ومثالي التكوين، وأنَّ كل خيبة وحسرة فيه، مهما بلغت قسوتها على مَن يعاني منها، كانت تتجلَّى في النهاية دون أي إنقاص من الصفاء البالغ للروح الكونية نفسها. ومن هذه الناحية على الأقل، لم تكن المآسي الفردية عبثًا.
غير أنَّ هذا لم يكن شيئًا. والآن، بدا أنني أرى، من خلال دموع التعاطُف والاعتراض الشديد، روح الكون النهائي المثالي تُواجِه صانعها. وقد بدا أنَّ التمجيد داخلها قد تغلَّب على التعاطف والاستياء. أما صانع النجوم، تلك القوة المظلمة والذكاء الصافي، فقد وجد في الجمال المتجسد في مخلوقه تحقيقًا لرغبته. وفي البهجة المتبادلة بين صانع النجوم والكون النهائي، تولدت، على نحو شديد الغرابة، الروح المطلقة نفسها، والتي تكون فيها كل الأزمان حاضرة والوجود كله مُتضمنًا؛ ذلك أنَّ الروح التي نتجت عن هذا الاتحاد قد واجهت ذكائي المترنِّح بصفتها أساس جميع الأشياء المؤقتة المحدودة ونتاجها أيضًا.
غير أنَّ هذا الكمال الغامض والبعيد لم يُمثِّل لي شيئًا؛ ففي شفقتي على الكائنات النهائية المعذبة، وفي شعور بشري بالخزي والغضب، حنقت على حقي الطبيعي في الانتشاء بهذا الكمال اللاإنساني، وحننت إلى العودة إلى كوني الأدنى مرتبة، وإلى عالَمي البشري المتخبِّط حيث أقف هناك كتفًا إلى كتف مع نوعي نصف الحيواني في مواجهة قوى الظلام؛ أجل، وفي مواجهة ذلك الطاغية المنيع القاسي غير المبالي، والذي تَقتصر أفكاره على إنتاج عوالم عاقلة ومعذَّبة.
ثم في خضمِّ هذا الشعور بالتحدِّي، بينما صفقت وأحكمت إغلاق باب زنزانتي الصغيرة المُظلِمة المتمثلة في ذاتي المنفصلة، تهشَّمت جميع جدراني إلى الداخل وسُحِقت بفعل الضغط الناتج عن ضوء لا يمكن مقاومته، واحترق نظري مرةً أخرى بصفاء لا يُمكنه تحمله.
هل حدث هذا مرة أخرى؟ كلا. كل ما هنالك أنني قد عدت مرة أخرى في حلمي التفسيري إلى لحظة التنوير نفسها، والتي قد منعني عنها العمى، حين بدا أنني قد نشرتُ جناحيَّ للقاء صانع النجوم، وصعقني ضوء رهيب. غير أنني صرت أدرك الآن بوضوح أكبر ما قد حل بي. لقد كنت في مواجهة صانع النجوم بالفعل، لكنه قد ظهر لي الآن بصفته الروح الإبداعية؛ ومن ثمَّ المحدودة. لقد بدا الآن في صورة الروح الأبدية الكاملة التي تضم جميع الأشياء وجميع الأزمان وتتأمل على الدوام ذلك الحشد اللانهائي التنوع الذي تتضمَّنه. لقد كان النور الذي غمَرني وصعَقني فأودى بي إلى العبادة العمياء هو قبس من خبرة الرُّوح الأبدية كلية الإدراك، أو هذا هو ما بدا لي.
بضنًى ورعب وموافقة أيضًا، بل حتى بثناء، شعرت أو بدا أنني قد شعرت بشيء من مزاج الرُّوح الأبدية إذ استوعبت جميع حيواتنا في رؤية حدسية أبدية واحدة. هنا لم يكن ثمة شفقة، ولا عرض بالخلاص ولا مساعدة طيبة. أو يُمكننا أن نقول إنَّه هنا كانت الشفقة كلها والحب كله، لكنهما محكومان بانتشاء بارد. حيواتنا الخربة، حكايات حبنا، حماقاتنا، خياناتنا، دفاعاتنا البائسة والباسلة، كانت جميعها تُحلَّل وتُقيَّم وتُوضَع في مكانها بهدوء. صحيح أنها كانت تُعاش جميعها بتفهم كامل، وفطنة وتعاطف تام، بل حتى بشغف، غير أنَّ التعاطف لم يكن مطلقًا في مزاج الروح الأبدية، أما التأمل فقد كان كذلك. الحب أيضًا لم يكن مطلقًا، أما التأمل فقد كان كذلك. وبالرغم من وجود الحب في مزاج الروح، فقد كان يتضمَّن الكراهية أيضًا؛ فقد كان به ابتهاجٌ قاسٍ في تأمل كل هلع، وفرح في سقوط الأبرار. بدا أنَّ مزاج الروح يضم جميع العواطف، لكنها محكومة ومقبوضة بإحكام في نشوة التأمل الباردة النقية الصافية.
يا له من مآل أن تكون هذه هي محصلة حيواتنا كلها: هذا التقييم العلمي، بل الفني الدقيق! بالرغم من ذلك، توجهت بالعبادة!
غير أنَّ هذا لم يكن أسوأ ما في الأمر؛ فحين قلت إنَّ مزاج الروح هو التأمل، قد عزوتُ إليها خبرة بشرية محدودة وعاطفة؛ مطمئنًا بذلك نفسي، وإن كانت طمأنة باردة. غير أنَّ الروح الأبدية كانت تعلو على الوصف في حقيقة الأمر. ما من شيء أيًّا ما كان يُمكن أن يصفها بحق. حتى تسميتها ﺑ «الروح» قد يكون وصفًا لها بأكثر مما يُمكن تبريره. بالرغم من ذلك، فإنكار ذلك الاسم سيكون خطأً بالتأكيد؛ فأيًّا ما كانت، فهي بالتأكيد أكثر من الروح، لا أقل منها؛ فهي أكثر لا أقل من أي معنى بشري ممكن لتلك الكلمة. ومن المستوى البشري، بل حتى من مستوى العقل الكوني، فإنَّ هذا «الأكثر» الذي يُلمَح على نحو غامض ومُمِض، كان لغزًا رهيبًا وعشقًا آسرًا.