السفر بين النجوم
بينما رُحتُ أتأمَّل كوكبي الأصلي على تلك الحال، واصلتُ التحليق لأعلى في الفضاء. ظهرت الأرض وهي تتضاءَل على مسافة بعيدة، وبينما أسرعت باتجاه الشرق بدا أنها تدور تحتي. جميع معالِمِها تحركت باتجاه الغرب، إلى أن ظهر الغروب وإقليم الأطلسي الأوسط بعدها بوقتٍ قصير على طرفها الشرقي، ثم ظهر الليل. وفي غضون دقائق قليلة، كما بدا لي، تَحوَّل الكوكب إلى نصف بدرٍ هائل، وسرعان ما تحوَّل إلى هلالٍ ضبابي مُتضائل يقع بجوار الهلال الضئيل الحاد لقمره.
بدهشة أدركت أنني حتمًا أسافر بسرعة مُذهِلة وتكاد تكون مستحيلة. كان تقدُّمي سريعًا للغاية حتى إنه بدا أنني أمر بوابل مُستمر من الشهب. لم تكن مرئية إلى أن صارت تُواكبُني تقريبًا؛ إذ إنها لم تكن تضيء إلا من خلال ضوء الشمس المنعكِس، وقد ظهرت للحظة فحسب كأنها بقع من الضوء أو مصابيح تُرى من قطار سريع. التقيت بالكثير منها في تصادم وجهًا لوجه، لكنها لم تؤثر فيَّ. كتلة صخرية ضخمة غير منتظمة الشكل، بحجم منزل، هي التي أخافتني للغاية. تضخمت الكتلة المضيئة أمام بصري، وظهر منها على مدار كسر من الثانية سطح خشن ومتكتل، ثم غطتني. بل الأحرى أنني أستنتج أنها لا بد أن تكون قد غطتني، غير أنَّ مروري كان سريعًا للغاية حتى إنَّني سرعان ما وجدت نفسي أُخلِّفها بالفعل فور أن رأيتها في المسافة الواقعة في المنتصَف.
سريعًا أصبحت الأرض محض نجم. وأنا أقول سريعًا غير أنَّ إحساسي بمرور الوقت قد أصبح الآن مشوشًا للغاية؛ فالدقائق والساعات وربما حتى الأيام بل الأسابيع أيضًا قد أصبحت الآن متماثلة.
بينما كنتُ لا أزال أحاول جمع شتات نفسي، اكتشفت أنني تخطيت مدار المريخ بالفعل وكنت أندفع عبر طريق من الكويكبات. بعض هذه الكواكب الضئيلة قد أصبحت الآن قريبةً للغاية حتى إنها بدت كنجوم عظيمة تتدفق بين المجموعات النجمية. ظهر واحد أو اثنان منها بشكل مُحدَودِب، ثم اتخذت الشكل الهلالي قبل أن تختفي خلفي.
كان المشتري الذي يقع على مسافة بعيدة أمامي يزداد سطوعًا بالفعل، وقد غيَّر موقعه بين النجوم الثابتة. بدت الكرة العظيمة الآن كالقرص الذي سرعان ما أصبح أكبر من الشمس المتضائلة. وكانت أقماره الأربعة الكبرى لآلئ صغيرة تطفو بجانبه. الآن بدا سطح الكوكب كاللحم المقدد المقلم بفعل مناطق الغيوم التي توجد فيه. عتَّمت الغيوم على محيطه بأكمله. صرتُ الآن موازيًا له ومررت به. ونظرًا لما يتسم به غلافه الجوي من عمق هائل، فقد امتزج الليل والنهار كلٌّ منهما في الآخر دون حد يمكن تمييزه. وفي مناطق متفرقة من نصفه الشرقي غير المضيء، رأيت مساحاتٍ مبهمةً من الضوء المحمر، لعلها هي الوهج الذي يرتفع إلى الأعلى عبر الغيوم الكثيفة بِفعل الثورانات البركانية.
في غضون بضع دقائق، أو ربما سنوات، أصبح المشتري نجمًا من جديد ثم اختفى في بريق الشمس التي كانت لا تزال متوهِّجة، رغم تضاؤلها. لم يكن هناك أيٌّ من الكواكب الخارجية الأخرى بالقرب من مساري، غير أنني سرعان ما أدركت أنني قد قطعتُ بالفعل مسافة بعيدة للغاية حتى إنني قد تجاوزت مدار بلوتو. لم تَعُد الشمس الآن سوى أكثر النجوم سطوعًا فحسب، وراحت تخبو خلفي.
وأخيرًا صار لديَّ وقتٌ للقلق. لم يَعُد هناك من شيء ظاهر سوى السماء المرصعة بالنجوم. كانت كوكبات «بنات نعش الكبرى» و«ذات الكرسي» و«الجبار» و«الثريا» تهزأ مني بأُلفتها وبُعدها. أصبحت الشمس الآن محض نجم بين النجوم الساطعة الأخرى. لم يتغير شيء. أكان مصيري أن أبقى على تلك الحال إلى الأبد في الفضاء، وعي دون جسد؟ هل مت؟ أكان ذلك عقابي على عيشي لحياة عقيمة للغاية؟ أكانت تلك عقوبة الرغبة العنيدة في الانعزال عن جميع الشئون والأهواء والانحيازات البشرية؟
في الخيال، رحت أكافح للعودة إلى قمة التل في ضاحيتي. رأيت منزلنا. فُتِح الباب. خرجت امرأة إلى الحديقة التي يُضيئها ضوء البهو. ووقفت للحظة تتفحص الطريق، ثم عادت إلى المنزل. غير أنَّ ذلك كله كان محض خيال، أما في الواقع، فلم يكن هناك شيء سوى النجوم.
بعد برهة لاحظت أنَّ الشمس وجميع النجوم الموجودة بجوارها قد اصطبغت بالحمرة. أما النجوم الموجودة على القطب الآخر للسماء، فقد اصطبغت باللون الأزرق الثلجي. تجلَّى لذهني تفسير هذه الظاهرة العجيبة. كنت لا أزال أتحرَّك بسرعةٍ كبيرةٍ حتى إنَّ الضوء نفسه لم يكن عديم التأثير بالكامل على مساري. التموجات التي كانت خلفي كانت تستغرق وقتًا طويلًا كي تلحق بي؛ ولهذا فقد كانت تؤثر عليَّ كذبذبات أبطأ مما كانت عليه عادة؛ لذا فقد بدَت لي حمراء اللون. أما تلك التي التقت بي في مساري الرأسي فقد كانت مكتظة وقصيرة وبدت لي زرقاء اللون.
بعد برهة قصيرة، اكتسَت السماء بحُلة استثنائية؛ إذ أصبحت جميع النجوم التي تقع خلفي مباشرة باللون الأحمر القاني، وتلك التي تقع أمامي مباشرة باللون البنفسجي. الياقوتات من خلفي وأحجار الجمشت من أمامي. وحول الكوكبات الياقوتية، امتدَّت منطقة من النجوم التوبازية، وحول الكوكبات الجمشتية، امتدَّت منطقة من النجوم التي تُشبه الياقوت الأزرق. بجوار مساري على جميع الجوانب، خبت الألوان إلى الأبيض المعتاد في ماسات السماء المألوفة. ولأنَّني كنتُ أتحرَّك في مُستوى المجرَّة تقريبًا، فقد كان طوق درب التبانة أبيض على كِلَا الجانبَين، وبنفسجيًّا أمامي وأحمر من خلفي. وبعد وقت قصير، خبَتِ النجوم التي أمامي وخلفي مُباشرة، ثم اختفَت، مُخلِّفة في السماء ثقبَين خاليَين من النجوم، يُحيط بكلٍّ منهما منطقة من النجوم الملوَّنة. كانت سُرعتي لا تزال تزداد على ما يبدو. وكان الضوء من النجوم الأمامية والخلفية يَصلُني الآن بأشكال تتجاوَز نطاق رؤيتي البشرية.
بينما زادت سُرعتي، ظلت البقعتان عديمتا النجوم من أمامي ومن خلفي، كلٌّ بطوقها الملون، تغزوان المنطقة المتوسِّطة ذات النجوم المعتادة والتي كانت توجد بمحاذاتي على الجانبَين. بين هذه النجوم شعرت بوجود حركة. بفعل تأثير مَساري، بدا أنَّ النجوم الأقرب تنجرف ببطء على خلفية النجوم الأبعد. ظل هذا الانجراف يتسارع إلى أن صارت السماء المرئية بأكملها للحظة مخططة بنجوم طائرة. بعد ذلك تلاشى كل شيء. أعتقد أنَّ سرعتي كانت عظيمة للغاية مقارنةً بسرعة النجوم لدرجة أنه لم يكن لضوء أيٍّ منها تأثيره المعتاد عليَّ.
بالرغم من أنني ربما كنتُ أُحلِّق الآن بسرعة أكبر من سرعة الضوء نفسه، فقد بدا الأمر وكأنني أطفو في قاع بئر عميقة راكِدة. أرعبني الظلام البهيم، والفقدان التام للإحساس، هذا إذا كان بإمكاني أن أطلق لفظ «الرعب» على الاشمئزاز وتوجُّس الشر الذي كنت أشعر به الآن دون الشعور بأيٍّ من المرافَقات الجسدية له من الشعور بالارتجاف أو التعرق أو اللهاث أو خفقان القلب. بيأس ورثاء للذات، تُقتُ إلى البيت، تُقتُ مرةً أخرى إلى الوجه الذي كان مألوفًا لي بشدة. كنت أستطيع رؤيتها الآن بعين عقلي، وهي تجلس بجوار النار وتَحيك، وقد ارتسمت تقطيبة صغيرة من القلق بين حاجبيها. تساءلت هل كان جسدي يرقد الآن ميتًا على الخَلَنْج؟ أيجدونه هناك في الصباح؟ كيف ستواجه هذا التغيُّر العظيم في حياتها؟ ستتلقاه بوجه شجاع بكل تأكيد، لكنها ستُعاني.
لكن بينما كنت أقاوم بشدة فكرة تفكك ذرة رفقتنا الثمينة، كنتُ أدرك أن ثمة شيئًا بداخلي، روحي الجوهرية، كان يرغب بشدة في ألَّا يَتراجع عن هذه الرحلة المذهلة، بل أن يستمر فيها. لم يكن الأمر أنَّ رغبتي في المغامرة يُمكن أن تفوق ولو للحظة اشتياقي إلى عالم البشر المألوف. لقد كنت من النوع المحب بشدة للبقاء في البيت؛ بحيث ما كان من شِيَمي السعي إلى المخاطر والتعب لرغبة محضة فيهما، لكن الخوف من المغامَرة غلبها إدراك الفرصة التي منحها لي القدر، ليس لاستكشاف أغوار الكون المادي فحسب، بل أيضًا لاستكشاف الدور الفعلي للحياة والعقل بين النجوم. تملكني الآن نهم شديد، لا للمغامرة وإنما للتفكُّر في قيمة الإنسان، أو أي كائنات أخرى شبيهة به في الكون. وكنزنا البيتي الثمين هذا، هذا الأقحوان الكريم الذي يَصنع الربيع بجوار طريق الحياة الحديثة القاحل، قد حثني على قبول مغامرتي الغريبة بسرور؛ إذ أليس من الممكن أن أكتشف أنَّ الكون بأكمله ليس مكانًا من الغبار والرماد فحسب مع ملامح من الحياة غير المكتمِلة هنا وهناك، وإنما يَكمن بالفعل خلف تلك الأرض البَوَار العطشى، عالم من الزهور؟
أكان الإنسان بالفعل هو نقطة نمو الروح الكونية، مثلما كان يرغب في أن يكون في بعض الأحيان، وإن كان ذلك من الناحية الزمنية على الأقل؟ أم هو نقطة واحدة فقط من ملايين نقاط النمو؟ أم أنَّ البشرية لا تمثل في الرؤية الكونية أيَّ أهمية بأكثر مما تُمثِّلُه الفئران في كاتدرائية؟ وهل كانت غاية الإنسان الحقيقية هي السلطة أم الحكمة أم الحب أم العبادة أم ذلك كله؟ أم أنَّ فكرة الغاية ليس لها أيُّ جدوى في سياق الكون؟ هذه الأسئلة العويصة سوف أجيب عنها. ثم إنني يجب أن أتعلم أن أرى بوضوح أكبر بعض الشيء، وأن أواجه على نحو أكثر صوابًا بعض الشيء (هكذا قد صُغت الأمر لنفسي) ما يدفعنا إلى العبادة حين نتلقَّى منه أيَّ نفحة على الإطلاق.
لم أكن أبدو الآن لذاتي ذاتية الأهمية أنني فرد مُنعزِل يَشتهي التعظيم، وإنما مبعوثٌ من البشرية، كلا، بل عضو استكشاف، مِجَس قد قذفه العالم البشري الحي كي يَتواصَل مع رفاقي في الفضاء. مهما يكن من أمر، فلا بدَّ لي من الاستمرار، حتى وإن كانت حياتي الأرضية التافِهة ستَنتهي قبل أوانها، وتعيش زوجتي وأطفالي بدوني. لا بدَّ لي من الاستمرار، وحتمًا سوف أعود بطريقة ما ذات يوم، ولو بعد قرون من السفر بين النجوم.
الآن وقد عدت إلى الأرض بالفعل بعد مغامرات هي الأكثر إدهاشًا، حين أعيد النظر في تلك المرحلة من الشعور بالتمجيد، يُفزعني التناقض بين الكنز الروحاني الذي كنت أطمح إلى تقديمه لرفاقي من البشر، وبين شحِّ ما قدمته بالفعل. وربما يعود هذا الفشل إلى حقيقة أنه بالرغم من أنني قد قبلت تحدي المغامرة بالفعل، فأنا لم أقبله إلا بتحفُّظات بيني وبين نفسي. الآن أدرك أنَّ الخوف والتلهف على الراحة قد عتَّما من سطوع إرادتي. قراري الذي اتخذته بشجاعة كبيرة، قد ثبت أنه واهٍ بالرغم من كل شيء. فكثيرًا ما أفسحت شجاعتي المتزعزعة المجال للحنين إلى كوكبي الأصلي. وكثيرًا ما كنتُ أشعر في مسار أسفاري بأنَّ طبيعتي العادية الهيَّابة قد جعلتْني أغفُل عن أبرز جوانب الأحداث.
من بين جميع ما اختبرتُه في أسفاري، لم يكن مفهومًا لي بوضوح سوى قدرٍ ضئيل حتى وقتِ حدوثه، وحينها، مثلَما سأَذكُر لاحقًا، كانت قد عززت من قدراتي الأصلية كائنات تتمتَّع بتطوُّر جبار يفوق القدرات البشرية. أما الآن وقد عدت مرةً أخرى إلى كوكبي الأصلي، ولم تعد تلك التعزيزات متوفِّرة، فأنا لا أستطيع حتى أن أستعيد الكثير من الرؤى العميقة التي توصَّلتُ إليها من قبل؛ ولهذا فقد اتضح أنَّ روايتي التي تحكي عن الاستكشاف البشري الأوسع نطاقًا على الإطلاق، في نهاية الأمر لا يُمكن التعويل عليها بأكثر مما يُمكننا التعويل على تُرَّهات أي عقل قد جُنَّ إذ اختبر ما لا يقدر على استيعابه.
لأعود الآن إلى قصتي. لست أدري كم من الوقت قد قضيت في الجدال مع نفسي، لكن بعد أن اتخذت قراري، سرعان ما اخترقت النجوم مجددًا العتمة التامة. كنت على ما يبدو في حالة سكون؛ إذ كنت أرى النجوم في كل اتجاه بلونها المعتاد.
غير أنَّ تغيرًا عجيبًا قد حلَّ بي؛ فسرعان ما اكتشفتُ أنني أستطيع التحرُّك نحو أي نجم بمجرد رغبتي في الاقتراب منه، وبسرعة لا بد أنها كانت أكبر كثيرًا من سرعة الضوء المعتادَة. وقد كنت أعرف أنَّ هذا مُحالٌ من الناحية الفيزيائية. لقد أكَّد لي العلماء أن الحركة بسرعة أكبر من الضوء عبث لا معنى له. ولهذا، فقد استنتجتُ أنَّ حركتي لا بد أنها كانت ظاهرة ذهنية على نحوٍ ما وليسَت مادية، مما جعلني أستطيع أن أشغل نقاطًا مُتتالية دون وسيلة تنقُّل مادي. وبدا لي من الجليِّ أيضًا أنَّ ضوء النجوم التي كنت أراها الآن، لم يكن ضوءًا معتادًا وماديًّا؛ إذ إنَّني لاحظت أنَّ وسيلة سفري الجديدة والحثيثة لم يكن لها أي أثر على الألوان المرئية للنجوم. ومهما بلغت سُرعتي، فقد ظلت النجوم على ألوانها الماسية، غير أنها كانت أكثر سطوعًا ووضوحًا مما كانت عليه في الرؤية المُعتادة.
فور أن تيقَّنت من قدرتي الجديدة على التنقُّل، رحت أستخدمها بحماس شديد. قلتُ لنفسي إنني أُقدِم على رحلة من البحث الميتافيزيقي والفلكي، لكنَّ اشتياقي للأرض كان يخلُّ بهدفي؛ فقد حوَّل انتباهي دونما داعٍ إلى البحث عن الكواكب، ولا سيما الكواكب من النوع الأرضي.
بصورة عشوائية وجَّهت مساري إلى إحدى النجوم القريبة الأكثر سطوعًا. كان تقدُّمي سريعًا للغاية حتى إنَّ بعض الأجرام السماوية الأصغر والتي كانت أقرب إليَّ، راحت تتدفَّق بمُحاذاتي كالشهب. تحركت بالقرب من الشمس العظيمة دون شعور بحرارتها. على سطحها المبرقش، كنت أستطيع أن أرى ببصري الخارق، بالرغم من البريق السائد، مجموعة من البقع الشمسية الضخمة الداكنة، وكل منها حفرة كان يمكن أن تُلقَى فيها عشرات من كواكب الأرض. حول حافة النجم بدت البروزات في الغلاف اللوني كأنها ريش ووحُوش بدائية وأشجار متَّقدة، كلها تقف في ترقب أو مَهابة، على كرة أصغر جدًّا من أن تكفيها. وفيما وراء ذلك، نشرت الهالة الشاحِبة لهيبها في الظلام. وبينما رحت أدور حول النجم في مسار زائدي المقطَع، رحت أبحث بتوتُّر عن كواكب، لكنَّني لم أجد أيًّا منها. بحثتُ مجددًا بدقة، ورحت أتقدم إلى الأمام وأنحرف قريبًا وبعيدًا. في المدارات العريضة، قد يكون من السهل جدًّا أن تغفل عن جسم صغير مثل الأرض. لم أجد شيئًا سوى الشُّهب والقليل من المذنبات الواهية. وقد كان ذلك هو الأكثر إحباطًا؛ إذ إنَّ النجم قد بدا من النوع نفسه الذي تنتمي إليه الشمس المألوفة. كنت آمل بيني وبين نفسي ألَّا أعثر على كواكب فحسب، بل أن أعثر على الأرض بالتحديد.
مرة أخرى انطلقتُ في محيط الفضاء متوجهًا إلى نجمٍ آخر قريب. ومرة أخرى شعرت بخيبة الأمل. لم أقترب إلا من أتون آخر مُوحِش. هذا النجم أيضًا لم يكن يضم تلك الحبات الدقيقة التي تأوي الحياة.
الآن كنت أسرع من نجم إلى آخر، ككلبٍ ضالٍّ يَبحث عن سيده. اندفعت هنا وهناك عازمًا على إيجاد شمسٍ تدور حولها كواكب، والتي من بينها يوجد موطني. فتشت نجمة تلو النجمة، وقد تجاوزت عددًا كبيرًا منها بنفادِ صبر قبل أن أدرك أنها كبيرة وهشَّة وصغيرة السن للغاية لأن تكون شمس الأرض. كان بعضها نجومًا عملاقة محمرَّة غير واضِحة المعالم عرضها أكبر من مدار المُشتري، وبعضها أصغر وأكثر وضوحًا ولها سطوع ألف شمس، وكان لونها أزرق. كنت قد تعلَّمتُ أنَّ شمسنا من النوع المتوسط، غير أنني وجدت الآن من الشموس الضخمة الصغيرة السن عددًا أكبر بكثير من الشموس الصغيرة المصفرَّة المتوسِّطة السن. من الواضِح أنَّني كنت أمكث في منطقة متكدِّسة بالنجوم الحديثة.
رحت أراقب سحبًا ضخمة من الغبار لا لشيء إلا لكي أتجنبها، كانت في ضخامة الكوكبات تخفي تيارات النجوم؛ وكذلك رقعًا مُمتدَّة من الغاز المتوهِّج الشاحب التي تُضيء في بعض الأحيان بفعل ضوئها وأحيانًا بفعل الضوء المنعكِس من النجوم. كثيرًا ما كانت هذه القارات المتكوِّنة من السحب اللؤلؤية اللون تنتج بداخلها عددًا من لآلئ الضوء الباهتة التي هي أجنَّة النجوم المستقبَلية. نظرت دونما اهتمام إلى العديد من مجموعات النجوم التي تشكَّلت مَثنى وثلاث ورباع، والتي كان بها عدد متساوٍ تقريبًا من الشركاء الذين يتراقَصُون في اتحادٍ وثيق. وذات مرة، مرة واحدة فقط، وجدت واحدًا من هذه الثنائيات النادرة التي لم يكن أحد الشريكَين فيها بأكبر من الأرض، لكنَّه كان ضخمًا كنجم عظيم ولامعًا للغاية. كنت أجد في أرجاء هذه المنطقة من المجرة، نجمًا محتضرًا هنا أو هناك يَخمد مُعتمًا، ورأيت في بعض الأنحاء أيضًا النجوم المُنطفِئة الميتة المُغلَّفة بقِشرة. لم أَستطع رؤية هذه النجوم إلا بعد أن وصلتُ إليها، وحتى حينها لم أرَها إلا بشكلٍ خافت بفعل الضوء المنعكس للسماء بأكملِها. لم أُحاوِل قطُّ الاقتراب منها أكثر؛ إذ إنها لم تكن بذات أهمية لديَّ في تلهُّفي المحموم للأرض. ثم إنها كانت تبعَث فيَّ الرهبة؛ إذ تُنذِر بموت الكون، لكنَّ ما طمأنَني أنَّني لم أجد منها إلا عددًا قليلًا للغاية.
لم أعثر على أيِّ كوكب. كنت أعرف جيدًا أنَّ ميلاد الكواكب يحدث بفعل الاقتراب الشديد لنجمَين أو أكثر وأنَّ مثل تلك الحوادث لا تحدث إلا نادرًا. ذكَّرت نفسي أن وجود نجوم لها كواكب في المجرَّة هو حتمًا حدث نادر كوجود الأحجار الكريمة بين حبات الرمال على شاطئ البحر. فماذا كان احتمال أن أعثر على أحدها؟ بدأت عزيمتي تخور. الصحراء المروِّعة للعتمة والنار العقيمة، والفراغ العظيم الذي لا يخترقه الوميض إلا قليلًا، وما في الكون بأكمله من عبث هائل، كل ذلك قد أثقل قلبي بصورة مريعة. والآن قد أُضيف إلى ذلك كله مصدر جديد للكدر؛ إذ بدأت قدرتي على التنقُّل تخور. لم أكن أستطيع القيام بأيِّ حركة على الإطلاق بين النجوم إلا بجهد عظيم وببطء شديد، ثم ازداد هذا البطء بدرجة عظيمة. سرعان ما سأجد نفسي مثبتًا في الفضاء كحشرة طائرة في إحدى المجموعات، لكنني سأكون وحيدًا تمامًا وللأبد. أجل، كان ذلك بالتأكيد جحيمي الخاص.
جمعت شتات نفسي. ذكَّرت نفسي أنه حتى إذا كان هذا سيكون هو قدري، فما هو بأمر خطير. ستظل الأرض على خير حال بدوني، وحتى إذا لم يكن هناك أي عالَم آخر آهل بالحياة في أي مكان آخر بالكون، فالأرض نفسها لا تزال عامرةً بالحياة، وقد تَنبثِق منها حياةٌ أوسع وأكثر اكتمالًا. وبالرغم من أنني قد فقدتُ كوكبي الأصلي، فذلك العالَم المحبوب لا يزال حقيقيًّا. ثمَّ إن مغامرتي بأكملها كانت معجزة؛ أوَليس من المُمكن أن تستمرَّ المعجزة وأتعثَّر في طريقي بأرض أخرى؟ تذكَّرت أنني انطلقتُ في رحلة حج علوية، وأنني مبعوث البشرية إلى النجوم.
ومع استعادتي للشجاعة، عادت إليَّ قُدرتي على التنقُّل. من الجليِّ أنها كانت تتوقَّف على وجود إطار ذهني من النشاط والانفِصال عن الذات؛ لذا فقد أخمدها ما انتابَني من رثاء للذات والتَّوق إلى الأرض.
عازمًا على استكشاف منطقة أخرى من المجرَّة حيث قد يوجد عدد أكبر من النجوم الأقدم؛ ومن ثم أمل أعظم في وجود كواكب، انطلقت في اتجاه عنقود بعيد ومليء بالنجوم. ونظرًا لشحوب أفراد هذه الكرة المُرقَّطة من الضوء وغير واضحة المعالم، فقد خمنت أنها تقع حتمًا على مسافة بعيدة للغاية. سافرت أكثر فأكثر في الظلام. وبالرغم من أنني لم أنحرف قطُّ عن طريقي للبحث، فلم يأخذْني مساري عبر محيط الفضاء بالقرب من أي نجم بالدرجة التي تكفي لأن أراه قرصًا. كانت أضواء السماء تتدفَّق بعيدًا عني كأنها أضواء سفن بعيدة. وبعد رحلة فقدت خلالها كل حساب للزمن، وجدت نفسي في صحراء شاسعة خالية من النجوم، كانت فجوةً بين تيارين من النجوم، وصدعًا في المجرَّة. كان درب التبانة يحيط بي، وفي كل اتجاه ينتشر غبار النجوم البعيدة المعتاد، غير أنه لم يكن هناك من أضواء واضحة سوى زغب الضوء الصادر من العنقود البعيد الذي كان هدفي.
أزعجتني تلك السماء غير المألوفة بما ولَّدته من شعور بازدياد انفِصالي عن موطني. لقد كان مما يبعث على الطمأنينة بعض الشيء أن أرى، فيما وراء أبعد نجوم مجرتنا، تلك البقع المُتناهية الصغر والتي هي مجرات غريبة أبعد كثيرًا من أبعد الخبايا المُنعزِلة في درب التبانة، وأن أتذكر أنه بالرغم من سَفري السريع والإعجازي، ما أزال داخل حدود مجرَّتي الأم، داخل تلك الخلية الصغيرة من الكون نفسها التي لا تزال تعيش فيها رفيقة حياتي. بالمناسبة، كنت مُندهِشًا من أنَّ العديد من المجرات الغريبة كانت تبدو للعين المجردة، ومن أنَّ أكبرها كان علامة ضبابية شاحبة أكبر من القمر في السماء الأرضية.
على النقيض من المجرَّات البعيدة والتي لم تُؤثِّر كل تلك المسافة التي قطعتها في مظهرها، كان عنقود النجوم أمامي يتمدَّد الآن في مجال البصر. وبعد أن عبرت الفراغ الشاسِع بين تياري النجوم، سرعان ما واجهني العنقود كغيمة ضخمة من حبات الماس. الآن كنتُ أمرُّ بمنطقة أكثر ازدحامًا، ثم انفرج العنقود نفسه أمامي مُغطيًا السماء الأمامية بأكملها بأضوائه الغفيرة. ومثلما تُقابل سفينة تقترب من الميناء غيرها من السفن والقوارب، اقتربت ومررتُ بنجم تلو النجم. حين تخللت إلى قلب العنقود، أصبحت في منطقة أكثر ازدحامًا من أيِّ منطقة قد استكشفتُها. كانت السماء تتوهج من كل جانب بالشموس التي بدا العديد منها ألمع من كوكب الزهرة في سماء الأرض. شعرت بابتهاج مسافر يدخل ميناء ليلًا بعد أن عبر المحيط، ليجد نفسه محاطًا بأضواء مدينة كبيرة. في تلك المنطقة المكتظة، أخبرت نفسي بأنه لا بد أنَّ العديد من حوادث الاقتراب الشديد قد وقعَتْ بين النجوم، وتشكَّلَت العديد من الأنظمة الكوكبية. ومرةً أخرى رحتُ أبحث عن نجوم متوسِّطة العمر من نوع الشمس الخاصة بالأرض. كل ما مررت به حتى الآن كانت نجومًا عملاقة صغيرة السن، ضخمة في حجم النظام الشَّمسي بأكمله. وبعد المزيد من البحث، عثرتُ على بضعة نجوم من المُحتمَل أن تُطابق ما أبحث عنه، لكنَّ أيًّا منها لم يضمَّ أيَّ كوكب. وعثرت أيضًا على العديد من النجوم المزدوجة والثلاثية، التي تدور في مداراتها التي لا تُحصَى، والقارات العظيمة من الغاز حيث تتكثَّف النجوم الجديدة. وفي النهاية، عثرت أخيرًا على أحد الأنظمة الكوكبية. وبقدر لا يُحتمَل من الأمل، درتُ فيما بين هذه العوالم، لكنَّ جميعها كان أكبر من المشتري، وكانت جميعها منصهِرة. ومن جديد، رحتُ أسرع من نجم إلى آخَر. لا بدَّ أنني قد زُرتُ الآلاف، لكن ذلك كله كان دون جدوى. مُغتمًّا ووحيدًا، هربت خارجًا من العنقود، والذي تضاءل خلفي إلى كرة من الزغب الأبيض الذي تتلألأ بقطرات الندى. من أمامي، حجبت بقعة عظيمة من الظلام جزءًا من درب التبانة والمناطق المجاورة الآهلة بالنجوم، خلا القليل من الأضواء القريبة التي كانت تقع بيني وبين الظلمة المُعتِمة. لاحت الحواف المتلاطمة لتلك الغيمة الضخمة من الغاز أو الغبار بفعل الأشعة الساقطة من النجوم الساطعة خلفها. أثار ذلك المشهد فيَّ مشاعر الرثاء للذات على العديد من الليالي التي قضيتها في البيت ورأيت فيها حوافَّ الغيوم المعتمة وقد أضفى عليها ضوء القمر لونًا فضيًّا مثل تلك الغيوم. غير أنَّ الغيوم التي كانت تقع قبالتي الآن لم تكن لتبتلع عوالم بأكملها أو عددًا لا يُحصى من الأنظمة الكوكبية فحسب، بل مجموعات نجمية بأكملها.
خذلتني شجاعتي مرةً أخرى. ومُبتئسًا حاولت أن أتجاهل تلك الأبعاد الهائلة بإغلاق عينيَّ، غير أنه لم تكن لي عينان ولا جفنان. كنت قد خرجت من جسدي، ولست سوى وعيٍ متجول. حاولتُ أن أستحضر في ذهني الجزء الداخلي من منزلي الصغير حيث الستائرُ مُنسدلة والنيران تتراقص. حاولت أن أُقنِعَ نفسي بأنَّ كل هذا الرعب والظلام والمسافة والوهج العقيم كان حلمًا، وأنني كنتُ أغفو بجوار النار وقد أستيقظ في أيِّ لحظة، وأنها سوف تُطلُّ عليَّ في أثناء حياكتها وتلمسُني وتَبتسِم، لكنَّني كنت ما أزال سجين النجوم.
بالرغم من قُوايَ الخائرة، شرعت في بحثي مرةً أخرى. وبعد أن كنتُ قد تجوَّلتُ من نجم إلى نجم لفترة قد تكون أيامًا أو سنوات أو دهور، وجَّهَني الحظ أو ربما رُوح حارسة إلى نَجم مُعيَّن شبيه بالشمس، وحين نظرت إلى الخارج من هذا المركز، رأيتُ نُقطة صغيرة من الضوء تتحرَّك مع حركتي على السماء المرسومة. وحين وثبتُ باتجاهِها، رأيتُ غيرها وغيرها. كان هذا بالفعل نظامًا كوكبيًّا يُشبه كثيرًا ذلك الذي أنتمي إليه. كم كنتُ مهووسًا بالمعايير البشرية حتى إنني اتَّجهت على الفور إلى الأشبه من هذه العوالم بالأرض! ومن المُثير للدهشة أنه قد بدا شبيهًا بالأرض فعلًا إذ راح قُرصُه يتضخَّم من أمامي أو من تَحتي. كان غلافه الجوي أقلَّ كثافة من غلافنا الجوي بالتأكيد؛ إذ كانت أشكال القارات والمُحيطات غير المألوفة ظاهرة بوضوح.
مثلما يَحدُث على الأرض، انعكست صورة الشمس ساطعةً على البحر المُظلم. وامتدَّت رُقَع من الغيوم هنا وهناك فوق البحار واليابسة، والتي كانت مُرقَّطة باللونين الأخضر والبُني مثلَما هي الحال على كوكبي. بالرغم من ذلك، فحتى من على هذا الارتفاع، رأيت أنَّ المناطق الخضراء أكثر زهوًا وزرقة من نظيرتها الأرضية. لاحظت أيضًا أنَّ مساحة المحيطات على هذا الكوكب أقل من مساحة اليابسة، وأنَّ مراكز القارات العظيمة تتشكَّل بصورة أساسية من الصحاري اللامعة ذات اللون الأبيض القشدي.