الأرض الأخرى
(١) على الأرض الأخرى
حين هبطت ببطء باتجاه سطح الكوكب الصغير، وجدت نفسي أبحث عن أرض كانت تُبشِّر بأنها ستكون شبيهة بإنجلترا. غير أنني فور أن أدركت ما كنت أفعله، ذكَّرت نفسي بأنَّ الظروف هنا ستكون مختلفة تمامًا عن الظروف الأرضية وأنه من غير المحتمَل على الإطلاق أن أجد كائنات ذكية هنا. وإن كانت مثل هذه الكائنات موجودة، فلن أستطيع فهمها على الأرجح. ربما ستكون عناكب ضخمة أو كائنات هلامية زاحفة. فكيف يُمكن أن أرجو أن أتواصَلَ على الإطلاق مع مثل تلك الكائنات المخيفة؟
بعد أن طُفتُ بصورة عشوائية لبعض الوقت فوق السُّحُب الخفيفة والغابات والسهول والمروج الملوَّنة وتلك البقاع الصحراوية اللامِعة، اخترتُ بلدةً بَحْرية تقعُ في المنطقة المعتدلة؛ شبه جزيرة زاهية الخضرة. حين كدتُ أهبط إلى الأرض، أذهلني اخضرار الرِّيف. هنا كان يُوجَد بكلِّ تأكيد نباتات تشبه نباتاتنا في طبيعتها الجوهرية، غير أنها كانت مُختلِفة بعض الشيء في التفاصيل. ذكرتني الأوراق السَّمينة أو حتى البصلية، بنَبْتَاتنا الصحراوية، غير أنَّ الأغصان هنا كانت رفيعةً وسِلكية. ربما كانت السمة الأبرز في هذه النباتات هي لونها الفاقع الذي يجمع بين الأزرق والأخضر، كلونِ الكُروم التي أُضيفت لها أملاح النحاس. كنتُ سأَكتشِف لاحقًا أنَّ هذه النباتات قد تعلَّمت بالفعل حماية نفسها من الميكروبات والآفات الشبيهة بالحشرات والتي قد خربت في الماضي هذا الكوكب الذي يَميل إلى الجفاف، باستخدام كبريتات النحاس.
رحتُ أنساب فوق سهل لامع قد تَناثَرت عليه شُجيرات باللون الأزرق البروسي. السماء أيضًا قد اصطبغت بدرجة داكنة من الأزرق لا تُرى بها على الأرض إلا من الارتفاعات الشاهقة. رأيت بعضًا من السحب المنخفضة الرقيقة، والتي كنت أعزو طبيعتها الخفيفة إلى رقة الغلاف الجوي. وقد دعم من هذا التفسير حقيقة أنَّه بالرغم من هُبوطي على الكوكب في ضحى يوم صيفي، فقد وجدتُ أنَّ نجومًا عدة قد تمكَّنَت من اختراق السماء الشبيهة بسماء الليل. جميع الأسطح الظاهِرة كانت شديدة الإضاءة، وظلال الشجيرات القريبة كانت سوداء تقريبًا. وبعض الأجسام البعيدة الشبيهة بالمباني، غير أنها لم تكن على الأرجح سوى محض صخور، قد بدت وكأنها منحوتةٌ بالأبنوس والثلج. كان المنظر بأكمله يتَّسم بجمال استثنائي مُدهش.
كنت أحلِّق دون جناحَيْن على سطح الكوكب عبر فسحات الغابات، وعلى بقاع من الصخور المتكسرة، وعلى ضفاف الجداول. كنت قد وصلت الآن إلى منطقة واسعة تغطيها صفوف أنيقة متوازية من نباتات شبيهة بالسرخس تحمل كميات كبيرة من الجوز على السطح السُّفلِي لأوراقها. كان من المستحيل تقريبًا أن أصدق أنَّ هذا النظام الدقيق للنباتات لم يخضع لتخطيطٍ ينمُّ عن ذكاء. أم يكون هذا في النهاية محض ظاهرةٍ طبيعية غير معروفة على كوكبي؟ كانت دهشتي شديدةً لدرجة أنَّ قدرتي على التنقُّل، والتي كانت خاضعةً على الدوام للتدخُّل العاطفي، قد بدأت تخور الآن. ترنحت في الهواء كرجل مخمور. محاولًا التماسك، رحت أسير مُتعثرًا على المحاصيل المصفوفة باتجاه جسم كبير بعض الشيء كان يقع على مسافة مني بجوار شريط من الأرض الجرداء. وسرعان ما دُهِشت وذُهِلت إذ اتضح أنَّ هذا الجسم ما هو إلا محراث. لقد كان آلة غريبة بعض الشيء، غير أنه لم يكن هناك من سبيل للخطأ في شكل النصل، والذي كان صدئًا ومن الواضح أنه مصنوع من الحديد. كان به مقبضان حديديان، وسلاسل لربط دابة الحمل. كان من الصعب أن أصدق أنني أبعد عن إنجلترا بالكثير من السنين الضوئية. حين نظرت حولي، رأيت طريقًا ترابيًّا لا لبس فيه، وقطعةً من القماش الرث القذر معلَّقة على شجيرة. بالرغم من ذلك؛ ففي الأعلى كانت السماء غير السماء الأرضية تسطع بها النجوم في الظهيرة.
تبعت الطريق الذي كان يمتدُّ عبر غابة صغيرة من الشجيرات الغريبة التي كانت أوراقها السمينة المتدلية تحمل ثمارًا شبيهة بالكرز على امتداد حوافها. وفجأة بالقرب من مُنعطَف على الطريق، التقيت برجل. أو هكذا قد بدا في البداية لبصري المذهول والمتعَب من رؤية النجوم. لم أكن سأندهش للغاية من السمت البشري الغريب لهذا الكائن إن كنتُ قد فهمت في هذه المرحلة المبكِّرة من مغامرتي تلك القوى التي كانت تتحكَّم بها. لقد قادتني بعض التأثيرات التي سأصفها فيما بعد إلى أن أكتشف أولًا تلك العوالم الأكثر شبهًا بعالَمي. وفي هذه الأثناء، يُمكن للقارئ أن يتخيَّل دهشتي إزاء هذا اللقاء العجيب. لقد كنت أفترض دومًا أنَّ الإنسان كائن فريد من نوعه. لقد أنتجته مجموعة متشابكة من الظروف المعقدة بدرجة لا يمكن تصورها، ولم يكن من المفترض أنَّ مثل تلك الظروف ستتكرر في أي مكان آخر بالكون. بالرغم من ذلك، فهنا على أول عالم أستكشفُه على الإطلاق، التقيت بأحد المُزارعين. حين اقتربت منه، رأيت أنه لا يشبه الرجل الأرضي بتلك الدرجة التي بدا عليها من بعيد، غير أنه كان إنسانًا على أيِّ حال. أيكون الرب قد أسكن الكون بأكمله بنوعنا؟ أيكون قد خلقنا حقًّا على صورته؟ كان ذلك أمرًا لا يُصدَّق. إنَّ طرح مثل هذه الأسئلة أثبت أنني قد فقدتُ تَوازُني العقلي.
ولأنني كنتُ محض وعي بلا جسد، فقد كنت أستطيع أن أرى دون أن أُرى. رحت أحلق بالقرب منه بينما راح يخطو على الطريق. كان منتصبًا يسير على قدمين وكان بصورة عامة يشبه البشر بكل تأكيد. لم تكن لديَّ وسيلة لقياس طوله، لكنَّ طول قامته كان في النطاق الأرضي المعتاد تقريبًا، فلم يكن أصغر من قزم أو أكبر من عملاق على الأقل. كان ممشوق القوام، وساقاه رفيعتين كساقَيْ طائر ويحيط بهما سروال خشن ضيق. كان عاريًا فيما فوق الخصر، فظهر صدره الذي كان كبيرًا على نحو غير ملائم، وأشعث بشعر يميل إلى الاخضرار. كان له ذراعان قصيرتان لكنهما قويتان، وعضلاتُ كتفَين ضخمة. كانت بشرته داكنة وتميل إلى الاحمرار، ويُغطِّيها الكثير من الزغب الأخضر الفاقع. ملامحه بأكملها كانت غليظة؛ إذ كانت تفاصيل عضلاته وأوتاره ومفاصله مختلفة شديدة الاختلاف عما هي عليه لدينا. رقبته كانت طويلة ومرنة على نحو غريب. أما رأسه، فأفضل ما يُمكنني وصفه به هو أنَّ الجزء الأكبر من الجمجمة والذي كان يُغطِّيه شعر كثيف بدا أنه قد انزلقَ إلى الخلف وإلى الأسفل على القفا. عيناه البشريتان للغاية كانتا تُحدِّقان من تحت إطار شعره. فمه البارز على نحو غريب، والذي كان شبيهًا بالفُوَّهة، قد جعله يبدو وكأنما كان يصفر. بين العينين بل أعلاهما على الأدق، كان هناك منخاران كبيران شبيهان بمنخارَي الخيل، وقد كانا يتحركان باستمرار. أما جسر الأنف، فقد كان يُمثِّله ارتفاع في الشعر الكثيف والذي يصل من المنخارَين في الخلف إلى أعلى الرأس. لم تكن هناك من أذنَين ظاهرتَين، وقد اكتشفت لاحقًا أنَّ أعضاء السمع تَنفتِح على المنخارين.
من الواضح أنه بالرغم من أنَّ التطور على هذا الكوكب الشبيه بالأرض قد اتخذ في المجمل مسارًا شديد الشبه بالمسار الذي أدَّى إلى ظهور نَوعي، فلا بدَّ أيضًا من وجود العديد من الاختلافات.
لم يكن الرجل يرتدي حذاءً فحسب، بل قفازَين أيضًا بدا أنهما كانا مصنوعين من جلدٍ خشن. كان حذاؤه قصيرًا للغاية. وقد اكتشفت بعد ذلك أنَّ أقدام هذه السلالة أو «البشر الآخرين» مثلما سميتهم، كانت أشبه بأقدام النعام أو الجمال. كان مشط القدم يتكون من ثلاثة أصابع كبيرة تنمو معًا. وبدلًا من الكعب، كان هناك إصبع آخر عريض وقصير ومُمتلئ. كانت اليدان بلا راحتين، كل منهما تتألف من ثلاثة أصابع غضروفية، وإصبع إبهام.
ليس الهدف من هذا الكتاب أن أروي مغامراتي، بل أن أقدم فكرة عن العوالم التي زرتها؛ ولهذا فلن أروي بالتفصيل كيف استقرَّ بي الحال بين البشر الآخرين؛ فالحديث عن نفسي تكفيه بضع كلمات. حين درست هذا المزارع لبعض الوقت، بدأت حقيقة عدم إدراكه الكامل لوجودي تتملَّك مني على نحو غريب. وبوضوح مؤلم، أدركت أنَّ الهدف من رحلة حجي ليس هو الملاحظة العِلمية فحسب، بل أيضًا الحاجة إلى إجراء تبادُل ذهني وروحاني من نوعٍ ما مع عوالم أخرى للانتفاع بالثراء والتواصُل المشترك. كيف عساي أن أتمكَّن من تحقيق هذه الغاية ما لم أستطع إيجاد طريقة ما للتواصُل؟ فقط بعد أن تبعت رفيقي إلى منزله وقضيت أيامًا عديدة في ذلك المنزل الحجري الدائري الصغير ذي السقف المصنوع من الخوص المغطَّى بالطين، اكتشفت القدرة على الدخول إلى عقله، ورؤية الأشياء من خلال عينيه، والإحساس من خلال أعضائه الحسية جميعها، وإدراك عالَمه مثلما يُدركه هو، وكذلك مُتابعة الكثير من أفكاره وحياته العاطفية. وبعدها بوقت طويل حين «سكنت» العديد من أفراد هذه السلالة على نحو سلبي، اكتشفت كيف أعلن عن وجودي وحتى أن أتحدث داخليًّا مع مضيفي.
ذلك الاتصال «التخاطري» الداخلي والذي كان سينفعني في جميع رحلاتي، كان في البداية صعبًا وغير فعال ومؤلمًا. غير أنَّني قد تمكَّنتُ مع الوقت من أن أعايش تجارب مضيفي بحيوية ودقَّة، مع الحفاظ على فرديتي، وذكائي النقدي ورغباتي ومخاوفي. فقط حين كان الطرف الآخر يُدرك حضوري بداخله، كان يستطيع بفعل خاص من إرادته أن يبقي بعض الأفكار سرًّا عنِّي.
من المنطقي جدًّا أنَّني قد وجدت هذه العقول الغريبة غير مفهومة في بادئ الأمر؛ فإدراكاتها الحسية كانت تَختلِف عن نظيراتها المألوفة لي في جوانب مُهمَّة. كانت أفكارها وجميع مشاعرها وأحاسيسها غريبة بالنسبة إليَّ. إنَّ الأساس التقليدي لهذه العقول؛ أي، المفاهيم الأكثر شيوعًا فيها، كان يَستند إلى تاريخ غريب ويُعبر عنه في لغات يجدها العقل الأرضي مُضلِّلة بعض الشيء.
قضيت على «الأرض الأخرى» العديد من «السنوات الأخرى» مُتجولًا من عقل إلى عقل ومن بلد إلى بلد، غير أنني لم أكتسب أي فهم واضح لنفسية البشر الآخرين ودلالة تاريخهم إلى أن التقيت بأحد فلاسفتهم، وهو رجل عجوز لكنَّه كان لا يزال يتمتَّع بعنفوان الشباب، وكانت آراؤه الغريبة وغير المُستساغة قد حالت دون أن يَنال التقدير والمكانة. القدر الأكبر من مُضيفِي حين كانوا يُدركون وجودي، كانوا إما أن يَظنُّوا أنني رُوح شريرة أو رسول إلهي. أما الأكثر تثقيفًا منهم، فقد افترضُوا أنني محض مرض أو عرضٌ من أعراض الجنون؛ ولهذا فقد ذهبوا على الفور إلى «مسئول الصحة العقلية» المحلي. وبعد أن قضَيتُ حسب التقويم المحلِّي قرابة عام من الوحدة المريرة بين عقول رفضت أن تُعاملني على أنني بشر، حالَفَني الحظ إذ لاحظ الفيلسوف وجودي. أحد مُضيفيَّ الذي كان يشكو من أنه يعاني من سماع «أصوات» ورؤية رؤى من «عالم آخر» قد توجه إلى العجوز طلبًا للمُساعدة. بَفَالتو، كان هذا هو اسم الفيلسوف على وجه التقريب، قد «عالجه» بأن دعاني إلى قبول الضيافة في عقله حيث قال إنه سيُسعدُه بشدة أن يَستضيفني. وببالغ السرور قد تواصلتُ أخيرًا مع كائن أدرك طبيعتي البشرية.
(٢) عالم مُنشغِل
ثمة الكثير من السمات المُهمة في مجتمع هذا العالم التي يجب أن توصف؛ لذلك، لا أستطيع أن أقضي الكثير من الوقت في وصف ملامح الكوكب الواضحة وسلالته. كانت الحضارة قد بلغت من النمو مرحلة شبيهة جدًّا بما بلغته لدينا. كنت دائم الاندهاش بمزيج التشابه والاختلاف. من خلال الترحال في أرجاء الكوكب، وجدت أنَّ الزراعة قد انتشرت في مُعظم المناطق المناسبة، وأنَّ الصناعة كانت أكثر تقدمًا بالفعل في الكثير من البلدان. على المروج، كانت هناك قطعان ضخمة من كائنات شبيهة بالثدييات تَرعى وتعدو. أما الثدييات الأكبر، أو أنصاف الثدييات، فكانت تُربى في أفضل المراعي من أجل لحمها وجلدها. وأنا أصفها بأنها «أنصاف ثدييات»؛ لأنَّ هذه الكائنات لم تكن تَرضع صغارها بالرغم من أنها كانت تلد. بدلًا من ذلك، فقد كانت الأم تَبصُق الطعام المَمضوغ المُجتر والمعالج كيميائيًّا في معدتها، في فم الصغار كنَفثة من سائلٍ مَهضوم مسبقًا. وقد كانت تلك أيضًا هي الطريقة التي تطعم بها أمهات البشر صغارها.
كانت وسيلة التنقُّل الأهم في الأرض الأخرى هي القطارات البخارية، غير أنَّ القطارات في هذا العالم كانت ضَخمة للغاية حتى إنها كانت تبدو كصفوف كاملة من المنازل وهي تتحرَّك. كان هذا التقدم الملحوظ في السِّكك الحديدية يعود على الأرجح إلى الرحلات العديدة التي تُقطع عبر الصحاري وطولها الكبير. كنتُ أسافر في بعض الأحيان على السفن البخارية في المُحيطات القليلة والصغيرة، غير أنَّ وسائل المواصَلات البحرية كانت بوجه عام مُتأخِّرة. لم تكن الدافعة المروحية معروفة في هذا العالم، وكانت عجلات التجديف تُستخدم بدلًا منها. وكانت مُحرِّكات الاحتراق الداخلي تُستخدَم في الانتقال على الطرق والصَّحاري. لم يتمكَّنوا من الطيران بسبب الغلاف الجوي الرقيق، لكنَّ الدفع الصاروخي كان مستخدمًا بالفعل في نقْل البريد لمسافات بعيدة، والقصف البعيد المدى في الحروب، وقد يُستخدم في الملاحة الجوية يومًا ما.
كانت زيارتي الأولى لعاصِمة إحدى الإمبراطوريات العظيمة في الأرض الأخرى تجربة رائعة. كل شيء كان غريبًا للغاية ومألوفًا للغاية في الوقت ذاته. كانت هناك الشوارع والمَتاجر والمكاتب المتعدِّدة النوافذ. في هذه المدينة القديمة، كانت الشوارع ضيقة وحركة السيارات مكتظة للغاية حتى إنَّ الأماكن المخصَّصة للمشاة قد شُيدت لها طرق مرتفعة خاصة قد تدلت بجوار نوافذ الطابق الأول وبامتداد الشوارع.
الحشود التي تدفَّقت على طرق المشاة تلك قد تنوعت مثلما هي الحال لدينا. كان الرجال يَرتدون سترات طويلة من القماش وسراويل، من المُدهش أنها كانت تُشبه سراويل أوروبا، غير أنَّ الطية التي تُميز سراويل ذوي الشأن كانت على جانب الساق. كانت النساء بلا أثداء ومُرتفعات المنخارين كالرجال، غير أنَّ ما كان يُميزهنَّ هو شفاههن الأنبوبية والتي كانت وظيفتها البيولوجية هي توصيل الغذاء للطفل الرضيع. وبدلًا من التنانير، كن ترتدين سراويل ضيقة حريرية ذات لون أخضر لامع، وألبسة داخلية صغيرة مبهرجة. وقد كان تأثير ذلك على بصري الذي لم يَعتَدْ على هذه المناظر بذيئًا بدرجة لا توصف. في الصيف، كان أفراد كِلا الجنسين غالبًا ما يسيرون في الشوارع عراة حتى الخصر، لكنهم كانوا يرتدون القفازات على الدوام.
إذن، هنا جمع من الأفراد الذين بالرغم من غرابتهم، كانوا يتَّسمون بالجوهر الإنساني بقدرِ ما يتَّسم به سكان لندن. كانوا يُباشرون شُئونهم الخاصة بثِقَة تامة، دون دراية بأنَّ ثمة مُشاهدًا من عالم آخر كان يرى أنهم جميعًا مُنفِّرون بافتقارهم إلى الجبين، وبمناخيرهم الكبيرة المرتفعة المرتعشة، وعيونهم الشديدة الشبه بالعيون البشرية وأفواههم الشبيهة بالفوهة. ها هم كانوا هناك، أحياء منشغلين، يتسوقون ويحدقون ويتحدثون. الأطفال كانت تجرجرهم أيدي أمهاتهم، والعجائز بوجوههم التي يغطيها الشعر الأبيض انحنوا على عصيِّ السير. وراح الشباب يُحدِّقون في الفتيات. وكان من اليسير تمييز الأثرياء من الفقراء عن طريق ملابسهم الأحدث والأغنى، وكذلك وضعيتُهم الواثقة، المتغطرِسة في بعض الأحيان.
كيف يُمكنني أن أصف في بضع صفحات الطابع المُميز لعالم غَفير وعظيم يختلف عن عالَمي أشد الاختلاف ويُشبهه أشد الشبه في الوقت ذاته؟ فهنا، يولد الأطفال كل ساعة مثلما يحدث على كوكبي. وهنا أيضًا كهناك، كانوا يُطالبون بالغذاء، وقريبًا جدًّا سيُطالبون بالصحبة. لقد اكتشفُوا ماهية الألم والخوف والوحدة والحب. لقد كبروا وقد شكَّلتْهم ضغوطات من أقرانهم إما قاسية أو هينة، فإما أن يصبحوا جيدي التربية، كرماء، متزنين، أو معاقين ذهنيًّا حانقين وانتقاميِّين عن غير قصد. وجميعهم دون استثناء كانوا يتلهَّفون باستماتة على نعيم الرفقة الحقيقية، وقليلون جدًّا هنا، ربما حتى أقل من نظرائهم في عالمي، هم مَن وجدوا ما هو أكثر من نكهته المتلاشية. كانوا يعوون مع القطيع ويصيدون مع القطيع. ومن سَغَبِهم المادي والعاطفي، كانوا يَتشاجرون على الصيد ويقطِّع كلٌّ منهما الآخر إرْبًا؛ إذ جُنوا من الجوع ماديًّا أو ذهنيًّا. أحيانًا كان بعضهم يتوقَّف ويتساءل عن الغاية من كل هذا؛ ومن ثمَّ تتبع ذلك معركة من الكلمات، وما من إجابة واضحة. فجأة يصيبهم الهرم وينتهون، ولأنَّ الفترة الممتدة من الميلاد إلى الوفاة محض لحظة لا تُحسُّ في الزمن الكوني، فقد كانوا يتلاشون.
ولأنَّ هذا الكوكب من النوع الأرضي في جوهره، فقد أنتج سلالة بشرية في جوهرها، أو بشرية من نوع مختلف عن النوع الأرضي، إذا صح التعبير. كانت هذه القارات متنوِّعة كقارتنا، وكانت تسكنها سلالة متنوعة كالسلالة البشرية. جميع ما يظهر في تاريخنا من أنماط الحياة الروحانية وسماتها كان له ما يكافئه في تاريخ البشر الآخرين. ومثلما هو الحال لدينا، فقد كانت هناك عصور مظلمة وعصور تنوير، مراحل من التقدم وأخرى من التأخُّر، ثقافات تسود فيها النزعة المادية، وأخرى يغلب عليها الطابع الفكري أو الجمالي أو الرُّوحاني. وقد كانت هناك أعراق «شرقية» وأخرى «غربية». كانت هناك إمبراطوريات وجمهوريات وديكتاتوريات. غير أنَّ كل ذلك كان مختلفًا عما يوجد على الأرض. العديد من الاختلافات كان سطحيًّا بالطبع، غير أنَّ بعضها كان جوهريًّا وعميقًا واستغرق مني فهمها وقتًا طويلًا، ولكني لن أصفها الآن. لا بدَّ لي أن أبدأ بالحديث عن التركيب البيولوجي للبشر الآخرين. لقد كانت الطبيعة الحيوانية تكمن في صميمهم مثلنا إلى حدٍّ كبير. كانوا يستجيبون بالغضب والخوف والكراهية والرقة والفضول وغير ذلك مثلما نستجيب. لم يكونوا يختلفون عنا في الحواس سوى أنهم كانوا أقل حساسية لرؤية الألوان وأكثر حساسية لرؤية الأشكال مقارنة بنا. لقد بدَت لي الألوان الفاقعة في الأرض الأخرى عبر عيون سكانها الأصليِّين باهتة للغاية. وقد كانوا ضعاف السمع أيضًا بعض الشيء؛ فبالرغم من أنَّ أعضاءهم السَّمعية كانت حساسة للأصوات الخافتة بقدر حساسيتنا لها، لم تكن تُحسِن التمييز. إنَّ الموسيقى التي نعرفها لم تتطوَّر قطُّ في هذا العالم.
عوضًا عن ذلك، تطوَّرَتْ حاستا الشم والتذوق لديهم على نحو مُذهِل. لم تكن هذه الكائنات تتذوَّق بأفواهها فحسب، وإنما بأيديها التي كانت رطبة وسوداء حينذاك، وبأقدامها أيضًا؛ ومن ثمَّ فقد وهِبوا تجربة ثرية وحميمية للغاية مع كوكبهم. لقد كانت مذاقات المعادن والأخشاب والأراضي الحامضية والحلوة والعديد من الصخور وذلك العدد الضخم من النكهات القوية أو الخفيفة للنباتات تتهشَّم تحت أقدامهم العارية المسرعة، مما شكَّل عالَمًا بأكمله لا يعرف البشر الأرضيُّون عنه شيئًا.
الأجهزة التناسُلية كانت هي أيضًا مزوَّدة بأعضاء للتذوق. كانت هناك العديد من أنماط السمات الكيميائية المُميِّزة لكلٍّ من الذكور والإناث، وكلٌّ منها يُثير جاذبية الجنس الآخر بشدة. كان يُمكن تذوق هذه السمات على نحوٍ خافت من خلال لمسِ الأيدي أو الأقدام بأي جزء من أجزاء الجسد، ويكون تذوقها بشدة مُذهِلة في الجماع.
إنَّ هذا الثراء المُدهش في الخبرة التذوقية قد جعل من الدخول إلى أفكار البشر الآخرين بشكلٍ كامل أمرًا شديد الصعوبة بالنسبة إليَّ. فقد كان التذوق يُمثل جزءًا مهمًّا للغاية في خيالهم وإدراكهم، بقدر ما كانت حاسة البصر مُهمة بالنسبة إلينا. العديد من الأفكار التي كان الإنسان الأرضي يتوصَّل إليها عن طريق البصر، والتي لا تزال تحمل بعض آثار أصلها البصري حتى في أكثر أشكالها تجردًا، كان البشر الآخرون يتصورونها من خلال التذوق. فكلمة «لامع» التي نستخدمها لوصف الأشخاص والأفكار، يترجمونها بكلمة معناها الحَرفي هو «لذيذ». وبدلًا من كلمة «صافٍ» يستخدمون مُصطلحًا كان الصيادون في العصور البدائية يستخدمونه للإشارة إلى مُطاردات الصيد بالتذوق التي تُؤخذ جريًا. أما «الإشراق الإلهي» فقد كانوا يُعبِّرون عنها بمُصطلَح «تذوق مروج السماء». العديد من مفاهيمنا غير البصرية كانوا يُعبِّرُون عنها من خلال التذوق أيضًا. كانوا يشيرون إلى «التعقيد» بمصطلح «متعدِّد النكهات» وهو مصطلح كان يُستخدم في الأساس للتعبير عن تشوش المذاق حول برِكة شُرب تتردَّد عليها العديد من أنواع الحيوانات. أما كلمة «التنافر» فقد كانوا يُعبرون عنها بكلمة مشتقة من كلمة تعني الاشمئزاز الذي كان يشعر به بعض أنواع البشر بعضهم تجاه بعضٍ بسبب نكهاتهم.
الاختلافات بين الأعراق، والتي كانت تتجسَّد في عالَمنا في المظهر الجسماني بصورة أساسية، كان جميعها تقريبًا يتمثَّل لدى البشر الآخرين في المذاق والرائحة. ولأنَّ أعراق البشر الآخرين كانت أقل تمركزًا بكثير في مواقع محدَّدة مقارنةً بأعراقنا، فقد شكَّل الصراع بين الجماعات التي كانت نكهاتها بغيضة بعضها لبعضٍ دورًا عظيمًا في التاريخ. فقد نزع كل عرق إلى الاعتقاد بأنَّ نَكهته هي التي تمثل جميع الصفات الذهنية الراقية، وأنها علامة يُمكن الاعتماد عليها بالتأكيد للدلالة على القيمة الروحانية. وقد كانت الاختلافات في المذاق والرائحة في العصور السابقة علامات حقيقية على الاختلافات بين الأعراق بكل تأكيد، أما في العصور الحديثة، وفي المناطق الأكثر تطورًا، فقد حدثَت تغيُّرات كبيرة. ليس الأمر أنَّ الأعراق ما عادت تتمركَز في أماكن محددة فحسب، بل تسبَّبت أيضًا الحضارة الصناعية في حدوث مجموعة من التغيرات الجينية لم تَترك للفروقات العرقية القديمة أي جدوى. وبالرغم من أنَّ هذه النكهات القديمة لم تَعُد تحمل الآن أيَّ دلالة عرقية على الإطلاق، والواقع أنَّ أفراد العائلة الواحدة قد يحملون نكهاتٍ يجدونها كريهةً على نحوٍ متبادل، فقد ظلَّت تنتج الآثار العاطِفية التقليدية. في كل بلد كانت هناك نكهة محدَّدة تُعدُّ هي السمة المُميزة للعرق السائد في ذلك البلد، ويُعدُّ ما سواها من النكهات بغيضًا إن لم يكن بالفعل مستهجنًا.
في البلد الذي ألممتُ بأكبر قدر من المعرفة عنه، كانت النكهة العرقية القويمة نوعًا من الملوحة لا يمكن للإنسان الأرضي أن يتصوَّرها. كان مُضيفِيَّ يَنظرون إلى أنفسهم باعتبارهم ملح الأرض نفسه، لكنَّ الحقيقة أنَّ أول ريفي «سكنتُه» كان هو الرجل المِلحي الوحيد الأصلي الخالص الذي ينتمي إلى النوعية القويمة ممَّن قابلتهم. أما الغالبية العظمى من مُواطني هذا البلد فقد كانوا يكتسبون المذاق والرائحة الصحيحَيْنِ بسبل صناعية. وأولئك الملحيُّون بعض الشيء على الأقل ويَنتمُون إلى إحدى النوعيات الملحية وإن لم تكن المثالية، كانوا دائمًا ما يَفضحون خداع جيرانهم من ذوي اللُّذوعة أو الحلاوة أو المرارة. من سوء الحظ أنه بالرغم من إمكانية إخفاء مذاق الأطراف بدرجة مُناسبة، لم يكن من المُمكن تغيير نكهة الجماع؛ ولهذا فقد كان حديثو الزواج عرضةً لأن يكتشفوا بشأن أحدهم الآخر الاكتشافات الأكثر تدميرًا في ليلة الزفاف. ونظرًا لأنَّه في الغالبية العُظمى من الزيجات لم يكن لدى أيٍّ من الطرفين النكهة القويمة؛ فقد كان كلاها مستعدًّا لأن يتظاهر أمام العالم بأكمله بأنَّ كل شيء على ما يرام، غير أنَّ ذلك غالبًا ما كان يتحوَّل إلى تنافر مقزز بين نوعي المذاق. تفشَّت الاضطِرابات العَصبية في الجماعة السكانية بأكملها نتيجة لتلك الزيجات المأساوية السرِّية. وفي بعض الأحيان، حين يكون أحد الطرفين ينتمي إلى النكهة القويمة بدرجة ما، فإنَّ هذا الشريك الملحي الأصلي يُندِّد ساخطًا بالطرف المحتال، وعندئذٍ تَشترك المحاكم والنشرات الإخبارية والجمهور في احتجاجات يقوم بها مَن يظنُّون أنهم الأقوم أخلاقيًّا.
بعض النكهات «العرقية» كانت جليَّة للغاية فلم يكن يفلح إخفاؤها. إحداها على وجه التحديد، وقد كانت تُشبه الحلاوة المرة، كانت تُعرِّض مالكها للاضطهاد المفرط في جميع البلدان خلا أكثرها تسامحًا. في الماضي، جنى العرق الحلو المر سمعة من المكر والانتهازية، وقد كان أفراده يتعرَّضُون للذبح بين الحين والآخر على أيدي جيرانهم الأقل ذكاءً. بالرغم من ذلك، ففي الاضطراب البيولوجي العام في العصور الحديثة، قد تظهر النكهة الحلوة المرة في أيِّ عائلة. والويل حينَها يكون للطفل الملعون ولجميع أقربائه! كان الاضطهاد حتميًّا إلا أن تكون العائلة ثرية بالدرجة الكافية لأن تبتاع من الدولة «تمليحًا فخريًّا» (أو «تحليةً فخرية» في الدولة المجاوِرة)، وذلك هو ما كان يزيل وصمة العار.
في البلاد الأكثر استنارة، كان أمر الخرافة العرقية بأكمله قد بدأ يُصبح مُثيرًا للريبة؛ فنشأت حركة بين النخبة المثقَّفة لتكييف الأطفال على تقبل جميع أنواع النكهات البشرية، والتخلِّي عن مزيلات الروائح والمذاق، والتخلِّي حتى عن الأحذية والقفازات، والتي فرضها العرف الحضاري.
من سوء الحظ أنَّ حركة التسامح هذه قد أعاقتها إحدى نتائج المجتمع الصناعي. في المراكز الصناعية المكتظَّة وغير الصحية، ظهر نوع جديد من الرائحة والمذاق يبدو أنه كان طفرة بيولوجية. وفي غضون أجيال قليلة، سادت هذه النكهة الحامضية اللاذعة والتي لا يُمكن إخفاؤها في جميع أحياء الطبقة العامِلة الأكثر حقارة. وقد كانت هذه النكهة بالنسبة إلى حاسة التذوُّق شديدة الحساسية لدى الموسِرين تُعدُّ مُثيرة للاشمئزاز بدرجة طاغية. لقد أصبحت في واقع الأمر، رمزًا غير واعٍ بالنسبة إليهم يُحرِّك جميع المشاعر الدفينة بالذنب والخوف والكراهية والتي كان المُضطهِدون يشعرون بها تجاه المُضطَهَدين.
في هذا العالم، مثلما في عالَمنا، كانت نسبة ضئيلة من السكان هي التي تتحكَّم في الغالبية العُظمى من سُبُل الإنتاج الأساسية من الأرض والمناجم والمصانع والسكك الحديدية والسفن، لمنفعتها الخاصة. وهؤلاء الأفراد من ذوي الحظوة قادِرين على إرغام سواد الناس على العمل لحسابهم تحت طائلة الجوع. كانت المهزلة المأساوية الكامنة في مثل ذلك النظام تقترب بالفعل. المُلاك كانوا يُوجِّهون طاقة العمال على نحو مُتزايد إلى إنتاج المزيد من سبل الإنتاج بدلًا من إشباع احتياجات الحياة الفردية. فالآلات قد تجلب الربح إلى المُلاك، أما الخبز فلا يجلبه. ومع ازياد منافسة الآلة مع الآلة، تضاءل الربح؛ ومِن ثمَّ الأجور، وعلى إثرهما تضاءل الطلب الفِعلي على السِّلع. دُمِّرت السلع التي لم تجد لها سوقًا، بالرغم من أنَّ البطون كانت خاوية والظهور عارية. تزايدت البطالة والفوضى والقمع الصارم، مع تفكك النظام الاقتصادي. يا لها من قصة مألوفة!
ومع تدهور الأوضاع، وانخفاض قدرة الحركات الخيرية والمؤسَّسات الخيرية التابعة للدولة على مواجهة الكتلة المُتزايدة من البطالة والفقر أكثر فأكثر، زاد ما يُوفِّره العرق الجديد المنبوذ من منفعة نفسية لاحتياجات الكراهية لدى الأعراق المقدَّسة والتي لا تزال مزدهرة وذات نفوذ. وقد انتشَرت نظرية مفادها أنَّ هؤلاء الكائنات البائسة قد ظهرت نتيجة لتلوث عرقي منهجي سري قد حدث بسبب المهاجرين الرعاع وأنهم لا يستحقُّون أي اهتمام من أي نوع؛ ولهذا فلم يكن مسموحًا لهم بالعمل إلا في أكثر الأشغال انحطاطًا وظروف العمل الأكثر قسوة. وحين أصبحت البطالة مشكلة اجتماعية خطيرة، أصبحت الغالبية العُظمى من أفراد العرق المنبوذ دون عمل يعانون من الفقر المدقع. وقد كان من السهل الاعتقاد بالطبع بأنَّ البطالة لم تحدث بسبب انهيار الرأسمالية، وإنما بسبب افتقار هؤلاء المنبوذين إلى أيِّ قيمة أو جدارة.
في وقت زيارتي، كانت الطبقة العامِلة قد أصبحت موصومة تمامًا بأنها الطبقة المنبوذة، وقد كانت هناك حركة قوية تَسير على قدم وساق بين طبقات الأثرياء والمسئولين داعيةً إلى تأسيس العبودية للمنبوذين وأنصاف المنبوذين حتى يُمكن معاملتهم علنًا كالماشية والتي كانت تُمثِّل حقيقتهم في واقع الأمر. وفي ضوء خطر استمرار التلوث العرقي، حثَّ بعض السياسيِّين على ذبح المنبوذين جميعًا، أو إجراء تعقيم شامل لهم على الأقل. أما البعض الآخر فقد أوضح أنه نظرًا لأنَّ إمدادات العمالة الرخيصة أمر ضروري للمجتمع، فسوف يكون الخيار الأكثر حكمة هو تقليل أعدادهم فحسب وذلك من خلال قيادتهم إلى الموت المبكِّر بالعمل في وظائف لن يقبل بها أفراد «العرق النقي». ويجب أن يحدث هذا على أيِّ حال في أوقات الرخاء، أما في أوقات الانتكاس، فمن المُمكن ترك الفائض من السكان للموت جوعًا، أو استخدامهم في المختبَرات الفيسيولوجية.
الأشخاص الذين جَرُءوا على اقتراح هذه السياسة في بادئ الأمر، تعرضوا للجلد بسياط السخط الشعبي الشديد، غير أنَّ سياستهم قد طُبِّقت في واقع الأمر. لم يحدث ذلك بصورة مباشرة، وإنما بالموافقة الضمنية، وبغياب أيِّ خطة أخرى بنَّاءة بدرجة أكبر.
في المرة الأولى التي أُخِذت فيها إلى أفقر مناطق المدينة، دُهِشت حين رأيت أنه بالرغم من وجود مساحات كبيرة من المناطق العشوائية الفقيرة والتي كانت أقذر من أي شيء في إنجلترا، فقد كان فيها أيضًا العديد من البنايات العظيمة النظيفة التي تليق بأن تكون جزءًا من فيينا. كانت هذه المباني محاطة بالحدائق، والتي كانت مزدحمة بالخيام والأكواخ الوضيعة. كان العشب باليًا والشجيرات محطمة والورود مُداسة. وكان الرجال والنساء والأطفال يتسكَّعُون في كل مكان متسخين ومُهترئي الثياب.
عرفت أنَّ هذه البنايات الراقية قد بناها قبل الأزمة الاقتصادية العالَمية (عبارة مألوفة، أليس كذلك؟!) أحد أصحاب الملايين، والذي كان قد جنى ثروته عن طريق التجارة في عقار يشبه الأفيون. قدَّم المباني إلى مجلس المدينة، وقد مات واستقبلته السماء من طريق النبلاء. الأكثر استحقاقًا والأقل بُغضًا من الفقراء قد أُسكِنوا في هذه البنايات كما ينبغي لهم، غير أنَّ بعض الاحتياطات قد اتُّخِذت بتعيين إيجار مرتفع بالدرجة التي تكفي لاستبعاد العرق المنبوذ. بعد ذلك حَلت الأزمة. وواحدًا تلو الآخر، تعذَّر على المستأجِرين الدفعُ وطُردوا. وفي غضون عام، كانت البنايات خالية تقريبًا.
تلا ذلك سلسلة عجيبة للغاية من الأحداث، ومثلما كنتُ سأَكتشِف، كان أحدها من السمات المُميِّزة لهذا العالم الغريب. بالرغم من أنَّ الرأي العام الموقَّر كان انتقاميًّا تجاه العاطلين، فقد كان عطوفًا للغاية تجاه المرضى. حين كان المرء يُصاب بمرض، يَكتسب حرمة خاصة، وتكون له أحقية على جميع الأصحَّاء؛ ولهذا ففور أن كان أيٌّ من هؤلاء المخيمين التُّعساء يرزح تحت وطأة مرض خطير، كان يُنقَل كي يتلقَّى الرعاية المناسبة بجميع موارد العلوم الطبية. وسرعان ما اكتشف الفقراء المعدمون كيفية سير الأمور، وفعلوا كل ما في وسعهم كي يَمرضوا. وقد نجحُوا نجاحًا عظيمًا فامتلأت المُستشفيات بهم سريعًا؛ ولهذا فقد جُهزَت هذه البنايات سريعًا لاستقبال ذلك الفيَضان المُتزايد من المرضى.
عند مشاهَدة هذه الأحداث الهزلية وغيرها، تذكرت نوعي. غير أنه بالرغم من تشابُه البشر الآخرين معنا في جوانب عديدة، فقد شككت بدرجة كبيرة في أنَّ ثمة عاملًا لا يزال غامضًا عليَّ قد حكم عليهم بإخفاق لن يَخشاه نوعي الأرقى أبدًا. الآليات النفسية والتي كانت الفِطنة والحس الأخلاقي في حالتنا يُخفِّفان من حدتها، قد برَزَت في هذا العالم بإفراط باهظ. غير أنه ليس من الصحيح أنَّ البشر الآخرين كانوا أقل ذكاءً أو فضيلة من البشر من نوعي. لقد كانوا في التفكير المجرَّد والابتكار العملي أندادًا لنا على أقل تقدير. إنَّ العديد مما توصَّلُوا إليه من أوجه التقدم الحديثة في الفيزياء والفلك قد تجاوَز حدود إنجازاتنا الحالية. بالرغم من ذلك، فقد لاحظتُ أنَّ الجانب النفسي كان أكثر فوضوية مما هي الحال لدينا، وكان التفكير الاجتماعي مشوَّهًا على نحوٍ غريب.
في مجال الإذاعة والتلفزيون، على سبيل المثال، كان البشر الآخرون يتفوَّقون علينا بدرجة كبيرة في الجانب التقني، غير أنَّ استخدامهم لاختراعاتهم المذهِلة كان مُفجعًا. في البلاد المتحضِّرة، كان الجميع فيما عدا الطائفة المنبوذة يحملون جهاز استقبال للجيب. ولأنَّ البشر الآخرين لم يَعرِفوا الموسيقى، فقد بدا هذا أمرًا غريبًا، لكن لأنهم كانوا يفتقرون إلى وجود الصحف؛ فقد كانت الإذاعة هي الوسيلة الوحيدة التي يُمكن لرجل الشارع أن يعرف بها نتائج اليانصيب والألعاب الرياضية، والتي كانت قِوام غذائه العقلي. وعلاوةً على ذلك، فقد احتلت مكانة الموسيقى ثيمات شمية وذوقية كانت تُترجَم إلى أنماطٍ من الموجات الأثيرية التي تَبثُّها جميع المحطات الوطنية الكبيرة، ثم تستعيد صيغتها الأصلية في أجهزة الاستقبال الجيبية وبطاريات التذوُّق التي يَمتلكُها السكان. كانت هذه الآلات تُقدِّم محفزات معقَّدة لأعضاء التذوُّق والشم في اليد. وقد كان هذا النوع من الترفيه فعالًا للغاية حتى إنَّ المرء كان غالبًا ما يرى الرجال والنساء على حدٍّ سواء يَجلسون وقد وضعوا يدًا في جيبهم. وقد كان ثمة طول موجي محدد مخصص لتهدئة الأطفال الصغار.
طُرح جهاز استقبال جنسي في السوق، وكانت البرامج تُذاع له في العديد من البلاد لكن ليس فيها كلها. كان هذا الاختراع الاستثنائي توليفة من الإذاعة واللمس والتذوُّق والرائحة والصوت. لم يكن يعمل عن طريق أعضاء الحس، بل من خلال التحفيز المباشر لمراكز الدماغ الملائمة. كان المُستقبِل يَرتدي قبَّعة رأس قد صُمِّمَت خصِّيصَى لتنقل إليه من استوديو بعيدٍ عناقات امرأة مُثيرة ومُتجاوِبة، مثلما كان يَختبرُها آنذاك بالفعل «مذيع للحب»، أو تكون قد سُجِّلت كهرومغناطيسيًّا على شريط فولاذي في مناسبة سابقة. ظهرت خلافات بشأن أخلاقية البث الجنسي. سمحت بعض البلدان ببث البرامج للذكور دونًا عن الإناث، رغبةً في الحفاظ على براءة الجنس الأطهر. وفي بلدن أخرى، نجح رجال الدين في القضاء على المشروع بأكمله على أساس أنَّ البث الجنسي، حتى وإن كان للرجال فقط، سيكون بديلًا شيطانيًّا لتجربة دينية منشودة يَحرسونها بغيرة وتُسمى الاتحاد العفيف، والتي سوف أتحدث عنها في تتمَّة هذا الكتاب. لقد أدرك رجال الدين جيدًا أنَّ سلطتهم تتوقف بدرجة كبيرة على قدرتهم على توليد تلك النشوة المغرية في رعيتهم عن طريق الطقوس وغيرها من الأساليب النفسية.
أصحاب النزعة العسكرية أيضًا كانوا يُعارِضُون الاختراع الجديد بشدة؛ إذ إنهم رأوا في الإنتاج الرخيص الفعال للقاءات الجنسية الوهمية خطرًا أشد من موانع الحمل، وهو أنَّ إمدادات الجنود الذين يُعدون طعامًا للمدافع سوف تتضاءل.
ونظرًا لأنَّ البث في البلاد الأكثر احترامًا كان يخضع لتحكم الجنود المتقاعِدين أو الصالحين من رجال الكنيسة، فقد استُخدِم الجهاز الجديد في بادئ الأمر في الولايات التي تتَّسم بالنزعة التجارية وسوء السمعة بدرجة أكبر. ومن محطات البث في هذه الأماكن، كانت لقاءات «نجوم إذاعة الحب» المشهورين، وحتى لقاءات الأرستقراطيين المُفلسين، تُبث مع إعلانات الأدوية المسجلة ببراءة اختراع التي تُباع دون وصفة طبية والقفازات المضادة للمذاق ونتائج اليانصيب والنكهات ومزيلات المذاق.
بعد فترة قصيرة، طُبِّق مبدأ تحفيز الدماغ عن طريق موجات الراديو على نطاق أوسع؛ فأُذيعت برامج الخبرات الأكثر إثارة أو خطورة في جميع البلاد، وكان يُمكن التقاطها عن طريق أجهزة الاستقبال البسيطة التي كانت في متناول الجميع خلا العرق المنبوذ؛ ومن ثمَّ فحتى العامل باليومية وعامل المصانع كان يستطيع الاستمتاع بملذات الولائم دون تحمل النفقات أو ما يليها من تخمة؛ ومباهج الرقص المتقن دون مشقة تعلم فن الرقص؛ وإثارة سباقات السيارات دون التعرض للخطر. في منزل شمالي محاط بالثلج، كان يستطيع التنعم بالشمس على الشواطئ الاستوائية ويُمكن أن يَنغمِس في الألعاب الرياضية الشتوية في المناطق الاستوائية. سرعان ما اكتشفَت الحكومات أنَّ الاختراع الجديد قد منحها نوعًا رخيصًا وفعالًا من السلطة يتحكَّمُون به في رعاياهم. فأحوال العشوائيات يُمكن أن تُحتمَل إذا كان هناك إمداد لا ينضب من الرفاهية الوهمية، والإصلاحات التي تَبغضُها السلطات يُمكن أن تُنحَّى جانبًا إذا صُوِّرت على أنها معادية لنظام الإذاعة الوطني. الإضرابات وأعمال الشغب يُمكن أن تُفض في أغلب الأحوال بمجرد التهديد بإغلاق استوديوهات البث، أو من خلال غمر الأثير في لحظة حاسمة بنوع مُبتكَر من الحلاوة والعذوبة.
إنَّ حقيقة أنَّ «جناح اليسار» السياسي كان يُعارض التوسُّع في تطوير الترفيه الإذاعي قد جعلت الحكومات والطبقات المالكة للأراضي أكثر استعدادًا لقبوله. أما الشيوعيُّون — إذ أدت جدلية التاريخ على هذا الكوكب الشبيه بالأرض على نحو غريب إلى إنتاج جماعة جديرة بذلك الاسم — فقد أدانوا المشروع بشدة. لقد كان في رأيهم مخدرًا رأسماليًّا قد أُعِد للحول دون منح الحكم الديكتاتوري والحتمي للطبقة العاملة بدلًا من الحكومات.
وقد أتاحت المعارضة المُتزايدة من جانب الشيوعيين الفرصة في رشوة معارضة أعدائهم الطبيعيين وهم رجال الدين والجنود. وقد جرى الاتفاق على أن تَشغل الشعائر الدينية في المستقبَل حصةً أكبر من وقت البث، وأن تُخصَّص قيمة العشر من رسوم الترخيص لصالح الكنائس. بالرغم من ذلك، فقد رفض رجال الدين عرض تجربة الاتحاد العفيف. وكتنازل إضافي، جرى الاتفاق على أنَّ جميع الأفراد المتزوِّجين من أطقم العمل في هيئات البث، يجب أن يُثبتوا، تحت طائلة الفصل من العمل، أنهم لم يقضوا ليلة واحدة بعيدًا عن زوجاتهم (أو أزواجهم). وجرى الاتفاق أيضًا على اقتلاع جميع هؤلاء الموظَّفين الحاصِلين على درجة الليسانس والذين كان يُشتبَه في تعاطفهم مع تلك المبادئ السيئة السمعة مثل السلمية وحرية التعبير. وقد أُرضي الجنود أيضًا بإعانة من الدولة للأمومة، وفرض ضريبة على العزوبية، وبث مُنتظم للدعاية العسكرية.
خلال أيامي الأخيرة على الأرض الأخرى، ابتُكِر نظام يُمكن للمرء من خلاله أن يتقاعَد على السرير مدى الحياة ويقضي وقتَه بأكمله في استقبال البرامج الإذاعية، مع تعيين فريق من الأطباء من طرف هيئة البث يُشرفون على تغذيته وكل وظائفه الجسدية، وعوضًا عن التمرينات يتلقَّى خدمات التدليك بصفة دورية. كانت المشاركة في المشروع رفاهية باهظة الثمن في البداية، غير أنَّ مُبتكِريه كانوا يأمُلون في أن يجعلوه متاحًا للجميع في وقتٍ غير بعيد، بل كان من المتوقَّع أيضًا أن يُصبح مُشرفو الرعاية الطبية والخدمية غير ضروريين بمرور الوقت. وسوف يتمُّ توفير نظام ضخْم من الإنتاج الأوتوماتيكي للغذاء وتوزيعه غذاءً سائلًا في أنابيبَ تُؤدِّي إلى أفواه المشاركين الراقِدين، مع توفير نظام صرف صحي معقَّد. ويُمكِن استخدام التدليك الكهربائي حسب الرغبة من خلال الضغط على زرٍّ ما. وسيتم الاستغناء عن الإشراف الطبي ويحلُّ محلَّه نظام تعويضٍ غُددي أوتوماتيكي سيُمكِّن حالة دم المريض من تنظيم نفسها أوتوماتيكيًّا من خلال سحبِ أي مواد كيميائية لازمة لتحقيق التوازُن الفيسيولوجي الصحيح، من أنابيب العقاقير المشتركة.
حتى في حالة البث نفسِه لن يكون العنصر البشري مطلوبًا عمَّا قريب؛ إذ ستكون الخبرات الممكنة بأكملها قد سُجِّلت بالفعل من الأمثلة الحية الأكثر إبهارًا. وسوف تُبثُّ هذه التجارب باستمرار في عدد كبير من البرامج البديلة.
ربما تظلُّ هناك حاجة إلى وجود عدد قليل من الفنيين والمُنظِّمين للإشراف على النظام، لكن عند توزيعهم بالشَّكل الملائم، لن يَنطويَ عمل أي فرد من أفراد طاقم عمل «الهيئة العالَمية للبث» إلا على بضع ساعات من النشاط المُمتع كل أسبوع.
وإذا دعت الحاجة إلى وجود أجيال مُستقبَلية، فسوف يُنتج الأطفال عن طريق التوالد الخارجي. سيكون على «المدير العالَمي للبث» أن يقدم مواصفات نفسية وفيسيولوجية ﻟ «سلالة الاستماع» المثالية. وسيتلقَّى الأطفال المُنتِجون وفقًا لهذا النمط التعليم عن طريق برامج إذاعية خاصة تُعدُّهم لحياة البلوغ الإذاعية. إنَّهم لن يُغادِروا مهودهم أبدًا إلا في مرورهم بالأحجام المختلفة من الأسِرَّة وصولًا إلى الأسِرة ذات الحجم الكامل في مرحلة النضوج. في الجزء الأخير من الحياة، إذا لم تكن العلوم الطبية قد نجَحَت في التحايُل على الكهولة والموت، فسوف يُمكِن للفرد على الأقل أن يضمن نهاية دون ألم من خلال الضغط على زرٍّ مُناسِب.
انتشر الحماس لهذا المشروع المُذهِل في جميع البلاد المتحضِّرة بسرعة، غير أنَّ بعض القوى الرجعية كانت تعارضه بشدة. لقد أكَّدت فئة المتدينين التقليديين وكذلك فئة القوميين أصحاب النزعة العسكرية أنَّ عَظَمة الإنسان في أن يكون نشطًا. ورأى المتديِّنون أنَّ الروح لا يُمكن أن تكون مهيَّأة للحياة الأبدية إلا من خلال ضبط النفس واحتقار الجسد والصلاة المستمرة. وصرح القوميُّون من كل بلد أنَّ أتباعهم قد مُنِحوا أمانة مقدسة لحكم الأنواع الأدنى، وأنَّ المَناقِب العسكرية فقط هي التي يُمكن في كل الأحوال أن تضمن ذهاب الأرواح إلى «فالهالا».
وبالرغم من أنَّ العديد من كبار رجال الاقتصاد قد أيَّدُوا وجود نعيم الإذاعة في بادئ الأمر باعتدال باعتباره مُسكِّنًا للعمال الساخطين، فقد انقلبوا الآن ضده. كانت شهوتهم هي السلطة، ولكي يَحظوا بالسلطة كانوا يحتاجون إلى عبيدٍ يُسيطرون على كدحهم من أجل مغامراتهم الصناعية العظيمة؛ ولهذا فقد اخترعُوا آلة تكون مُسكِّنًا ومُحفِّزًا في الوقت ذاته. فقد سعوا من خلال وسائل الدعاية جميعها إلى أن يُثيروا الولع بالقومية والكراهية العرقية. لقد ابتكروا «الفاشية الأخرى» في واقع الأمر، بكامل أكاذيبها، وهوسها العجيب بالسلالة والدولة، واحتقارها للعقل وتمجيدها للسيادة الوحشية، وجاذبيتها لدوافع الصغار المُضلَّلين: الخسيسة منها والطيبة في الوقت ذاته.
كان ثمة جماعة صغيرة ومُرتبِكة في كل بلد، والتي تُعارض كل معارضي نعيم الإذاعة هؤلاء وتُعارض على نحو متساوٍ نعيم الإذاعة نفسه، تؤكد أنَّ الهدف الحقيقي من النشاط الإنساني هو خلق مجتمع عالَمي من الأشخاص اليقظين الذين يتَّسمُون بالذكاء الإبداعي وتجمع بينهم روابط البصيرة والاحترام، والمهمة المشتركة في تحقيق إمكانيات الرُّوح البشرية على الأرض. كان القدر الأكبر من تعاليمهم هو إعادة تأكيد لتعاليم عرَّافين دينيِّين من ماضٍ راقٍ بعيد، لكنها قد تأثَّرت أيضًا بالعلوم المعاصرة على نحو عميق. بالرغم من ذلك، فقد أساء العلماء فهم هذه الجماعة، ولعنها رجال الدين، وسخر منها ذوو النزعة العسكرية، وتجاهَلَها مُؤيِّدو نعيم الإذاعة.
الآن في هذا الوقت، كان التخبُّط الاقتصادي يدفع الإمبراطوريات التجارية العظيمة في الأرض الأخرى إلى منافَسةٍ أكثر استماتة على الأسواق. وقد اجتمَعَت هذه المنافسات الاقتصادية مع العواطف القبلية القديمة المُتمثِّلة في الخوف والكراهية والفخر لتتسبب في سلسلة لا تَنتهي من أشباح الحرب كان كلٌّ منها يُهدِّد بموقعة هرمجدون عالَمية.
وفي هذا الظرف أوضح المُتحمِّسون لمشروع الإذاعة أنَّ الحرب لن تحدث أبدًا إذا قُبِلت سياستهم، أما إذا اندلعت الحرب العالَمية، فسوف تُؤجَّل سياستهم إلى أجلٍ غير مُسمى. لقد اختلقُوا حركة عالَمية داعية للسلام، وكان التأييد لنعيم الإذاعة قويًّا للغاية حتى إنَّ المطالبة بالسلام قد اكتسحت جميع البلدان. وأخيرًا تأسست «هيئة عالَمية للبث» للترويج لإنجيل الإذاعة، وإيجاد الاختلافات بين الإمبراطوريات، والاستيلاء على سيادة العالم في نهاية المطاف.
وفي هذه الأثناء، كان «المُتدينون» المتحمِّسُون وكذلك ذوو النزعة العسكرية المُخلصُون يشعرون بالقلق عن وجه حق من وضاعة الدوافع الكامنة خلف النزعة العالَمية الجديدة، غير أنهم كانوا مخطئين بالدرجة نفسها في سلوكهم؛ إذ عزموا على إنقاذ «البشر الآخرين» رغمًا عنهم من خلال تحريض الشعوب على الحرب؛ فجميع قوى الدعاية والفساد المالي قد سُخِّرت على نحوٍ مَلحمي من أجل إثارة عواطف القومية. بالرغم من ذلك، فقد أصبح الطمع لنعيم الإذاعة شاملًا وقويًّا للغاية بحلول ذلك الوقت، حتى إنَّ حزب الحرب لم يكن لينجح لولا ثروة كبار مُصنعي الأسلحة وخبرتهم في تأجيج الصراع.
اندلعت المشاكل بنجاح بين إحدى الإمبراطوريات التجارية القديمة وبين دولة أخرى كانت قد بدأت حديثًا في تبنِّي أسس الحضارة الآلية، غير أنها قد أصبحت قوةً عُظمى بالفعل، وقد كانت قوة في أمس الحاجة إلى الأسواق. الإذاعة، التي كانت من قبل هي القوة الأساسية الدافعة إلى التوجُّه الكوني، قد أصبحت فجأة هي المحفز الأساسي للقومية في جميع البلاد. صباحًا وظهرًا ومساءً، كان كل شعب من الشعوب المتحضِّرة يتلقى التأكيدات بأنَّ الأعداء، والذين هم بالطبع ذوو نكهات كريهة ودونية، يُخطِّطون لتدميرهم. مخاوف التسلح وقصص الجواسيس وروايات السلوكيات الوحشية والسادية لدى الشعوب المجاورة، قد خلقت في جميع البلدان الكراهية والشك غير الناقد مما يعني أن الحرب قد أصبحت حتمية. نشأ خلاف حول السيطرة على أحد الأقاليم الحدودية. وفي تلك الأيام الحاسمة، تصادف وجودي أنا وبَفالتو في مدينة حدودية كبيرة. لن أنسى أبدًا كيف أنَّ الجماهير قد انغمست في كراهية تكاد تكون جنونية. جميع الأفكار المتعلِّقة بالأخوة الإنسانية وحتى تلك المتعلقة بالأمان الشخصي، قد اكتسحها التعطُّش الشديد الوحشي للدماء. الحكومات التي أصابها الهلع قد بدأت في قذف قنابل صاروخية طويلة المدى على جيرانها الخطرين. وفي غضون بضعة أسابيع كان العديد من عواصم الأرض الأخرى قد دُمِّرت من الهواء. الشعوب جميعها قد بدأت الآن في بذْلِ كل ما في وسعها لكي تُحدِث من الضرر أكثر مما تتلقَّاه.
أما عن أهوالِ هذه الحرب، ودمارِ مدينة تلو المدينة، والمُضيفين الذين أصابهم الهلع وراحوا يتضوَّرُون جوعًا واندفعوا حشودًا إلى الريف المَفتوح يَنهبون ويقتُلون، والمجاعةِ والمرض، وتدهورِ الخدمات الاجتماعية، وظهورِ الديكتاتوريات العسكرية العديمةِ الرحمة، والتدهورِ المستمر بل الكارثي للثقافة وجميعِ مظاهر التهذيب والعطف في العلاقات الشخصية؛ فما من حاجةٍ للحديث بالتفصيل عن كل ذلك.
وعوضًا عن ذلك، سوف أُحاول أن أفسر حتمية المصيبة التي حلَّت بالبشر الآخرين. إنَّ نوعي البشري لم يكن ليسمح لنفسه بالطبع إذا تعرض لظروف مشابهة بأن يُكتسَح بالكامل هكذا. لا شك أننا نواجه احتمالية وقوع حرب تكاد لا تقل دمارًا عن تلك الحرب، لكن مهما كانت الفاجعة التي تنتظرنا، لا بد أننا سنتعافى منها بالتأكيد. ربما نكون حمقى، لكننا دائمًا ما نتمكَّن من تَفادي السقوط في هاوية الجنون الشامل. ففي اللحظة الأخيرة، يَفرض التعقُّل ذاته من جديد مُترددًا، غير أنَّ الأمر ليس كذلك في حالة البشر الآخرين.
(٣) مستقبل السلالة
كلما طالت المدة التي قضيتها على الأرض الأخرى، زاد شكي في أنه لا بد من وجود اختلاف كامن هام بين السلالة البشرية هذه وبين السلالة البشرية التي أنتمي إليها. ومن الواضح أنَّ هذا الاختلاف كان يتمثَّل بطريقة ما في التوازن. لقد كانت سلالتنا تتَّسم بوجه عام بدرجة أفضل من التكامل، وقدر أكبر من هبة المنطق السليم، مع نزعة أقل للانغماس في المغالاة من خلال الانفصام الذهني.
وربما يكون المثال الأبرز على المغالاة لدى البشر الآخرين هو ذلك الدور الذي كان يشغله الدِّين في مجتمعاتهم الأكثر تقدمًا. لقد كان للدِّين سلطةٌ أكبر بكثير من تلك التي كانت له على كوكبِي، وقد كانت تعاليم الأنبياء القدماء قادرةً على أن تشعل الحماسة حتى في قلبي الغريب فاتر الهمة. غير أنَّ الدين، الذي كنتُ أُلاحظه حولي في المجتمع المعاصر، كان بعيدًا كل البعد عن التنوير.
يجب أن أبدأ بتوضيح أنَّ حاسة التذوق قد أدَّت دورًا عظيمًا في تطور الدين على الأرض الأخرى. وقد حظيت الآلهة القبْلية بالطبع بسمات المذاق الأكثر تأثيرًا في أفراد القبائل. وحين ظهرت عقائد التوحيد بعد ذلك، ارتبطت صفات الإله في القوة والحكمة والعدل والإحسان بوصفِ مذاقه. وفي الأدبيات الصوفية، غالبًا ما كان الإله يُشبَّه بالنبيذ القديم المعتَّق، وقد اقترحَت بعض الروايات عن التجارب الدينية أنَّ تلك النشوة المتعلِّقة بالتذوق تشبه، من نواحيَ عديدة، تلك المُتعة الموقرة التي يجدها متذوقو النبيذ لدينا في تذوق بعض النبيذ النادر العتيق.
ومن سوء الحظ أنه نظرًا إلى تَعدُّد أنواع المذاق البشرية، فلم يكن هناك أي اتفاق واسع النطاق فيما يتعلَّق بمذاق الإله. شُنَّت الحروب الدينية من أجل تحديد ما إذا كان مذاق الإله في فئة الحلو أم المالح، أو ما إذا كانت نكهتُه السائدة هي واحدة من العديد من السمات الذوقية التي لا يستطيع نوعِي تصورها. أصر بعض المُعلمين على أنَّه لا يُمكن تذوقه إلا بالقدمين، بينما أصرَّ آخرون على أنَّه لا يُمكن تذوُّقه إلا باليدين أو الفم، وأصرَّ غيرهم على أنه لا يُمكن تذوقه إلا من خلال تلك التوليفة المعقَّدة اللطيفة من النكهات الذوقية والتي تُعرف باسم الاتحاد العفيف، وهي نشوة حسية، جنسية الطابع في الأساس، يجري تحفيزها من خلال تأمُّل الاتصال مع الإله.
وأوضح مُعلِّمون آخرون أنه بالرغم من أنَّه يُمكن تذوق الإله بالفعل، فإنَّ جوهره لا يتجلَّى لأيِّ أعضاء جسدية على الإطلاق، بل للروح المجردة فقط. وأوضحوا أيضًا أنَّ نكهته أكثر لطفًا من نكهة المحبوب وأشهى منها؛ إذ إنها تتضمَّن أعطر النكهات البشرية وأكثرها روحانية، وما هو أكثر من ذلك دون نهاية.
وقد ذهب البعض إلى أبعد من ذلك كثيرًا فصرَّحوا أنه لا ينبغي تصور الإله على أنه شخص على الإطلاق، بل على أنه بالفعل هذه النكهة. كان بَفالتو يقول: «إما أنَّ الإله هو الكون، أو أنه نكهة الإبداع التي تتخلَّل كل شيء.»
قبل ذلك بعشرة أو خمسة عشر قرنًا، حين كان الدِّين، وفقًا لمعلوماتي، يُمثِّل أهمية كبرى، لم يكن هناك كنائس ولا كهنوت، غير أنَّ الأفكار الدينية كانت تُسيطِر على حياة الناس بدرجة أجد أنها لا تُصدق. بعد ذلك ظهرت الكنائس والكهنوت لَتُؤدِّي دورًا هامًّا في الحفاظ على ما كان يبدو الآن أنه وعي ديني مُتضائل. وبعد فترة لاحقة سبقت الثورة الصناعية بقرون قليلة، سيطر الدين المؤسَّسي على مُعظم الشعوب المتحضِّرة، حتى إنَّها كانت تُنفق ثلاثة أرباع الدخل الكُلي على صيانة المؤسسات الدينية. وبالطبع كانت الطبقات العاملة، التي استعبدها الملاك في مقابل مبلغ زهيد، تُعطي الجزء الأكبر من أجورها الهزيلة لرجال الدين وتعيش في بؤس مُهين ما من مبرِّر له.
أحدث العلم والصناعة إحدى تلك الثورات الفكرية المفاجئة والمتطرِّفة والتي كانت من السمات المُميِّزة للبشر الآخرين. حُطِّمت الكنائس جميعها تقريبًا أو حُوِّلت إلى مصانع مؤقَّتة أو متاحف صناعية. الإلحاد، الذي كان سببًا للاضطهاد قبل وقت قريب، قد أصبح أمرًا شائعًا، وتحوَّلت أفضل العقول إلى اللاأدرية. بالرغم من ذلك، فبعد فترة بدأت مُعظَم الشعوب الصناعية تعود مرة أخرى إلى الدين، وقد كان ذلك على ما يبدو لمواجَهة رعب الثقافة المادية والتي كانت أكثر سوادوية وتماديًا مما كانت عليه لدينا بدرجة كبيرة. وتأسَّست العلوم الطبيعية على أساس رُوحاني. وأصبحت الكنائس القديمة مقدَّسة مرةً أخرى، وتأسست العديد من الأنظمة الدينية الجديدة حتى إنها سرعان ما أصبحَت في عدد دور السينما على كوكبنا. وقد استوعبَت الكنائس الجديدة فن السينما بالطبع، وقدَّمت أفلامًا مُتواصِلة قد مزجت ببراعة بين الانغماس في الملذات الحسية والدعاية الكنسية.
في وقت زيارتي كانت الكنائس قد استعادَت سلطتها الضائعة بأكملها. كانت الإذاعة تنافسها في وقت ما بالفعل، لكن الكنائس قد نجحَت في استيعابها. كانت ما تزال على موقفها من رفض بث تجربة الاتحاد العفيف التي كانت قد اكتسبت حظوة جديدة بسبب الاعتقاد الشائع بأنها رُوحانية للغاية بما لا يتيح نقلها عبر الأثير. غير أنَّ رجال الدين الأكثر تقدمًا قد اتَّفقوا على أنه إذا تأسس نظام «نعيم الإذاعة» العالَمي ذات يوم، فقد يُمكن التغلب على هذه الصعوبة. وفي هذه الأثناء، ظلت الشيوعية على عرفها اللاديني. بالرغم من ذلك، ففي البلدين الشيوعيين العظيمَين، كانت «اللادينية» التي تُنظَّم بصورة رسمية، تصير دينًا في كل شيء خلا الاسم؛ فقد صارت لها مؤسَّساتها وكهنوتها وطقوسها ومبادئها الأخلاقية ونظام الغفران الخاص بها ومُعتقَداتها الميتافيزيقية والتي لم تكن أقل في الطابع الخرافي بالرغم من طبيعتها المادية الخالصة. أما نكهة الإله فقد استُبدِلَ بها نكهة الطبقة العامِلة.
لقد كان الدين إذن قوة حقيقية للغاية في حياة هذه الشعوب جميعها. بالرغم من ذلك، فقد كان ثمة شيء مُحيِّر في ورَعِهم. لقد كان صادقًا من جانب ما، بل نافعًا أيضًا؛ ففي الإغراءات الشخصية القليلة والاختيارات الأخلاقية النمَطية والواضحة للغاية، كان البشر الآخرون يلتزمون بما يمليه الضمير عليهم أكثر مما يَلتزم به نوعي بدرجة كبيرة. غير أنني قد اكتشفتُ أنَّ الإنسان الآخر النموذجي المعاصر لا يَلتزم بما يُمليه عليه ضميره إلا في المواقف التقليدية، أما في المواقف التي تعكس الحس الأخلاقي الأصيل؛ فقد كان يفتقر إلى الضمير على نحو غريب؛ ولهذا فبالرغم من أنَّ السخاء العمَلي والرفقة السطحية كانا أكثر من المعتاد لدينا، فإنَّ أكثر أشكال الاضطهاد العقلي شيطانيةً كانت تُقترَف دون أي تأنيب للضمير. كان على الأفراد الأكثر حساسية أن يأخُذوا حذرهم على الدوام، وكانت الأنواع الأعمق من الحميمية والاعتماد المشترك غير مُستقرَّة ونادِرة. في هذا العالم الشغوف بالاجتماعية، كانت الوحدة تلاحق الروح. لقد كان البشر «يجتمعون معًا» باستمرار، لكنهم لم يجتمعوا حقًّا قط. كان الجميع مرتعبين من الاختلاء بأنفسهم، ومع ذلك، فبالرغم من الاعتقاد العالَمي بأهمية الرفقة، ظلت هذه الكائنات الغريبة بعيدة بعضها عن بعضٍ، كالنجوم، حتى عندما يكونون معًا؛ فكلٌّ منهم كان يبحث في عينَي جاره عن صورة نفسه، ولم يرَ أي شيء غيرها قط، وإن رأى غيرها، ارتعب وغضب غضبًا شديدًا.
من الحقائق المحيرة أيضًا بشأن الحياة الدينية لدى البشر الآخرين في وقت زيارتي، هي أنه بالرغم من أنَّ الجميع كانوا مؤمنين وكان الكفر يُلقَى بالرعب، فقد كان التوجه العام نحو الإله تجاريًّا يوحي بالازدراء. لقد افترض البشر أنهم يستطيعون شراء نكهة الإله إلى الأبد بالمال أو بالطقوس. وعلاوةً على ذلك، فالإله الذي كانوا يَعبُدونه باللغة الرائعة المتأمِّلة التي تَنتمي إلى عصر سابق، أصبح يُصوَّر الآن على أنه صاحب عمل عادل لكنه غيور أو والد متساهِل أو حتى كمحض طاقة مادية. أما الوقاحة الأكبر فقد تمثلت في الاعتقاد بأنَّ الدين لم يكن على هذه الدرجة من الانتشار والاستنارة في أيِّ عصر سابق. لقد ساد اعتقادٌ حظيَ باتفاق العالم بأكمله تقريبًا بأنَّ فهم التعاليم العميقة التي تعود إلى عصر النبوة بمعانيها الأصلية التي قصدها الأنبياء أنفسهم، لم يبدأ سوى الآن. فقد زعم الكُتاب والمُذيعون المُعاصِرُون بأنهم يُعيدون تأويل النصوص الدينية لتُناسب الاحتياجات الدينية المستنيرة في عصر كان يسمي نفسه ﺑ «عصر الدين العلمي.» والآن بعد الاستسلام الذي كان يميز حضارة البشر الآخرين قبل اندلاع الحرب، كنت أشعر عادة بوجود تملمُل وقلق غامضَيْنِ فيما بينهم. لا شك أنَّ الناس في معظم الأحوال راحوا يباشرون أمورهم بالاهتمام المستغرِق القانع ذاته مثلما هي الحال على كوكبي. لقد كانوا مُنشغِلين للغاية بكسب الرزق والزواج وإقامة الأسرة ومحاولة استغلال كلٍّ منهم للآخر، بما لا يترك وقتًا للتشكك الواعي بشأن الهدف من الحياة. بالرغم من ذلك، فكثيرًا ما كانت تبدو عليهم تصرفات مَن نسي شيئًا مهمًّا للغاية وهو يُحاول تذكره ببالغ الجهد، أو من كان واعظًا مسنًّا يستخدم العبارات المؤثرة القديمة دون إدراك واضح لدلالتها. صرت أشك على نحو متزايد بأنَّ هذه السلالة، بالرغم من انتصاراتها، كانت تعيش الآن على أفكار ماضيها العظيمة، وتتفوَّه بأفكار لم تَعُد تتمتَّع بالإحساس اللازم لفهمها، وتُشيد بلسانها بمُثُل لم يعد من الممكن أن ترغب فيها بإخلاص، وتتصرَّف في إطار نظام من المؤسسات التي لم تكن لينجح معظمها إلا بواسطة عقول لها طابع أرقى بعض الشيء. وقد كنت أشتبه في أنَّ هذه المؤسسات قد تأسست على يد سلالة لا تتمتع بقدر أكبر من الذكاء فحسب، بل بقدرة أقوى وأكثر شمولًا على التعاون مما كان ممكنًا في ذلك الوقت على الأرض الأخرى. لقد بدا أنها كانت تتأسَّس على افتراض أنَّ البشر عطوفون في المجمل ومنطقيون ويتمتعون بالقدرة على ضبط النفس.
كثيرًا ما سألت بَفالتو عن هذا الموضوع، لكنه كان يتجنَّب سؤالي على الدوام. ويجب أن أذكر أنه بالرغم من قدرتي على الوصول إلى جميع أفكاره ما دام لم يرغب قطعًا في حجبها، فقد كان يستطيع دومًا أن يفكر على انفراد إذا بذل مجهودًا خاصًّا. طالَما شككتُ بأنه يُخفي شيئًا عنِّي إلى أن أخبرني أخيرًا بالحقائق الغريبة والمأساوية.
كان ذلك بعد أيام قليلة من قصف عاصمة بلده. رأيتُ نتائج ذلك القصف عبر عينَيْ بَفالتو والنظارات الواقية في قناع الغاز الذي كان يَرتديه. لم نشهد الحادث المُرعب نفسه، لكننا حاولنا الرجوع إلى المدينة للمشاركة في أعمال الإنقاذ. لم يكن هناك سوى قدر ضئيل يُمكن القيام به. كانت الحرارة التي ما تزال تشعُّ من قلب المدينة المتوهج عظيمةً للغاية حتى إننا لم نستطع أن نخترق ما وراء الضاحية الأولى. وحتى هناك كانت الشوارع مدمرةً تغصُّ بالمباني المُنهارة. وظهرت الأجساد البشرية مسحوقةً ومُحترِقةً هنا وهناك بين كتل حجارة البناء الساقطة. اختفَت الغالبية العُظمى من السكان تحت الأنقاض، ورقد العديد منهم في المساحات المفتوحة مختنقين بالغاز. تجوَّلَت فرق الإنقاذ دون جدوى، وبين سُحُب الدخان، كانت الشمس الأخرى تظهر بين الحين والآخر مع نجمٍ نهاري.
بعد التسلُّق بين الأطلال لبعض الوقت، ساعيًا إلى تقديم المساعدة دون جدوى، جلس بفالتو. بدا أنَّ الخراب المحيط بنا قد «فكَّ عقدة لسانه»، إذا جاز لي أن أستخدم هذه العبارة للتعبير عن الصراحة المفاجئة في الإفصاح لي عن تفكيره. كنت قد قلت شيئًا مفاده أنَّ العصور المستقبلية سوف تنظر إلى كل هذا الجنون والدمار في الماضي بدهشة. تنهَّد الرجل عبر قناع الغاز الذي كان يَرتديه وقال: «الأرجح أنَّ سلالتي التعيسة قد أهلكَت الآن نفسَها إلى الأبد دون رجعة.» اعترضت على قوله؛ ذلك أنه بالرغم من أنَّ مدينتنا هي الأربعون من المدن التي دُمِّرت، فلا بد أن الانتعاش سيأتي ذات يوم، وستكون هذه السلالة قد تجاوَزَت هذه الأزمة أخيرًا، وتخطو إلى الأمام وهي تزداد قوة على قوة. حينها أخبرني بفالتو بالأمور الغريبة التي قال إنه قد همَّ بإخباري بها مرات عديدة لكنه كان يمتنع دائمًا عن ذلك. وبالرغم من أنَّ العديد من العلماء والطلاب في المجتمع العالمي المعاصر قد كان يُساورهم شكٌّ غامض بشأن الحقيقة، فلم يكن يعرفها بوضوح سواه مع قلَّة آخرين.
قال: إنَّ النوع كان يخضع على ما يبدو لتقلُّبات طبيعية غريبة وطويلة الأمد، تقلُّبات قد استمرت إلى ما يقرب من عشرين ألف عام. بدا أنَّ جميع السلالات في جميع أنواع المناخ تتمتَّع بهذا الإيقاع الشاسع للروح وتُعاني منه في الوقت ذاته. كان السبب مجهولًا، ورغم أنه بدا أنه يعود لقوة تُؤثِّر في الكوكب بأكمله في الوقت ذاته، ربما كان يَنبع في حقيقة الأمر من نقطة انطلاق واحدة لكنه يَنتشِر بسرعةٍ في جميع البلاد. منذ وقتٍ قريب للغاية، اقترح أحد العلماء المتقدِّمين أنَّ السبب قد يعود إلى اختلافات في شدة «الأشعة الكونية». وقد أثبتَت الأدلة الجيولوجية أنَّ تلك التقلُّبات في الإشعاع الكوني قد حدثت بالفعل، وربما كان السبب فيها هو حدوث اختلافٍ في عنقود مُجاوِر من النجوم الصغيرة السن. كان لا يزال من غير المؤكَّد ما إذا كان هذا الإيقاع النفسي قد تَصادف مع هذا الإيقاع الفلكي أم لا، لكنَّ العديد من الحقائق كانت تُؤدِّي إلى الاستنتاج بأنَّ الروح البشرية تتدهوَر مع زيادة درجة العنف في هذه الأشعة.
لم يكن بفالتو مقتنعًا بهذه القصة. لقد كان يَميل بصفة عامة إلى الرأي القائل بأنَّ التفاوت في عقلية البشر كان يعود إلى أسباب داخلية عميقة. وأيًّا كان التفسير الحقيقي، فمِن شبه المؤكد أنَّ درجة عالية من الحضارة قد تحقَّقت مرات عديدة في الماضي، وأنَّ ثمة تأثيرًا قويًّا قد أضعف من النشاط العَقلي للنوع البشري مرارًا وتكرارًا. وفي حضيض هذه الموجات الضَّخمة، كان البشر الآخرون يَهْوون إلى حالة من البلادة العَقلية والروحانية هي أكثر انحطاطًا من أيِّ شيء قد عرفتْه سلالتي البشرية منذ أن ظهرت من الأنواع الأدنى من البشر. بالرغم من ذلك، ففي ذروة الموجة، يبدو أنَّ القدرات الفكرية للبشر، ونزاهتهم الأخلاقية وكذلك بصيرتهم الرُّوحانية كانت تسمو إلى درجة يجب أن نعترف بأنها تفوق قدرات البشر.
مرة تلوَ الأخرى، كانت السلالة تَنبثِق من الوحشية، وتجتاز مرحلة الثقافة الهمجية لتَدخل في مرحلة من البراعة والقدرة على الإحساس على مُستوى العالم. شعوب بأكملها كانت تتمتَّع في الوقت ذاته بقدرة متزايدة باستمرار على الكرم ومعرفة الذات وضبطها وكذلك على التفكير المتبصِّر المحايد، والمشاعر الدينية النقية.
ونتيجةً لذلك، كان العالم يَزدهِر بأكمله في غضون قرون قليلة بمجتمعات حرة وسعيدة. كان البشر العاديون يتمتعون بصفاء ذهني منقطع النظير، ومن خلال العمل الجماعي، يتخلَّصُون من جميع أشكال الظلم الاجتماعي الفادح، وأعمال القسوة الفردية. الأجيال اللاحقة التي تتمتَّع بالتعقل الأصيل وتنعم ببيئة مواتية، كانت تخلق عالَمًا طوباويًّا تسكُنه كائنات يقِظة.
بعد فترة قصيرة، ينقض الغزل شيئًا فشيئًا، ويُتبع العصر الذهبي بعصرٍ فضي. بعد العيش على إنجازات الماضي، يفقد قادة الفكر أنفسهم في غابة من الإبهام، أو يسقطون مُنهَكين إلى الركاكة. في الوقت نفسه، يَتراجَع الحسُّ الأخلاقي. يصبح البشر في المجمل أقل صدقًا وأقل اهتمامًا بشأن بالبحث عن الذات، وأقل حساسيةً لاحتياجات الآخرين، أي أنهم يُصبحون في واقع الأمر أقل قدرة على الشعور بالاتحاد مع الآخرين. النظام الاجتماعي الذي كان يعمل بكفاءة ما دام المواطنون يتمتَّعون بمستوى معين من الإنسانية يقتلعه الظلم والفساد. يبدأ الطغاة ونظم حكم الأقلية الاستبدادية في تحطيم الحرية، وتمنحهم الطبقات المتشبِّعة بالكراهية إلى حدِّ الجنون عذرًا جيدًا لذلك. وشيئًا فشيئًا، بالرغم من أنَّ المنافع المادية للحضارة قد تبقى متَّقدة على مدار قرون، سيخبو لهيب الروح إلى محض ومضة في قلة من الأفراد المتفرقين. ثم تأتي من بعد ذلك الهمجية المحضة، ويتبعها حضيض الوحشية الحيواني.
بدا في المجمل أنَّ قمم الموجات الأحدث قد حقَّقت إنجازات أكبر من سابقاتها في الماضي «الجيولوجي،» أو هذا ما أقنع به بعض العلماء في مجال علم الإنسان أنفسهم على الأقل. لقد اعتقدوا بيقين أنَّ ما وصلت إليه الحضارة الحالية من ذروة هي الأكثر براعة على الإطلاق، وأنَّ أفضل ما فيها لم يأتِ بعد، وأنَّ معرفتها العِلمية الفريدة ستَكتشِف كيفية الحفاظ على عقلية السلالة من تكرار التدهور.
لا شك بأنَّ الوضع الحالي الذي قد وصَل إليه النوع كان استثنائيًّا؛ فلم يُذكر أنَّ العلم أو الميكنة قد تقدَّما إلى مثل هذه الدرجة في أيٍّ من الدورات السابقة. إن ما يُمكن استنتاجه من الأطلال المبعثرة للدورة السابقة أنَّ الاختراعات الميكانيكية لم تتجاوَز قطُّ تلك الميكنة البدائية التي عرفناها نحن في مُنتصَف القرن التاسع عشر. أما الدورات الأسبق، فقد كان من المعتقد أنَّ ثوراتها الصناعية قد توقَّفت عند مراحل أكثر بدائية.
والآن، فبالرغم من أنَّ الدوائر الفكرية كانت تفترض بصفة عامة أنَّ الأفضل لم يأتِ بعد، فقد كان بفالتو وأصدقاؤه مُقتنعين بأنَّ أوج الموجة قد حدث بالفعل قبل قرون عديدة. كانت الغالبية العُظمى من البشر الآخرين ترى بالطبع أنَّ العَقد السابق على الحرب هو الأفضل والأكثر تحضرًا من أيِّ عصر مضى؛ فقد كانوا يرون أنَّ الحضارة والميكنة هما الشيء نفسه، ولم تَحدُث مثل هذه الدرجة من التفوق في الميكنة من قبل. كانت مزايا الحضارة العلمية جلية واضحة. لقد نالت الطبقة المحظوظة قدرًا أكبر من الراحة، ونعمت بصحة أفضل، ومكانة أرفع، وفترة أطول من الشباب، ونظام شاسع ومعقَّد من المعرفة التقنية لا يستطيع أي فرد أن يعرف منه سوى الصورة العامة أو جزء ضئيل للغاية من تفاصيله. وعلاوةً على ذلك، فزيادة وسائل الاتصال قد جعلت البشر جميعًا على اتصال. كانت الخصائص المحلية للجماعات تختفي قبل الإذاعة والسينما والجراموفون. ومقارنةً بهذه العلامات المُبشِّرة، كان من السهل إغفال حقيقة أنَّه بالرغم من أنَّ تحسين الظروف قد عزز من البنية البشرية، فإنه قد جعل جوهرها أقل استقرارًا مما كان عليه في السابق؛ فقد كانت بعض الأمراض التحلُّلية تزداد ببطء لكن على نحو أكيد. أمراض الجهاز العصبي على وجه التحديد قد أصبحت أكثر انتشارًا وأكثر فتكًا. كان الساخرون يقولون إنَّ أعداد المستشفيات العقلية ستتخطَّى أعداد الكنائس، لكنَّ الساخرين هم محض مهرجين. وقد كان العالم بأكمله يتفق تقريبًا على أنَّ كل شيء قد أصبح على ما يرام الآن، بالرغم من الحروب والمشكلات الاقتصادية والثورات الاجتماعية، وأنَّ المستقبل سيكون أفضل.
قال بفالتو: إنَّ الحقيقة كانت على العكس من ذلك بالتأكيد. فمِثلما قد ارتبتُ، كان ثمة دليل قاطع على أنَّ معدَّل الذكاء والنزاهة الأخلاقية قد تراجع على مُستوى العالم، وسوف يستمر هذا التراجع على الأرجح. كانت السلالة تعيش على ماضيها بالفعل. فجميع الأفكار البارزة العظيمة في العالم المعاصر قد تولدت قبل قرون. ومنذ ذلك الوقت، خضعت هذه الأفكار لاستخدامات قد غيرت من شكل العالم بالتأكيد، غير أنَّ أيًّا من هذه الاختراعات المُثيرة لم يتأسَّس على النوع الصارم من التغلغل في مسار الأفكار بأكمله في عصر سابق. أقرَّ بفالتو أنَّه كان هناك مؤخرًا فيض من الاكتشافات والنظريات العلمية الثورية، لكنَّه قال إنَّ أيًّا منها لم يكن يتضمن أيَّ مبادئ جديدة في حقيقة الأمر. كانت جميعها توليفات مُعادة من المبادئ المعروفة. لقد كانت المنهجية العلمية التي اختُرِعت قبل عدة قرون وسيلة خصبة للغاية حتى إنها قد تستمرُّ في إنتاج ثمار خصبة على مدار قرون في المستقبل حتى وإن كان ذلك على يد أفراد يَفتقرُون إلى القدرة على أيِّ درجة عالية من الأصالة.
غير أنَّ تدهور المقدرة العَقلية لم يكن جليًّا في مجال العلوم بقدر ما كان جليًّا في النشاط الأخلاقي والعملي. أنا نفسي قد تعلمت بمساعدة بفالتو أن أتذوق بدرجة ما، أدب تلك الفترة الرائعة التي وقعت قبل عدة قرون، حين بدا أنَّ البلاد جميعها تزدهر بالفن والفلسفة والدين، وحين قام شعبٌ تلو الآخر بتغيير نظامه الاجتماعي والسياسي بأكمله من أجل توفير قدر من الحرية والرخاء يتمتع به جميع أفراده، وحين قامت الدولة تلو الدولة بنزع السلاح بشجاعةٍ مُخاطِرةً بالدمار لكنها قد جنت السلام والرخاء، وحين حُلَّت قوات الشرطة، وتحولت السجون إلى مكتبات أو كليات، وحين أصبحت الأسلحة وحتى الأقفال والمفاتيح محض قِطَع تُعرَض في المتاحف، وحين كشفت جماعات الكهنوت الأربع العظيمة والراسخة عن أسرارها للعالم وأعطت ثروتها للفقراء وقادت الحملة المنتصرة للمجتمع أو تبنَّت الزراعة أو الحرف اليدوية أو التدريس، حسبما لاءم المؤيدين المتواضعين لدين المجتمع العالَمي الجديد الذي لم يعرف رجال دين ولا إيمانًا ولا إلهًا، وكذلك عبادته الصامتة. وبعد ما يقرب من خمسمائة عام، بدأت الأقفال والمفاتيح والأسلحة والمذاهب في العودة. لم يُخلِّف العصر الذهبي سوى تقليد جميل ومذهل، ومجموعة من المبادئ التي بالرغم من إساءة فهمها الآن مع الأسف، ظلَّت هي أفضل القوى المؤثرة في عالم مضطرب.
أكد العلماء الذين عزوا السبب في التدهور العقلي إلى زيادة الأشعة الكونية أنه إذا كانت السلالة قد اكتشفت العلم قبل قرون عدة حين كان لا يزال أمامها فترة الحيوية العظيمة، لأصبح كل شيء على ما يُرام. سرعان ما كانت ستتمكَّن من حل المشكلات الاجتماعية التي تنطوي عليها الحضارة الصناعية. لم تكن ستخلق عالَمًا طوباويًّا ينتمي إلى «العصور الوسطى» بل يمتاز بالنزعة الآلية المتقدمة. وكانت ستكتشف على الأرجح طريقة للتكيف مع الزيادة في الأشعة الكونية وتحول دون التدهور، لكنَّ العلم قد أتى متأخرًا للغاية. أما بفالتو، على الجانب الآخر، فقد كان يُخمن أنَّ التدهور يعود إلى عامل في الطبيعة البشرية ذاتها. كان يَنزع إلى الاعتقاد بأنه أحد عواقب الحضارة، وأنَّ العلم في تغييره لبيئة النوع البشري بأكملها، إلى الأفضل على ما يبدو، قد جلب عن غير قصد أوضاعًا معادية للنشاط الروحاني. لم يبدُ أنه يعرف ما إذا كان سبب الكارثة هو زيادة الأغذية الصناعية، أم زيادة الضغط العصبي في الأجواء الحديثة، أم التدخُّل في الانتقاء الطبيعي، أم التربية الأرق التي يتلقاها الأطفال أم سبب آخر. ربما ينبغي ألَّا نعزوه إلى أيٍّ من هذه التأثيرات الحديثة بعض الشيء؛ إذ أشارت الأدلَّة إلى أنَّ التدهور قد بدأ منذ بداية عصر العلم، إن لم يكن قبل ذلك. ربما يكون ثمة عاملٌ مجهول في أوضاع العصر الذهبي نفسه هو الذي قد بدأ الفساد. وقد اقترح بفالتو أيضًا أنه من المُمكن أن يكون الاتحاد الأصيل نفسه هو ما أنتج سُمَّه الخاص؛ أن شباب البشر الذين نشئوا في مجتمعٍ مثالي، في إحدى «مدن الإله» على الأرض بحق، لا بد أن يثوروا في نهاية المطاف على الكسل الأخلاقي والفكري، وعلى التفرُّد الرومانسي والشر المطلق، وأنه فور تجذُّر هذه النزعة، عزَّز العلم والحضارة الآلية من التدهور الروحاني.
قبل أن أُغادر الأرض الأخرى بفترة قصيرة، اكتشف أحد علماء الجيولوجيا حفريةَ مُخطَّط لجهاز راديو معقد للغاية. بدا أن المخطط طُبع على لوحٍ حَجريٍّ قد صُنِع قبل ما يقرب من عشرة ملايين عام. ولم يترك المجتمع المتقدم الذي صنعه أيَّ أثر آخر. كان هذا الاكتشاف صادمًا للعالم الذكي، غير أنَّ الرأي المطمئن قد انتشر بأنَّ نوعًا غير بَشري وأقل تحملًا قد نال قبل فترة طويلة ومضة من الحضارة. وقد جرى الاتفاق على أنَّ الإنسان لن يسقط أبدًا عن هذه القمة من الثقافة فور أن وصل إليها.
أما بفالتو فقد كان يرى أنَّ الإنسان كان يتسلَّق إلى الارتفاع نفسه تقريبًا من وقتٍ إلى آخر، ليسقط عنه مرةً أخرى بفعل نتيجة غامِضة لإنجازاته.
حين اقترح بفالتو هذه النظرية بين أطلال مدينتنا الأصلية، اقترحتُ أنَّ الإنسان سيَجتاز هذه النقطة الحرجة من مسيرته ذات مرة حتى وإن لم تكن هذه المرة. حينها تحدث بفالتو بشأن أمر آخر بدا أنه يدل على أننا نَشهد الفصل الأخير من هذه المسرحية المتكرِّرة الطويلة الأمد. لقد كان العلماء يعرفون أنه بسبب قوة الجاذبية الضعيفة في عالَمهم، كان الغلاف الجوي الخفيف بالفعل يتلاشى بصورةٍ مُستمرَّة. وعاجلًا أو آجلًا، سيكون على البشرية أن تُواجه مشكلةَ إيقاف التسرُّب المستمر للأكسجين الثمين. لقد تكيَّفت البشرية حتى الآن بنجاح مع قلة كثافة الغلاف الجوي المستمرة، غير أنَّ البنية البشرية قد بلغت الحد الأقصى من القدرة على التكيُّف في هذا الصدد. وإذا لم تُعوَّض الخسارة قريبًا، فسوف تتداعى السلالة لا محالة. كان الأمل الوحيد أن يتمَّ اكتشاف وسيلة ما للتعامل مع مشكلة الغلاف الجوي قبل بداية العصر التالي من الهمَجية. كانت احتمالية تحقيق ذلك ضئيلةً للغاية، وقد دمرت الحرب هذا الأمل الضئيل؛ إذ أعادت عقارب ساعة البحث العلمي بمقدار قرن إلى الوراء حين كانت الطبيعة البشرية هي ذاتها تتدهور وقد لا تتمكَّن أبدًا من معالجة مشكلة بهذه الصعوبة.
ألقَت بي فكرة الكارثة التي كانت تقبع على نحو شبه مؤكد في انتظار البشر الآخرين في رعب من الشك بشأن الكون الذي يُمكن أن يحدث فيه شيء كهذا. إنَّ دمار عالم بأكمله من الكائنات الذكية لم يكن بالفكرة الغريبة بالنسبة إليَّ، غير أنَّ ثمة فارقًا كبيرًا بين احتماليةٍ مجرَّدة وخطرٍ ملموس لا مهرب منه. كنت إذا شعرت بالفزع من المُعاناة وتفاهة الأفراد على كوكبي الأصلي، تعزيتُ بفكرة أنَّ التأثير الجماعي لمساعينا العمياء كلها على الأقل لا بد أن يكون هو الصحوة البطيئة للروح البشرية لكنها ستكون صحوة مجيدة. هذا الأمل، هذا اليقين، كان هو التعزية الوحيدة الأكيدة. أما الآن، فقد رأيت أنه ما من ضمان على أي انتصار كهذا. لقد بدا من المؤكد أنَّ الكون، أو صانع الكون، لا يُبالي بمصير العوالم. إنَّ وجود النضال والمعاناة والضياع على نحوٍ لا نهائي، هو أمر يُقبَل بكل تأكيد وسرور؛ فتلك هي التربة التي تنمو فيها الروح. أما أن يكون كل هذا النضال في نهاية الأمر محض عبث، أن يَهويَ عالَمٌ بأكمله من الأرواح الحساسة ويموت، فذلك شر مُطلَق. وأنا في حالة الهلع هذه، بدا لي أنَّ «الكراهية» هي بلا شك «صانع النجوم».
غير أنَّ بفالتو لم يكن يرى الأمر كذلك. لقد قال: «حتى إذا دمَّرتنا القوى، فمن نحن حتى ندينها؟ إذن يكون للكلمة العابرة أن تحكم على المتحدث الذي يصيغها. ربما تستخدمنا القوى لغاياتها العليا، ربما تستخدم قوتنا وضعفنا وفرحنا وألمنا لهدف لا يُمكننا أن نتصوره لكنه ممتاز.» غير أنني اعترضت على ذلك قائلًا: «أي هدف قد يبرر مثل هذا الخراب والعبث؟ وكيف يسعنا ألَّا نصدر الأحكام؟ وكيف نصدر الأحكام إن لم نُصدرها بناءً على قلوبنا والتي نحكم بها على أنفسنا؟ سيكون من الوضاعة أن نثني على صانع النجوم بعد معرفتنا بأنه كان عديم الإحساس حتى إنه لم يهتمَّ بشأن مصير عوالِمه.» صمت بفالتو في عقله للحظة، ثم نظر إلى الأعلى وأخذ يبحث بين غيوم الدخان عن نجمة نهارية. بعد ذلك حدثني في عقله قائلًا: «إذا كان قد أنقذ العوالم كلها وعذب إنسانًا واحدًا، فهل كنت لتسامحَه؟ أو إذا كان قاسيًا بعض الشيء فقط على طفل واحد غبي؟ ما علاقة ألمِنا أو فشلنا به؟ صانع النجوم! إنه اسم جيد بالرغم من أننا لا يمكننا أن نفهم معناه. يا صانع النجوم حتى إن دمَّرتَني، فلا بد لي أن أُمجِّدك، وحتى إذا عذبت أغلى أحبائي. وحتى إذا عذبت عوالمك الجميلة بأكملها ودمرتها، تلك اللمحات الصغيرة التي من نسج خيالك، فلا بد لي أن أُمجِّدك؛ إذ إن جاء هذا منك، فلا بد أن يكون صوابًا. أما إن جاء مني فسيكون خطأً، لكنه منك سيكون صوابًا.»
نظر مرةً أخرى إلى الأسفل حيث المدينة المدمرة ثم تابع: «حتى إذا لم يكن هناك صانع نجوم بالرغم من كل شيء، وإذا كانت تلك المجموعة الهائلة من المجرات قد انبثقت إلى الوجود من تلقاء نفسها، وحتى إذا كان هذا العالم الضئيل البغيض الذي نسكنه هو الموطن الوحيد للروح فيما بين النجوم وكان محكومًا بالخراب، في تلك الحالات وغيرها، فلا بد لي أن أُمجِّد، لكن إذا لم يكن هناك من صانع نجوم، فماذا أُمجِّد؟ لا أدري. سأصفُه فقط بأنه نكهة ومذاق الوجود البارز، غير أنَّ وصفه بذلك هو وصف موجز للغاية.»