السفر مجددًا
لا بد أنني قد قضيتُ عدة سنوات على الأرض الأخرى، وهي فترة أطول بكثير مما انتويتُ أن أقضيه هناك حين التقيت أول مرة بأحد فلاحيها يَمشي عبر الحقول. كثيرًا ما كنت أتوق إلى العودة إلى البيت مجددًا. كنت أتساءل بقلق مؤلم عن أحبائي كيف يكونون، وأيُّ تغيُّرات سأكتشفها إن كان لي أن أعود على الإطلاق. كان من المفاجئ لي أن تظلَّ الأفكار المتعلقة بالبيت بهذا القدر الكبير من الإلحاح بالرغم مما عاينته على الأرض الأخرى من خبرات جديدة وكثيرة. لقد بدا الوقت كلحظة منذ أن كنت جالسًا على التل أنظر إلى أضواء ضاحيتنا. بالرغم من ذلك، فقد مرَّت عدة سنوات. سيكون الأطفال قد تغيروا بدرجة يتعذر معها التعرف عليهم. ماذا عن أمهم؟ كيف تكون قد جرت بها الأمور؟
كان بفالتو مسئولًا بصفة جزئية عن مكوثي الطويل على الأرض الأخرى؛ فهو لم يكن ليسمح بمغادرتي إلى أن يفهم كلانا عالم الآخر فهمًا حقيقيًّا. كنت أُحفِّز خياله باستمرار كي يتصور الحياة على كوكبي بأكبر قدر ممكن من الوضوح، وقد اكتشف فيه المزيج نفسه من الروعة والهزلية، الذي اكتشفته في عالمه. والحق أنه كان بعيدًا عن الاتفاق معي في أنَّ عالَمه هو الأكثر تنفيرًا في المجمل.
لم تكن الدعوة إلى الكشف عن المعلومات هي الاعتبار الوحيد الذي يربطني ببفالتو. لقد أصبحت أشعر نحوه بصداقة قوية للغاية. في الأيام الأولى من شراكتنا، كانت هناك بعض المتاعب أحيانًا؛ فبالرغم من أنَّ كلانا كان كائنًا بشريًّا متحضِّرًا يُحاول دائمًا أن يتصرف بكياسة وكرم، فقد كانت علاقتنا الحميمية المفرطة تجهدنا في بعض الأحيان. كنت أنا على سبيل المثال أجد شغفه بفن التذوق الرفيع الخاص بعالَمه مرهقًا للغاية. لقد كان يجلس باستمرار ليمرر أصابعه الحساسة على الأحبال المتشبعة كي يشعر بالمذاق الذي كان يمثل لديه تلك البراعة العظيمة في الشكل والرمزية. شعرت بالفضول في بداية الأمر، ثم تأثرت بالناحية الجمالية، لكن بالرغم من مساعدته الصبورة لم أتمكن قطُّ في تلك المرحلة المبكرة من أن أندمج بصورة كلية وتلقائية في جماليات المذاق. وعاجلًا أم آجلًا، كنت أشعر بالإرهاق أو الضجر. ثم إنَّ صبري كان ينفد بسبب حاجته الدورية إلى النوم؛ فأنا عن نفسي لم أعد أشعر بتلك الحاجة منذ أن خرجت عن جسدي. كنت أستطيع بالطبع أن أنفصل عن بفالتو وأجول العالم بمفردي، لكنني كثيرًا ما كنت أستاء من ضرورة الانفصال عن تجارب العالم المُثيرة لمجرد توفير الوقت الذي يتطلَّبه جسد مضيفي للتعافي. أما بفالتو، من جانبه، كان يَمتعِض في الأيام الأولى من شراكتنا على الأقل، من قدرتي على مشاهدة أحلامه؛ إذ كان يستطيع في أثناء صحوه أن يُنحِّي أفكاره عن ملاحظتي، أما في نومه فقد كان عاجزًا عن ذلك. سرعان ما تعلَّمت تلقائيًّا أن أَمتنع عن ممارسة هذه القوة، وحين تطوَّرت علاقتنا الحميمية إلى احترام مُتبادَل، لم يعد يعتزُّ بهذه الخصوصية بشدة. وبمرور الوقت، أصبح كلانا يشعر أنَّ تذوق نكهة الحياة بمعزل عن الآخر يعني أن يفقد نصف ما فيها من ثراء وحذق. لم يكن أحدنا يثق بحكمه أو دوافعه بصورة كلية إلا أن يكون الآخر حاضرًا ليقدم نقدًا لا يعرف الهوادة وإن كان وديًّا.
توصلنا إلى خطة تُرضي صداقتنا واهتمامه بعالَمي وتوقي إلى البيت في الوقت ذاته. لمَ لا نُحاول بطريقة ما أن نزور كوكبي معًا؟ لقد سافرت من هناك، فلماذا لا نُسافر إليه معًا؟ وبعد فترة نقضيها على كوكبي، يُمكننا أن نتابع مغامرتنا الأكبر معًا من جديد.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية، كان علينا أن نُنفِّذ مهمتين مختلفتَين تمامًا. تقنية السفر بين النجوم، والتي لم أتمكَّن أنا منها إلا بالصدفة وبصورة عشوائية، يجب أن نُتقنها الآن تمامًا. ويجب أيضًا بطريقة ما أن نُحدِّد موقع النظام الكوكبي الذي أنتمي إليه على الخرائط الفلكية التي وضعها البشر الآخرون.
وقد ثبت أنَّ هذه المشكلة الجغرافية، أو بالأحرى الفلكية، لا يُمكن حلها. فمهما فعلت، لم أستطع أن أتوصل إلى بيانات بشأن التوجيه. بالرغم من ذلك، فقد قادتنا المحاولة إلى اكتشاف مذهل، ومخيف بالنسبة إليَّ، وهو أنني لم أُسافر عبر المكان فحسب، بل عبر الزمن نفسه. في المقام الأول، بدا في المعرفة الفلَكية الفائقة التقدم لدى البشر الآخرين أنَّ النجوم التي تبلغ درجة النضج التي تبلغها شمسنا وشمس البشر الآخرين كانت نادرة. غير أنَّ المعرفة الفلكية الأرضية كانت تُوضِّح أنَّ هذا النوع من النجوم هو الأكثر انتشارًا على امتداد المجرَّة. فكيف يكون هذا مُمكنًا؟ بعد ذلك توصلتُ إلى اكتشاف آخر مُحير؛ لقد ثبت لدى علماء فلك الأرض الأخرى أنَّ المجرة تَختلف اختلافًا صارخًا عما أتذكَّره عنها من وصف علماء الفلك الأرضيين لها. وفقًا للبشر الآخرين، كان النظام الشمسي أقلَّ فلطحةً بكثير مما نراه. بينما يخبرنا علماء الفلك الأرضيُّون أنَّه يشبه قطعة بسكويت دائرية يبلغ عرضها خمسة أضعاف سمكها، يرى علماء فلك الأرض الأخرى أنها أشبه بكعكة. أنا نفسي كثيرًا ما كنتُ أتعجَّب من عرض درب التبانة في سماء الأرض الأخرى ولا نهائيته. وقد أدهشني أيضًا أنَّ علماء فلك الأرض الأخرى كانوا يعتقدون أنَّ المجرة تحتوي على قدر كبير من المادة الغازية التي لم تَتكثَّف بعدُ على هيئة نجوم. أما علماء الفلك الأرضيون، فقد كانوا يرون أنَّ النجوم هي التي تُمثِّل القدر الأكبر منها.
أسافرْتُ حينئذٍ عن غير قصد إلى مكان أبعد كثيرًا عما كان يُفترض بي ودخلتُ إلى مجرة مختلفة وأحدث؟ ربما في فترة الظلام حين اختفت أحجار جمشت السماء وياقوتاتها وماساتها، زادت سرعتي وسافرت في الفضاء بين المجرات. في بداية الأمر، بدا أنَّ ذلك هو التفسير الوحيد، غير أنَّ حقائق معينة قد أجبرتنا على استبعاده لصالح تفسير أكثر غرابة.
أقنعتني المقارنة بين علم الفلك لدى البشر الآخرين وبين ذكرياتي المشتَّتة عن علم الفلك الأرضي أنَّ كون المجرات الكامل الذي عرفوه كان يختلف عن كون المجرات الكامل الذي عرفناه. لقد كان الشكل المعتاد للمجرات أكثر استدارة وأكثر امتلاءً بالغازات بدرجة كبيرة؛ لقد كان في واقع الأمر أكثر بدائية مما هي الحال لدينا بدرجة كبيرة.
إضافةً إلى ذلك، بدا العديد من المجرات في سماء الأرض الأخرى قريبًا للغاية، حتى إن تلك المجرات كانت تبدو بقعًا واضحة من الضوء حتى للعين المجرَّدة. وقد أوضح علماء الفلك أنَّ العديد مما يُطلَق عليها «الأكوان» كان أقرب إلى «الكون» الأم بدرجة أكبر كثيرًا من أقرب كون معروف في معرفتنا الفلكية.
كانت الحقيقة التي تجلَّت الآن لبفالتو ولي مربكةً بلا شك. كان كل شيء يشير إلى حقيقة أنني سافرت باتجاه منبع نهر الزمن ورسوت بنفسي في تاريخ بالماضي السحيق حين كانت الغالبية العُظمى من النجوم ما تزال صغيرة السن. ويُمكن تفسير القرب الشديد بين العديد من المجرات في المعرفة الفلَكية لدى البشر الآخرين من خلال نظرية «تمدُّد الكون». لقد كنتُ أعرف جيدًا أنَّ هذه النظرية الجذرية ليست سوى نظرية مبدئية وغير مرضية على الإطلاق، لكن هنا على الأقل يكمن دليل آخر واضح يقترح أنَّها لا بد أن تكون صحيحة من ناحية ما. في الحقب المبكرة، كانت المجرات متكدسة معًا بالطبع. لم يكن هناك من شك أنني نُقلت إلى عالم قد وصل إلى مرحلة البشرية قبل أن يخرج كوكبي الأصلي من رحم الشمس بفترة طويلة جدًّا.
ذكرني إدراكي الكامل لبُعدي الزمني عن بيتي بحقيقة، أو احتمالية على الأقل، من الغريب أنني كنت قد نسيتها من فترة طويلة. من المحتمل أنني كنت ميتًا. وقد كنت أتوق الآن بشدة إلى العودة إلى البيت. كان البيت في هذه الأثناء واضحًا للغاية وقريبًا للغاية، وبالرغم من أنَّ المسافة إليه كانت ستُحسَب بالفراسخ النجمية ومليارات السنين، كان قريبًا على الدوام. من المؤكَّد أنني إذا استيقظتُ فقط، فسوف أجد نفسي هناك على قمة تلِّنا مجددًا، غير أنني لم أستيقظ. عبر عينَيْ بفالتو، كنت أدرس خرائطَ النجوم وصفحاتٍ من نص غريب. حين نظر إلى أعلى، رأيت أمامنا، رسمًا هزليًّا لكائن بشري له وجه يشبه الضفدع، لم يكن يشبه الوجه إلا من بعيد، وصدر كصدر الحمام الهزاز، وكان عاريًا إلا من زغب يَميل لونه إلى الخضرة. ثمة سروال قصير حريري أحمر كان يُغطِّي الساقين المغزليَّتَين، واللتَين كانتا مطوقتين بجورب حريري أخضر. هذا الكائن الذي لا تراه العين الأرضية إلا وحشًا، كان في الأرض الأخرى امرأة شابة جميلة. أنا نفسي حين رأيتها عبر عينَي بفالتو اللطيفتين، رأيت أنها جميلة بالفعل. بالنسبة إلى عقل قد تعود على الأرض الأخرى، كانت ملامحها وجميع إيماءاتها توحي بالذكاء والبديهة. من الجليِّ أنني إذا استطعت أن أشعر بالإعجاب تجاه امرأة مثلها، فلا بدَّ أنني نفسي قد تغيَّرت.
سيكون من المُضجر أن أذكر التجارب التي تَمكَّنَّا من خلالها أن نتعلم ونُتقن فن التحكم بالطيران في الفضاء ما بين النجوم. يكفي القول إننا قد تعلمنا بعد مغامرات عديدة أن نحلق من الكوكب متى أردنا، وأن نوجِّه مسارنا بالاستعانة بإرادتنا فحسب في كل حدبٍ وصوبٍ بين النجوم. بدا أننا حين نَعمل معًا نتمتَّع بالسهولة والدقة بدرجة أكبر كثيرًا عما كان أيٌّ منا يتمتع بهما حين يَنطلق في الفضاء بمفرده. بدا أنَّ رفقة عقلينا تُعزِّز من قوانا حتى في التنقُّل المكاني.
لقد كانت تجربة غريبة للغاية أن يجد المرء نفسه في أعماق الفضاء لا يُحيط به سوى الظلام والنجوم، ويظل بالرغم من ذلك على تواصل شخصي حميم مع رفيق غير مرئي. بينما كانت مصابيح السماء البراقة تومض خلفنا، كان أحدنا يُفكر للآخر بشأن خبراتنا أو نتناقش بشأن خططنا أو يشارك كل منا بذكرياته عن عالَمه الأصلي. كنا نستخدم لغتي أحيانًا ولغته في أحيان أخرى. وأحيانًا لم نكن نحتاج إلى كلمات على الإطلاق، بل كنا فقط نتشارَك تدفُّق الصور في عقلينا.
لا بد أنَّ هذه الرياضة المتمثِّلة في الطيران بلا جسد هي الأكثر إثارة على الإطلاق من بين جميع الرياضات. صحيح أنها لم تكن تخلو من الخطر، لكننا سرعان ما اكتشفنا أنَّ خطرها نفسي لا مادي. ففي حالتنا غير المادية، لم يكن التصادم بالأجسام السماوية يهم إلا قليلًا. أحيانًا في المراحل المبكرة من مغامرتنا، كنا نسقط عن غير قصد في أحد النجوم، ويكون داخله ساخنًا بدرجة لا يُمكِن تصوُّرها بالتأكيد، غير أننا لم نكن نَختبر إلا السطوع.
أما الأخطار النفسية لهذه الرياضة، فقد كانت خطيرة؛ فسرعان ما اكتشفنا أنَّ الإحباط والإرهاق الذهني والخوف، كلها من الأمور التي تُقلِّل من قوانا المتعلِّقة بالحركة. لقد وجدنا أنفسنا غير مرة في الفضاء لا نستطيع حراكًا كسفينة مهجورة في المحيط، وقد كان الخوف الذي أثاره فينا هذا المأزق كبيرًا حتى إنه لم تكن هناك من إمكانية للتحرُّك إلى أن اختبرنا نطاق اليأس بأكمله، ثم عبرنا إلى اللامبالاة ومنها إلى الهدوء ورباطة الجأش.
كان ثمة خطرٌ أشد من ذلك، غير أنه لم يَحِق بنا إلا مرة واحدة، وهو الخلاف العقلي. لقد حدث بيننا نزاعٌ حادٌّ بشأن الهدف من خططنا المستقبلية، ولم يفضِ بنا إلى عدم القدرة على الحركة فحسب، بل إلى اضطراب عقلي مروع. لقد أصبحت حواسنا مشوشة، وضلَّلتنا الهلاوس. وتلاشت لدينا القدرة على التفكير المترابط. وبعد نوبة من الهذيان قد امتلأت بشعور غامر بالفناء الوشيك، وجدنا أنفسنا على الأرض الأخرى مجددًا؛ بفالتو في جسده مستلقيًا على سريره مثلما غادره، ومن جديد كنت أنا وعيًا بلا جسد أحوم في مكان ما فوق سطح الكوكب. كان كلانا في حالة من الرعب الجنوني الذي قد استغرقنا وقتًا طويلًا للتعافي منها. ومرت شهورٌ قبل أن نجدِّد شراكتنا ومغامرتنا.
عرفنا تفسير هذه الحادثة المُؤلمة بعد ذلك بفترة طويلة. يبدو أننا قد بلغنا درجة عميقة من التوافُق العقلي بحيث عندما نشأ النزاع كان الأمر يشبه بالانفصال في عقل واحد، أكثر مما يشبه الخلاف بين فردين منفصلين. ومن هنا، أتت العواقب الخطيرة للأمر.
حين زادت مهارتنا في الطيران بلا جسد، وجدنا متعة كبيرة في الانزلاق هنا وهناك بين النجوم. تذوقنا متع التزلج والطيران في الوقت ذاته. ومن أجل المرح فحسب، رحنا نقوم مرة تلو الأخرى بتتبُّع أشكال ضخمة على هيئة العدد ثمانية باللغة الإنجليزية حول الشريكين اللذين يُشكلان «نجمًا مزدوجًا». كنا نظل بلا حَرَاك لفترات طويلة في بعض الأحيان لكي نُشاهد عن قرب تزايد أحد النجوم المتغيِّرة ونقصانه. وكثيرًا ما كنا ننغمس في عنقود مزدحم ونمرُّ بين شموسه كسيارة تنساب بين أضواء المدينة. وكثيرًا ما كنا نتقافَز على أسطح متموجة خافتة اللمعان من الغاز، أو بين نُتف ونتوءات خفيفة، أو ننغمِس في الضباب لنجد أنفسنا في عالم من ضوء الفجر الخالي من أيِّ معالم. أحيانًا كانت قارات الغبار المظلمة تبتلعُنا دون إنذار؛ فتحجب عنا الكون. وذات مرة، بينما كنا نجتاز منطقة مزدحمة في السماء، توهج أحد النجوم إلى لمعان فائق متحولًا إلى «نجم مُستعر». ولأنه كان محاطًا على ما يبدو بسحابة من الغاز غير المضيء، فقد رأينا بالفعل دائرة الضوء المتسعة التي أشعت نتيجة لانفجار النجم. وإذ كنا نتحرك بالخارج بسرعة الضوء، فقد ظهر بفعل انعكاس الضوء من الغاز المحيط؛ بحيث بدا كبالون منتفخ من الضوء يخبو مع انتشاره.
لم تكن تلك سوى بضعة من مشاهد النجوم التي أبهجَتْنا بينما كنا نتزلَّج هنا وهناك بين جيران «الشمس الأخرى» بسلاسة وكأنَّنا على جناحي طائر. كان ذلك خلال فترة تدربنا على مجال الطيران بين النجوم. وحين أصبحنا بارعين فيه، وصلنا لما هو أبعد من ذلك، وتعلمنا أن نسافر بسرعة كبيرة للغاية حتى إنَّ النجوم الأمامية والخلفية قد تلوَّنت مثلما كانت الحال في طيراني اللاإرادي في وقت سابق، ثم ساد الظلام بعد فترة قصيرة. ليس ذلك فحسب، بل إننا قد بلغنا أيضًا تلك المرحلة من الرؤية الروحانية والتي اختبرتها أيضًا في رحلتي السابقة، والتي يمكن التغلب من خلالها على تقلبات الضوء المادي.
قادنا طيراننا في إحدى المرات إلى الخارج حيث حدود المجرَّة وإلى الفراغ فيما وراءها. كانت النجوم القريبة تصبح لبعض الوقت أقل فأقل. كان نصف الكرة الخلفي من السماء قد أصبح الآن مكتظًّا بأضواء خافتة، أما أمامنا فقد امتد السواد خاليًا من النجوم لا يقطعه سوى عدد قليل من بقع الضوء المنعزلة؛ شذرات قليلة مُنفصِلة من المجرة، أو «المجرات الفرعية» من الكواكب. وبخلاف هذه البقع، كان الظلام تامًّا خلا نصف درزينة من البقع الباهتة التي كنا نعرف أنها أقرب المجرات الغريبة.
ظللنا ساكنَيْن لفترة طويلة في الفراغ مُنبهِرَيْن بالمشهد. لقد كانت تجربة مؤثِّرة بلا شك أن نرى «كونًا» بأكمله يمتد أمامنا ويحتوي على مليار نجم وربما الآلاف من العوالم المأهولة؛ وأن نعرف أنَّ كل بقعة ضئيلة في السماء السوداء كانت هي نفسها «كونًا» من هذا النوع، وأنَّه لا يزال هناك منها الملايين التي لا تظهر فقط بسبب بعدها الشديد.
أي أهمية كانت تُمثلها هذه الضخامة والتعقيد الماديان؟ في نفسها، لم تكن تمثل في الظاهر شيئًا سوى العبث والانعزال، لكننا قد قلنا لأنفسنا، متأثرَيْن بالرهبة والأمل، إنها تَعِد بدرجة أكبر من التعقيد والحذق والتنوع في العالم المادي. كان ذلك وحده يكفي مُبرِّرًا، غير أنَّ هذا الوعد المُذهل كان مرعبًا أيضًا بالرغم مما كان يثيره في النفس من إلهام.
كفرخ يتطلَّع ببصره من فوق حافة العش للمرة الأولى، ثم يعود إلى عشه الصغير مرةً أخرى مختبئًا من العالم الكبير، انبثقنا من وراء حدود ذلك العش الصغير من النجوم والذي ظل البشر يعرفونه على نحو خاطئ لفترة طويلة على أنه «الكون». والآن قد عدنا لندفن أنفسنا مرة أخرى في حدود مجرتنا الأصلية المريحة.
لما أثارت تجاربنا العديد من المشكلات النظرية التي لم نستطع حلها دون دراسة أكثر توسعًا لعلم الفلك، قررنا أن نعود إلى الأرض الأخرى، لكن بعد بحث طويل وعقيم أدركنا أننا قد ضللنا موقعنا تمامًا. كانت النجوم كلها متشابهة بدرجة كبيرة فيما عدا أن القليل منها في هذه الحقبة المبكرة كانت قديمة ومعتدلة مثل الشمس الأخرى. وفي بحثنا الذي كنا نجريه بصورة عشوائية وبسرعة كبيرة للغاية، لم نجد كوكب بفالتو ولا كوكبي، ولا أي نظام شمسي آخر. محبطين، توقفنا مرة أخرى في الفضاء لنفكر في مأزقنا. في كل جانب، واجهنا سواد السماء الأبنوسي المرقَّط بالماسات بلغز كبير. أي شرارة من غبار النجوم هذا كله هو الشمس الأخرى؟ ومثلما هو المعتاد في سماء هذه الحقبة المبكرة، كانت خطوط من المادة السديمية تُرى في جميع الاتجاهات، غير أنَّ أشكالها كانت غير مألوفة ولم تُجدِ نفعًا في التوجيه.
لم يقلقنا أننا ضَللنا طريقنا بين النجوم. كنا في غاية الابتهاج بمغامرتنا، وكان كلٌّ منَّا سببًا لرفع الروح المعنوية لدى الآخر. فخبراتنا الحديثة قد أسرعت من حياتنا العقلية وزادت من تنظيم عقلَيْنا معًا. كان كلٌّ منا لا يزال يشعر بالآخر وبنفسه على أنهما كائنان منفصلان في معظم الأحيان، غير أنَّ الجمع بين ذكرياتنا وطباعنا أو الدمج بينها، قد بلغ الآن درجة كبيرة، حتى إننا كثيرًا ما كنا نغفل عن تبايننا. فعقلان بلا جسد يشغلان الموقع البصري نفسه، ويمتلكان الذكريات والرغبات نفسها، وكثيرًا ما يقومان بالأفعال العقلية نفسها في الوقت نفسه، قلما يُمكن تصوُّر أنهما كائنان منفصلان. بالرغم من ذلك، فمن الغريب أيضًا أنَّ هذه الهُوِية النامية قد أصبحت على درجة من التعقيد بسبب التفاهم المتبادل والصحبة اللذين يزدادان شدة باستمرار.
إنَّ اختراق أحدنا لعقل الآخر لم يَزد من ثرائنا العقلي فحسب، بل ضاعفه؛ إذ إنَّ الواحد منا لم يكن يعرف باطنه وباطن الآخر فحسب، بل كان يعرف أيضًا التناغم الطباقي لدى كلٍّ منهما وعلاقته بالآخر. وبطريقة ما لا أستطيع وصفها بدقة، قد نتج عن اتحاد عقلينا بالفعل عقل ثالث، وبالرغم من أنه كان متقطعًا، فقد كان على مستوى غير ملحوظ أكثر وعيًا من أيٍّ منا في حالته المعتادة. كلٌّ منا، بل كلانا، قد «استيقظ» الآن ليصبح هذه الروح الفائقة. جميع الخبرات التي مر بها كل منا، قد اتخذت دلالة جديدة في ضوء الآخر، وأصبح عقلانا معًا عقلًا جديدًا أكثر تبصرًا وأكثر وعيًا بالذات. في هذه الحالة من الصفاء الشديد، بدأنا، أو بالأحرى بدأ «الأنا» الجديد، بتمعُّن في استكشاف الإمكانيات النفسية لأنواع أخرى من الكيانات والعوالم الذكية. ومع القدرة الجديدة على التبصُّر، اكتشفت فيَّ وفي بفالتو تلك السمات الجوهرية للروح والسمات العرضية التي فرضها العالم المميز لكلٍّ منا عليه. وسرعان ما أثبتت هذه المغامرة الخيالية أنها وسيلة فعالة للغاية للبحث الكوني.
لقد بدأنا نُدرك الآن بوضوحٍ أكبر حقيقةً طالَما ارتبنا فيها. في رحلتي السابقة بين النجوم والتي أحضرتني إلى الأرض الأخرى، كنت قد استخدمت عن غير قصد طريقتَين مختلفتَين للسفر، وهما طريقة الطيران بلا جسد عبر الفضاء، وطريقة سأطلق عليها اسم «الجذب المادي». وقد تمثَّلت الثانية في الإسقاط التخاطري للعقل على نحو مُباشِر في عالم غريب، قد يكون بعيدًا في الزمان والمكان، لكنه «يتلاءم» ذهنيًّا مع عقل المُستكشِف في وقتِ مغامرته. ومن الجليِّ أنَّ هذه الطريقة هي التي أدَّت الدور الأكبر بالفعل في توجيهي إلى الأرض الأخرى. إن التشابه البارز بين سلالتينا قد شكَّل «جذبًا ماديًّا» قويًّا كان فعالًا بدرجة تتفوق كثيرًا على فعالية تجولي العشوائي بأكمله بين النجوم. وهذه الطريقة هي التي كنا نمارسها أنا وبفالتو ونتقنها.
لاحظنا الآن أننا لم نعد في وضع السكون بل ننجرف ببطء. وقد راودنا أيضًا شعور غريب بأننا في واقع الأمر على مقربة ذهنية من نوع ما مع كائنات ذكية غير مرئية، بالرغم من أننا كُنا في ظاهر الأمر معزولين في صحراء شاسعة من النجوم والسدم. وإذ ركزنا على هذا الشعور بالحضور، وجدنا أنَّ سرعتنا في الانجراف تزداد، وأننا إذا حاوَلنا بقوة تغيير مساره عن عمد، كنا في نهاية المطاف نعود ثانية إلى الاتجاه الأصلي فور أن تتوقَّف جهودُنا. وسرعان ما تحوَّل انجرافنا إلى طيرانٍ سَريع. ومرة أخرى، تحولت النجوم الأمامية إلى اللون البنفسجي، والخلفية إلى اللون الأحمر. ومرةً أخرى، اختفَت كلها.
في ظلمة وصمت مُطبقين، تناقشنا بشأن وضعنا. من الجليِّ أننا كنا الآن نجتاز الفضاء بسرعة أكبر من سرعة الضوء نفسه. من المحتمَل أيضًا أننا كنا بطريقة غير مفهومة نجتاز الوقت. في الوقت نفسه، كان إحساسنا بالقرب من كائنات أخرى يشتدُّ أكثر فأكثر، رغم أنه لم يقلُّ إرباكًا لنا. ومرةً أخرى، ظهرت النجوم. وبالرغم من أنها راحت تَسبح مرورًا بنا كالشرار المتطاير، فقد كانت عديمة اللون وعادية. ثمة ضوء لامع كان يقع أمامنا مباشَرة. تضخَّم، ثم صار ضياءً وهاجًا، ثم قرصًا واضحًا. وبمجهود من الإرادة، أبطأنا من سرعتنا، ثم درنا حول هذه الشمس بحذر، ورحنا نبحث هناك. ومما بعث فينا السرور أنها كانت مأهولة بالعديد من الحبات التي قد توجد بها حياة. مُسترشِدين بإحساسنا المبين بالحضور العقلي، اخترنا أحد هذه الكواكب، وهبطنا باتجاهه ببطء.