عوالم لا حصر لها
(١) تعدد العوالِم
كان الكوكب الذي هبطنا عليه الآن بعد سفرنا الطويل بين النجوم هو الأول من كواكب عديدة سنزورها. أقمنا في بعضها وفقًا للتقويم المحلي بضعة أسابيع فقط وفي أخرى عدة سنين، ونحن نسكن معًا في عقل أحد سكانها الأصليين. وحينما كان يأتي وقت الرحيل، كثيرًا ما كان مضيفنا يرافقنا في مغامراتنا التالية. ومع مرورنا من عالَم إلى عالم، ومع تراكم الخبرة فوق الخبرة كالطبقات الجيولوجية، بدا أنَّ تلك الرحلة الغريبة بين العوالم تمتدُّ إلى العديد من الحيوات. بالرغم من ذلك، كانت أفكارنا عن كوكبَيْنا الأصليَّيْن دائمًا معنا. لا شك بأنني عن نفسي لم أقدِّر تلك الجوهرة الصغيرة المتمثِّلة في الاتحاد الشخصي والتي خلَّفتها؛ حق قدرها إلا بعد أن وجدت نفسي مَنفيًّا على هذه الحال. كان عليَّ أن أفهم كل عالم على أفضل نحو ممكن بالاستناد إلى العالم البعيد الذي حدثت عليه حياتي، والأهم من ذلك، بمعيار تلك الحياة المشتركة التي صنعناها معًا أنا وهي.
قبل أن أحاول وصف، أو بالأحرى استرجاع، التنوع الهائل للعوالم التي دخلتها، يجب أن أذكر بضع كلمات عن حركة المغامرة نفسها. بعد التجارب التي سجلتُها للتو، كان من الجلي أنَّ طريقة الطيران بلا جسد لم تكن ذات فائدة كبيرة. لا شكَّ بأنها قد أتاحت لنا إدراك المعالم المرئية في مجرتنا على نحو فائق الوضوح، وقد استخدمناها كثيرًا في توجيه أنفسنا حين كنا نتوصَّل إلى اكتشاف جديد عن طريق الجذب النفسي. بالرغم من ذلك، فلمَّا كانت لا تَمنحنا سوى حرية التنقُّل في المكان دون الزمان، ولمَّا كانت الأنظمة الكوكبية نادرة للغاية، فقد كان من غير المرجح على الإطلاق أن تؤدِّي طريقة الطيران المادي العشوائي وحدها إلى أيِّ نتائج. أما طريقة الجذب المادي، فقد ثبت أنها فعالة للغاية فور أن أتقناها. لقد كانت هذه الوسيلة تَعتمِد على النطاق الخيالي لعقلينا. في بداية الأمر حين كانت قدرتنا الخيالية محدودة للغاية وتَقتصِر على خبرات عالَمَينا، لم نتمكَّن إلا من التواصل مع العوالم الشديدة الشبه بعالمينا. إضافةً إلى ذلك، ففي هذه المرحلة التدريبية من عملنا، كنا نتوصَّل دومًا إلى هذه العوالم حين كانت تمرُّ بالأزمة الرُّوحانية نفسها، والتي تكمن وراء مأزق الإنسان الأرضي اليوم. بدا أنه من أجل الدخول إلى أيِّ عالم على الإطلاق، لا بد من وجود تشابُه عميق أو تطابق بين نفسَينا وبين المضيفين.
مع مرورنا من عالم إلى عالم، ازداد فهمُنا بدرجة كبيرة للمبادئ التي تقوم عليها مغامرتنا، وقدراتنا على استخدامها. إضافة إلى ذلك، في كل عالم من العوالم التي زرناها، نشدنا مساعدًا جديدًا يُمدُّنا بالرُّؤى عن عالَمه ويوسع من نطاق خيالنا للتوسُّع في استِكشاف المجرة. وقد كانت لطريقة «كرة الثلج» هذه التي زاد بها عدد رفقتِنا أهميةٌ كبيرة؛ إذ إنها قد عظَّمت قوانا. لقد توصلنا في المراحل الأخيرة من الاستكشاف إلى اكتشافات يُمكن أن نقول إنها تفوق على نحو لا نهائي نطاق أي عقل بشري منفرد لا يَحظى بأي مساعدة.
في بداية الأمر، ظننتُ أنا وبفالتو أننا نُقدِم على مغامرة خاصة للغاية، وحتى مع جمعنا المساعدين بعد ذلك، ظللنا نعتقد أننا وحدنا المبادرون بالاستكشاف الكوني. بالرغم من ذلك، فبعد فترة من الوقت، جمعنا تواصُل ماديٌّ مع مجموعة أخرى من المستكشفين الكونيين والذين هم من السكان الأصليين لعوالم لم نكن قد عرفناها بعد. وبعد عدد من التجارب الصعبة والمرهقة في معظم الأحيان، اتحدت قوانا مع قوى هؤلاء المغامرين ودخلنا في ارتباط حميمي في البداية، ثم بعد ذلك في الاتحاد العقلي الغريب الذي كنت قد اختبرته أنا وبفالتو بالفعل إلى حدٍّ ما في رحلتنا الأولى بين النجوم.
حين صادفنا المزيد والمزيد من هذه المجموعات، أدركنا أنه بالرغم من بدء هذه البعثات الصغيرة كل على حدة، فقد كان مقدرًا لها جميعًا أن تَلتقي عاجلًا أم آجلًا. إذ بالرغم من اختلاف هذه المجموعات بعضها عن بعض في بداية الأمر، فقد اكتسبت كلٌّ منها بالتدريج قوة تخيُّلية فائقة والتي، عاجلًا أم آجلًا، كانت تتمكَّن من التواصُل مع المجموعات الأخرى.
وبمرور الوقت، اتضح أننا — نحن السكان الفرديين لمجموعة من العوالم الأخرى — كنا نُؤدِّي دورًا صغيرًا في إحدى الحركات الكبرى التي كان الكون يسعى من خلالها إلى التعرُّف على ذاته، وإلى أن تتجاوَز رُؤيته حدود ذاته أيضًا.
وإذ أقول هذا، فأنا لا أزعم على الإطلاق أنَّ مشاركتي في هذه العملية الشاسعة من الاستكشاف الذاتي الكوني تجعل من هذه القصة التي يَتعيَّن عليَّ أن أرويها حقيقية بالمعنى الحرفي. ومن الجلي أنها لا تستحق أن تُرى على أنها جزء من الحقيقة الموضوعية المُطلَقة بشأن الكون. فأنا، الفرد البشري، لا أستطيع أن أشارك في تلك التجربة التي تفوق قدرات البشر والتي تتمثل في «الأنا» المشتركة التي كان يدعمها عدد لا نهائي من المستكشفين، إلا بطريقة سطحية ومغلوطة للغاية. فما من شك أن هذا الكتاب هو تصوير مزيف سخيف لمغامرتنا الفعلية. وبالرغم من أننا كنا وما زلنا حشدًا غفيرًا قد استُدعينا من حشد غفير من الأجسام السماوية؛ فنحن لا نُمثِّل سوى نسبة ضئيلة من تنوع الكون بأكمله. ولهذا فحتى اللحظة السامية في خبرتنا والتي بدا لنا حينَها أننا قد وصلنا إلى صميم الواقع، لم تَمنحنا في الواقع سوى بضع شذرات من الحقيقة، والتي هي رمزية لا حرفية.
قد تكون روايتي لذلك الجزء من مغامرتي والذي قادني إلى التواصل مع عوالم من النوع البشري إلى حد ما دقيقة نسبيًّا، أما ذلك الجزء الذي يتناول الأجسام السماوية الأكثر غرابة، فلا بد أنه بعيد عن الحقيقة. إنني ربما وصفت الأرض الأخرى بدرجة من الزيف تزيد قليلًا عما يقترفه المؤرخون في روايتهم للعصور السابقة للجنس البشري. أما العوالم الأقل شبهًا بعوالم البشر، وأنواع الكائنات العديدة الرائعة التي صادفناها في أعلى المجرة وأسفلها وأرجاء الكون بأكمله وحتى فيما وراءه، فسوف أضطر إلى أن أذكر من الأمور ما سيُعد زيفًا مطلقًا إذا أُخذت بالمعنى الحرفي. ولا يسعني إلا أن أرجو أن يكون لديهم ذلك النوع من الحقيقة والذي نجده نحن أحيانًا في الأساطير.
لما كنا قد تحرَّرنا الآن من المكان، فقد رُحنا نتجوَّل بالقدر نفسه من السلاسة في أرجاء المسارات القريبة في هذه المجرَّة والبعيدة أيضًا. أما عن كونِنا لم نتواصَل مع عُقول في مجرات أخرى حتى وقت متأخِّر، فلم يكن ذلك بسبب أيِّ قيود قد فرضها الفضاء، وإنما على ما يبدو بسبب محدودية تفكيرنا المتأصلة والمحدودية الغريبة لاهتمامنا، وهو ما جعلنا لفترة طويلة مُعادين لتأثير العوالم التي تقع وراء حدود درب التبانة. وسوف أذكر المزيد عن هذا القيد الغريب حين أصف كيف تمكنَّا في النهاية من التغلب عليه.
وإضافةً إلى التحرر من المكان، تحرَّرنا أيضًا من الزمان. إن بعض العوالم التي استكشفناها في هذه المرحلة المبكِّرة من مغامرتنا، قد توقَّفت عن الوجود قبل أن يتشكَّل كوكبي الأصلي بفترة طويلة، وبعضها كان معاصرًا له، والبعض الآخر لم يكن قد وُلد إلى أن بلغت مجرتنا شيخوختها، حين كانت الأرض قد دُمرت وانطفأ عدد كبير من النجوم بالفعل.
بينما رحنا نبحث في أرجاء الزمان والمكان، مُكتشفِين المزيد والمزيد من الحبات النادرة التي تُدعى بالكواكب، وبينما رُحنا نُشاهد السلالة بعد السلالة تُناضل للوصول إلى درجة معيَّنة من الوعي الصافي لتُذعن بعدها إلى حادثة خارجية ما، أو عيب في طبيعتها في أكثر الأحوال، طغى علينا الشعور بعبثية الكون والعشوائية فيه. بضعة عوالم قد بلغت مثل هذه الدرجة من اليقظة بالفعل حتى إنها قد تجاوَزَت نطاق معرفتنا. غير أن العديد من هذه العوالم الأكثر براعة قد وُجدت في الحقبة المبكِّرة من حياة المجرات، وما من شيء كان يُمكن أن نكتشفه فيما بعد في المراحل المتأخِّرة للكون قد أشار إلى أن أيَّ مجرات، فضلًا عن الكون بأكمله، قد بلَغَت من يقظة الروح ما بلغتْه تلك العوالم البارعة المبكِّرة، أو يُمكن حتى أن تَبلغها في نهاية المطاف. لم نتمكَّن من اكتشاف الذِّروة المجيدة، لكن الهزلية المُبكية، والتي لم يكن هذا الانتشار الكبير للعوالم سوى مقدِّمة لها، إلا في مرحلة متأخِّرة للغاية من بحثنا.
في المرحلة الأولى من مغامرتنا، حين، مثلما قلت، كانت قدراتنا على الاستكشاف التخاطري غير مكتملة بعد، اتَّضح أن جميع العوالم التي دخلناها كانت تعاني من تبعات الأزمة الروحانية نفسها التي عرفناها جيدًا في كواكبنا الأصلية. وقد صرتُ أرى أن هذه الأزمة تتمثَّل في جانبين. لقد كانت جزءًا من نضال الروح كي تصير قادرة على الاتحاد الحقيقي على نطاقٍ عالَمي، وهي في الوقت نفسه مرحلة في المهمَّة التي تطول على مدار العصور والتي تتمثَّل في امتلاك الموقف الروحاني الصحيح، والملائم في نهاية المطاف، تجاه الكون.
في كل عالم من هذه العوالم التي لا تزال تنمو في «الشرنقة»، كان الملايين من الأشخاص يَنبثقُون إلى الوجود واحدًا تلو الآخر، لينجرفوا مُتلمِّسين الطريق لبضع لحظات من الزمن الكوني قبل أن يتلاشَوْا. وقد كان معظمهم قادرًا، لدرجة متواضعة على الأقل، على النوع الحميمي من الاتحاد، وهو العاطفة الشخصية، غير أن جميعهم تقريبًا كانوا يرون الغريب شيئًا باعثًا على الخوف والكراهية. وحتى حبهم الحميمي كان متقطعًا ويفتقر إلى الرؤية. وفي جميع الأحوال تقريبًا، لم يكونوا يبتغون لأنفسهم سوى الراحة من التعب أو الضجر، الخوف أو الجوع. ومثلما هي الحال مع سلالتي، فهم لا يستفيقون تمامًا من ذلك السُّبَات البدائي الذي تشهده الكائنات الأدنى من الإنسان. القليل منهم فقط في مناطق متفرقة هم الذين كانوا يختبرون بين الحين والآخر لحظات من اليقظة الحقيقية التي تُعزِّيهم أو تُحرِّكهم أو تُعذِّبهم. وعدد أقلُّ من هؤلاء هم الذين كانوا يحظون برؤية واضحة ومُستمرة، حتى وإن كانت لجانب جزئي من الحقيقة، وقد كانوا في الغالبية العُظمى من الأحيان يَعدُّون أن أنصاف الحقائق التي توصلوا إليها هي حقائق مُطلَقة. ومع نشر حقائقهم الجزئية الصغيرة، يُربكُون رفاقهم الفانين ويُضلِّلونهم بقدر ما يُساعدونهم.
كل رُوح فردية، في هذه العوالم جميعها تقريبًا، قد بلغت في مرحلة ما من حياتها ذروةً مُتواضعة من الوعي والاستقامة الروحانية لتسقط مرة أخرى بسرعة أو ببطء إلى اللاشيء أو العدم. أو هكذا بدا الأمر. ومثلما هي الحال في عالَمي وفي هذه العوالم الأخرى كلها، كانت الحياة تُقضى في السعي وراء غايات مُبهمة تظلُّ دومًا على مقربة من التحقيق. وقد كانت هناك مساحات شاسعة من الضجر والإحباط، مع لحظات نادرة من البهجة هنا وهناك. كانت هناك نشوةُ الانتصارات الشخصية، والاتصال والحب المتبادَلَين، والرُّؤى الفِكرية، والإبداع الجمالي. وكانت هناك أيضًا النشوةُ الدينية، غير أنَّ هذا النوع من النشوة، كان كغيره من الأشياء في هذه العوالم، قد أربكتْه التأويلات الخاطئة. وكانت هناك أيضًا تلك النَّشوة المجنونة النابعة من الكراهية والقسوة التي تُوجه ضد الأفراد والمجموعات. في بعض الأحيان خلال المرحلة المبكرة من مغامرتنا، كنا نشعر بالتعاسة الشديدة بسبب ضخامة القسوة والمُعاناة في أرجاء العوالم حتى إن شجاعتنا قد خارَت واضطربت قدراتنا التخاطرية وانزلقنا نحو الجنون.
بالرغم من ذلك، فلم تكن غالبية هذه العوالم بأسوأ من عالَمنا؛ فهي كعالَمنا قد بلغت تلك المرحلة التي قد تعاني فيها الروح، التي استفاقت على نحوٍ جزئي من البهيمية لكنَّها ما تزال بعيدةً عن النضج، بيأسٍ شديد وتتصرَّف بأقصى درجات القسوة. وكعالَمنا أيضًا، كانت هذه العوالم المأساوية بالرغم من حيويتها، والتي زُرناها في مغامراتنا الأولى، تُعاني من عدم قدرة العقول التي تسكنُها على مجاراة الظروف المتغيِّرة. لقد كانوا متأخِّرين على الدوام يُطبِّقون المفاهيم والمُثُل القديمة على الأوضاع الحديثة بما لا يتلاءم معها. ومثلنا أيضًا، كانوا يُعانون دومًا من حاجتهم الملحَّة إلى درجة من الاتحاد تستلزمها أحوالهم، لكن أرواحهم الفقيرة الجبانة الأنانية لم تكن لتتمكَّن من نيلها بأيِّ حال. العلاقات بين الأزواج والدوائر الصغيرة من الرفاق فقط هي التي كانوا يتمكَّنون فيها من تعزيز الاتحاد الحقيقي والرُّؤى المشتركة والاحترام والحب. أما في قبائلهم وأُممهم، فقد كانوا يتوهمون الاتحاد المزيف للقطيع بكل سهولة، ويَنبحون معًا بالخوف والكراهية.
كانت درجة التشابُه بيننا وبين هذه السلالات تتجلَّى على نحو واضح في سِمةٍ معينةٍ على وجه التحديد، وهو أن كلًّا منهم قد نشأ عبر خليط غريب من العنف واللين. إن دعاة العنف ودعاة اللين يُهَيمِنون عليهم في هذا الاتجاه وذاك. في وقت زيارتنا، كان العديد من هذه العوالم تُعاني من أزمة بشأن هذا الصراع. في الماضي القريب، كان هناك توجُّه إلى اللين والتسامح والحرية، غير أن السياسة قد فشلت لافتقارها إلى وجود غاية صادقة، إلى اقتناع بالروح، إلى وجود خبرة احترام حقيقية للطابع الفردي. ازدهرت جميع أنواع الأنانية وحب الانتقام سرًّا في البداية، ثم ازدهرت علنًا بعد ذلك على أنها فردانية صارخة. وفي نهاية الأمر، تحوَّلت الشعوب في غضب عن الفردانية وانغمست في اتِّباع القطيع. وفي الوقت نفسه، ومقتًا لفشلِ اللين، بدأت الشعوب في تمجيد العنف وقسوة البطل المرسَل من عند الإله والقبيلة المسلَّحة علنًا. وهؤلاء الذين كانوا يظنون أنهم يؤمنون باللين صنعوا أسلحة لقبائلهم لمواجهة تلك القبائل الأجنبية التي كانوا يتَّهمونها بالإيمان بالعنف. وقد هدد أسلوب العنف فائق التطور بتدمير الحضارة، وعامًا بعد عام، فقَدَ اللينُ أيَّ دعم. قلة فقط هم الذين استطاعوا إدراك أنه لا بد من إنقاذ عالمهم، لا بالعنف على المدى القصير، بل باللين على المدى الطويل. وعدد أقل من ذلك هم الذين استطاعوا إدراك أنه من أجل أن يكون اللين فعالًا، فلا بد أن يكون دينًا، وأنه لا يُمكن للسلام الدائم أن يحلَّ أبدًا حتى يستفيق الكثيرون إلى حالة صفاء الوعي والتي لم يكن قد تمكَّن من الوصول إليها في كل هذه العوالم حتى الآن إلا قلة قليلة.
إذا أردت أن أصفَ جميع العوالم التي استكشفناها على نحو مُفصَّل، فسوف يتحول هذا الكتاب إلى عالم من المكتبات. ولهذا لا يُمكنني أن أخصص سوى بضع صفحات لأنواع العوالم الكثيرة التي مررنا بها في تلك المرحلة المبكرة من مغامرتنا في جميع أرجاء مجرتنا، وعلى مدار عمرها بأكمله. ومن الجلي أن بعض هذه الأنواع لم يظهر سوى عدد قليل جدًّا من المرات، وبعضها الآخر ظهر عشرات أو مئات المرات.
أكثر الأنواع عددًا في العوالم الذكية هو النوع الذي يضمُّ الكوكب الذي يألفه قراء هذا الكتاب. لقد أشاد النوع البشري الأرضي بنفسه مؤخرًا وأرعبها؛ إذ تخيَّل أنه وإن لم يكن الكائن الذكي الوحيد في الكون، فهو فريد من نوعه على الأقل، وأن العوالم التي تلائم الحياة الذكية من أيِّ نوع نادرة للغاية حتمًا. لقد اتضح أن هذه الرؤية خاطئة للغاية. مقارنةً بعدد النجوم الهائل الذي لا يُمكن تخيله، نجد أن العوالمَ الذكية نادرةٌ للغاية بالفعل، لكننا قد اكتشفنا آلاف العوالم التي تشبه الأرض بدرجة كبيرة وتسكنُها كائنات من النوع البشري في جوهرها، وإن كان ظاهرُها لا يتَّفق مع النوع الذي ندعوه بالبشر في معظم الأحوال. كان البشر الآخرون من النوع الشبيه بالبشر على نحوٍ جلي للغاية. بالرغم من ذلك، ففي المراحل الأخيرة من مغامرتنا حين لم يَعُد بحثُنا مقتصرًا على العوالم التي وصلَت إلى الأزمة الرُّوحانية المألوفة، صادفنا بضعة من الكواكب التي تسكنها سلالات تكاد تكون متطابقة مع النوع البشري أو بالأحرى مع الهيئة التي كان عليها الإنسان في أولى مراحل وجودِه. لم نُصادف هذه العوالم الشديدة الشبه بعالم البشر في مرحلة سابقة؛ إذ إنها قد دُمِّرت بسبب حادثةٍ ما قبل أن تصل إلى المرحلة التي بلغتْها عقليتنا.
بعد فترة طويلة من نجاحنا في توسيع نطاق بحثِنا من أقراننا في المرتبة العقلية بين العوالم إلى من هم أدنى مرتبة منا فيها، ظلَلنا غير قادرين على التواصُل مع أيٍّ من الكائنات التي كانت قد تجاوَزَت بالكامل المرحلة التي وصل إليها النوع البشري الأرضي؛ ومن ثم، فبالرغم من أننا تتبعنا تاريخ العديد من العوالم خلال العديد من الحقب، ورأينا العديد منها يصل إلى نهاية كارثية أو يسقط إلى الركود والتدهور المحتوم، فقد كان ثمة عددٌ قليلٌ من العوالم التي مهما كان ما قد نفعله، كنا قد فقدنا التواصل معها في تلك اللحظة التي بدت فيها جاهزة لقفزة إلى الأمام نحو عقلية أكثر تطورًا. لم يحدث، إلا في مرحلة متأخرة للغاية من مغامرتنا حين أصبح كياننا المشترك نفسه ثريًّا بفعل تدفق العديد من الأرواح الأسمى، أن تمكنَّا من التقاط خيوط تراجم العوالم الجليلة تلك مُجددًا.
(٢) أنواع غريبة من السلالات البشرية
بالرغم من أنَّ جميع العوالم التي دخلناها في المرحلة الأولى من مغامرتنا كانت في خضمِّ الأزمة التي يعرفها عالمنا جيدًا؛ فقد سكن بعضُها سلالاتٍ تُشبه الإنسان بيولوجيًّا، بينما سكن بعضُها الآخر سلالاتٍ شديدة الاختلاف عنه. كانت السلالات التي تشبه البشر على نحو أكثر وضوحًا تسكن كواكب ذات حجم وطبيعة مُشابهين لحجم الأرض والأرض الأخرى. غير أنَّ جميع السلالات، أيًّا كانت التقلبات التي شهدها تاريخها البيولوجي، قد شكَّلتها الظروف في نهاية المطاف إلى البِنية المُنتصبة والتي يتضح أنها الأكثر ملاءمة لمثل هذه العوالم. في جميع الأحوال تقريبًا، كان الطرفان السفليان يُستخدمان للتنقل، والطرفان العُلويان للتناول والتحكم. وعادةً ما كانت توجد رأسٌ من نوعٍ ما تضمُّ الدماغ وأعضاء الإدراك عن بُعد، وفتحات الأكل والتنفس أحيانًا. وفيما يتعلَّق بالحجم، فنادرًا ما كانت هذه الأنواع الشبيهة بالبشر أكبر من أكبر الغُوريلات التي لدينا، ونادرًا ما كانت أصغر كثيرًا من القرود، غير أننا لم نستطع تقدير الحجم بأيِّ درجة من الدقة؛ إذ لم نكن نَمتلك معايير معروفة للقياس.
كانت الفئة الشبيهة جدًّا بالبشر هذه تضمُّ تنويعات كبيرة؛ فقد صادفنا بشرًا يُغطِّيهم الريش ويُشبهون البطاريق والذين قد انحدرُوا من سلالاتٍ كانت تطير بالفعل، ووجدنا على بعض الكواكب الصغيرة بشرًا طائرين قد احتفظوا بقدرتهم على الطيران، غير أنهم كانوا قادِرين على حمل دماغ بشري ملائم. وحتى على بعض الكواكب الكبيرة التي كانت أغلفتُها الجوية طافية على نحو استثنائي، كان هناك بشر يطيرون بأجنحة لهم. وقد صادفْنا أيضًا نوعًا من البشر قد تطوَّر من سَلَفٍ شبيه بالبُزَاق في سلالة من اللافقاريات لكنهم كانوا من الثدييات. احتفظ هذا النوع من البشر بالصلابة والمرونة الضروريتَين للأطراف من خلال عظامٍ سِلكية داخلية رقيقة «شبيهة بالسِّلال».
وعلى كوكب صغير للغاية لكنه شبيه بالأرض، اكتشفنا سلالة شبيهة بالبشر كانت على الأرجح فريدة من نوعها. فهنا، بالرغم من أنَّ الحياة قد تطوَّرت على نحو شديد الشبه بما حدث على الأرض، كانت الحيوانات العُليا كلها تختلف اختلافًا ملحوظًا عن النوع المألوف في سمة واضحة. فلم تكن هذه السلالة تتمتَّع بسمة ازدواج الأعضاء واسعة النطاق والتي تتميَّز بها جميع أنواع الفقاريات لدينا؛ ومن ثمَّ فقد كان الإنسان في هذا العالم أشبه بنصف إنسان أرضي. كان يقفز على ساق متينة واحدة تنحدر منها قدم رحاء واحدة، ويُحافظ على اتزانه بذَيلٍ كذيل الكنغر. من صدره، تبرز ذراع واحدة وتتفرَّع إلى ثلاثة سواعد وأصابع للإمساك. وفوق فمِه، يوجد مِنخار واحد، وفوقه أذن واحدة، وفوق رأسه خرطوم ثلاثي الشُّعب مَرِن يحمل ثلاث أعين.
في بعض الأحيان، كنا نجد نوعًا مختلفًا للغاية ومُنتشِرًا إلى حدٍّ ما من السلالة الشبيهة بالبشر على كواكب أكبر من الأرض. ونظرًا إلى زيادة قوة الجاذبية، فسوف تَظهر في البداية هناك حيوانات تسير على ستة أرجل بدلًا من أربعة، كما هو مألوف، وسوف تتكاثَر بعد ذلك إلى حيوانات صغيرة سداسية الأرجل من حافرات الجُحور، وآكلات عشب أنيقة وسريعة سداسية الأرجل، وحيوانات ماموث سداسية الأرجل ذات أنياب، والعديد من أنواع آكلات اللحوم المختلفة السداسية الأرجل. وقد كان البشر في هذه العوالم يَنحدرُون عادةً من كائن صغير يشبه الأبوسوم، والذي كان قد استخدم الزوج الأول من أزواج أطرافه الثلاثة في بناء الأعشاش أو التسلق. وبمرور الوقت، أصبح الجزء الأمامي من جسمه مُنتصبًا، وبصورة تدريجية، اتخذ هيئة تُشبه هيئة كائن رباعي الأرجل مع جذع بشَري في مكان الرقبة. في واقع الأمر، لقد أصبح قنطورًا له أربعة أرجل وذراعان قويان. كان من الغريب جدًّا أن يجد المرء نفسه في عالم قد صُمِّمت فيه جميع المرافق ووسائل الراحة التي أنتجتها الحضارة لتُلائم بشرًا على هذه الهيئة.
في أحد هذه العوالم، والذي كان أصغر من الباقين بعض الشيء، لم يكن البشر على هيئة قنطور، وإن كان القنطور أحد أسلافهم البعيدين. في مراحل التطوُّر السابقة على البشر، صغَّر الضغط البيئي الجزء الأفقي من جسم القنطور حتى أصبحت الساقان الأماميتان والخلفيتان أقرب فأقرب، وصارا في النهاية زوجًا متينًا واحدًا من السيقان؛ ومن ثمَّ فقد أصبح البشر وأسلافهم القريبون ذوي قدمين، وأرداف كبيرة تذكر بالأرداف المستعارة التي كانت تُستخدم في العصر الفيكتوري، وسيقان ما تزال هيئتها الداخلية تَعكس أصلهم «القنطوري».
ثمة نوع شديد الانتشار من العوالم الشبيهة بعوالم البشر يجب أن أصفَه بقدر أكبر من التفصيل؛ إذ إنه يؤدي دورًا مُهمًّا في تاريخ مجرتنا. البشر، في هذه العوالم، بالرغم من أنهم كانوا يختلفون بدرجة كبيرة في الهيئة والحظ في عوالم محدَّدة، قد تطوروا جميعًا من حيوان بحري له خمسة أطراف وهو أشبه بنجم البحر. وبمرور الوقت، كان هذا الكائن سيُخصِّص طرفًا منها للإدراك، والأربعة الباقية للتنقل. وبعد ذلك، ستتكون له رئتان وجهاز هضمي معقد وجهاز عصبي متكامل. وبعد فترة أطول، سينتج طرف الإدراك دماغًا، بعد أن تصبح الأطراف الأخرى متكيفة على الجري والتسلق. أما الأشواك اللينة التي كانت تُغطِّي جسد سلفه نجم البحر، فقد كانت تتطوَّر في معظم الحالات إلى نوع من الفراء الشائك. وحين يحلُّ الموسم المناسب، ينشأ كائن مُنتصِب ذكي ذو قدمين وأعضاء للرؤية والشمِّ والسمع والتذوق، وأعضاء للإدراك الحسي الكهربي في بعض الحالات. وبخلاف غرابة وجوهها، وحقيقة أنَّ الفم كان يوجد عامةً على البطن، فقد كانت هذه الكائنات بشرية بدرجة كبيرة. غير أنَّ أجسادها كانت تُغطَّى عادةً بالأشواك اللينة أو الشعر السميك التي كانت تُميِّز هذه العوالم. ولم تعرف هذه العوالم استخدام الملابس إلا حمايةً من البرد في المناطق القطبية. لا شك بأنَّ وجوهها كانت تنزع إلى الاختلاف عن الوجوه البشرية؛ فقد كان الرأس الطويل غالبًا ما يحمل إكليلًا يتكون من خمس عيون. وكانت الأنوف الفردية الكبيرة المستخدمة في التنفُّس والشم، والتحدث أيضًا، تُشكِّل حلقة أخرى تحت العيون.
كان مظهر هذه «الشوكيات البشرية» يُخفي طبيعتها؛ فبالرغم من أنَّ وجوهها لم تكن بشرية المظهر، لم يكن نمط عقولها الأساسي مختلفًا عن ذلك الخاص بعقولنا. كانت حواسها كثيرة الشبه بحواسنا، خلا أنها قد طورت في بعض العوالم حساسيةً لونية أكثر تنوعًا على نطاق أوسع كثيرًا. والسلالات التي كانت تتمتَّع بالحاسة الكهربية قد شكلت لنا بعض الصعوبة؛ إذ كان علينا أن نتعلم نطاقًا جديدًا بأكمله من الصفات الحسية ونظامًا شاسعًا من الرمزية غير المألوفة كي نتمكن من فهم تفكيرها. كانت الأعضاء الكهربية تكشف اختلافات طفيفة للغاية في الشحنة الكهربية مقارنة بجسم الكائن نفسه. وقد كانت هذه الحاسة تُستخدم في الأصل للكشف عن الأعداء المزودين بأعضاء كهربية للهجوم. بالرغم من ذلك، فقد كانت أهميتها لدى البشر اجتماعية في المقام الأول؛ فقد كانت تمد المرء بمعلومات عن الحالة العاطفية لجيرانه. وإضافةً إلى ذلك، كانت تُستخدم في الرصد الجوي.
ولا بد لي من أن أصف بقدر أكبر من التفصيل، مثالًا على هذا النوع من العوالم الذي يصور هذه السلالة بوضوح ويقدم في الوقت ذاته بعض الخواص المميزة المثيرة لها.
أنا أعتقد أنَّ المدخل لفهم هذه السلالة هو ملاحظة طريقتها الغريبة في التكاثُر، والتي كانت ذات طبيعة مشتركة في جوهرها. كان كل فرد قادرًا على إنتاج فرد جديد لكن في مواسم محددة فقط، وبعد التحفيز بنوع من حبوب اللقاح ينبعث من القبيلة بأكملها وتَحمله الرياح. ولم تكن ذرات الغبار الفائقة الصغر التي تتكوَّن منها حبوب اللقاح هذه بالخلايا الجنسية، بل «جينات»، أي، العوامل الأولية للوراثة. كانت حبوب اللقاح تعطر أحياء القبيلة بعطر خفيف على الدوام، بالرغم من ذلك، ففي أوقات العواطف الجماعية العنيفة، كانت حبوب اللقاح تزداد كثافة للغاية حتى إنها تصبح مرئية في واقع الأمر كالضباب الرقيق. وفي تلك المرات النادرة فقط، يصبح الحمل ممكنًا. تخرج حبوب اللقاح زفيرًا من جميع الأفراد ويتنفَّسُها شهيقًا هؤلاء الناضجون للإخصاب، ويشعر بها الجميع عطرًا غنيًّا رقيقًا والذي ساهم فيه كل فرد برائحته المميزة. ومن خلال آلية نفسية وفيسيولوجية غريبة، يُستثار الفرد الذي ينتابه الشبق إلى اشتهاء التحفيز بكامل عطر القبيلة أو عطر الغالبية العظمى من أفرادها، وإذا لم تكن غيوم حبوب اللقاح على الدرجة الكافية من التعقيد، فلن يحدث الحمل. كان الإخصاب المختلط يحدث في فترات الحروب بين القبائل، وفي الغدوِّ والرواح الذي لا يتوقف بين القبائل في العالم الحديث.
في هذه السلالة إذن، يُمكن لأي فرد أن يُنجِب طفلًا. وبالرغم من أن كل طفل له أم واحدة، فالقبيلة كلها آباؤه. كان الآباء الذين ينتظرون إنجاب طفل يَحظون بمكانة مقدسة ويشترك الجميع في العناية بهم. حين ينفصل الطفل «الشوكي» أخيرًا عن جسد الوالد، يشترك الجميع أيضًا في العناية به مع بقية النشء في القبيلة. وفي المجتمعات المتحضرة، كان يُعهد بعنايته إلى الممرضين والمعلمين المحترفين.
لن أتوقف كي أروي الآثار النفسية المهمة لمثل هذا النوع من التكاثر. إن مشاعر البهجة والامتعاض التي نشعر بها عند ملامسة أجساد أفراد آخرين من نوعنا لم تكن معروفة لديهم. وعلى الجانب الآخر، كان الأفراد يتأثَّرون على نحو عميق بالعطر القبَلي الذي تتغيَّر رائحته على الدوام. من المحال أن أصف ذلك النوع الغريب من الحب الرومانسي الذي كان يشعر به كل فرد تجاه القبيلة بصفة دورية. كان إحباط هذه العاطفة وقمعها ومنعها هو مصدر أرقى إنجازات هذه السلالة وأحقرها في الوقت ذاته. منحَتِ الأُبوَّة المشتركة للقبيلة وحدةً وقوةً لا تعرفهما السلالات التي تتَّسم بقدرٍ أكبر من الفردانية. كانت القبائل البدائية مجموعات من بضع مئات أو آلاف من الأفراد، غير أنَّ أعدادها قد زادت بدرجة كبيرة في العصور الحديثة. بالرغم من ذلك، فقد كان لا بد لشعور الولاء للقبيلة أن يظل مستندًا على الدوام على العلاقات الشخصية لأفرادها، إن كان له أن يظلَّ شعورًا صحيًّا. وحتى في القبائل الكبيرة، كان كل فرد على الأقل «صديقًا لصديقِ صديق» لكل فردٍ آخر من أفراد القبيلة. وقد أتاح الهاتف والإذاعة والتلفزيون للقبائل الكبيرة التي تبلغ حجم مدننا الصغيرة أن تُحافظ على درجة كافية من الاتصال الشخصي بين أفرادها.
بالرغم من ذلك، فدائمًا ما كانت هناك مرحلة تُصبح زيادة نمو القبيلة بعدها أمرًا كريهًا؛ فحتى في أصغر القبائل وأكثرها ذكاءً، كان ثمة توتُّرٌ دائم بين عاطفة المرء الفطرية تجاه القبيلة، واحترامه للطبيعة الفردية فيه وفي رفاقه. وبينما كانت القبائل الصغيرة والقبائل الكبيرة التي تتَّسم بأجواء صحية تحافظ على جمال الروح القبلية وعقلانيتها من خلال الاحترام المتبادل والذاتي للأفراد، ففي القبائل الكبيرة والتي لا تتَّسم أجواؤها بالعقلانية، كان التأثير الشديد للقبيلة يؤدِّي على الأرجح إلى طمس الطابع الشخصي. وقد يفقد الأفراد أحيانًا كل وعي بذواتهم وبذوات رفاقهم بوصفهم أفرادًا، ويصبحون محض أعضاء مغيبين للقبيلة؛ ومن ثمَّ يتفكَّك المجتمع إلى قطيعٍ من الحيوانات تُسيِّره غرائزه.
على مدار التاريخ، أدركت أفضل العقول في السلالة أنَّ الإغراء الأكبر هو إذعان الفردانية للقبيلة؛ فراح الأنبياء يحثُّون البشر مرارًا وتكرارًا على أن يكونوا صادقين مع أنفسهم، غير أنَّ وعظهم قد ضاع هباءً في الغالبية العُظمى من الأحيان. لم تكن أعظم الأديان في هذا العالم الغريب أديانًا للحب بل للذات. وبينما يتُوق البشر في عالَمنا إلى مدينة طوباوية يحب البشر فيها بعضَهم، فقد كان البشر «الشوكيون» ينزعون إلى تمجيد الشغف الديني لاكتساب القوة لأن «يتصرف المرء وفقًا لطبيعتِه» دون الاستسلام لإرادة القبيلة. وتمامًا مثلما نستعيض عن أنانيتنا المتأصِّلة بالتبجيل الديني للمجتمع، كانت هذه السلالة تستعيض عن «جماعيتها» المتأصِّلة بالتبجيل الديني للذات.
لا شك بأنَّ دين الذات في أنقى صوره وأكثرها تطورًا لا يَختلف عن دين الحب في أفضل صوره. فالحب يَنطوي على الرغبة في توفير الإشباع الذاتي للمحبوب، وأن يجد المرء في فعل الحب نفسه زيادة عرضية لذاته تبعث فيها الحيوية. وعلى الجانب الآخر، فإنَّ صدق المرء مع ذاته وتحقيق إمكاناتها كلها ينطوي على فعل الحب؛ فهو يستلزم ضبط الذات الخاصة لخدمة ذات أكبر تحتضن الاتحاد في روح السلالة وتحقيق الإشباع لها.
غير أنَّ دين الذات لم يكن ذا فعالية مع البشر «الشوكيِّين» بأكثر مما كان دين الحب ذا فعالية لدينا. إنَّ مبدأ «أحب جارك مثلما تُحبُّ نفسك» غالبًا ما يُولِّد فينا النزعة لأن يرى المرء جاره بوصفه محض محاكاة رديئة لذاته، مما يؤدي إلى كراهيته إذ ثبت منه ما هو خلاف ذلك. وفي حالتهم، كان مبدأ «كن مخلصًا لذاتك» كان يُولِّد النزعة لأن يُخلِّص المرء لعقلية القبيلة فحسب. وقد تسببت الحضارة الصناعية الحديثة في تضخُّم العديد من القبائل بأكثر من الحد المحمود، وقد قدمت أيضًا «القبائل الصناعية الفائقة» أو «قبائل القبائل»، والتي تناظر لدينا الأمم والطبقات الاجتماعية. ونظرًا لأنَّ الوحدة الاقتصادية كانت تتمثل في القبيلة ذات الطابع الشيوعي لا الفرد، فقد كانت الطبقة المسئولة عن التوظيف هي مجموعة صغيرة من القبائل الصغيرة التي تنعم بالرخاء، وكانت الطبقة العاملة مجموعةً كبيرة من القبائل الكبيرة الفقيرة. وقد كان لأيديولوجيات القبائل الفائقة سلطةٌ مطلقة على جميع عقول الأفراد الذين يخضعون لسيطرتها.
في المناطق المتحضِّرة، أوجدت القبائل الصناعية الفائقة والقبائل الطبيعية المفرطة النمو استبدادًا ذهنيًّا صاعقًا. عندما يتعلَّق الأمر بالقبيلة الطبيعية، على الأقل إذا كانت صغيرة ومتحضِّرة بحق، يُمكن للمرء أن يتصرَّف بناءً على ذكائه ومخيلته. ومع أقربائه الفعليِّين في القبيلة، قد يدعم درجة من الاتحاد الحقيقي لا نعرفها على كوكب الأرض. ويمكنه في حقيقة الأمر أن يكون ناقدًا يحترم ذاته وذوات الآخرين. أما في جميع الأمور التي تتعلَّق بالقبائل الفائقة سواء أكانت أمورًا وطنية أم اقتصادية، فكان يتصرَّف على نحو مُختلف تمامًا. فجميع الأفكار التي تأتي إليه بمُوافقة الوطن أو الطبقة يقبلها هو وجميع رفاقه بحماسة ودون نقد. وفور أن يصادف أحد رموز القبيلة الفائقة التي ينتمي إليها أو شعاراتها، كان يتوقَّف عن كونه شخصية بشرية، ويصبح أشبه بحيوان لا يُفكر ولا يقدر إلا على إصدار ردود فعل نمطية. في الحالات المتطرِّفة، كان عقله يُغلق تمامًا إزاء التأثيرات المعارضة لاقتراح القبيلة الفائقة؛ فيواجه النقد بالغضب الأعمى أو لا يسمعه على الإطلاق. إن الأشخاص الذين يكونون قادرين في المجتمع الحميمي لقبيلتهم الأصلية الصغيرة على التعاطُف وتبادُل رُؤًى مشتركة رائعة؛ قد يتحوَّلون فجأة، استجابةً للرموز القبيلة، إلى أدوات للتعصُّب والكراهية الجامحين الموجهين ضد أعداء الوطن أو الطبقة. وفي هذه الحالة، قد يُضحُّون بذواتهم في سبيل المجد المزعوم للقبيلة الفائقة. كما أنهم يُبدون قدرًا كبيرًا من البراعة في تدبير طرق لإشباع شهوتهم في الانتقام من الأعداء الذين قد يكونون في الظروف المواتية مثلهم على القدر نفسه من العطف والذكاء.
في وقت زيارتنا لهذا العالم، بدا أنَّ عواطف العامة ستُدمِّر الحضارة تمامًا ودون رجعة. لقد كانت شئون هذا العالم تُدار على نحو مُتزايد تحت سيطرة الهوس المنتشِر للقبلية الفائقة، ولم تكن تُدار بذكاء في حقيقة الأمر، بل وفقًا للإلزام العاطفي النِّسبي لشعاراتٍ لا معنى لها. لا ينبغي لي أن أتوقف لأصف كيف أنه بعد فترة من الفوضى، بدأ نمطٌ جديد من الحياة ينتشر أخيرًا في هذا العالم المُضطرب. ولم يكن ذلك ليحدث إلا بعد أن تفكَّكت القبائل الفائقة بفعل القوى الاقتصادية المتعلِّقة بالصناعة الآلية، وبسبب الصراع المحموم فيما بينها. والآن قد تغير أفق السلالة بأكمله.
كان هذا العالم هو أول عالم قد اختبرنا فيه ما عذبنا من فقدان التواصُل مع السكان الأصليِّين؛ حين اكتنفتهم، حالَما توصلوا إلى إقامة ما يشبه العالم الطوباوي من الناحية الاجتماعية، أول تحرُّكات مؤلمة للروح قبل أن يتقدموا إلى مستوى ذهني يتعذر علينا الوصول إليه، أو كان يتعذر على استيعابنا في ذلك الوقت على الأقل.
من العوالم «الشوكية» الأخرى الموجودة في مجرتنا، عالم كان يبشر بمستقبل واعد بأكثر من المستوى المتوسط، والذي سطع نجمه مبكرًا غير أن قد تحطم بفعل اصطدام فلكي؛ فقد صادف نظامه الشمسي بأكمله قطعة سديم كثيفة، وانصهرت أسطح جميع الكواكب الموجودة فيه. وفي العديد من العوالم الأخرى التي تنتمي إلى هذا النوع، رأينا النضال الساعي إلى تحقيق درجة أكبر من اليقظة الذهنية يفشل فشلًا ذريعًا. فقد أفنت طوائف القطيع الانتقامية المؤمنة بالخرافات أفضل العقول في السلالة وخدرت البقية بعادات ومبادئ ذات أثر مُدمِّر للغاية حتى إنَّ المصادر الحيوية للرقة والقدرة على التكيف والتي تقوم عليها جميع مظاهر التقدم الذهني قد دُمِّرت إلى الأبد.
آلاف عديدة من العوالم الأخرى الشبيهة بعوالم البشر، إلى جانب تلك العوالم «الشوكية» قد انتهت قبل الأوان أيضًا. لقد سقط أحدها في كارثة غريبة وربما يَستحق إشارة موجزة. هنا في هذا العالم وجدنا سلالة شديدة الشبه بالبشر، وحين وصلت حضارته إلى المرحلة والطابع الشديدي الشبه بما وصلت إليه حضارتنا، وهي تلك المرحلة التي لا تستقي فيها المُثُل التي تتبعها الجماهير أي إرشاد من التقاليد الراسخة، والتي تُسخَّر فيها العلوم الطبيعية للصناعة الفردانية، اكتشف فيها علماء الأحياء تقنية التلقيح الاصطناعي. الآن في هذا الوقت هناك، انتشر هوَس واسع النطاق باللاعقلانية والغريزة والقسوة، و«الإنسان الشرس» البدائي «الإلهي». وقد كانت تلك الشَّخصية تَحظى بالإعجاب الشديد خاصةً حين جمعت بين القسوة وقوة التحكم في الجماهير. خضعت العديد من البلدان لطغاة من هذا النوع، وحتى في البلاد التي توصف بالديمقراطية، كان هذا النوع هو المفضَّل للذوق الشعبي.
وفي هذَين النوعين من البلاد، كانت النساء يَشتهين «الرجال الشَّرِسين» عشاقًا لهنَّ وآباءً لأطفالهن. ونظرًا لأنَّ النساء في البلاد «الديمقراطية» قد حَظين بدرجة كبيرة من الاستقلال الاقتصادي، فقد أدى إقبالهُنَّ على الإخصاب من «الرجال الشرسين» إلى تحويل الأمر برمَّته إلى عمل تجاري؛ فقد كانت الوكالات تُوظِّف الذكور الذين ينتمون إلى النوع المفضَّل وتُرتِّبهم في خمس درجات من الجاذبية. وبتكلفة متوسِّطة تُحدد وفقًا لدرجة الأب، تتمكَّن أيُّ امرأة من الحصول على الإخصاب من «رجل شرس». لقد كانت الدرجة الخامسة رخيصة للغاية حتى إنَّ أشد النساء فقرًا فقط هنَّ اللاتي كن يُحرَمن منها. كانت تكلفة الجماع الفعلي حتى مع ذكر من أدنى الفئات أكبر كثيرًا بالطبع؛ إذ إنَّ العرض كان محدودًا بمُقتضى الحال.
في البلاد غير الديمقراطية اتخذت الأمور مُنحنًى مختلفًا. في كلٍّ من هذه البلاد، ظهر طاغية من النوع العصري وجمع حول شخصِه افتتان الشعب بأكمله. كان البطل المُرسَل من عند الإله، بل كان هو نفسه ذا أصل إلهي. كل امرأة كانت تَتُوق بشغف لأن تناله إن لم يكن حبيبًا لها، فأبًا لأطفالها على الأقل. في بعض البلاد، لم يكن يُسمَح بالتلقيح الاصطناعي من «السيد» إلا كتمييز فائق للنساء من النوع المثالي. أما النساء العاديات من جميع الطبقات، فقد كان يحق لهن التلقيح من المزرعة الأرستقراطية المعتمدة ﻟ «الرجال الشرسين». وفي بلاد أخرى، كان «السيد» نفسه يتنازل ويصبح أبًا للجيل المستقبَلي بأكمله.
تسببت هذه العادة الغريبة المتمثلة في الأبوة الاصطناعية من «الرجال الشرسين» والتي كانت تُنفذ دون توقف في جميع البلاد على مدار جيل وعلى نحو أقل انتظامًا على مدار فترة أطول كثيرًا، في تغيير تركيب السلالة الشبيهة بالبشر بأكملها. فمن أجل الحفاظ على القدرة التكيفية في بيئة دائمة التغير، لا بد للسلالة أن تحافظ على وجود تلك المسحة الخفيفة لكن المؤثِّرة من سمتي الإحساس والأصالة فيها، مهما بلغت التكلفة. وفي هذا العالم، أصبح هذا العامل الثمين الآن مخفَّفًا للغاية حتى إنه لم يعد مؤثرًا؛ ومن ثمَّ، فقد كانت مشكلات العالم المعقدة للغاية يجري التعامل معها على نحو سيئ على الدوام؛ لذا تدهورت الحضارة. ودخلت السلالة في مرحلة يُمكن أن نسميها بالهمجية الزائفة التحضر، والتي كانت في جوهرها أدنى من الحضارة البشرية وغير قادرة على التغيير. استمر هذا الوضع على مدار ملايين السنوات، إلى أن انتهت السلالة أخيرًا بفعل حيوان صغير شبيه بالفأر لم تستطع أن تُصمِّم أي وسيلة للحماية منه.
لن أتوقف كي أذكر المصائر الغريبة للكثير من العوالم الأخرى الشبيهة بعوالم البشر. وسوف أكتفي بذكر أنَّ بُرعُم التعافي قد نجا على نحوٍ مُتزعزِع في بعض هذه العوالم بالرغم من تدمير الحضارة إثر عدد متتابع من الحروب الوحشية. وفي أحدها، بدا أنَّ التوازُن المؤلم بين القديم والجديد يطول إلى الأبد. وفي عالم آخر، حيث كان العلم قد وصَل إلى مرحلة متقدِّمة للغاية لا تَتناسب مع أمان سلالة غير ناضج، فجَّر السكان كوكبهم وسلالتهم دون قصد. وفي العديد من هذه العوالم، اختُصِرت العملية الجدلية للتاريخ بفعل غزو سكان كوكب آخر للكوكب واحتلالهم له. هذه المصائب وغيرها مما سيَلِي ذكره في الوقت المناسب، قد بدَّدت الشعوب التي تسكن عوالم المجرَّة.
واختصارًا، سوف أذكر أنَّه في واحد أو اثنين من هذه العوالم الشبه البشرية، قد ظهرت خلال الأزمة العالمية المعهودة وبصورة طبيعية، سلالة بيولوجية جديدة وفائقة والتي استولَت على السلطة بالذكاء والتعاطف فحسب، وتولَّت مسئولية الكوكب، وأقنعت السكان الأصليِّين بالتوقُّف عن التكاثر وملأت هي الكوكب بأكمله بنوعها الراقي، وشكلت سلالة بشرية تتمتَّع بالعقلية المشتركة، وتقدمت سريعًا إلى خارج حدود استكشافنا وفهمنا المُثقَل بالأعباء. وقبل أن يَفشل تواصُلُنا معها، أدهشنا ما لاحظناه، وهو أنه حينما خلفت السلالة الجديدة السلالة القديمة واستولت على النشاط السياسي والاقتصادي الشاسع في ذلك العالم، أدركت على نحو يبعث على الضحك ما يَكمُن في هذا العيش العشوائي المحموم من عبث. وأمام أعيننا، راح النظام القديم يتخلَّى عن مكانه لنظام جديد أبسط، يعيش فيه مجموعة سكانية «أرستقراطية» صغيرة تخدمها الآلات؛ مجموعة قد تحررت من الكدح والرفاهية على حدٍّ سواء، وتبغي استكشاف الكون والعقل.
وقد حدث هذا التغيُّر إلى حياة أبسط في العديد من العوالم الأخرى، ولم يكن ذلك بفعل تدخل من نوع جديد، بل بانتصار العقلية الجديدة في معركتها ضد العقلية القديمة فحسب.
(٣) النوتيات
مع تقدُّم استكشافنا وجمعنا للمزيد والمزيد من المُساعِدين من العوالم العديدة التي دخلناها، ازدادت رؤيتنا الخيالية للأشكال الغريبة من الطبيعة. وبالرغم من أنَّ بحثنا كان لا يزال منحصرًا في السلالات التي تُعاني من الأزمة الروحانية المألوفة لنا، فعلى نحوٍ تدريجي، اكتسبنا القدرة على التواصل مع كائناتٍ عقولُها ذات نسيج يختلف كثيرًا عن نسيج العقل البشري. ولا بد لي الآن أن أحاول تقديم وصف للأنواع الأساسية لهذه العوالم الذكية «غير البشرية». في بعض الحالات، كان الاختلاف عن السلالات البشرية صارخًا من الناحية الجسدية، وملحوظًا للغاية من الناحية الذهنية، غير أنه لم يكن كبيرًا للغاية كما في الحالات التي سأصفُها في الفصل التالي.
عادةً ما تكون الهيئة الجسدية والذهنية للكائنات الواعية تعبيرًا عن طبيعة الكوكب التي تعيش عليه؛ ففي بعض الكواكب المائية الكبيرة على سبيل المثال، وجدنا أنَّ الحضارة قد قامت على يد كائنات بحرية. في هذه العوالم الضخمة، لم يكن لأي كائن من سكان اليابسة في ضخامة الإنسان أن يحيا ويزدهر؛ إذ كانت الجاذبية ستُثبتُهم إلى الأرض. أما في المياه، فلم يكن هناك مثل ذلك القيد على الضخامة. وقد كانت إحدى السمات المُميزة لهذه العوالم الكبيرة هي غياب الارتفاعات الكبيرة والانخفاضات من سطحها إلا فيما ندَرَ بسبب التأثير الساحق للجاذبية؛ ومن ثمَّ فقد كانت تُغطِّيها في معظم الأحوال محيطات سطحية تقطعها بين الحين والآخر أَرْخَبيلات من جزر صغيرة مُنخفِضة.
سوف أصف مثالًا واحدًا على هذا النوع من العوالم، وهو أكبر الكواكب التي تدور حول شمس عظيمة. وإذا كنتُ أتذكَّر على النحو الصحيح، فقد كان هذا النجم يقع بالقرب من قلب المجرة المكتظ، وقد وُلِد في مرحلة متأخِّرة من تاريخ المجرة، وأنتج عددًا من الكواكب حين غلَّفت الحمم المحترقة العديد من النجوم الأقدم بالفعل. وبسبب قوة الإشعاع الشمسي، أصبح (أو سيُصبح) المناخ على كواكبه القريبة عاصفًا. على أحد هذه الكواكب، اكتسبت أحد الكائنات الشبيهة بالرخويات التي تعيش في المياه الساحلية الضحلة القدرة على الانسياب في صدفتها الشبيهة بالقارب على سطح البحر؛ ومن ثمَّ تبقى على مقربة من النباتات المنجرفة التي تتغذَّى عليها. وبمرور العصور، تكيفت صدفتها بصورة أفضل مع الملاحة البحرية. ودُعمت عملية الانسياب بشكلٍ أوَّلي من الإبحار من خلال غشاء يمتد من ظهر الكائن. وبمرور الوقت، تكاثر هذا النوع من «النوتيات» إلى مجموعة من الأنواع ظلَّ بعضُها صغير الحجم، ووجد البعض الآخر في زيادة الحجم أمرًا مُواتيًا وتطور إلى سفن حية. وتَسيَّد أحد هذه الأنواع الذكية ذلك العالم العظيم.
كان الهيكل يتمثَّل في مركبة انسيابية الشكل تتَّخذ هيئة سفينة القرن التاسع عشر الشراعية السريعة في أوجها، ويفوق حجمها حجم أكبر الحيتان على كوكبنا. في المؤخِّرة، كان ثمة مِجسٌّ أو زعنفةٌ قد تطورت إلى دفة كانت تُستخدَم أيضًا في بعض الأحيان بمثابة مروحة دافعة كذيل السمكة. ولكن بالرغم من أنَّ هذه الأنواع كلها كانت تتمكَّن من الإبحار بنفسها دون مساعدة بدرجة معيَّنة، فقد كانت وسيلتها المُعتادة للتنقل لمسافات بعيدة هي نشر شراعها الكبير. كانت الأغشية البسيطة التي امتلكتْها أنواعُ الأسلاف قد أصبحت جهازًا من الأشرعة الشبيهة بالورق والصواري وقوائم الصواري العظمية، وقد كان يَخضع للتحكُّم العضَلي الإرادي. وقد زاد من درجة التشابه بين هذا النوع والسفينة، هو العينان اللتان تتَّجهان إلى الأسفل كلٌّ منهما على أحد جانبَي مقدم السفينة. وقد كان رأس الصاري الأساسي يحمل عينين هو أيضًا من أجل البحث في الأفق. كانت هذه الكائنات تمتلك في دماغها عضوًا يتمتع بالحساسية المغناطيسية يوفر لها وسيلة موثوقة للتوجيه. وعلى الطرف الأمامي من المركبة، كان يوجد مِجسَّان طويلان لتناول الأشياء والتحكم فيها، واللذان كانا ينثنيان باسترخاء على الجانبين في أثناء التنقل. أما عند الاستخدام، فقد كانا يُشكِّلان ذراعين نافعين للغاية. قد يبدو من الغريب أن يكون نوعٌ على هذه الشاكلة قد طور مثل هذا الذكاء الإنساني. بالرغم من ذلك، فقد اجتمع عددٌ من الحوادث في غير واحد من العوالم التي تَنتمي إلى هذا النوع لتؤدي إلى هذه النتيجة؛ فقد تسبَّب التغير من النظام النباتي في الغذاء إلى النظام الحيواني في زيادة دهاء الحيوانات بدرجة كبيرة سعيًا للحصول على الكائنات الغائصة الأكثر سرعة. وتطوَّرت حاسَّة السمع على نحوٍ مذهل مما مكَّنها من سماع حركة الأسماك التي تقع على مسافات كبيرة بآذانها التي تقع تحت الماء. وعلى طول جانبَي قاع السفينة، تطور خط من أعضاء التذوُّق كان يستجيب إلى تركيب المياه الدائم التغيُّر، ويُمكن الصياد من تتبع فريسته. أدَّت دقة السمع والتذوق مع النظام الغذائي المتنوع الغذاء والتنوع الكبير في السلوكيات والنزعة الاجتماعية القوية إلى تهيئة الظروف لتطور الذكاء.
أما الحديث، تلك الأداة الجوهرية للعقلية المتطورة، فقد اتخذ نمطين مختلفين في هذا العالم. في التواصل القصير المدى، كان ثمة انبعاثات غازية إيقاعية تحت الماء تصدر من فتحة في مؤخرة الكائن تُسمَع وتُحلل من خلال الآذان التي تقع تحت الماء. أما التواصل الطويل المدى، فقد كان يتم من خلال الإشارات البصرية التي كانت تصدر من مِجسٍّ سريع الحركة يقع في رأس الصاري.
تنظيم رحلات الصيد المشتركة، واختراع المصائد، وصنع الصنارات والشباك، وممارسة الزراعة في البحر وعلى الشواطئ على حد سواء، وبناء الورش والموانئ الحجرية، واستخدام الحرارة البركانية لصهر المعادن، والرياح لتسيير الطواحين، وشق القنوات في الجزر المنخفضة بحثًا عن المعادن والأراضي الخصبة، والاستكشاف التدريجي لعالم ضخم ورسم الخرائط له، واستغلال الإشعاع الشمسي في القوة الميكانيكية، كل هذه الإنجازات وغيرها الكثير قد كانت نتيجة للذكاء وفرصة لتطوره في الوقت نفسه.
لقد كانت تجربة غريبة تلك التي تمثلت في الدخول إلى عقل سفينة ذكية ورؤية الزَّبَد يُشكِّل حلقات تحت الأنف بينما تندفع المركبة عبر الأمواج، وتذوق التيارات المرة أو اللذيذة التي تتدفق بجانبي المرء، والشعور بضغط الهواء على الأشرعة بينما المرء يغالب النسيم، وسماع أصوات همهمة أسراب الأسماك البعيدة واندفاعها تحت الماء، وبالطبع سماع صوت تكوين قاع البحر من خلال الأصداء التي كان يبعث بها إلى الآذان تحت المائية. وقد كان من الغريب والمرعب أن يُلقى المرء في إعصار ويشعر بالصواري وهي تتعرض للضغط والأشرعة وهي تُهدَّد بالتمزق، بينما تضرب الأمواج الصغيرة الغاضبة لذلك الكوكب الضخم هيكل السفينة. وكان من الغريب أيضًا أن يشاهد المرء السفن العظيمة الحية الأخرى وهي تشق طريقها، وتجنح وتعدل أشرعتها ذات اللون الأصفر أو البني المائل إلى الحمرة وفق اختلافات الرياح، ومن الغريب جدًّا أن يدرك أنَّها ليست بأشياء من صنع البشر بل كائنات واعية تسعى وراء غاية.
في بعض الأحيان كنا نرى اثنتَين من السفن الحية تتقاتَلان، وتُمزق أشرعة إحداهما الأخرى بمِجَسَّات تشبه الثعابين، وتطعن كلٌّ منهما «ظَهر» الأخرى الليِّن بسكاكين معدنية، أو تُطلق إحداهما النار على الأخرى من مسافة باستخدام المدافع. وقد كان من المُربِك والمبهج أن يشعر المرء في الحضور الأنثوي لسفينة شراعية سريعة رشيقة التوق إلى الاتصال وأن تقوم معها في عرض البحر، بالانحراف والتمايل، والمطاردة والصيانة، والملامسة الرقيقة الخاطفة للمِجَسَّات، وهو ما كان يُشكِّل فعل الحب في هذه السلالة. وكان من الغريب أن يأتي المرء بمحاذاتها، ويجذبها بالقرب منه موثقًا إياها إلى جانبه، ويصعد على متنها بأسلوب جنسي. كان من المحبب أيضًا أن يرى المرء واحدة من السفن الأم يحيط بها صغارها. ويجب أن أذكر بهذه المناسبة أنَّ الصغار كانوا ينطلقون من أسطح السفينة الأم عند الميلاد على هيئة قوارب صغيرة، أحدها من جانب الميمنة والآخر من جانب الميسرة. وبدايةً من ذلك الوقت، يرضعان من جانبيها. عند اللعب، يسبح الصغار بجوار الأم كالأفراخ الصغيرة، أو ينشرون أشرعتهم غير الناضجة بعد. وفي حالات الطقس السيئ أو الأسفار الطويلة، تأخذ الأم الصغار على متنها. وفي وقت زيارتنا، كانت الأشرعة الطبيعية قد بدأت تُدعم بوحدة للطاقة ومروحة دافعة تُثبتان إلى مقدم السفينة. انتشرت المدن الكبيرة من أسطح السفن الصلبة على طول العديد من السواحل، وانتُشِلت من المناطق النائية. أبهجتنا الطرق المائية الواسعة التي حلت محل الشوارع في هذه المدن. وكانت تكتظ بالملاحة الشراعية والآلية، ويبدو الأطفال فيها كزوارق الصيد والقَطر بين الكبار الضخام.
هذا العالم هو الذي اكتشَفْنا فيه داءً اجتماعيًّا على أكثر الصور فداحةً، وقد يكون هو الأكثر انتشارًا بين أدواء العالم كلها، وهو انقسام السكان إلى طائفتين لا تفهم إحداهما الأخرى بسبب تأثير القوى الاقتصادية. لقد كان الاختلاف بين البالغين من الطائفتين عظيمًا للغاية حتى إنهما قد بدوا لنا في البداية نوعين مختلفَين، وقد ظننا أننا نشهد انتصار طفرة بيولوجية قوية وجديدة على سابقتها. غير أنَّ ذلك كان بعيدًا كل البُعد عن الحقيقة.
من الناحية الشكلية، كان الأسياد يختلفون اختلافًا كبيرًا عن العمال، مثلما تختلف ملكات النمل وذكوره عن الشغالات في نوعيهما. كان شكلهم الانسيابي أكثر أناقة ودقة. وكانوا يتمتعون بامتداد أكبر للشراع، وبسرعة أكبر في الطقس الجيد. أما في البحار الهائجة، فقد كانوا أقل قدرة على الإبحار نظرًا لهيئتهم الممشوقة، غير أنهم كانوا أكثر براعة وشجاعة في الملاحة. كانت مِجسَّاتهم التناولية أقل في الكتلة العضلية لكنها أقدر على القيام بتعديلات أدق، وكانت حواسهم أكثر رهافة. وبالرغم من أنَّ قلة منهم فقط هي التي ربما تكون قد تفوَّقت على أفضل العمال في التحمل والشجاعة، فإنَّ الغالبية العُظمى منهم كانت أقل جلَدًا من الناحيتين الجسدية والذهنية، وكانت عرضة لعدد من الأمراض التحللية التي لم تكن تُؤثِّر أبدًا في العمال، وهي أمراض تصيب الجهاز العصبي بصفة أساسية. وعلى الجانب الآخر، إذا أُصيب أيٌّ منهم بأحد الأمراض المعدية المتوطِّنة في العمال لكنها نادرًا ما كانت تؤدِّي إلى الوفاة فيهم، فقد كانت تقتله على نحو شبه مؤكَّد. وقد كانت هذه الطائفة أيضًا أكثر عرضة للاضطرابات الذهنية لا سيما المتعلِّقة منها بأهمية الذات العصابية. لقد كان تنظيم العالم بأكمله والتحكُّم فيه من مسئولياتهم. أما العمال، فبالرغم من أنهم كانوا يعانون من الأمراض والاضطرابات العصابية التي تولَّدت من بيئتهم المزدحمة، فقد كانوا في المجمل أكثر قوة على الجانب النفسي. غير أنهم كانوا يعانون من إحساس شديد الوطأة بالدونية. وبالرغم من أنهم كانوا يبدون الذكاء والمهارة في القيام بالحرف اليدوية والمهام الصغيرة النطاق جميعها، فقد كانوا عرضة للإصابة بشلل ذهني غريب حينما تُواجههم مهامُّ ذات نطاق أوسع.
لقد كانت العقلية التي تتمتَّع بها كلٌّ من الطائفتين تختلف عن الأخرى اختلافًا صارخًا. كان الأسياد أكثر نزوعًا إلى المبادرة الفردية ورَذائل الأثرة. أما العمال فقد كانوا أكثر إدمانًا للعقلية الجمعية ورذائل الانصياع إلى التأثير المنوِّم للقطيع. لقد كان الأسياد في المجمل أكثر حكمة وتبصرًا واستقلالًا واعتمادًا على الذات، بينما كان العمال أكثر اندفاعًا وأكثر استعدادًا للتضحية بأنفسهم في سبيل قضية اجتماعية، وغالبًا ما يكونون أكثر وعيًا بالأهداف الصائبة للنشاط الاجتماعي، كما أنهم كانوا يتصرفون تجاه الأفراد الذين يُعانون من الشدائد بسخاء منقطع النظير.
في وقت زيارتنا، كانت بعض الاكتشافات الحديثة تُلقي بالعالم إلى البلبلة. فحتى ذلك الوقت، كان الاعتقاد السائد أنَّ الطبيعة المختلفة لكلٍّ من الطائفتين ثابتة لا تقبل التغيير وفقًا للقانون الإلهي وقوانين الوراثة البيولوجية. بالرغم من ذلك، فقد ثبت الآن أنَّ الأمر ليس كذلك، وأنَّ السبب في الاختلافات الجسدية والذهنية بين الطائفتين يعود بالكامل إلى التنشئة. فمنذ زمن سحيق والطائفتان تنشآن بطريقة غريبة للغاية. بعد الفطام، يُصبح الأطفال الذين قد وُلِدوا من جانب الميسرة في الأم، بصرف النظر عن طائفة أبويهم، من طائفة الأسياد، أما الذين وُلِدوا من جانب الميمنة، فهم يتلقَّوْن التربية ليُصبحوا من طائفة العمال. ولأن طائفة الأسياد لا بد أن تكون بالطبع أصغر كثيرًا من طائفة العمال، فقد وفَّر هذا النظام عددًا غزيرًا للغاية من الأسياد المحتملين. وقد تم التغلُّب على هذه المشكلة على النحو التالي. كان الأطفال المولودون من جانب الميمنة لوالدين من العمال وهؤلاء الذين من جانب الميسرة لوالدَيْن من الأسياد، يتلقون التربية على يد والديهم، أما الأطفال المولودون من جانب الميسرة، والذين قد يكونون في المستقبل أبناءً أرستقراطيين لوالدين من العمال، فقد كان يجري التخلُّص منهم في معظم الأحوال من خلال طقس للتضحية بالأطفال. وقلة منهم فقط هي التي كانت يُستبدل بها أطفال الميمنة لوالدين من الأسياد.
مع تقدم الصناعة، وزيادة الحاجة إلى إمداداتٍ كبيرةٍ من العمالة الرخيصة، وانتشار الأفكار العلمية وضعف الدين، جاء الاكتشاف الصادم بأنَّ أطفال الميسرة من الطائفتين إذا تلقوا التنشئة على أنهم من العمال، فلن يكون بينهم أي اختلاف من الناحيتين الجسدية والذهنية عن العُمال. ومع حاجة أقطاب الصناعة إلى عدد كبير من العمالة الرخيصة، فقد أبدوا الآن سخطهم الأخلاقي بشأن طقس التضحية بالأطفال، مُحرِّضين على تربية الفائض من أطفال الميسرة ليُصبِحوا من العمال رحمةً بهم. وبعد فترة قصيرة، زعم عدد من العلماء المضلِّلين بأنهم قد توصَّلوا إلى الاكتشاف الأكثر تدميرًا والقائل بأنَّه عند تنشئة أطفال الميمنة على أنهم من الأسياد، فإنهم يُطوِّرون الهيئة الرشيقة والأشرعة الكبيرة والتكوين الدقيق الحساس، والعقلية الأرستقراطية التي تتمتَّع بها طائفة الأسياد. حاول الأسياد منع هذه الأنباء من الانتشار إلى العمال، غير أنَّ عددًا من أفراد طائفتهم الشاعريِّين قد أفشوها إلى الخارج، وبشروا بنظام مستحدث ومحرِّض من المساواة الاجتماعية.
خلال زيارتنا، كان العالم في حالة مريعة من الارتباك. في المُحيطات المتأخرة، ظل النظام القديم مسلَّمًا به، أما المناطق المتقدمة من الكوكب، فقد نشَب فيها كلها نضال مُستميت. في أحد الأرخبيلات الكبيرة، منحت إحدى الثورات الاجتماعية السُّلطة إلى العمال، وقام منها نظام ديكتاتوري مُتفانٍ بالرغم من قسوته، يُحاول تخطيط حياة المجتمع بحيث يُصبح الجيل التالي متجانسًا من نوع جديد يجمع بين الصفات المرغوبة في العمال والأسياد. وفي مكان آخر، تمكَّن الأسياد من إقناع العمال بأنَّ الأفكار الجديدة خاطئة ووضيعة وسوف تُؤدي حتمًا إلى الفقر والشقاء في العالم. وقد نجحوا بمهارة في استمالة الشك المبهم لكن المتزايد بأنَّ «العلم المادي» مضلل وسطحي، وأنَّ الحضارة الآلية تسحق السمات الرُّوحانية للسلالة. ونشرت الدعاية البارعة تصوُّرًا لدولة مشتركة تتكون من «جانبي الميمنة والميسرة» ويربط بينهما ديكتاتور شعبوي، والذي قيل إنه سينال السلطة «بالحق الإلهي وبإرادة الشعب».
لا يَنبغي بي أن أتوقَّف كي أحكي عن الصراع المُستميت الذي اندلَعَ بين هذَين النوعين من التنظيم الاجتماعي. وفي تلك الحملات العالَمية، تدفَّقت العديد من الموانئ وتيارات المحيطات حمراء من أثر المذابح. وتحت وطأة حرب تؤدِّي إلى الموت، تُحطِّم كل ما كان فاضلًا، وتحطمت كل مظاهر الإنسانية والرقة لدى الجانبَين بفعل الضرورة العسكرية. من جانب، انتصرت على الرغبة المتقدمة لبناء عالمٍ مُوحِّدٍ يعيش كل امرئ فيه حياة حرة ومُكتمِلة في خدمة المجتمع العالَمي؛ الرغبةُ المتَّقدة لعقاب الجواسيس والخونة والمُهرطِقين. وعلى الجانب الآخر، تمكن القادة الرجعيُّون من تحويل التطلُّع الغامض والمضلِّل مع الأسف، إلى حياة أرقى وأقل في السمت المادي إلى الانتقام من الثوريين.
وبسرعة كبيرة، انهار النسيج المادي للحضارة. ولم تتمكَّن روح هؤلاء «البشر السفن» من الانطلاق مجددًا في مغامَرة الروح العظيمة إلا بعد أن انحدرت السلالة إلى الهمجية دون البشرية، ثم تطهَّرت من التقاليد المخبولة للحضارة المريضة، مع حضور الثقافة الحقيقية. وبعد العديد من آلاف السنوات، تسامَت إلى ذلك المستوى الأرقى من الوجود والذي سأصفه فيما بعد بأفضل ما يُمكنني.