المزيد من العوالم
(١) سلالة تكافُلية
على بعض الكواكب الكبيرة، التي كان المناخ فيها أكثر حرارة من مناطِقِنا الاستوائية بدرجة كبيرة بسبب قُربها من شمس عنيفة، كنا نَجد في بعض الأحيان سلالة ذكية شبيهة بالأسماك. كان من المربك لنا أن نَكتشِف أنَّ عالَمًا مائيًّا يُمكن أن يرقى إلى المرتبة البشرية من الناحية الذهنية، وإلى هذه الدرجة من التعقيد في الروح والتي كنا نُصادفها الآن كثيرًا.
كانت المُحيطات الشديدة الضحالة التي تغمرها الشمس في هذه الكواكب الضخمة تُوفِّر تنوعًا هائلًا في المواطن الطبيعية، وثروة هائلة من الكائنات الحية. كانت المناطق النباتية الخضراء، التي يُمكن تصنيفها إلى مناطق استوائية وشبه استوائية ومعتدلة وقطبية، تتعرَّض للشمس في أرضيات المحيطات الساطعة. كانت هناك سهول وغابات تحت الماء. في بعض المناطق، كانت الأعشاب الضخمة تمتد من قاع البحر حتى الأمواج. وفي هذه الأدغال، كان ضوء الشمس الأزرق الساطع يتقلَّص إلى ظلام يكاد يكون تامًّا. كانت هناك بعض الكتل الضخمة التي تشبه الشِّعاب المَرْجانية منخربة بالممرَّات وتتدفَّق بجميع الأشكال من الكائنات الحية، ترفع قممها المستدقة وأبراجها المدببة إلى السطح. سكن المستوياتِ المتعدِّدةَ من المياه أنواعٌ لا تُحصى من الكائنات الشبيهة بالأسماك بجميع أحجامها بدايةً من سمك الإسبرط إلى الحيتان، بعضها ينساب على القاع، وبعضها يَجرؤ على القفز بين الحين والآخر إلى الهواء المتأجِّج. في أكثر المناطق عُمقًا وأشدها ظلمة، كانت هناك جماعاتٌ من الوحوش البحرية بعضها مُضيء وبعضها بلا عيون يقتات على الجثث التي لا يتوقَّف سقوطها من المستويات الأعلى. فوق عالَمها العميق، كانت تقبع عوالم أخرى تتَّسم بالمزيد من السطوع والألوان حيث كانت الجماعات السكانية الزاهية تَنعم في الشمس وتتجوَّل في الأنحاء وتصطاد بالتحرك السريع. كان الذكاء في هذه الكواكب عادةً ما يتمثَّل في كائن اجتماعي عادي، لا هو بالسمك ولا بالأخطبوط ولا هو بالحيوان القشري، بل هو مزيج من الأنواع الثلاثة، مزود بمِجسَّاتٍ للتناول وعيون حادة ودماغ حاذق. كان يصنع الأعشاش من الحشائش في أصداع الشعاب المرجانية، أو يَبني معاقل من الحجارة المرجانية. بمرور الوقت، كانت تظهر المصايد والأسلحة والأدوات والزراعة تحت المائية، وبدايات الفن البدائي، وطقوس الدين البدائي. ويتبع ذلك التقدُّم المتذبذب المعتاد للروح من الهمجية إلى الحضارة.
كان أحد هذه العوالم تحت المائية مُثيرًا للاهتمام على نحوٍ استثنائي. ففي المرحلة المبكرة من حياة مجرتنا، حين كان عدد قليل من النجوم فقط هو الذي تكثَّف من النوع الشمسي «العملاق» إلى النوع المعتاد، وحين لم يكن قد وُلد سوى عددٍ قليل من الكواكب، اقترب نجم مزدوَج ونجم مُفرَد في عنقود نَجمي مُكتَظ، اقترب بالفعل كلٌّ منهما من الآخر، وبلغت الشُّعَيرات المتَّقدة لكلٍّ منهما إلى الآخر وأنجبا نسلًا من الكواكب. ومن هذه العوالم، أنتج جرمٌ ضخم ومائي للغاية بمرور الوقت سلالةً سائدة لم تتمثَّل في نوع واحد بل شراكة تكافلية بين كائنين غريبَين للغاية. أحدهما كان يأتي من أصل شبيه بالأسماك، أما الآخر فقد كان يبدو في مظهره شبيهًا بالقشريات. وفي البِنية، كان يشبه سلطعونًا له أقدام ذات أرياش أو عنكبوت بحري. وعلى عكس القشريات في كوكبنا، لم يكن مغطًّى بدرعٍ هش، بل بجلدٍ ثَخين. عند البلوغ، تُصبح هذه الصديرية المَتينة صلبة بعض الشيء خلا منطقة المفاصل، أما في مرحلة الشباب، فتظل طيِّعة لتُناسب الدماغ الذي لا يزال في مرحلة النمو. كان هذا الكائن يعيش على السواحل والمياه الساحلية في العديد من جزر الكوكب. كان كِلا النوعين في الرتبة البشرية من الناحية الذهنية، غير أنَّ كلًّا منهما كان له طابعه الخاص وقدراته. في العصور البدائية، بلغ كل منهما بطريقته الخاصة في النصف الذي يسكنه من ذلك الكوكب المائي الكبير، ما يُمكن أن نسميه بالمرحلة الأخيرة في العقلية دون البشرية. كان النوعان قد التقيا في ذلك الوقت، وقد تقاتَلا قتالًا مستميتًا، وكانت أرض معركتهما هي المياه الضحلة الساحلية. إنَّ سلالة «القِشْريات» كانت برمائية بصورة أولية، ولم تكن تستطيع البقاء تحت الماء لفترة طويلة، في حين لم تكن سلالة «الأسماك» تستطيع الخروج منها. لم تَتنافس السلالتان إحداهما مع الأخرى على الحياة الاقتصادية تنافُسًا جديًّا؛ إذ كانت سلالة «الأسماك» تتغذَّى على النباتات بصفة أساسية، وكانت سلالة «القشريات» من آكلات اللحوم بصفة أساسية، غير أنَّ إحداهما لم تكن تطيق وجود الأخرى. كانت كلتاهما تبلغان من المرتبة البشرية ما يجعلهما تدركان أنَّهما منافستان أرستقراطيتان إحداهما للأخرى في عالمٍ دون بشري، غير أنهما لم يَبلُغا منها ما يجعلهما تدركان أنَّ طريق الحياة لكلٍّ منهما يكمن في التعاون مع الأخرى. كانت الكائنات الشبيهة بالأسماك والتي سأَدعوها باسم السمكيات أو السلالة السمكية تتمتَّع بالسرعة في الانتقال واتِّساع مداه. وكانت تتمتَّع أيضًا بما يجلبه الحجم الكبير من مزايا الأمن. أما «القِشْريَّات» الشبيهة بالسلطعون أو العنكبوت، والتي سأُطلق عليها اسم العنكبوتيات أو السلالة العنكبوتية، فقد كانت تتمتع بقدر أكبر من البراعة اليدوية، وكذلك القدرة على الوصول إلى اليابسة. كان التعاون بين السلالتَيْن سيُصبح مفيدًا للغاية لكلتيهما؛ إذ إنَّ أحد الأغذية الأساسية التي تقتات عليها العنكبوتيات كانت تتطفَّل على السمكيات.
بالرغم من إمكانية تبادل العون، فقد سَعَت كلٌّ من السُّلالَتَين إلى إبادة إحداهما الأخرى، وكادتا أن تنجحا. وبعد عصر من تبادل القتل الأعمى، راحت بعض الأصناف المحدَّدة من النوعَين والتي كانت أقل شراسةً وأكثر مرونة، تَكتشِف بالتدريج فائدة التآخي مع العدو.
كانت تلك هي بداية شراكة مميَّزة للغاية. وسرعان ما أخذت العنكبوتيات في الركوب على ظهور السمكيات السريعة؛ ومن ثمَّ فقد استطاعت الوصول إلى مساحة أكبر من أراضي الصيد.
ومع مرور العصور، صاغ النوعان أحدهما الآخر ليُشكِّلا اتحادًا يتَّسم بتكامُل جيد. راح الكائن العنكبوتي الصغير، والذي لم يكن حجمه يزيد عن قردِ الشمبانزي، يركب في تجويف مريح خلف جمجمة الكائن السمكي الكبير، مما يجعل ظهره انسيابيًّا مع الخطوط المحدَّدة لجسم الكائن الأكبر. كانت مِجَسَّات الكائن السمكي متخصِّصة في التناول الواسع النطاق، أما مِجسَّات الكائن العنكبوتي، فقد كانت للأعمال الدقيقة. تطوَّرت بينهما أيضًا علاقة من الاعتماد المتبادَل الكيميائي الحيوي؛ فمن خلال غشاء في جراب الكائن السمكي، كانت تحدث عملية من تبادُل الإفرازات الصماوية. وقد أتاحت هذه العملية للكائن العنكبوتي أن يصبح مائيًّا بالكامل؛ فقد كان يستطيع البقاء تحت الماء لأي فترة من الوقت ويَصل إلى أي عمق ما دام يحافظ على التواصُل المُتتابع مع مضيفه. إضافةً إلى ذلك، فقد حدثت أيضًا وسيلة تكيفية ذهنية مُذهِلة بين النوعين؛ أصبحت السمكيات في المجمل تميل إلى الانطوائية، وصارت العنكبوتيات تَميل إلى الانبساطية.
حتى فترة البلوغ، كان الصغار من النوعين كائنات فردية حرَّة، لكن مع تطور الجهاز التكافلي لديها، يبحث كل منها عن شريك من النوع المقابل. وكان الاتحاد الذي يتبع ذلك يستمر على مدى الحياة لا يقطعه سوى فترات التزاوج الجِنسي القصيرة. كان التكافل نفسه يُشكِّل نوعًا من النشاط الجنسي الطباقي، غير أنه كان ذهنيًّا خالصًا؛ إذ كان على كل فرد أن يبحث عن شريك من نوعه بالطبع من أجل إتمام عملية التزاوج والتكاثر. بالرغم من ذلك، فقد وجدنا أنه حتى الشراكة التكافُلية كانت تتكون دائمًا من ذكَرٍ من نوع وأنثى من النوع الآخر، وقد كان الذَّكَر، أيًّا كان نوعه، يتصرف بتفانٍ أبوي تجاه صغار شريكته التكافلية.
ليس لديَّ من المجال ما يكفي لوصف التبادُل الذهني الاستثنائي بين هذه الأزواج الغريبة. لا يُمكنني سوى القول إنه بالرغم من اختلاف النوعين في التركيب الحسِّي والطباع، وبالرغم من حدوث بعض النزاعات المأساوية في حالات استثنائية، فقد كانت الشراكة العادية أكثر حميمية من الزواج البشري وأكثر تمديدًا للفرد من أي صداقة بين اثنين يَنتميان إلى عِرقين بشريَّين مُختلفَين. في مراحل معينة من نمو الحضارة، حاولت بعض العقول الخبيثة أن تُثيرَ نزاعًا واسع الانتشار بين النوعين ولاقت نجاحًا مؤقتًا، غير أنَّ المشاكل نادرًا ما كانت تتعمَّق لكي تصل إلى ما وصلت إليه «حرب الجنسين» لدينا؛ فقد كان كلُّ نوعٍ ضروريًّا للغاية للنوع الآخر. لقد ساهم كلٌّ منهما في ثقافة عالَمهما بقدر متساوٍ، وإن لم يكن متساويًا في جميع الأوقات. في العمل الإبداعي من جميع الأنواع، كان أحد الشريكين يقدم القدر الأكبر من الابتكار، بينما يقدم الآخر القدر الأكبر من النقد والرقابة. ونادرًا ما يكون أحد الشريكين سلبيًّا تمامًا في أي عمل من الأعمال. الكتب، أو المخطوطات على وجه الدقة، والتي كانت تُصنع من لُب الأعشاب البحرية، تحمل توقيع الأزواج في جميع الأحوال تقريبًا. وبصفة عامة، كان الشركاء من العنكبوتيات يتفوقون في المهارات اليدوية والعلوم التجريبية والفنون البلاستيكية والتنظيم الاجتماعي العملي. أما الشركاء من السمكيات، فقد كانوا يتفوقون في الأعمال النظرية والفنون الأدبية وموسيقى ذلك العالم تحت المائي والتي كانت متطورة على نحو مدهش وفي النوع الأكثر إلغازًا من الدِّين. بالرغم من ذلك، فلا ينبغي الأخذ بصحة هذا التعميم على نحو صارم.
بدا أنَّ هذه العلاقة التكافلية قد منحت السلالة المزدوَجة درجةً من المرونة الذهنية هي أعلى كثيرًا مما كنا نتمتع به، وقابلية أسرع للرفقة. لقد مرَّت بمرحلة الحروب بين القبائل بسرعة، والتي كانت الأسراب المتجولة من الأزواج التكافليين خلالها يُداهم كلٌّ منها الآخر كجَماعات من فرسان العالم تحت المائي؛ إذ كانت العنكبوتيات، التي تَركب على ظهور أزواجها من السمكيات، تهاجم العدو بالسيوف والرماح المصنوعة من العظام، بينما تُصارع شريكاتها بالمجسَّات القوية. غير أنَّ مرحلة الحرب بين القبائل كانت وجيزةً للغاية. وحين تُحقِّق نمطًا مستقرًّا من الحياة مع الزراعة تحت المائية والمدن المبنية من الشعاب المرجانية، كان الصراع بين المدن هو الاستثناء لا القاعِدة. وبمُساعدة قدرتها الكبيرة على التنقل وسهولة التواصل بلا شك، سرعان ما تمكَّنت السلالة المزدوجة من بناء اتحاد عالَمي غير مسلَّح من المدن. ومما أدهشنا أيضًا أننا قد عرفنا أنه في أَوجِ الحضارة السابقة على الحضارة الآلية في هذا الكوكب، حين كان الانقسام إلى أسياد وعبيد اقتصاديين سيصبح خطيرًا في عوالِمنا، كانت الرُّوح التعاونية للمدينة تتغلَّب على جميع المساعي الفردية. وسرعان ما أصبح هذا العالم نسيجًا مُتكافلًا ومستقلًّا من البلديات المَحلية.
في ذلك الوقت، بدا أنَّ الصراع الاجتماعي قد اختفى إلى الأبد، غير أنَّ الأزمة الأكثر خطورةً على السلالة لم تكن قد أتَت بعد.
لم تقدم البيئة تحت المائية فرصًا كبيرة للسلالة التكافُلية للتقدُّم؛ فجميع مصادر الثروة قد استُثمِرت ونُظمت. وقد حافظوا أيضًا على عدد السكان عند الحد المثالي الذي يَضمن الرخاء في العالم. وكان النظام الاجتماعي مُرضيًا لجميع الطبقات، وبدا ثابتًا على الأرجح. وكانت الحياة الفردية مكتملة ومتنوعة. والثقافة التي تأسست على تقليد عظيم، قد أصبحت الآن معنية بالكامل بالاستكشاف المفصَّل لمجالات التفكير العظيمة التي مهَّد الأسلاف المبجَّلون السبيل لها قبل عصور طويلة، وقيل إنَّ ذلك كان بإلهام مباشر من الإله التكافُلي. كان أصدقاؤنا في هذا العالم تحت المائي، وهم مضيفونا الذهنيون، يَنظُرون من عصرهم المُضطرِب إلى هذا العهد بحنين في بعض الأحيان، وبرعب في مُعظمها؛ إذ بدا ذلك لهم عند تأمل الماضي أنه يُوضِّح العلامات الخافتة الأولى على تدهور جذري. لقد نجحت السلالة في التكيُّف مع بيئتها الثابتة على نحوٍ مثالي؛ حتى إنَّ الذكاء والفطنة ما عادا ثمينين وكان من الممكن أن يبدآ في الخفوت سريعًا. بالرغم من ذلك، فقد بدا في الوقت الحاضر أنَّ القدر قد قضى بشيء آخر.
في العالم تحت المائي، كان احتمال اقتناء القوة الميكانيكية بعيدًا. بالرغم من ذلك، فسوف يُذكر أنَّ السلالة العنكبوتية كانت تَستطيع العيش خارج الماء. ففي العصور السابقة على التكافُل، كان أسلافهم يَخرجون بين الحين والآخر إلى الجزر من أجل الغزَل والأبوة وطلب الفرائس. ومنذ تلك العصور، تضاءلت قدرتهم على تنفُّس الهواء لكنها لم تَختفِ تمامًا؛ فقد ظلَّ أفراد السلالة العنكبوتية يخرجون من أجل التزاوج الجِنسي، ومن أجل بعض التمرينات الرياضية الشعائرية. وفي ذلك السياق الأخير، توصَّلُوا إلى الاكتشاف العظيم الذي غير مسار التاريخ؛ ففي إحدى المسابقات، أدَّى احتكاك بعض الأسلحة الحَجرية التي اصطدمت بعضها ببعض إلى إصدار شرر ونيران بين الحشائش التي سفَعتْها الشمس.
وفي تتابُعٍ سريعٍ للغاية، توصلوا إلى صهر المعادن، فالمحرِّك البخاري، فالتيار الكهربي. حصلوا على الطاقة في البداية من خلال احتراق نوعٍ من الخث المتكوِّن على السواحل من خلال النباتات البحرية المكتظَّة، ثم حصلوا عليها من الرياح العنيفة والدائمة بعد ذلك، ثمَّ من المصائد الشمسية الكيميائية للضوء، والتي كانت تمتصُّ الإشعاع الشمسي الغزير. وقد كانت هذه الاختراعات من صنع السلالة العنكبوتية بالطبع. وبالرغم من أنَّ السلالة السمكية قد ظلت تُؤدِّي دورًا عظيمًا في مَنْهَجَة المعرفة، فقد حُرِمت من المهام العملية العظيمة في العلوم التجريبية والاختراعات الآلية التي كانت تجري فوق البحار. وبعد وقتٍ قصير، كانت السلالة العنكبوتية تُوصِّل كابلات كهربية من محطات الطاقة الموجودة على الجزر إلى المدن الموجودة تحت المياه. استطاعت السلالة السمكية أن تُشارك في هذا العمل على الأقل، غير أنَّ عملها كان ثانويًّا بالضرورة؛ إذ لم يكن شركاؤهم من السلالة العنكبوتية يتفوَّقون عليهم في الهندسة الكهربية فحسب، بل في قدراتهم العملية الأصلية أيضًا.
على مدار قرنَين من الزمان أو أكثر، استمرَّ النوعان في التعاون، وإن حمل ذلك التعاون توتُّرًا مُتزايدًا. فالإضاءة الصناعية والنقل الآلي للسِّلع على أرض المُحيط، والتصنيع الواسع النطاق، كل ذلك قد أنتج زيادة هائلة في مَرافق الحياة في المدن تحت المائية. واكتظَّت الجزر بالمباني المخصَّصة للعلم والصناعة، وتقدَّمت علوم الفيزياء والكيمياء والأحياء تقدمًا كبيرًا. وبدأ علماء الفلك في وضع خريطة للمجرَّة، واكتشفوا كوكبًا مُجاورًا يوفر فرصًا رائعة لاستقرار السلالة العنكبوتية فيه، والتي كانت تأمل في أن تتمكَّن من التكيُّف مع المناخ الغريب دون صعوبة كبيرة، وأن تنفصل عن شركائها التكافليين. أدَّت المحاولات الأولى من الرحلات الصاروخية إلى مزيج من المآسي والنجاحات. وطالبت إدارة الأنشطة الخارجة عن نطاق البحار بزيادة كبيرة للغاية في عدد أفراد السلالة العنكبوتية.
نشب النزاع بين النوعين لا محالة، وفي عقل كل فرد من النوعين أيضًا. وقد كان في أوج هذا النزاع، وفي الأزمة الرُّوحانية التي استطعنا بسببها الوصول إلى هذه العقول في مرحلتنا الابتدائية، أن دخلنا هذا العالم لأول مرة. لم تكن السلالة السمكية قد استسلمت بعدُ بيولوجيًّا إلى موقعها الأدنى، غير أنها كانت تُبدي من الناحية النفسية بالفعل علامات على التردِّي الذهني العميق. لقد هاجمها الإحباط وفتور العزيمة الشديدان، واللذان كثيرًا ما يُقوِّضان سلالاتنا البدائية حين تجد أنها تجاهد في فيضان الحضارة الأوروبية. بالرغم من ذلك، ولأنَّ العلاقة بين السلالتين في النظام التكافلي كانت حميمية للغاية، أكثر بكثير من أقوى علاقة حميمية بين أي بشريَّين على الإطلاق، فقد تأثرت بشدة السلالة العنكبوتية بمحنة السلالة السمكية. أما في عقول أفراد السلالة السمكية، فكان انتصار شركائهم لفترة طويلة مصدرًا لمشاعر مُختلطة من الانزعاج والابتهاج. لقد كان أفراد كلا النوعين ممزَّقِين بين دوافع مُتضارِبة؛ فبينما كان يتوق كلُّ كائن عنكبوتي إلى أن يشارك في الحياة الجديدة المليئة بالمغامرة، كان يتوق أيضًا، بدافعٍ من العاطفة المحضة والتشابُك التكافلي، إلى مساعدة قرينه السمكي في أن ينال حظًّا مساويًا من تلك الحياة. علاوةً على ذلك، فقد كان جميع أفراد السلالة العنكبوتية مدركين لاعتمادهم الخفي على أقرانهم، وقد كان اعتمادهم هذا فيسيولوجيًّا ونفسيًّا معًا. فقد كان أفراد السلالة السمكية هم الذين يُساهمون في التكافل الذهني بالجزء الأكبر من القدرة على معرفة الذات والبصيرة المشتركة، والتأمل الذي كان ضروريًّا للغاية للحفاظ على التفاعُل لطيفًا وعاقلًا. إنَّ ذلك قد أصبح جليًّا للغاية من حقيقة أنَّ صراعًا داخليًّا قد نشب بالفعل بين أفراد السلالة العنكبوتية، وراحت كل جزيرة تَنزع إلى التنافُس مع الأخرى، بينما تَتنافس إحدى المؤسسات الصناعية الكبيرة مع الأخرى.
لم أستطع أن أغفل عن ملاحظة أنه لو كان هذا الانقسام العميق في المصالح قد حدث على كوكبي، بين جنسينا مثلًا، لكان الجنس صاحب الأفضلية قد سحَقَ الآخر إلى الاستعباد بكل عزمٍ وتصميم. وقد كاد أن يتحقَّق هذا «الانتصار» من جانب السلالة العنكبوتية بالفِعل. تفكَّكت المزيد والمزيد من العلاقات، وراح كل فردٍ يُحاول إمداد نظامه من خلال العقاقير بالمواد الكيميائية التي يوفرها النظام التكافُلي في المعتاد. بالرغم من ذلك، فلم يكن هناك من بديلٍ للاعتمادية الذهنية، وتعرَّضَ الشركاء المُنفصِلون إلى اضطرابات ذهنية خطيرة سواء أكانت خفية أم ظاهرة. ومع ذلك، فقد نما عدد كبير من السكان تمكَّنوا من العيش بدون الاتصال التكافُلي إلى حدٍّ ما. والآن اتخذ الصراع مُنحنًى عنيفًا إذ هاجم المتشددون من النوعين بعضهم بعضًا، وأثارُوا المَتاعب بين المُعتدلين، ثم سادت من بعد ذلك فترة من الحروب البائسة والمشوَّشة. في كلا الجانبَين، كانت هناك أقلية صغيرة مكروهة تدعو إلى «التكافل الحديث» والذي يكون فيه كلا النوعَين قادرًا على المساهمة في الحياة المشتركة حتى في ظل الحضارة الآلية. وقد استُشهِد العديد من هؤلاء المُصلحين في سبيل اعتقادهم.
كان النصر على المدى الطويل سيكون حليف السلالة العنكبوتية؛ إذ إنها كانت تتحكَّم في مصادر القوة. بالرغم من ذلك فسرعان ما بدا أنَّ مُحاوَلة فصل الرابطة التكافُلية ليست بالأمر الناجح كما بدا من قبل. فحتى في وقتِ الحرب، لم يَستطع القادة منْع التآخي المنتشر بين القوات المتخاصمة. كان أعضاء الشراكات التي انفرط عِقدها يلتقون خلسة لينتزعوا بضع ساعات أو لحظات من رفقة بعضهم لبعض. وكان الأعضاء الأرامل أو الذين قد هجرهم رفاقهم من كلا النوعين يغامرون بخوف لكن بشغف للدخول إلى مُعسكَرات العدو بحثًا عن أقران جدد. وكانت جماعات بأكملها تستسلم للغرض نفسه. وقد عانَتِ السلالة العنكبوتية من الأمراض العصبية أكثر مما عانت من أسلحة العدو. وعلاوة على ذلك، كانت الحروب الأهلية والثورات الاجتماعية على الجُزر قد جعلت من تصنيع الذخائر أمرًا شبه مستحيل.
الفرقة الأكثر حزمًا من السلالة العنكبوتية قد حاولت الآن إنهاء الصراع بتسميم المحيط؛ فتسممت الجزر بدورها بملايين الجثث المتحلِّلة التي ارتفعت إلى سطح البحر وارتمت على الشواطئ. السم والطاعون وقبلهما الأمراض العصبية، قد أوقفت الحرب، ودمرت الحضارة، وكادت تفني كلا النوعين. ناطِحات السحاب المهجورة التي اكتظَّت بها الجزر قد بدأت في الانهيار إلى أكوامٍ من الحطام. أما المدن تحت المائية، فقد غزتها الأدغال تحت المائية وكذلك أنواع متعدِّدة من كائنات شبيهة بالقروش تنتمي إلى السلالة السمكية والتي كانت ما تزال في المرحلة دون البشرية. وبدأ نسيج المعرفة الرقيق يتحلَّل إلى شذرات من الخرافة.
والآن قد حانت الفرصة أخيرًا للدعاة إلى التكافل العصري. كانوا قد تمكَّنوا بصعوبة من الحفاظ على وجودٍ سرِّي لهم وعلى شراكاتهم الفردية في المناطق البعيدة غير المأهولة من الكوكب. والآن قد خرَجُوا بشجاعة ليَنشُروا إنجيلهم بين التعساء الذين تبقَّوْا من سكان العالم. انتشر التزاوج وإعادة التزاوج بين الأنواع انتشارًا كاسحًا. وأبقت الزراعة البدائية تحت المائية والصيد على حياة الشعوب المتشتِّتة بينما كان يجري إخلاء القليل من المدن المرجانية وإعادة بنائها، وهكذا قد جرى تجديد الأدوات اللازمة لإقامة حضارة بسيطة لكن واعدة. كانت تلك حضارة مؤقَّتة دون قوة آلية، غير أنها كانت تعد نفسها بمغامرات عظيمة في «العالم الأعلى» فور أن تكون قد أرست المبادئ الأساسية للتكافل المعدَّل.
بالنسبة إلينا، فقد بدا أنَّ مصير ذلك المشروع هو الفشل؛ إذ كان من الجلي للغاية أنَّ المستقبل للكائن الأرضي لا البحري، لكننا كنا مُخطئين. لن أخوض في تفاصيل النضال البطولي الذي تمكنت السلالة من خلاله من إعادة صياغة طبيعتها التكافلية كي تلائم الحياة العملية التي كانت تكمن أمامها. كانت المرحلة الأولى هي إصلاح محطات الطاقة الموجودة على الجزر، والتنظيم المتقن لمجتمع مائي خالص مزود بالطاقة، لكن ما كان لعملية إعادة البناء هذه أن تجدي نفعًا دون دراسة متأنية للعلاقات الجسدية والذهنية بين النوعين. كان لا بدَّ من تعزيز التكافل حتى لا ينشأ هذا الصراع بين النوعين في المستقبل على الإطلاق. ومن خلال المعالجة الكيميائية في مرحلة الطفولة المبكرة، أصبح كلٌّ من النوعَين أكثر اعتمادًا على الآخر، وأصبحت الشراكة بينَهما أكثر متانة. ومن خلال طقس نفسي محدد شبيه بالتنويم المغناطيسي المتبادل، يصبح الشركاء حديثو الاتحاد بعده في حالة تبادل ذهني سرمدية. وهذا الاتحاد بين النوعين، والذي كان كل فرد يعرفه في تجربة حميمية مباشرة، قد أصبح بمرور الوقت هو التجربة الأساسية في جميع مظاهر الثقافة والدين. فإله التكافل الذي كان يظهر في جميع الأساطير البدائية، قد نُصِّب من جديد بصفته رمزًا للطابع المزدوج للكون، وقد قيل إنَّ هذه الازدواجية تتألَّف من الحكمة والإبداع متَّحدَين في روح الحب الإلهية. وقد تأكد أنَّ الهدف المنطقي الوحيد للحياة الاجتماعية هو خلق عالمٍ من الشخصيات اليقظة الحساسة الذكية التي يتفهَّم بعضُها البعض الآخر، وتتَّحد معًا وراء الغاية المشتركة المتمثِّلة في استكشاف الكون وتنمية الإمكانات المتعدِّدة للروح البشرية. وقد كان الصغار يُساقُون إلى اكتشاف هذا الهدف بأنفسهم على نحو غير محسوس.
وعلى نحو تدريجي وحذِر للغاية، أُعيدَت جميع العمليات الصناعية والأبحاث العِلمية التي كانت تنتمي إلى عصر سابق، غير أنَّ ذلك قد حدث مع اختلاف عما سبق. لقد خضعت الصناعة للهدف الاجتماعي الواعي. أما العلم الذي كان مسخَّرًا للصناعة من قبل، فقد أصبح رفيقًا حرًّا للحكمة.
ومرةً أخرى، تكدَّست الجزر بالمباني والعمال المتحمِّسين من السلالة العنكبوتية، لكنَّ جميع المناطق المائية الضحلة الساحلية قد امتلأت بالكثير من المنازل السكنية حيث كان الشركاء التكافليون يستريحون ويُجدِّدُون نشاطهم مع أقرانهم. وفي أعماق المحيطات، حُوِّلت المدن القديمة إلى مدارس وجامعات ومتاحف ومعابد وقصور للفن وللاستمتاع. هناك، كان الصغار من النوعين يكبرون معًا. وهناك كان البالغون من النوعين يلتقون باستمرار من أجل الترويح والتحفيز. وهناك أيضًا، بينما كان أفراد السلالة العنكبوتية منشغلين على الجزر، كان أفراد السلالة السمكية يقومون بعملهم في التعليم وإعادة تشكيل ثقافة العالم النظرية بأكملها؛ إذ أصبح من الجلي الآن أنَّ طباعهم ومواهبهم في هذا المجال يمكن أن تساهم مساهمةً ضرورية في الحياة المشتركة. وبهذا، كانت الأعمال المتعلقة بالأدب والفلسفة والتعليم غير العِلمي تُجرى بصفة أساسية في المحيط، بينما كانت الصناعة والبحث العلمي والفنون البلاستيكية هي الأكثر انتشارًا على الجزر.
بالرغم من هذا الاتحاد الوثيق بين كل زوجين، كان من المحتمل أن يؤدي هذا التقسيم الغريب للعمل بمرور الوقت إلى تجديد الصراع لولا التوصُّل إلى اكتشافَيْن جديدَيْن. كان الأول هو تطوير التخاطر؛ فبعد عدة قرون من «عصر الحرب»، توصلوا إلى اكتشاف إمكانية تحقيق اتصال تخاطري كامل بين فردَي كل زوج من الأزواج. وبمرور الوقت، توسَّع هذا الاتصال ليشمل السلالة المزدوَجة بأكملها. كانت أولى نتائج هذا التغيير هي زيادة كبيرة في تسهيل التواصُل بين الأفراد في جميع أنحاء العالم؛ ومن ثمَّ زيادة كبيرة في الفهم المتبادَل والاتحاد على الغاية الاجتماعية، لكن قبل فقدنا للتواصُل مع هذه السلالة السريعة التقدُّم، وجدنا دليلًا على وجود نتيجة أعمق كثيرًا وأبعد أثرًا للتخاطُر العالَمي؛ فقد علمنا أنه في بعض الأحيان، كان الاتِّصال التخاطُري بين السلالة بأكملها يُؤدِّي إلى حدوث ما يشبه يقظة مُتناثِرة لعقل عالَمي مُشترَك يُشارك فيه جميع الأفراد.
أما الاكتشاف العظيم الثاني الذي توصَّلَت إليه السلالة، فقد كان من نتائج الأبحاث المتعلِّقة بالوراثة. لم يَتمكَّن أفراد السلالة العنكبوتية الذين كان عليهم أن يظلُّوا قادِرين على العمل على اليابسة وعلى كوكبٍ ضخمٍ من تحقيق أيِّ تحسُّن كبير في وزن الدماغ وتعقيدِه، أما أفراد السلالة السمكية الذين كانوا يتَّسمُون بالضخامة بالفعل وكانت المياه ترفعهم، فلم يخضعوا لهذا القيد. وبعد فترة طويلة من التجارب التي كانت تبوء بالفشل الذريع في معظم الأحيان، جرى إنتاج سلالة «السمكيات الفائقة». وبمرور الوقت، أصبحت السلالة السمكية بأكملها تتألف من هذه الكائنات. وفي هذه الأثناء، فإنَّ أفراد السلالة العنكبوتية الذين كانوا الآن يَستكشفُون كواكب أخرى في النظام الشمسي خاصتهم ويَستعمرونها، لم يتطوَّروا وراثيًّا في جانب التعقيد العام للدماغ، بل تطورت لديهم تلك المراكز المحددة في الدماغ التي كانت تدعم الاتصال التخاطري؛ ومن ثمَّ بالرغم من التركيب الدماغي الأبسط الخاص بهم، تمكَّنُوا من الحفاظ على تواصُل تخاطُري كامل حتى مع أقرانهم كبيرِي الدماغ الذين يعيشون بعيدًا للغاية عنهم في محيطات كوكبهم الأم. والآن، قد شكَّلَت الأدمغة البسيطة والمعقَّدة نظامًا واحدًا، تكون فيه كل وحدة مهما كانت بساطة مساهمتها، حساسة للنظام الكلي.
وقد كانت تلك المرحلة، التي استُبدلت فيها السلالة السمكية الأصلية وحلت محلها السلالة السمكية الفائقة، هي التي فقدنا فيها الاتصال بهذا العالم في النهاية. كانت خبرة السلالة المزدوجة قد جاوزت تمامًا قدرتنا على استيعابها. وفي مرحلة متأخرة للغاية من رحلتنا، اتصلنا بهم ثانية على مستوى أعلى من الوجود. كانوا قد اشتركوا في ذلك الوقت بالفعل في ذلك المشروع الضخم المشترك، والذي كان يضطلع به، مثلما سأذكر لاحقًا، «اتحاد عوالم المجرَّة». في هذا الوقت، كانت السلالة التكافلية تتألف من مجموعة ضخمة من المغامرين العنكبوتيين المنتشرين في العديد من الكواكب، ومجموعة يبلغ عددها قرابة الخمسين ألف مليون من سلالة السمكيات الفائقة والذين يعيشون حياة من المباهج المائية والنشاط الذهني المكثف في محيط عالمهم الأصلي العظيم. وحتى في هذه المرحلة، كان لا بد من الحفاظ على التواصُل الجسدي بين الشركاء التكافليِّين، وإن كان ذلك على فترات زمنية طويلة. وكان هناك تدفُّق مستمر من السفن الفضائية بين المستعمرات والعالم الأصلي. ودعَمَ أفرادَ السلالة السمكية مع ذلك الجمع الغفير من زملائهم على عدد من الكواكب؛ وجودُ عقل للسلالة. وبالرغم من أنَّ السلالة التكافُلية بأكملها قد غزَلت خيوط الخبرة المشتركة، فقد كانت السلالة السمكية وحدها هي التي كانت تَحيك هذه الخيوط في نسيج واحد في موطنهم الأولي في المحيط، ثم يتشارك فيها بعد ذلك نَوعا السلالة كلاهما.
(٢) كائنات مركبة
أحيانًا في مسار مغامرتنا، كنا نأتي على عوالم تسكنُها كائنات ذكية، كانت شخصيتها المطورة تعبيرًا عن مجموعة من الكائنات الحية لا عن كائن فردي فحسب. وفي معظم الأحيان، يكون هذا الوضع قد نشأ عن ضرورة الجمع بين الذكاء وخفة الجسد الفردي. إذا كان هناك كوكب كبير قريب بعض الشيء من شمسِه أو يُؤرجِحه قمر كبير للغاية، فسوف تجتاحه تياراتُ المدِّ والجَزر الضخمة من المحيط. وسوف تخضع مساحات شاسعة من سطحه إلى الغرق والتعرِّي بصفة دورية. في هذا العالم، يكون الطيران أمرًا مرغوبًا للغاية، لكن نظرًا لقوة الجاذبية، فلن يتمكَّن من الطيران سوى كائن صغير؛ أي أنَّ كتلة صغيرة نسبيًّا من الجزيئات هي التي ستتمكَّن من الطيران؛ ومن ثمَّ فلم يكن من الممكن حمل دماغ كبير بالدرجة التي تكفي لإجراء الأنشطة «البشرية» المعقَّدة.
في تلك العوالم، كان الأساس العضوي للذكاء في معظم الأحيان هو سربٌ من الكائنات الطائرة التي لا يزيد حجمها عن حجم العصافير. وقد كان عقلٌ فردي واحد فقط من المرتبة البشرية يتملك مجموعة من أجساد الأفراد. لقد كان جسم هذا العقل مُتعدِّدًا، أما العقل نفسه فقد كان على تلك الدرجة نفسها من التماسك التي يتمتع بها العقل البشري. ومثلما كانت أسراب طيور الدريجة والطيطوي تتدفق وتتدحرَج وتحلق وتختلج على مصبات الأنهار في كوكبنا، كذلك كانت تفعل تلك الغيوم المتحركة من الكائنات الطائرة فوق المناطق المزروعة الكبيرة التي غمرها المد في هذه العوالم، وكل غيمة منها تُمثِّل مركزًا واحدًا للوعي. وبعد وقت قصير، مثلما هي الحال مع طيورنا الخواضة المجنَّحة، تستقر تلك الطيور الصغيرة، ويتضاءل حجم الغيمة الكبير إلى محضِ غِشاء فوق الأرض، كرواسب على طول هامش المد المُنحسِر.
كانت الحياة في هذه العوالم تُقسَّم على إيقاع تيارات المد والجزر. فخلال التيارات الليلية، كانت غيوم الطيور تنام جميعها على الأمواج. وخلال التيارات النهارية، كانت تَنغمِس في الرياضات الهوائية والممارسات الدينية. بالرغم من ذلك، في المرتَين اللَّتَيْن تجفُّ فيهما الأرض خلال اليوم، كانت تزرع الطين المنقوع، أو تُباشر جميع عمليات الصناعة والثقافة في مدنها المصنوعة من الخلايا الخرسانية. لقد كان من المُثير لنا أن نرى كيف أنهم كانوا يتمكَّنون ببراعة من إبعاد جميع أدوات الحضارة عن تلف المياه قبل عودة تيارات المد والجزر.
اعتقدنا في البداية أنَّ الاتحاد العقلي بين هذه الكائنات الطائرة الصغيرة ذو طبيعة تخاطُرية، غير أنه لم يكن كذلك في حقيقة الأمر. لقد كان يقوم على أساس اتحادٍ في مجال كهرومغناطيسي معقَّد؛ في واقع الأمر على موجات «راديو» تتخلَّل المجموعة بأكملها. لقد كانت كل موجة من أمواج الراديو التي يرسلها كل كائن فردي أو يستقبلها؛ تماثل التيار العصبي الكيميائي الذي يحافظ على اتحاد الجهاز العصبي البشري. كان كلُّ دماغ يدوي بالإيقاعات الأثيرية لبيئته، وكان كلٌّ منها يُساهم بطابعه المميز في النمط المعقد للمجموع الكُلي. وما دام السرب في نطاق لا يَتجاوَز ميلًا مكعبًا، ظلَّ الأفراد في اتحادٍ ذِهني، يُؤدِّي كلٌّ منهم دورَه بصفتِه مركزًا متخصِّصًا في «الدماغ» المُشترك. وإذا حدث وابتعد بعض الأفراد عن السرب، مثلما كان يحدث أحيانًا في الطقس العاصف، فقدوا تواصُلَهم العَقلي وصاروا عقولًا متفرقة ضعيفة للغاية، بل كانوا يَنحدرُون في ذلك الوقت إلى حيوانات غريزية بسيطة للغاية أو إلى نظام من الاستجابات اللاإرادية الموجَّه بالكامل من أجل مهمَّة استعادة التواصُل مع السرب.
قد يكون من السهل تخيُّل أنَّ الحياة العقلية لهذه الكائنات المركبة تَختلِف للغاية عن كل ما صادفناه حتى الآن. لقد كانت مُختلِفة ومُتماثلة في الوقت ذاته؛ فمثل البشر، كانت غيمة الطيور قادرة على الغضب والخوف والجوع والرغبة الجنسية والحب الشخصي وجميع العواطف التي يشعر بها القطيع، غير أنَّ وسط هذه الخبرات كان مختلفًا عن أي شيء عرفناه حتى إننا وجدنا صعوبة كبيرة في تمييزها.
كان الجنس على سبيل المثال محيرًا للغاية؛ فقد كانت كل غيمة ثنائية الجنس، وبها المئات من الوحدات الجنسية المتخصِّصة من الذكور والإناث، التي يتجاهَل بعضُها بعضًا لكنَّها تكون على درجة عالية من الاستجابة لحضور غيوم الطيور الأخرى. وقد وجدنا أنَّ مشاعر السرور والخزي من التواصل الجسدي لدى هذه الكائنات المتعدِّدة الغريبة لا تُكتسَب بالاتحاد الجِنسي الفعلي بين الأعضاء الجنسيِّين المُتخصِّصين فحسب، بل تَحدُث أيضًا على نحوٍ في غاية اللطف، من خلال التداخُل الهوائي لغيمتَين تَطيران في أثناء أداء تمارين الغزل في الهواء.
الأهم لنا من هذا التشابه السَّطحي معنا هو ما يَكمُن من تشابُه في المرتبة الذهنية. لا شك بأننا لم نكن لنتمكَّن من التواصُل معهم على الإطلاق لولا التشابه الجوهري في المرحلة التطورية الخاصة بهم مع تلك التي كنا نعرفها جيدًا في عوالِمنا. لقد كانت كل غيمة من هذه الغيوم ذات العقول المتنقلة المؤلفة من طيور صغيرة تُمثِّل بالفعل فردًا في رتبتنا الروحية تقريبًا، أو كائنًا بشريًّا للغاية ممزقًا بين الوحش والملاك، وقادرًا على الشعور بنشوات الحب والكراهية تجاه ما سوى غيمته من غيوم الطيور، وقادرًا على الحكمة والحماقة ونطاق المشاعر البشرية بأكملها من الاحتيال إلى التأمُّل الوجدي.
حين أمعنا النظر بقدر استطاعتنا فيما وراء هذا التشابه الشكلي للروح الذي مكَّنَنا من التواصل مع غيوم الطيور هذه، اكتشفنا على نحو مؤلم معنى الرؤية بمليون عين في الوقت نفسه، ومعنى الشعور بنسيج الغلاف الجوي بمليون جناح في الوقت نفسه. تعلمنا كيفية تأويل المدركات المركبة للسهول الطينية والمستنقعات والمناطق الزراعية الواسعة التي كان يرويها تيار المد والجزر مرتَيْن يوميًّا. أعجبتنا التوربينات الضخمة التي تعمل بفعل تيار المد والجزر، ونظام النقل الكهربي للحمولات المشحونة. واكتشفنا أنَّ الغابات المؤلَّفة من الأعمدة الخرسانية العالية أو المنارات والمنصَّات القائمة على الركائز والتي كانت تقف في أكثر مناطق المد والجزر ضحالة، هي دُور حضانة يحظى فيها الصغار بالرعاية إلى أن يتمكَّنوا من الطيران.
وشيئًا فشيئًا، تعلَّمنا أن نفهم جانبًا من التفكير العجيب لهذه الكائنات الغريبة، والذي كان في نسيجه التفصيلي مختلفًا كل الاختلاف عن تفكيرنا، غير أنَّ نمطه ودلالته العامين متشابهان للغاية. المجال لا يسمح، وما ينبغي لي أن أحاول حتى أن أرسم مسودة لما كانت عليه أكثر هذه العوالم تقدمًا من تعقيد ضخم؛ فلا يزال هناك الكثير مما يَنبغي قوله عن أمور أخرى. وسوف أكتفي فقط بأن أذكر أنه نظرًا لأنَّ الفردانية في غيوم الطيور هذه كانت أكثر خطورة من الفردانية البشرية، فغالبًا ما كانت تُفهم على نحو أفضل، ويُحكم عليها على نحو عادل. لقد كان الخطر المستمر على غيوم الطيور هو التفكُّك الجسدي والذهني؛ ومن ثمَّ فقد كان مبدأ الذات المُترابطة بارزًا للغاية في جميع ثقافات هذه العوالم. وعلى الجانب الآخر، كان الخطر المتمثِّل في تعرض ذات إحدى غيوم الطيور للغزو والانتهاك الماديين على يد جيرانها، مثلما يحدث حين تتداخل إحدى محطات الراديو مع محطة أخرى، قد أرغم هذه الكائنات على أن تحتاط من غرق الذات الفردية للغيمة وسط حشود الغيوم بأكثر مما كنا نَحتاط من إغراءات القطيع. مع ذلك، ولأنَّ هذه السلالة كانت تحتاط جيدًا من هذا الخطر، تطور مبدأ المجتمع العالَمي دون صراع مصيري مع القبلية الباطنية، كما حدث معنا في ذلك الصراع الذي نعرفه جيدًا في عوالِمنا، وإنما كان صراعًا بين الفردانية والمبدأين التوءمَيْن المتمثلَيْن في المجتمع العالَمي والعقل العالَمي.
في وقت زيارتنا، كان الصراع العالَمي يَنشب بالفعل بين الحزبين في كل منطقة من مناطق الكوكب. كان دعاة الفردانية أقوى في أحد نصفي الكوكب، ويَذبحون جميع المؤيدين لمبدأ العقل العالَمي، ويحشدون قواهم للهجوم على النصف الآخر. في النصف الآخر، كان يسود حزب العقل العالَمي لا بالأسلحة، بل بقصفٍ لأمواج الراديو، إن صح التعبير. لقد كان نمط التموجات الأثيرية الصادرة من الحزب يفرض نفسه بالقوة المحضة على جميع المتمرِّدين؛ فكان جميع الثوار يتعرَّضون إلى التلف الذهني من خلال القصف بأمواج الراديو أو يَمتصُّهم كما هم نظام الراديو المشترك. كانت الحرب التي تلت ذلك مُدهِشة للغاية بالنِّسبة إلينا؛ فقد استخدم دعاة الفردانية المدفعية والغاز السام، بينما كان حزب العقل العالمي يستخدم هذه الأسلحة بوتيرة أقل كثيرًا من استخدامه للراديو، والذي كان هو دونًا عن عدوه، يستطيع تشغيله لإحراز نتائج لا يُمكن مقاومتها. لقد كان نظام الراديو يتمتَّع بدرجة كبيرة من التعزيز والتكيف على الاستجابة الفيسيولوجية للوحدات الطائرة؛ فقبل أن يتمكَّن دعاة الفردانية من إحداث أي ضرر فادح، كانوا يجدون أنفسهم قد انجرفوا، إن جاز التعبير، إلى فيض غامر من أمواج الراديو المحفِّزة، وتتلاشى فردانيتهم. أما الوحدات الطائرة التي تؤلِّف أجسادهم المركبة، فقد كانت تُدمر، إذا كانت متخصِّصة في الحرب، أو يُعاد تنظيمها إلى غيوم جديدة تنتمي بوَلائها إلى العقل العالمي.
وبعد هزيمة دعاة الفردانية بفترةٍ قصيرة، فقدنا التواصُل مع هذه السلالة، ولم نتمكَّن على الإطلاق من استيعاب خبرات مجتمع العقل العالَمي الناشئ ولا مُشكلاته الاجتماعية، ولم نَستعِدِ التواصُلَ معها ثانية إلا في مرحلة متأخِّرة للغاية من مغامرتنا.
بعض العوالم الأخرى التي كانت تسكنها سلالات من غيوم الطيور كانت أقل حظًّا؛ فقد انتهى معظمها لسبب أو لآخر. لقد جلبَت الضغوطات المتعلِّقة بالحياة الصناعية أو القلاقل الاجتماعية في العديد منها وباءً من الجنون، وكانت تؤدي أحيانًا إلى تفكُّك الفرد إلى مجموعة من الطيور ذات الاستجابات اللاإرادية فحسب. وهذه الكائنات الصغيرة البائسة التي لم تكن تمتلك القدرة على التصرف على نحو مستقلٍّ ذكي، كانت تُقتَل جماعات بفعل القوى الطبيعية والمفترسات. وبعد فترة قصيرة، أصبح المجال خاليًا أمام نوعٍ من الديدان أو الأميبا كي تدشن من جديدٍ تلك المغامرة الكبرى للتطور البيولوجي تجاه المستوى البشري.
في مسار استكشافنا، أتينا أيضًا على بعض الأنواع الأخرى من الأفراد المركبة. لقد وجدنا على سبيل المثال أنَّ الكواكب الضخمة الجافة للغاية كانت تسكنها في بعض الأحيان شعوب من كائنات شبيهة بالحشرات كان كل لفيف من أعشاشها يُمثل جسدًا متعدِّدًا لعقل واحد. كانت هذه الكواكب ضخمةً للغاية حتى إنه لم يكن من المُمكن لأيِّ كائن مُتنقِّل أن يزيد حجمه عن الخنفساء، ولم يكن لأي طائر أن يزيد حجمه عن النملة. في هذه الحشود الذكية التي كانت تَفِي بدور البشر في هذه العوالم، كانت الأدمغةُ المجهرية التي تتمتَّع بها الوحدات الشبيهة بالحشرات مختصةً بالوظائف المجهرية داخل المجموعة، مثلما يتخصَّص الأفراد في أعشاش النمل في العمل أو القتال أو التكاثُر وغير ذلك. كانت الوحدات جميعها متحرِّكة، غير أنَّ كل طائفةٍ منها كانت تُؤدِّي وظائفَ «عصبية» محددة في حياة المجموع. لقد كانت في واقع الأمر أشبهَ بأنواعٍ مُميزة من الخلايا في جهاز عصبي.
في هذه العوالم، مثلما كانت الحال في عوالم غيوم الطيور، كان علينا أن نُهيِّئ أنفسنا على الوعي الموحَّد لحَشدٍ ضخم من الوحدات. وبعددٍ لا يُحصى من الأقدام المسرعة، زحفنا على الممرات الخرسانية المتناهية الصغر، وبعددٍ لا يُحصى من قرون الاستشعار المخصَّصة للتناول، شاركنا في العمليات الصناعية أو الزراعية الدقيقة، وفي إبحار السفن الصغيرة التي لا يزيد حجمها عن حجم الدُّمى في القنوات والبحيرات الموجودة في هذه العوالم المسطحة. ومن خلال عددٍ لا يُحصى من العيون المركبة، شاهدنا سهول النباتات الشبيهة بالطحالب، أو درسنا النجوم بالتلسكوبات الدقيقة أو التلسكوبات الطيفية.
لقد كانت حياة الحشد العاقل منظمةً على نحوٍ مثالي حتى إنَّ جميع الأنشطة الاعتيادية في الصناعة والزراعة قد أصبحت تُؤدَّى على مستوى اللاوعي بالنسبة إلى العقل، كعملية الهضم مثلًا بالنسبة إلى الإنسان. لقد كانت الوحدات الحشرية الصغيرة نفسها تُؤدي هذه الأنشطة على نحوٍ واعٍ وإن لم تكن تفهم دلالتها، أما عقلُ الحشد فلم يَعُد يتمتَّع بالقدرة على الاعتناء بها. لقد كان اهتمامه ينصبُّ على نحوٍ شبه كامل على الأنشطة المتعلِّقة بالتحكُّم الواعي الموحَّد، وكان معنيًّا في واقع الأمر بالابتكار العملي والنظري من جميع الأنواع وبالاستكشاف المادي والذهني أيضًا.
في وقت زيارتنا لأبرز هذه العوالم الحشرية كانت الجماعة السكانية تتألَّف من أممٍ عديدةٍ عظيمةٍ من الحشود. وكان لكل حشدٍ فرديٍّ منها عشُّه الخاص، ومدينته المتناهية الصغر وهي منطقة تبلغ مساحتها قرابة الفدان أرضيتها مُنخربة بالغرف والممرات على عمق قدمين. وكانت المنطقة المحيطة بها تُخصَّص لزراعة الغذاء النباتي الشبيه بالطحالب. ومع زيادة حجم الحشد، كان يُمكن في بعض الأحيان تأسيس مستعمراتٍ خارج نطاق نظام الراديو الفيسيولوجي للحشد الأصلي؛ ومن ثمَّ تظهر مجموعات فردية جديدة. بالرغم من ذلك، فلم نجد في هذه السلالة ولا في سلالة غيوم الطيور، أي شيء مُماثل للأجيال المتتابعة من العقول الفردية التي نجدها في عوالِمنا. فداخل المجموعة العاقلة، كانت الوحدات الحشرية تموت باستمرار، وتحلُّ محلَّها مجموعات جديدة، غير أنَّ عقل المجموعة كان خالدًا على الأرجح. كانت الوحدات يخلُف بعضُها بعضًا، أما ذات المجموعة فكانت تَبقى، وتصل ذاكرتها بعيدًا في الماضي إلى أجيال لا تُحصى من الوحدات، وتخبُو وهي تعود إلى الوراء إلى أن تضيع في ذلك الزمن السحيق حين كان «النوع البشري» يَنبثِق من «النوع دون البشري»؛ ومن ثمَّ فلم تحتفظ الحشود المتحضرة من جميع الفترات التاريخية السابقة إلا بذكرياتٍ مبهَمَة ومُتجزِّئة.
حوَّلت الحضارة الجحور القديمة الفوضوية إلى مدن تحت أرضية مخططة بعناية، وحوَّلت قنوات الري القديمة إلى شبكة واسعة من الطرق المائية لنقل البضائع من منطقة إلى أخرى، وقدمت القوة الميكانيكية من خلال احتراق الخضراوات والمواد، وصهرت المعادن من النتوءات الصخرية والرواسب الطميية، وقدمت أيضًا ذلك النسيج الاستثنائي من الآلات الدقيقة التي تكاد تكون مجهرية الحجم، والتي حسَّنت كثيرًا من مستويات الراحة والصحة في المناطق الأكثر تقدمًا، وقدمت أيضًا أشكالًا متنوعة من المركبات الشبيهة بجراراتنا وقطاراتنا وسفننا، كما أنها قد خلقت أيضًا ذلك الفارق الطبقي بين المجموعات التي ظلَّت تعتمد على الزراعة بصفة أساسية وبين المجموعات التي كانت تعتمد على الصناعة بصفة أساسية، وتلك المجموعات التي تخصَّصت في التنظيم الذكي لأنشطة البلد. وهذه الفئة الأخيرة هي التي أصبحت بمرور الوقت الفئة البيروقراطية الاستبدادية في البلد. ونظرًا لضخامة حجم الكوكب، والصعوبة الشديدة للسفر على مسافاتٍ طويلة بالنسبة إلى كائناتٍ في مثل هذا الحجم الصغير الذي كانت عليه الوحدات الحشرية؛ فقد تطورت الحضارات بصورة مستقلة في عدد من المناطق المنعزلة، وحين تمكَّنت أخيرًا من التواصُل معًا، كان العديد من هذه الحضارات قد بلغ مرحلةً متقدمة للغاية في التصنيع بالفعل ويمتلك «أحدث» الأسلحة. ويُمكن للقارئ أن يتخيل بسهولة ما حدث حين تكون هناك سلالات ذات أصل بيولوجي مختلف في معظم الأحوال، ويختلف بعضها عن بعض كل الاختلاف في العادات والأفكار والمبادئ، ثم تجد نفسها فجأة على تواصل ونزاع. سيكون من المُضجِر للغاية أن أصف جنون الحرب التي تلَت. بالرغم من ذلك، من المُهم أن أذكر أننا، نحن الزائرين التخاطريِّين الذين أتينا من مناطق بعيدة للغاية في الزمان والمكان، كنا نستطيع التواصُل مع هؤلاء المُضيفين المتحارِبِين بسهولةٍ تفوق سهولة التواصُل بين مُضيفٍ وآخر. ومن خلال هذه القُدرة، تَمكنَّا بالفعل من القيام بدور مُهم في تاريخ هذا العالم. قد يكون من المُحتمَل فعلًا أنَّ وساطتنا هي التي أنقذت هذه السلالات من التدمير المتبادَل. فبعد أن أخذنا مواضعنا في العقول «الرئيسية» في طرفَي الصراع، عملنا بصبرٍ على تحفيز بعض الرُّؤى المتعلِّقة بعقلية العدو في عقول مُضيفينا. ونظرًا لأنَّ هذه السلالات قد تجاوَزَت بالفعل مُستوى الاجتماعية التي نعرفها على الأرض؛ وكان عقلُ الحشد قادرًا على الاتحاد الحقيقي حينما يتعلَّق الأمر بحياة سلالته، كان إدراكه لحقيقة أنَّ العدو ليس همجيًّا بل إنسانًا في جوهره كافيًا للقضاء على الرغبة في القتال.
راحت العقول «الرئيسية» التي أنارتها «الرسل الإلهية» تَعِظُ بالسلام على نحوٍ بطولي. وبالرغم من أنَّ العديد منها قد استُشهِد بسرعة، فقد انتصرَت قضيتها. توصَّلت السلالات إلى صُلحٍ فيما بينها خلا شعبين ضخمَين ومُتأخِّرَين ثقافيًّا بعض الشيء. لم نَستطِع أن نقنع هاتين السلالتَيْن، ولأنهما كانتا قد أصبحتا بحُلول ذلك الوقت متخصصتَين بشدة في الحرب، فقد كانتا تُشكِّلان تهديدًا خطيرًا للغاية. كانتا تَنظران إلى رُوح السلام الجديدة على أنها نقطة ضعف فحسب من جانب العدو، وعزمتا على استغلالها وغَزو بقية ذلك العالم. غير أنَّنا قد شهدنا في ذلك الوقت من الإثارة ما يصعب على الإنسان الأرضي تصديقُه بكلِّ تأكيد، والتي كانت مُمكنة في هذا العالم فحسب بسبب تلك الدرجة العالية من الصَّفاء الذهني، والتي كانت موجودةً بالفِعل لدى كل سلالة من هذه السلالات. تحلَّت السلالات المُسالِمة بالشجاعة لنزع السلاح؛ فدمَّرت ما لديها من أسلحة ومصانع ذخيرة بأكثر الطرق رَوعة ووضوحًا. وقد حرصت أيضًا على أن تشهد حشود العدو التي أُسرَت لديها هذه الأحداث. وبعد ذلك، حررت هؤلاء الأسرى، وطلبَت منهم سردَ تجاربهم معها للعدو. وقد جاء رد العدو على ذلك مُتمثِّلًا في غزو أقرب البلاد المنزوعة السلاح، وشرع في فرض الثقافة العسكرية عليها بعنف من خلال الدعاية والاضطهاد. بالرغم من ذلك، فمع حالات الإعدام والتعذيب الجماعية، لم تَحصُل هاتان السلالتان على النتيجة المتوقَّعة؛ فبالرغم من أنَّ السلالتَيْن المُستبدتَين لم تكونا أكثر تطورًا من الإنسان الأرضي في النزعة الاجتماعية على نحوٍ ملحوظ، كانت الضحايا أكثر تفوقًا بكثير. لم يُؤدِّ القمع إلى شيء سوى أن عزَّز من إرادة المقاومة السلبية. وشيئًا فشيئًا، بدأ الاستبداد يضعف، ثم انهار فجأة. انسحب الغزاة آخذين معهم عَدوى السِّلميَّة. وفي غضون وقت قصير للغاية، أصبح ذلك العالم اتحادًا فيدراليًّا واحدًا يَنتمي أعضاؤه إلى أنواعٍ مختلفة.
وبحزن أدركتُ أنه بالرغم من أنَّ جميع الكائنات المتحضِّرة على الأرض تَنتمي إلى النوع البيولوجي نفسه، فحدوث تلك النتيجة السعيدة للصراع أمر مُستحيل؛ وذلك ببساطة لأنَّ القدرة على تشكُّل الاتحاد في عقل الفرد ما تزال ضعيفةً للغاية. وتساءلت أيضًا ما إذا كانت السلالات الحشرية الطاغية كانت ستحظى بنجاح أكبر في فرض ثقافتها على البلاد التي غَزَتْها إن كان هناك جيلٌ مميزٌ من الحشود الناشئة الطيِّعة التي يُمكن أن تُسيطِر عليه.
حين اجتاز هذا العالم الحشري أزمته، بدأ يتقدَّم بسرعةٍ كبيرةٍ في البنية الاجتماعية، وفي تطوير العقل الفردي حتى إننا وجدنا صعوبة مُتزايدة في الحفاظ على التواصُل معه، ثم فقدنا التواصل برمته في النهاية. بالرغم من ذلك، فحين تقدَّمنا نحن أنفسنا فيما بعد، أتينا على هذا العالم مرة أخرى وتواصَلْنا معه.
بالنسبة إلى العوالم الحشرية الأخرى، فلن أذكر عنها شيئًا إذ لم يُقدَّر لأيٍّ منها أن تُؤدِّي دورًا مهمًّا في تاريخ المجرة.
ولكي أكمل صورة السلالات التي لا يكون للعقل الفردي فيها جسم واحد له امتداد مادي، يجب أن أشير إلى نوع آخر مُختلِف للغاية وأكثر غرابة. في هذا النوع، كان جسد الفرد يتألَّف من مجموعة كبيرة من الوحدات الحيوية الفرعية البالغة الصِّغر، والتي تُنظم في نظام مشترك من أمواج الراديو. ومن هذا النوع ظهرَت السلالة التي تَسكن الآن كوكب المريخ الموجود في نظامنا الشمسي. ولأنَّني قد وصفت هذه الكائنات بالفعل في كتاب آخر، ووصفت أيضًا تلك العلاقات المأساوية التي ستجمعهم بنسلنا في المستقبل البعيد، فلن أذكر المزيد عنها هنا سوى أننا لم نتواصَلْ معهم إلا في مرحلةٍ متأخِّرة للغاية من مغامرتنا، حين اكتسبنا مهارة الوصول إلى كائناتٍ تختلف عنا في الحالة الروحانية.
(٣) البشر-النباتات وسلالات أخرى
قبل أن أنتقل إلى رواية قصة مجرتنا ككُل (بالحد الذي أستطيع استيعابه) ينبغي أن أذكر نوعًا آخر غريبًا للغاية من العوالم. لم نَجد من هذا العالم سوى القليل من الأمثلة، والقليل منها فقط هو ما نجا حتى وصَل إلى الزمن الذي بلغت فيه الإثارة في المجرة أوجها، لكن أحدها على الأقل كان له (أو سيكون له) أثرٌ عظيمٌ على نمو الروح في هذه الحقبة المثيرة.
على بعض الكواكب الصغيرة التي يغمرها الضوء والحرارة من شمسٍ قريبة أو ضخمة، اتخذ التطور مسارًا مختلفًا للغاية عن ذلك الذي نَعرفه. لم تَنفصِل الوظائف النباتية والحيوانية في نوعين عضويين مختلفَين، بل أصبحت الكائنات كلها نباتًا وحيوانًا في الوقت ذاته.
في هذه العوالم، كانت الكائنات العُليا أشبه بنباتات ضخمة متحركة، لكنَّ الفيضان العنيف للإشعاع الشمسي قد جعَل إيقاع نموها أسرع كثيرًا من نمو نباتاتنا. وربما يكون تشبيه هذه الكائنات بالنباتات وصفًا مُضللًا؛ إذ إنها كانت تشبه الحيوانات بالقدر نفسه. كان لها عدد محدد من الأطراف وشكل محدد للجسم، غير أنَّ بشرتها كانت كلها خضراء أو مخططة بالأخضر، وكانت تحمل كتلًا عظيمةً من الأوراق في مكان ما من أجسادها وفقًا للنوع الذي تَنتمي إليه. وبسبب ضعف قوة الجاذبية على هذه الكواكب الصغيرة، كانت الحيوانات-النباتات غالبًا ما تَدعم بنًى شاسعة فائقة على أطراف أو جذوع نحيلة للغاية. وبصفة عامة، فقد كانت الأنواع المتحرِّكة من هذه الكائنات مزوَّدة بكمية أقل من الأوراق مقارنةً بالأنواع الساكنة منها بنحوٍ أو بآخر.
في هذه العوالم الصغيرة الحارة، تسبَّب الدوَران المُضطرِب للماء والغلاف الجوي في حدوث تغييرات سريعة في الأرض يومًا بعد يوم. جعلت العواصفُ والفيضاناتُ من القدرة على التنقل من مكان لآخر أمرًا مرغوبًا للغاية بالنسبة إلى سكان هذه العوالم؛ ومن ثمَّ فالنباتات المبكِّرة التي تمكَّنت بفضل وفرة الإشعاع الشمسي، من تخزين مِقدارٍ من الطاقة يكفيها على مدى الحياة للاستخدام في مُستوًى متوسِّط من الأنشطة العضلية، قد تطوَّرت لديها قدرات الإدراك الحسِّي والتنقُّل. وظهرت العيون والآذان النباتية والأعضاء النباتية للتذوق والشم واللمس على سيقانها وأوراقها. أما فيما يتعلَّق بالقدرة على التنقُّل، فقد كان بعضها يسحب جذوره البدائية من الأرض ويَزحف هنا وهناك بحركة تُشبه حركة اليرقانة. وبعضها كان يَنشر أوراقه ويَنجرِف على الرياح، ومن هذه الأنواع تطوَّرت على مدار العصور كائنات تستطيع الطيران بالفعل. وفي هذه الأثناء، تحوَّلت بعض الجذور لدى الأنواع السائرة إلى سيقان عضَلية، رباعية أو سُداسية أو أكثر من ذلك. أما بقية الجذور فقد زُوِّدت بآلاتٍ للحفر كانت تستطيع الانتشار في الأرض بسرعة في المواقع الجديدة. بالرغم من ذلك، فثمَّة طريقة أخرى من الجمع بين الجذور والقُدرة على التنقُّل ربما تكون أكثر تميُّزًا. كان الجزء الهوائي من الكائن يَفصل نفسه عن جذوره المغروسة ويَنطلِق على الأرض أو الهواء كي يغرس جذوره من جديد في تربة بِكْر. وحين يَستنفِد الكائن الموقع الثاني، كان يَنطلق بحثًا عن موقع ثالث ثم إلى غيره وغيره، أو يعود إلى موقعه الأصلي والذي من المُحتمَل أن يكون قد استعاد خصوبته بحلول ذلك الوقت. وهناك، يربط نفسه من جديد بجذوره القديمة الخاملة ويَبعث فيها النشاط من جديد.
وقد طوَّرت العديد من الأنواع بالطبع عادات افتراسية، وأعضاء خاصة للهجوم، مثل الفروع العضَلية القوية كالأصلات والتي كانت تُستخدَم للتضييق وإحكام القبْض، وكذلك المخالب والقرون والكلَّابات الضحمة المُثلمة. في هذه الكائنات «اللاحمة»، تقلَّص انتشار الأوراق إلى حدٍّ كبير، وكانت تَستطيع طيَّ أوراقها بعيدًا إلى الخلف على نحوٍ مريح. وفي الأنواع الأكثر تخصصًا في الافتراس، كانت الأوراق نحيلة ولم تكن لها أي فائدة سوى القيمة الجمالية. وقد كان من المدهش أن نرى كيف أنَّ البيئة قد فرضت على هذه الكائنات الغريبة أشكالًا تُذكِّر بنمورنا وذئابنا. وكان من المثير للاهتمام أيضًا أن نرى تدمير هذا التخصُّص الفائق في الهجوم أو الدفاع أو التكيُّف الفائق عليه لنوعٍ تلو الآخر، وكيف أنَّ ظهور الذكاء «البشري» بعد فترة طويلة من الوقت جاء على يد كائن ليس بالضخم ولا بالمهاجم، بل كانت هِبَتاه الوحيدتان هما الذكاء والتعقُّل تجاه العالم المادي وتجاه رفاقه. وقبل أن أصفَ ازدهار «البشرية» في هذا النوع من العوالم، يَنبغي أن أذكر مشكلةً خطيرةً تواجه الحياة المتطوِّرة على جميع الكواكب الصغيرة، والتي تحدث غالبًا في مرحلة مبكِّرة. وقد صادَفنا هذه المشكلة بالفعل على الأرض الأخرى. فنظرًا لضعف الجاذبية والحرارة المُرتفِعة للشمس، تهرب جزيئات الغلاف الجوي بسهولة كبيرة إلى الفضاء. ولا شكَّ بأنَّ مُعظَم العوالم الصغيرة تَفقِد كل هوائها ومائها قبل أن تصل الحياة عليها إلى المرحلة «البشرية» بفترة طويلة، وقبل أن يستقرَّ وجودها أصلًا في بعض الأحيان. أما بعض الكواكب الأخرى التي كانت أقلَّ صغرًا، والتي ربما تكون قد زُوِّدت بالغلاف الجوي على نحوٍ كامل في مراحلها المُبكِّرة، وإن كان ذلك بعد وقت طويل للغاية نظرًا للانكماش البطيء الثابت لمداراتها، فقد تزداد حرارتها للغاية حتى إنها لا تتمكَّن من الإبقاء على الجزيئات العنيفة الاهتياج التي تُؤلِّف غلافها الجوي. في بعض هذه الكواكب، تتطوَّر مجموعة كبيرة من أشكال الحياة في الحِقَب المُبكِّرة، ثم تختفي من الوجود نتيجةً لما تتعرَّض له من الظمأ الشديد والاختناق اللذَين يَحدثان بسبب ما يشهده الكوكب من الجفاف والتعرية لفترات طويلة. بالرغم من ذلك، ففي الحالات المُواتية على نحو أفضل، تتمكَّن الحياة من تكييف نفسها تدريجيًّا على الظروف القاسية على نحوٍ مُتزايد. في بعض العوالم، على سبيل المثال، ظهرت آلية بيولوجية أدَّت إلى حبسِ ما تبقَّى من الغلاف الجوي داخل مجال كهرومغناطيسيٍّ قويٍّ تولَّد عن الكائنات الحية التي تَسكن العالم. وقد استغنَت عوالم أخرى عن الحاجة إلى الغلاف الجوي برمَّته، وصار البناء الضوئي وجميع عمليات الأيض في الحياة تجري عن طريق السوائل فقط. وقد حُفِظَت آخر الغازات المُتلاشية في هيئة سائل يُخزَّن في مسالك ضخمة من الكتل الإسفنجية التي تقع بين الجذور، ويُغطِّيه غشاء منيع.
هاتان الطريقتان البيولوجيتان الطبيعيتان قد حدثتا في عالم أو أكثر من عوالم الحيوانات-النباتات التي قد بلغت المرحلة «البشرية». وليس لديَّ من المجال ما يتَّسع إلا لذكرِ مثالٍ واحد، وهو أهم هذه العوالم المميزة، وهو أحد العوالم التي تلاشى فيها الغلاف الجوي بأكمله قبل ظهور الذكاء.
لقد كان دخول هذا العالم ومعرفته من خلال الحواسِّ والطباع الغريبة لسكانه الأصليِّين مغامرةً أكثر إرباكًا في بعض الجوانب من جميع استكشافاتنا السابقة. ونظرًا لانعدام الغلاف الجوي، فحتى في وجود ضوء الشمس بأكمله، كانت السماء مُظلِمة بظُلمة الفضاء الواقع بين النجوم، وكانت النجوم تتوهج. وبسبب ضعف الجاذبية، وغياب عملية تشكيل الهواء والماء والجليد على سطح الكوكب المتغضن المتضائل، فقد كان المنظر الطبيعي يتألف من كتل من الجبال المطوية، والبراكين البدائية الخامدة، والفيضانات المتجمِّدة وأكوام الحمم البركانية، والوهاد التي تشكلت بفعل سقوط الشهب الضخمة. وأيٌّ من هذه المعالم لم تُصقَل كثيرًا بفعل تأثيرات الغلاف الجوي والجليد. علاوةً على ذلك، فضغوطات قشرة الكوكب دائمة التغيُّر قد حطَّمتِ العديد من الجبال إلى أشكال من الجبال الجليدية المُذهِلة. على أرضنا حيث توجد الجاذبية الشبيهة بكلب صيد لا يكل، والذي يسحب صيده بقوة أكبر كثيرًا، لم تكن هذه القباب والقمم ذات الصخور الثقيلة لتصمد على الإطلاق. وبسبب انعدام الغلاف الجوي، كانت الأسطح المكشوفة للصخور الشديدة السطوع، وجميع الأخاديد والظلال سوداء كالليل.
تحوَّلت العديد من الوديان إلى خزانات تبدو أنها من الحليب؛ إذ كانت أسطح هذه البحيرات مغطاة بطبقة سميكة من مادة دِبْقة بيضاء لكي تحول دون فقدان الماء بالتبخر. وفيما حولها من جميع الجهات تجمَّعت جذور هؤلاء الأشخاص الغريبين الذين يسكنون هذا العالم كأُرُومات الأشجار في غابة قد قُطِعت أشجارها وأُخليَت. كانت الأُرُومات كلها مُغلَّفة بالغراء الأبيض. وكانت مساحات التربة جميعها مُستخدَمة، وقد عرفنا أنه بالرغم من أنَّ بعضها قد تكون النتيجة الطبيعية للعمليات التي حدثت في العصور الماضية بفعل الهواء والمياه، فقد كان الجزء الأكبر منها اصطناعيًّا قد صُنع من عمليات ضخمة تتمثَّل في استخراج المعادن وتفتيتها. لا شك بأنَّ الصراع التنافُسي للحصول على نصيب من التربة النادِرة في هذا العالم الصخري في العصور البدائية وبالطبع على مدار جميع مراحل التطور «القبل البشري» قد كان أحد العوامل الأساسية التي حثت على ظهور الذكاء.
كنا نرى البشر-النباتات المتحرِّكين مُحتشدين نهارًا في الأودية ناشرين أوراقهم إلى الشمس، ولم نكن نراهم يعملون إلا ليلًا، متحركين على الصخور العارية أو مُنشغِلين بالماكينات وغيرها من الأشياء الصناعية من أدوات حضارتهم. لم يكن هناك أبنية ولا أسيجة مسقوفة تَحمي من الطقس؛ إذ لم يكن هناك من طقس. بالرغم من ذلك، فقد كانت الهضاب والمصاطب الصخرية تَمتلئ بجميع أشكال الأدوات التي لم نكن نفهمها على الإطلاق.
كان الكائن النموذجي من البشر-النباتات منتصبًا مثلنا. وكان يحمل على رأسه عُرفًا كبيرًا من الريش الأخضر، والذي كان يُمكن طيُّه معًا على هيئة ثمرة خس رومي ضخمة ومحبوكة، أو نشره لالتقاط الضوء. ومن تحت هذا العرف، تبرز ثلاث عيون مركبة. وتحت هذه العيون، توجد ثلاثة أطراف خضراء مُلتوية شبيهة بالأذرع تتفرَّع عند نهاياتها أيدٍ تُستخدم للتناول. وكان الجذع الرشيق المرن المغلف بحلقات صلبة تنزلق إحداها في الأخرى عند انحناء الجسم، يَنقسم إلى ثلاث سيقان للحركة. اثنتان من الأقدام الثلاث كانت لهما وظيفة الفم أيضًا، وكان يُمكنهما امتصاص العصارة من الجذر أو التهام المواد الخارجية. أما القدم الثالثة، فقد كانت عضوًا للإخراج. ولم تكن الإفرازات الثمينة تُهدر أبدًا، بل كانت تمر عبر وصلة خاصة تقع بين القدم الثالثة والجذر. كانت الأقدام تضم أعضاء التذوق والسمع أيضًا؛ إذ لم يكن الصوت ينتشر فوق الأرض لانعدام الهواء.
في النهار، كانت هذه الكائنات الغريبة تحيا حياة النباتات بصفة أساسية، وفي الليل تحيا حياة الحيوانات. في كل صباح، بعد ليلة طويلة وباردة، تتدفَّق الجماعة السكانية بأكملها إلى مساكنها في الجذور. يسعى كل فرد إلى جذره ويُثبِّت نفسه فيه ويقف على مدار اليوم متَّقد الحرارة مُمدِّدًا أوراقه. كان ينام حتى الغروب، غير أنَّ نومه لم يكن نومًا دون أحلام، بل نوعًا من الغيبة التي كان سيتضح في الأجيال المستقبلية أنَّ طبيعتها التأمُّلية الباطنية ينبوع سلام للعديد من العوالم. وفي أثناء نومه، كانت تيارات العصارة تتسارع ذهابًا وإيابًا في جذعه تنقل المواد الكيميائية بين الجذور والأوراق، وتغمره بإمداد مركز من الأكسجين وتزيل عنه نواتج عملية الأيض الهدمي الماضية. وحين تَختفي الشمس مرة أخرى وراء الصخور، ويتبدَّى منها للحظة وهج النتوءات الشمسية المتَّقدة، كان يستيقظ ويطوي أوراقه ويغلق الممرات المؤدية إلى جذوره ويفصل نفسه عنها، ويسعى في شئون الحياة المتحضرة. كان الليل في هذا العالم أكثر سطوعًا من ضوء القمر في عالَمنا؛ إذ لم يكن هناك ما يحجب النجوم، وكانت العديد من العناقيد النجمية الكبيرة تتدلَّى في سماء الليل. بالرغم من ذلك، كان الضوء الصناعي يُستخدَم في الأعمال الدقيقة، لكنَّ عيبَه الأساسي أنه غالبًا ما كان يبعث العامل على النوم.
لا ينبغي لي أن أحاول حتى أن أعرض صورة عامة للحياة الاجتماعية الغنية والغريبة لهذه الكائنات. سأكتفي فقط بأن أذكر أننا قد وجدنا هنا، مثلما وجدنا في كل مكان آخر، جميع المحاور الثقافية المعروفة على الأرض، غير أنها قد اتخذت في عالم النباتات المتنقلة هذا شكلًا غريبًا ونمطًا مُحيِّرًا. لقد وجدنا هنا، مثلما وجدنا في كل مكان آخر، مجموعة من الأفراد المُنشغِلين للغاية بمهمة الحفاظ على وجود أنفسهم ومجتمعهم. هنا قد وجدنا مشاعر الاعتداد بالذات والكراهية والحب ومشاعر الحشود وحب الاستطلاع الفكري وغير ذلك. وهنا أيضًا، مثلما هي الحال في جميع العوالم الأخرى التي زرناها حتى الآن، وجدنا سلالة تُعاني من آلام الأزمة الرُّوحانية الكبيرة التي كنا نَعرفها في عوالِمنا الخاصة، وشكلت قناة التواصل التي أتاحت لنا إمكانية الوصول التخاطري إلى عوالم أخرى. غير أنَّ الأزمة هنا قد اتخذت نمطًا مختلفًا عن جميع ما صادفناه حتى الآن. كنا قد بدأنا في حقيقة الأمر في توسيع قدراتنا على الاستِكشاف التخيُّلي.
بالرغم من أنني لن أذكر تفاصيل أي شيء آخر، فلا بد لي أن أحاول وصف هذه الأزمة؛ فهي مهمة للغاية لفهم أمور يصل تأثيرها إلى ما هو أبعد كثيرًا من هذا العالم الصغير.
إننا لم نبدأ في فهم حياة هذه السلالة إلى أن تعلَّمنا كيفية استيعاب الطابع الذهني لطبيعتها الحيوانية-النباتية المزدوجة. باختصار، كانت الطبيعة الذهنية للبشر-النباتات في كل عصر من العصور تعبيرًا عن التوتُّر المتفاوت بين جانبَي طبيعتهم؛ بين الطبيعة الحيوانية النشطة الحازمة المحبة للبحث الموضوعي والتي تتَّسم بالإيجابية الأخلاقية، وبين الطبيعة النباتية السَّلبية المُذعنة بشدة والتي تتَّسم بالتأمل الذاتي. لا شك بأنَّ السلالة قد تمكَّنت من سيادة عالَمها من خلال الإقدام الحيواني والذكاء البشري العملي، غير أنَّ هذه الإرادة العملية دائمًا ما كانت تلطف منها وتثريها تجربة تعد نادرة للغاية بين البشر. ففي كل يوم من الأيام على مدار العصور، لم تُسلِم هذه الكائنات طبيعتها الحيوانية المتَّقدة إلى النوم اللاواعي أو المَليء بالأحلام الذي تعرفه الحيوانات فحسب، بل كانت تسلمها أيضًا إلى نوع خاص من الوعي عرفنا أنَّ النباتات هي التي تختصُّ به. حين تَنشر تلك الكائنات أوراقها، فإنها تمتص الإكسير الجوهري للحياة على نحوٍ مباشر، والذي لا تتلقَّاه الحيوانات إلا بصورة غير مباشرة عن طريق لحم فرائسها المشوَّه؛ ومن ثمَّ يبدو أنها تمكَّنت من الحفاظ على تواصُل مادي مباشر مع مصدر الوجود الكوني بأكمله. وبالرغم من أنَّ هذه الحالة كانت مادية، فقد كانت روحانية أيضًا على نحوٍ ما. لقد كان لها تأثير واسع النطاق على جميع سلوكياتها. وإذا جاز لي أن أستخدم اللغة اللاهوتية، فيُمكن أن أُسمِّيَ هذه الحالة بالتواصُل الروحاني مع الإله. في وقت الليل المَليء بالمشاغل، كانوا يسعون في شئونهم كأفراد مُنعزِلين؛ إذ لم يَحظَوا بتجربة حالية مُباشِرة لوحدتهم الضمنية، غير أنَّ ذاكرة حياتهم النهارية كانت تَحميهم دائمًا في المعتاد من أسوأ تجاوُزات الفردانية.
لقد استغرق منا الأمر وقتًا طويلًا لكي نفهم أنَّ حالة هذه الكائنات النهارية المميزة لم تكن تتمثل في اتحادها كعقل واحد للمجموعة سواء أكانت قبيلة أم سلالة. لم يكن وضعها مماثلًا للوحدات الطائرة المتمثلة في غيوم الطيور، ولا مماثلًا للعقول العالمية التخاطرية والتي كنا سنكتشف بعد ذلك أنها قد أدت دورًا كبيرًا للغاية في تاريخ المجرَّة. لم يكن الإنسان-النبات في حياته النهارية يكتسب مبادئ رفاقه من البشر-النباتات وأفكارهم؛ ومن ثمَّ يستيقظ بوعي أكثر شمولًا وإدراكًا للبيئة وللجسد المتعدِّد للسلالة. على العكس من ذلك، كانت استجابته تتوقف تمامًا فيما يتعلق بجميع الظروف الموضوعية خلا فيضان ضوء الشمس الذي يغمر أوراقه المفتَرشة. وقد كانت هذه التجربة تمنحه انتشاءً قويًّا يقترب في طبيعته من الانتشاء الجنسي، ذلك الانتشاء الذي يبدو فيه أنَّ الفاعل والمفعول به قد صارا كيانًا واحدًا؛ لقد كان انتشاء الاتحاد الذاتي مع المصدر المُحتجِب للوجود المتناهي بأكمله. في هذه الحالة، كان الإنسان-النبات يستطيع التأمل في حياته الليلية النَّشِطة ويستطيع أن يُصبح واعيًا بتعقيدات دوافعه على نحو أوضح كثيرًا مما يتمكَّن منه ليلًا. في هذا الوضع النهاري، لم يكن يُصدِر أيَّ أحكام أخلاقية على نفسه ولا على الآخرين، بل كان يُراجع جميع مظاهر السلوك البشري ذهنيًّا بسرور تأمُّلي موضوعي، بصفتها أحد العوامل الموجودة في الكون. بالرغم من ذلك، فحين كان يأتي الليل مُجدَّدًا ومعه المزاج الليلي النشط، كانت رُؤاه النهارية الهادئة عن نفسه وعن الآخرين تُحفَّز بالاستحسان أو الاستهجان الأخلاقي.
والآن في مسار هذه السلالة بأكمله، كان ثمة توتُّرٌ ما بين كلا الجانبَيْنِ الكامنَيْنِ في طبيعتها. إن كل إنجازاتها الثقافية الراقية قد تحقَّقت في العصور التي كان كلا الجانبَين قويَّين فيها دون أن يتغلَّب أحدهما على الآخر. بالرغم من ذلك، ومثلما هي الحال في الكثير جدًّا من العوالم الأخرى، أدَّى تطور العلوم الطبيعية وإنتاج القوة الميكانيكية من ضوء الشمس الاستوائي إلى ظهور اضطِراب فكري خطير. إن تصنيع عدد لا يُحصَى من وسائل الراحة والرفاهية، وانتشار السكك الحديدية الكهربية على مُستوى العالم بأكمله، وتطوير الاتصالات اللاسلكية، ودراسة الفلك والكيمياء الحيوية الميكانيكية، والطلبات المُلحَّة للحرب والثورة الاجتماعية، كل هذه التأثيرات قد عزَّزت من العقلية النشطة وأضعفت من العقلية التأمُّلية. وقد بلغ الأمر ذروته حين اكتُشِفت إمكانية التخلي عن النوم النهاري برمته؛ فقد كان من الممكن حقن منتجات البناء الضوئي الصناعي في جسم الكائن الحي كل صباح؛ كي يتسنَّى للإنسان-النبات أن يقضيَ اليوم بأكمله في العمل النشط. وسرعان ما بدأ استخراج جذور البشر واستخدامها كموادَّ خام في التصنيع؛ إذ ما عادوا يَحتاجُون إليها لأغراضها الطبيعية.
لا ينبغي لي أن أضيِّع الوقت في وصف هذا المأزق الشنيع الذي حلَّ بهذا العالم الآن. يبدو أنَّ البناء الضوئي الصناعي لم يكن يُنتج أحد الفيتامينات الأساسية للرُّوح بالرغم من حفاظه على نشاط الجسد؛ فانتشر مرض الآلية والحياة الآلية الخالصة بين الجماعة السكانية. وقد شهدَ العالم بالطبع حمى النشاط الصناعي؛ فقد اندفع البشر-النباتات في أرجاء كوكبِهم بجميع أنواع المركبات التي تعمل بالدفع الآلي، وزيَّنوا أنفسهم بأحدث المنتجات الصناعية، واستغلُّوا الحرارة البركانية المركزية للحصول على الطاقة، وأبدَوا براعة كبيرة في تدمير أحدهم الآخر، واندفعُوا في الآلاف غيرها من المَساعي المحمومة بحثًا عن نعيم كان يُفلِت منهم على الدوام.
بعد عددٍ لا يُحصَى من المتاعب، بدءوا يُدركون أنَّ أسلوب عيشهم بأكمله غريب على طبيعتهم النباتية الجوهرية. وجرؤ القادة والأنبياء على التَّنديد بالمَيْكنة وبالثقافة العقلانية العِلمية السائدة وبالبناء الضوئي الاصطناعي. وبحلول ذلك الوقت، كانت جذور السلالة بأكملها قد دُمِّرت، غير أنَّ العلوم الحيوية قد وُجِّهت بعد ذلك بفترة قصيرة إلى مهمَّة توليد جذور جديدة للجميع من العينات الصغيرة المتبقية من الجذور. وشيئًا فشيئًا، تمكَّنت السلالة بأكملها من العودة إلى البناء الضوئي الطبيعي. وتلاشَت الحياة الصناعية من العالم مثلَما يتلاشى الجليد في ضوء الشمس. وبالعودة إلى حياتهم القديمة المُتبدِّلة بين النباتية والحيوانية، وجد البشر-النباتات الذين أنهكتهُم الحياة الصناعية وشوَّشَت أذهانَهم، في خبرتهم النهارية الهادئة سعادة غامِرة. وفي المُقابل، أدَّى ما عرفوه من شقاء في حياتهم الحديثة إلى تكثيف النَّشوة التي يجدونها في خبرتهم النباتية؛ فقد اجتمعَت براعتُهم الفكرية التي اكتسبتها عقولهم اللامعة من التحليل العلمي مع الطابع الخاص لحياتهم النباتية المنتعشة لتمنح خبرتهم الكلية صفاءً جديدًا. ولفترة قصيرة، بلغوا مستوًى من الصفاء الروحاني كان سيصبح مثالًا وكنزًا في العصور المستقبلية للمجرة.
بالرغم من ذلك، فحتى الحياة التي تتَّسم بأسمى مستويات الروحانية لها إغراءاتها. كانت حمى التصنيع والعقلانية المفرطة قد سمَّمت البشر-النباتات على نحوٍ خفي للغاية حتى إنهم حين ثاروا عليها في النهاية قد ابتعدُوا عنها للغاية؛ فسقطوا في فخ الجانب الأوحد للحياة النباتية مثلما سقطوا في فخ الجانب الحيواني من قبل. وشيئًا فشيئًا، راحوا يُقلِّلون من الوقت الذي ينفقونه في المساعي «الحيوانية» إلى أن أصبحوا يقضون كامل أيامهم ولياليهم بصفتهم أشجارًا، ومات الذكاء الحيواني النشط المُستكشِف المعالِج فيهم إلى الأبد.
ولفترة من الوقت، عاشت السلالة في حالة مبهمة ومرتبكة من نشوة الاتحاد السلبي مع مصدر الوجود الكوني. وقد كانت الآلية الحيوية القديمة العمر المتمثِّلة في حفظ الغازات الضرورية للكوكب على هيئة سائل؛ راسخة وتلقائية على نحوٍ جيد حتى إنها استمرت في العمل لفترةٍ طويلةٍ دون أي انتباهٍ لها. بالرغم من ذلك فقد أدَّى التصنيع إلى زيادة عدد سكان العالم بما يفوق الحد الذي يُمكن للإمداد الصغير من المياه والغازات أن يقوم بوظيفته بسهولة. كان دوَران المواد يتمُّ بسرعة خطيرة. وبمرور الوقت، ضعفت الآلية للغاية، وبدأت التسريبات في الحدوث ولم يصلحها أحد. وشيئًا فشيئًا، هربت المياه الثمينة وغيرها من المواد المُتطايرة من الكوكب. وشيئًا فشيئًا، جفت الخزانات وظَمِئت الجذور الإسفنجية وذوت الأوراق، وتحول سكان هذا العالم الهانئين الذين ما عادوا بشرًا، من النشوة إلى المرض والقنوط والارتباك الجاهل ثم إلى الموت.
بالرغم من ذلك، مثلما سأوضح، فلم تكن إنجازاتهم غير ذات أثر على حياة مجرتنا. لقد ثبت أنَّ وجود «المجتمعات البشرية النباتية»، إذا جاز لي أن أدعوها بذلك، لم يكن بالأمر النادر الحدوث؛ فقد سكن بعضها عوالم غريبة للغاية لم أذكرها بعد. من المعروف جيدًا أنَّ الكوكب الصغير القريب من شمسه غالبًا ما يفقد مسار دوَرانه بفعل حركة المد والجزر الناتجة عن الشمس عليه. وتصبح أيامه أطول فأطول إلى أن يظلَّ أحد نصفَيه في النهاية مواجهًا للشمس بصفة مستمرَّة. كان عدد غير قليل من هذا النوع من الكواكب مأهولًا في أرجاء مجرتنا، وكان العديد منها قد سكنته «المجتمعات البشرية النباتية».
كل هذه العوالم التي لم تكن لها الدورة اليومية المعتادة لم تكن ملائمة للغاية للحياة؛ إذ كان أحد نصفَيها شديد الحرارة على الدوام، والنصف الآخر شديد البرودة على الدوام. كان يمكن لدرجة حرارة النصف المُضيء أن تصل إلى درجة حرارة الحديد المنصهر، أما الجزء المظلم فلم يكن يسمح لأي مواد بالاحتفاظ بحالتها السائلة إذ لم تكن تزيد درجة حرارته عن الصفر المطلق إلا بدرجة أو اثنتين. وبين النصفَين يقع حزام ضيق، بل شريط فحسب، وهو الذي يُمكن أن نَصفه بالمعتدل. هنا كانت الشمس الضخمة الحارقة تَختبئ دائمًا بعض الشيء خلف الأفق. وعلى الجانب الأكثر برودة من هذا الشريط، بعيدًا عن الأشعة القاتلة الصادرة من قرص الشمس الفعلي، لكن مع الإضاءة من الهالة الشمسية والدفء من توصيل الحرارة من الأرض الواقعة باتجاه الشمس، لم تكن الحياة مستحيلة على الدوام.
دائمًا ما كانت العوالم المأهولة من هذا النوع تصل إلى مرحلة متقدمة من التطور البيولوجي قبل أن تفقد دورانها اليومي بفترة طويلة. ومع زيادة طول اليوم، كانت الحياة تُضطر إلى التكيف مع درجات الحرارة الأكثر تطرفًا في الليل والنهار. لقد كانت أقطاب هذه العوالم إذا لم تَمِل كثيرًا باتجاه مسير الشمس، تظل على درجة حرارة ثابتة نسبيًّا؛ ومن ثمَّ فقد أصبحت هي القلاع التي تَنطلِق منها الكائنات الحية إلى المناطق الأقل ملاءمة للحياة. تمكَّنت العديد من الأنواع من الانتشار نحو خطِّ الاستواء من خلال الوسيلة البسيطة المتمثِّلة في دفن أنفسها والبقاء في حالة «سبات» طوال الليل والنهار، ولا تُفيق منها إلا عند الفجر والغروب لتُباشِر حياةً شديدة النشاط. ومع طول الأيام إلى شهور، تكيَّفت بعض الأنواع على التنقُّل السريع، فصارت ترتحل في أرجاء الكوكب متتبِّعة الفجر والغروب. لقد كان من الغريب رؤية هذه الأنواع الاستوائية الأكثر خفة وهي تمرُّ بسرعة على السهول في ضوء الشمس المعتدل. كانت سيقانها في معظم الأحيان في طول صواري السفن ورُفعها. وكانت تَنحرِف بين الحين والآخر وقد مدَّدت رقابها الطويلة كي تختطف كائنًا يهرول أو تَقتلع حزمةً من أوراق الأشجار. لم تكن هذه الهجرة المستمرة السريعة لتُصبح ممكنة في عوالم أقل ثراءً بالطاقة الشمسية.
لم يبدُ أنَّ الذكاء البشري قد تحقق في أيٍّ من هذه العوالم ما لم يتحقَّق بالفعل قبل أن يصبح الليل والنهار طويلَيْن للغاية وفارق الحرارة بينهما شاسعًا. في العوالم التي تمكن فيها البشر-النباتات أو غير ذلك من الكائنات من بناء الحضارة والعلم قبل تأخُّر الدوَران على نحو مُفرط، بُذِلت جهود كبيرة للتكيُّف مع الصعوبات المُتزايدة في البيئة. في بعض الأحيان، كانت الحضارة تتراجَع إلى القطبين فحسب، مخلِّفة الجزء الباقي من الكوكب مهجورًا. وفي أحيان أخرى، ظهرت المُستوطنات تحت الأرضية في مناطق أخرى لا يخرج السكان منها إلا عند الفجر والغروب لزراعة الأرض. وفي بعض الأحيان، كان يُوجد نظام من السكك الحديدية يمتدُّ على خطوط العرض المتوازية ينقل الجماعة السكانية المهاجرة من مركز زراعي إلى آخر بعد الغسق.
بالرغم من ذلك، فحين يفقد الكوكب دورانه بالكامل في النهاية، تتكدَّس الحضارة المتوطنة على طول الحزام الثابت بين الليل والنهار. وبحلول ذلك الوقت أو حتى قبله، يكون الكوكب قد فقد غلافه الجوي أيضًا. ويمكننا أن نتخيل بوضوح أنَّ سلالة تناضل للبقاء على قيد الحياة في هذه الظروف العسيرة لن تستطيع الحفاظ على أي ثراء أو تفوُّق في الحياة الذهنية.