السيف والمدفع
ما أحوج الشرق الآن إلى أن يفكر تفكيرًا طويلًا عميقًا في تربيته الحربية، ووضع خططها ومناهجها ووسائل تنفيذها؛ فقد تبين له بوضوح أنه — بدونها — حمل بين ذئاب، وغنيمة أمام لصوص، ولا تزال طبيعة الناس كما وصفها الشاعر العربي القديم:
كما ظل صادقًا قول الشاعر:
وكما يصدق هذا على الأفراد يصدق الأمم، فالأمة إذا لم تكن ذكية القلب — أو كما نعبر اليوم — عارفة بأساليب الأمم السياسية والاجتماعية، وبالتيارات والاتجاهات العالمية … وما لم تكن تحمل سيفًا أو — على حد تعبيرنا اليوم — ما لم تكن مسلحة التسليح التام … وما لم يكن لها أنف حمي — أو كما نعبر اليوم — ما لم تكن عزيزة مرهوبة الجانب … ما لم تكن كذلك فإنها تكون طعمة الطاعم، ونهبة الظالم، وفريسة المعتدي، ولا ينفعها — قدر أنملة — ما تنادي به من طلب مراعاة العدل، والاستغاثة بالإنسانية، والضمير العالمي، والاستصراخ بالمبادئ، فالعدالة والإنسانية والمبادئ، إنما تطبق — إذا طبقت — على الأقوياء لا على الضعفاء، وعلى من استند في دعواه إلى السلاح، لا إلى الصياح.
•••
والتربية الحربية التي يجب أن يترباها الشرق، يجب أن تكون على أحداث منهج وآخر طراز، فلا نحارب القنبلة بالسيف، ولا الغواصة بالسفينة الشراعية، ولا الدبابات المصفحة بالطوابير الراجلة، فهذا لا يسمى حربًا، ولكن إلقاء بالأيدي إلى التهلكة، وكذلك الشأن في النظم الحربية.
لقد تطورت هذه النظم في كل شيء تطورًا كبيرًا يفوق ما تطوره أي نظام اجتماعي آخر؛ حتى إن كل حرب في العصور الحديثة كانت تقلب الأوضاع الحربية رأسًا على عقب، وتحل الجديد فيها محل القديم، والأمم تتسابق في التجديد؛ علمًا منها بأن النصر مكفول لمن وفق إلى التجديد النافع.
لقد كانت الجندية تعتمد كل الاعتماد على سلامة الحواس وقوة الجسم وانفتال العضلات وما إلى ذلك، فأصبحت تعتمد أيضًا — بتغير آلات الحروب وأساليبها — على الحالة العقلية والنفسية للجنود، وعلى هذا الأساس أنشئت مكاتب الامتحان لمن يهيأ للجندية، فيمر المرشح لها بمكتب الامتحان الجسمي — أولًا — فيمتحن قلبه وصدره وقوة عضلاته وسمعه وبصره وسائر أعضائه، ثم يحلل بوله إلخ … فمن لم ينجح في هذا الامتحان استبعد، ومن نجح فلا بد أن يمر بامتحان آخر عقلي، فيختبر في مقدار استعداده للتعلم، ومدى حله للمشكلات والصعوبات التي تعرض له، ثم يمتحن امتحانًا نفسيًّا في مزاجه وعواطفه وقوة احتماله للصعاب … فمن نجح في هذه الاختبارات كلها قسم إلى أقسام مختلفة حسب هذه الكفايات، وعهد إلى كل مجموعة من الأعمال الحربية ما يتناسب ومدى كفايته.
ومن ناحية أخرى، كانت الأمم في حروبها القديمة تعتمد على الجيش كأنه وحدة قائمة بذاتها، عليه أن يحرز النصر بمجهوده وحده، ثم تطورت المسألة منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر من فكرة «جيش محارب» إلى فكرة «أمة محاربة» وأصبح الجيش من الأمة بمنزلة عقارب الساعة من الساعة، فما لم تنتظم آلات الساعة الداخلية لا يمكن أن تدل العقارب على الوقت الصحيح، فالجيش إذا انتصر فبفضل الأمة أولًا وأعماله هو ثانيًا، وإذا انهزم فبإهمال الأمة أولًا والجيش ثانيًا.
وللأمة في الحروب وظائف مادية ووظائف نفسية وخلقية، فلا بد أن تكون لها مصانع وحقول ووسائل مواصلات ونحو ذلك، تمون الجيش؛ حتى يؤدي عمله على خير وجه، وتمون الشعب حتى يطمئن إلى موقفه، وبذلك تأمن الحكومة داخلها وخارجها، كذلك يجب تقوية الروح المعنوية في الشعب؛ وبغيرها لا يمكن أن ينجح جيش في الحروب الحديثة؛ وعماد هذه الروح المعنوية القدرة على التضحية في سبيل نصرة الجيش، وتعاون الهيئات والأحزاب والطبقات من موظفين وصناع وتجار وزراع، فتؤدي كل طبقة واجبها حسب خطة عامة مرسومة … وذلك كله لا يتم إلا ببرامج للتربية الشعبية يشمل الأسرة وإصلاحها، وتغذية آبائها وأبنائها بالروح الحربية والنزعة الوطنية، ثم نشر الثقافة الشعبية بين أفراد الشعب، وبخاصة معرفة تاريخه في نزاعه الخارجي، وما يريده خصومه منه وما يريد هو أن يكون، وتوضيح الغرض المنشود توضيحًا يملأ العقيدة والقلب والنفس حتى يختلط بدمه … ثم تعويده الثقة بنفسه، والثقة بمواطنه، والثقة بجيشه، والثقة بحكومته.
أما إن ظلت الأمة مبعثرة، عيابة ظنانة، فاقدة الأمل في مستقبلها، معتمدة على المطالبة بقوانين العدل، وما وضعته أوربا وأمريكا في ساعات الحرج من مبادئ، تقولها ولا تؤمن بها، قانعة بموقفها الذليل، جاهلة بشئونها وشئون العالم حولها وما يدبر لها في الخفاء، باردة العواطف نحو مستقبلها وتحقيق عزتها، يعادي بعضها بعضًا ولا تعادي أعداءها … إن ظلت الأمة على هذه الحال، فلا يمكن أن تظفر مهما يكن عدد جيشها وسلاحه وقوته.
•••
وهذه التربية الحربية إذا فشت في أمة غيرت أخلاقها ونفوسها ومشاعرها ونقلتها من حال إلى حال؛ فهي تعلمها النظام والطاعة بما اكتسبت أيام التمرن على حياة الجندية، وهي تعلمها التضحية بما ترى من جنود وقادة يبذلون دماءهم وأرواحهم للمحافظة على كيانها وإعلاء شأنها، وهي تعلمها احتمال الشدائد والصبر على المكاره بما تلاقي من عذاب وتواجه من أزمات أيام الحرب والاستعداد لها، وهي تعلمها الاستهانة بالموت وعدم الحرص على الحياة؛ لكثرة ما ترى من ضحايا وما تسمع من أخبار الكوارث، وهي تغسل الأدران التي تعلق بالأمة بسبب ركودها وحياتها السلمية الناعمة، فتقضي على الخلافات الحربية التافهة والنظر إلى صغائر الأمور دون عظائمها، وتحتقر الزعماء الذين ينظرون إلى أنفسهم لا إلى أمتهم، وهي تزيد في روابط المحبة بين طبقات الأمة المختلفة؛ إذ يرون أنهم كلهم اكتووا بنيران الأحداث، وتعاونوا جميعًا على الشدائد، وضحوا جميعًا لبلوغ الغاية التي ينشدونها، وهكذا مما يطول شرحه … وعلى الجملة فالأمة الحربية أقوى نفسًا وأقوم خلقًا وأصح جسمًا وأصلح للبقاء.
لقد مر زمن طويل على الشرق لم يُهيَّأْ فيه لحرب ولم يربَّ تربيةً حربيةً، وذلك منذ أن استعمره الغرب؛ لأن المستعمر — بطبيعة الحال — يكره ممن يستعمره أن يظهر بأي مظهر من مظاهر القوة؛ خشية أن ينقلب عليه يومًا ما، فإن سمح يومًا بتكوين جيش من الأمة المستعمرة فجيش صوري … ملابس جميلة، وحركات رشيقة، ونظام دقيق يبهر الناظر يوم العرض، ولا يبهره يوم الحرب؛ فأما روحه الحربية، وأما تعليمه أحدث الأساليب، وكيف يستخدم أحدث الآلات، فحرمته تحريمًا باتًّا، تريد الدولة المستعمرة من الجندي الشرقي أن يصلح للسير في حفلة «محمل» أو احتفال في مولد، ولا تريده صالحًا لميدان قتال، هذا شأنها مع الجندي وكذلك شأنها مع الشعب، لا تريده موحدًا منسجمًا بعضه مع بعض، ولا تريده يشعر بعزة ولا يطمح لاستقلال، وإنما تريده منحلًّا متفرقًا ذليلًا.
فلما بدأت الشعوب الشرقية تحمل عبئها وتشعر بكيانها، كان لا بد لها أن تولي عنايتها للتربية الحربية في جنودها وشعوبها، في أجسامها وعقولها وشعورها، وهو مطلب عسير شاق، ولكن لا بد مما ليس منه بد، فالحمل الوديع لا يصلح للعيش وسط الذئاب، والمستصرخ بالعدالة لا يسمع له إلا إذا حمته الغواصات والدبابات والطيارات، ونحن في عصر خير لك فيه أن يقال إنك ظالم من أن يقال إنك مظلوم؛ «والمؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف».