مظاهر الحياة العقلية للمسلمين اليوم (١)
أول ما يتبادر إلى الذهن السؤال عن معنى الحياة العقلية، وأقرب جواب إلى ذلك أنها هي الثقافة، فالحياة العقلية لأمة هي ثقافتها، وهذه الثقافة تشمل الحياة العلمية والدينية والسياسية والفنية، فإذا أردنا أن نصف الحياة العقلية لأمة أو أمم وجب أن نصف هذه العناصر جميعًا.
وعلى حسب اشتراك أمة أو أمم في الثقافة يكون الترابط، فالذي يربط الأمة رباطًا محكمًا هو اشتراكها في دينها وعلمها وفنها وسياستها، وإذا ارتبطت أمم في هذه الأمور كلها فكذلك، فإن تخلف بعضها كان الارتباط بينها أضعف قليلًا أو كثيرًا حسب العناصر المشتركة أو المختلفة، فارتباط الأمة المصرية بعضها ببعض أتم؛ لأنها تشترك في جميع هذه العناصر، والارتباط بين الأمم العربية قوي متين، ولكنه لا يبلغ ارتباط الأمة الواحدة؛ لاختلافها مثلًا في النظم السياسية وبعض التقاليد والأوضاع، والارتباط بين الأمم الإسلامية جميعًا لا يبلغ مبلغ هذين، للاختلاف في اللغة ونظم الحكم وهكذا.
الروابط العقلية
ومع هذا فالأمم الإسلامية على العموم يربطها من الناحية العقلية رباط متين؛ لوحدة الدين وهو عامل قوي في حياة المسلمين، وللارتباط الشديد الذي كان بين العلم والدين، ولمرور الأمم الإسلامية جميعًا في أدوار من التاريخ واحدة أو متقاربة.
فتاريخ الإسلام يدلنا على أن العرب بعد إسلامهم خرجوا من بيئتهم وانتشروا في البيئات الأخرى وتفاعلوا مع هذه البيئات، أثروا فيها وتأثروا بها وهضموا كل الثقافات التي كانت شائعة في البلاد المفتوحة وكونوا منها وحدة؛ فتشرب العرب في مصر الحضارة المصرية وما ذاب فيها من الحضارة اليونانية والرومانية، وتشرب عرب الشام ما كان فيها من حضارة آرامية اتصلت بحضارة اليونان وفلسفتهم، وتشرب عرب العراق حضارة الفرس، وتشرب عرب الهند حضارة الهند، ومزجوا كل هذه الحضارات وما فيها من ثقافات وصبغوها بالصبغة الإسلامية، ونفوا عنها ما لم يقره الدين الإسلامي، وصنعوا من كل ذلك ثقافة تكاد تكون واحدة للعالم الإسلامي كله، وإن اختلفت لغته، واختلفت بيئته، واختلفت تقاليده.
تقديم الدين والثقافة على الوطنية
وسيطرت هذه الثقافة على الشعوب الإسلامية كلها حتى تقاربت في عقليتها وحتى كانوا يقدمون ثقافتهم ودينهم على وطنيتهم؛ فالمصريون مسلمون أولًا ومصريون ثانيًا، وكذلك السوريون والفرس والهند والمغاربة والأندلسيون، كلهم يعدون الدين واحدًا والثقافة واحدة وأصول الحكم واحدة، وأما ما عدا ذلك من قومية ووطنية ولغة وبيئة ففي المرتبة الثانية؛ حتى كان الرحَّال كالمسعودي وابن جبير وابن بطوطة وأشباههم يتنقلون في المملكة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها كأنهم يتنقلون في وطنهم لا يحسون شيئًا من الصعوبة إلا من ناحية اللغة فإذا سهلت اللغة سهل كل شيء؛ يفهم بعضهم بعضًا في دينهم وحياتهم الاجتماعية المتأثرة بالدين ونظم الحكم المتأثر بالدين أيضًا، وهكذا.
وتقاربت ثقافة المسلمين في أصولها؛ لأن أساسها الدين الإسلامي، والثقافات المختلفة التي صهرت كلها في بوتقة العالم الإسلامي وكون منها مزيج واحد وزع على المسلمين جميعًا، ولذلك نرى الفارسي إذا أحسن اللغة العربية ألف بالفارسية والعربية، والهندي إذا أحسن اللغة العربية ألف بالهندية والعربية، فكان التأليف مستساغًا مفهومًا وكان موقع كتاب كليلة ودمنة أو الشاهنامة أو نحوهما قريبًا إلى النفوس سائغًا في العقول، ليس شأنها شأن الإلياذة والأوديسة والفردوس المفقود ونحوها إذا ترجمت إلى العربية؛ لأن روحها غير روح المسلمين، وصادرة عن ثقافة غير ثقافتهم.
نشأة الثقافة الإسلامية
وهذه الثقافة التي يصح أن نسميها ثقافة إسلامية نشأت — ككل حي — بسيطة ساذجة ونمت مع الزمان، وغلب عليها أول الأمر النقل والتقليد، ثم الهضم والتمثل، ثم الطابع الخاص الذي يميزها عما عداها، وهذه الثقافة الإسلامية كان لها أثر متشابه في كل الشعوب التي تدين بها وتخضع لها؛ وقد طبعت هذه الثقافة بالمرونة والبساطة وتطورها مع الزمان في أول أمرها، ثم جمودها وتحجرها وضعفها بسبب ضعف النظم السياسية وظلم الحكام وفساد الحكم وانتشار الجهل، ومع ذلك فقد ظلت ذات أثر كبير في عقلية الناس ومشاعرهم، وظل لها طابع خاص متميز وحضارة خاصة تسمى «الحضارة الإسلامية»؛ تمييزًا لها عن الحضارة الرومانية الحضارة اليونانية، والحضارة الغربية.
ظل الحال على هذا المنوال حتى اختلط الشرق بالغرب على أثر فتوح الأتراك في أوربا، وحملة نابليون على مصر، وغزوة أوربا للشرق كله، واستعمار أكثره، وانقسام العالم الإسلامي إلى مستعمرات إنجليزية ومستعمرات فرنسية ونحو ذلك، وكان هؤلاء المستعمرون يحملون ثقافتهم كما يحملون مدافعهم وبنادقهم فيغزون الحياة العقلية كما يغزون الحياة المادية، ونشأ عن هذا اختلاط واضطراب وارتباك بين الحضارتين والعقليتين: الحضارة الإسلامية؛ والحضارة الغربية، والعقلية الإسلامية؛ والعقلية الغربية.
مصادر الحياة العقلية
وعلى الجملة فقد أصبح للحياة العقلية للشعوب الإسلامية في عصرنا الحديث مصدران: الحياة الإسلامية القديمة بآدابها وعلومها وفلسفتها وفنها، والحياة الغربية الحديثة بآدابها وعلومها وفلسفتها وفنها، وأخذ المصلحون في كل البلاد الإسلامية يدعون دعواتٍ متشابهةً عمادها أن يأخذوا من المدنية الغربية ما يناسب، وأن يأخذوا من المدنية الإسلامية ما يناسب، والإشادة ببعض نواحي المدنية الغربية والإشادة ببعض ما في الحضارة الإسلامية.
فعل ذلك مدحت باشا في تركيا، والسيد أحمد خان في الهند، والسيد جمال الدين الأفغاني في فارس ومصر، وخير الدين التونسي في المغرب، وهكذا؛ حتى كأنهم كلهم شربوا من منهل واحد وكأن مناهجهم صبت في قالب واحد، إذ ذاك أخذت الحياة العقلية للمسلمين تتغير وتأخذ بطرف من هذا وطرف من ذاك؛ ولكن نظرًا للتطورات العالمية التي كسرت الحواجز بين الشعوب وقاربت بين أجزاء العالم بعضها وبعض واختصرت المسافات وسهلت الانتقالات، كان من الطبيعي أن تصل أمواج المدنية الغربية إلى الشرق متتابعة قوية، إذ ذاك أخذت الحياة العقلية للمسلمين تتأثر تأثرًا كبيرًا بالحياة العقلية الغربية؛ فأنماط التربية والتعليم والاعتماد في جميع مرافق الحياة على العلم لا على التقاليد، وطرق البحث العلمي الغربي ونظام الحكومات الديمقراطية وغير الديمقراطية وتقنين القوانين وعيون الأدب الغربي وقصصه وتغنيه بالحرية، ومبادئه في تحرير المرأة وهدم الاستعباد وتحرر الفكر ونحو ذلك، كلها زحفت على الحياة العقلية الشرقية كما زحفت الصناعات الغربية والمدنية الحديثة المادية، وتأثر المسلمون بهذا وذاك ولم يسلم من هذا التأثر إلا الدين واللغة؛ حتى هذان لم يسلما، فالدين الإسلامي كان قد دخله في العصور المتأخرة كثير من الخرافات والأوهام، بدأت تزول بفضل ما انتشر من العلم، واللغة اضطرت إزاء المدنية الحديثة الواسعة إلى أن تتوسع في ألفاظها وتتجدد في أساليبها.
هذا هو الوضع الحاضر للحياة العقلية عند المسلمين: استمداد من الحياة العقلية الغربية الحديثة، واستمداد من الحضارة الإسلامية القديمة، فإن اختلفت الأمم الإسلامية بعضها عن بعض في ذلك فاختلاف في المقدار الذي يستمد من هذا أو ذاك بحسب القرب من الغرب أو البعد، وبحسب سعة العقل أو ضيقه، أما المنهج فواحد في الجميع.
التقارب بين العقليات نتيجة حتمية
هذا وصف للواقع، وإذا قسنا المستقبل بالحاضر توقعنا أن يزيد الاقتباس من الحديث؛ نظرًا لما عند الغرب من قوة، والقوة معبودة أبدًا منذ كان الإنسان، ولأن الحضارة الإسلامية قد تعفنت في كثير من نواحيها بسبب ركودها وعدم تجددها، ولأن العالم لما وصفنا من تقارب أجزائه وانعدام مسافاته وكثرة اختلاطه وامتزاجه أصبح من النتائج الحتمية له أن تتقارب عقلياته حتى تتحد، وأن تتنازع مقوماته ثم لا يبقى إلا الأصلح، هذا هو الواقع، أما ما ينبغي أن يكون فإن للمدنية الغربية الحديثة مزاياها وللحضارة الإسلامية مزاياها.
من مزايا الحضارة الغربية: الاعتماد في كل مرافق الحياة على العلم: في التربية، في الزراعة، في الصناعة، في السياسة، في الإصلاح … إلخ … لا على الخرافات والأوهام والتقاليد، وهذا جميل، ومن مزاياها: الجد في اكتشاف قوانين الطبيعة واستخدامها في الصناعات ونحوها، ومن مزاياها: تفتح العقل ومرونته واستعداده لقبول كل ما يرى خيره، ونبذ كل ما يرى شره.
ومن مزايا الحضارة الإسلامية والتعاليم الإسلامية: روحانيتها وتقويمها الإنسانية تقويمًا كبيرًا، والنظر إلى الإنسان على أنه أخو الإنسان، والاعتقاد بأن الله فوق الجميع والكل مخلوقاته، وكل مخلوق للمخلوق قريب ونسيب؛ فلو استطاع المصلحون من المسلمين أن يضعوا أسسًا للحياة العقلية للشعوب الإسلامية قوامها أخذ ما في المدنية الغربية من محاسن مادية، وأخذ ما للحضارة الإسلامية من محاسن روحية، وتكوين عقيلات إسلامية تأخذ من هذا ومن ذاك خير ما عندهما، وتعمل للدنيا كأنها تعيش أبدًا، وتعمل للآخرة كأنها تموت غدًا، كان هذا خير ما يسدى إلى الشعوب الإسلامية، بل إلى العالم أجمع.
بقي أن نعرض لكل عنصر من عناصر الحياة العقلية، مبينين موقفه الحاضر والاتجاه الذي يسير فيه؛ وهو موضوع المقال التالي إن شاء الله.