مظاهر الحياة العقلية للمسلمين اليوم (٢)
وصلنا في مقالنا السابق إلى أن عقدة العقد في موقف المسلمين اليوم هي التوفيق بين المدنية الغربية والمبادئ الإسلامية، ولنبدأ الآن بالسؤال الآتي: هل هذا التوفيق ممكن أو غير ممكن؟ إن كانت المدنية الغربية مؤسسة على دين يخالف الدين الإسلامي ويناقضه لم يكن التوفيق في الإمكان، بل كان المسلمون مخيرين بين التمسك بدينهم، وبين اعتناق الحضارة الغربية، ولكن من حسن الحظ أن ليس الأمر كذلك، فمدنية الغرب غير مؤسسة على دين، وإنما هي مؤسسة على العلم والتجربة والاختبار ومحدودة بحدود المادة، فليس هناك مانع من أخذ المدنية الغربية المادية، وصبغها صبغة روحانية إسلامية.
لو تصورنا الحياة الروحانية الإسلامية هرمًا لكانت قاعدته حب الله والاتصال به والاعتقاد بأنه خالق الكون ومسيره ومدبره، ثم كانت قمة هذا الهرم هي النبوة، ولو تصورنا المدنية الغربية هرمًا أيضًا لكانت قاعدته البحث عن قوانين الطبيعة واكتشافها وتجربتها واختبارها واستخدامها في الحياة، ثم كانت قمة هذا الهرم القنبلة الذرية.
وهنا نتساءل: هل من الضروري أن يكون كل هرم من هذين الهرمين حصنًا مسلحًا يحارب الهرم الآخر ويلقي عليه بالقذائف من حين إلى حين، أو في الإمكان أن يصطلح هذان الهرمان ويكوِّنا بينهما حلفًا ويعترف كل هرم بمزية الآخر ويستفيد منه ويفيده؟ الحق أن الهرمين ليسا متخاصمين بطبيعتهما، وإنما هما متخاصمان من سوء فهم سكانهما، وأن في الإمكان مد السلوك وتوثيق العلاقة الودية بينهما واستعانة كل بما عند الآخر من مزايا.
إن الخصومة بينهما أشبه ما تكون بالخصومة بين من يقول إن الإنسان جسم فقط أو أنه روح فقط، والحق أنه جسم وروح معًا، ولا بد للإنسان من أن يجد غذاءً لروحه وغذاءً لجسمه، والحياة السعيدة في الدنيا تتطلب الاعتماد على الروحانيات والماديات معًا، فمن عاش روحانيًّا فقط كالرهبان والمتصوفة وسكان التكايا والأديرة لم يعش في الدنيا وإنما استعجل الآخرة؛ ومن عاش في الماديات فقط لم يعش في الدنيا الحقة أيضًا كإنسان وإنما عاش فيها كحيوان أو نبات؛ وخطأ المدنية الحديثة أنها اعتمدت على العلم فقط فتقدمت في كل مناهجه ومنتجاته؛ فرقت الصناعة، وحسنت الزراعة، وقدمت التجارة، بل وقننت القوانين ونظمت الحكم، غير أن نتاجها يشبه صورة فنية جميلة صنعها مثَّال ماهر؛ ولكن ينقصها الروح.
لهذا كانت قمة الهرم في المدنية الغربية هي القنبلة الذرية، ولو كان لهذا الهرم روح لم ينتج القنبلة الذرية، ولكن كان ينتج اكتشاف قوانين الذرة واستخدامها في خير الإنسانية، فإن كان ينقص هذه المدنية الحديثة شيء فإنما ينقصها أن تقتبس قبسة من الهرم الثاني الروحاني، أما وهي لم تفعل فخير للعالم الإسلامي اليوم أن يضع خطته على أساس متين، وهو أن يأخذ من المدنية الغربية كل علمها وكل تجاربها في الصناعة والزراعة والتجارة والطب والهندسة وسائر العلوم من غير قيد ولا شرط، ثم يحتفظ مع ذلك بروحانيته التي تلون هذا العلم بلون جميل، وتجعله موجهًا لخير الإنسانية، لا لغلو في كسب مال، ولا لإفراط في نعيم، ولا للقوة والغلبة؛ ولكن للخير العام.
عيب العلم الغربي أنه خلا من الروح وخلا من النظرة الأخلاقية الإنسانية، فعلم الاقتصاد أسس على قوانين المال من غير أي نظر إلى الأخلاق، وعلى الطبيعة والكيمياء كذلك، ولو لونت كل هذه العلوم بالنزعة الخيرية الروحية لكان لها شأن أي شأن في نفع الإنسانية، وهذا خطأ يصح أن يتداركه المسلمون.
•••
هذا المبدأ هو الذي يضيء للمسلمين طريقهم ويبدد حيرتهم ويحل كثيرًا من مشاكلهم، وهو مبدأ يقضي بألا يترددوا مطلقًا في أن يأخذوا كل ما وصل إليه العلم الغربي، ويستخدموه في ترقية شئونهم الدنيوية، وأن دينهم الإسلام لا يمنعهم أي منع من ذلك، بل إن الإسلام حث على طلب العلم ولو في الصين، لا يخص علمًا دون علم ولا معرفة دون معرفة، يجب على العالم الإسلامي أن يؤسس حياته الجديدة سواء كانت زراعية أو صناعية أو تجارية على أساليب المدنية الغربية وإلا تخلف عن الركب العالمي، لا يصح أن يزرع أو يصنع أو يتاجر في القرن العشرين على أساليب القرن العاشر أو الحادي عشر وإلا كان أضحوكة العالم.
إن العلم الحديث وما أنتجه من مخترعات لم يصبح ملكًا للغرب، وإنما هو ملك للعالم أجمع يجب أن يستخدمه كل ركن من أركانه في مصلحته ومصلحة سكانه، بل يجب على العالم الإسلامي أن يأخذ من ذلك ما وصل إليه الغرب ويحسن فيه ويزيد عليه، فلم يحرم اللهُ العالمَ الإسلامي من عقول كعقول الغرب، وأيد كأيدي الغرب، ولا شيء يمنعه من ذلك إلا تمسكه بالتقاليد الموروثة وتقديسه للعادات المألوفة، ودينه براء من كل ذلك.
نعم؛ أخذ العالم الإسلامي شيئًا من ذلك؛ فترى في كل قطر آلات صناعية جديدة، وزراعة على النمط الجديد، وصناعة على نمط الصناعة الأوربية، ولكن ليس هذا عامًّا ولا شاملًا، فآلات جديدة بجانبها آلاف من الآلات القديمة، وصناعة جديدة بجانبها صناعات وافرة قديمة، وهذا من أثر البلبلة والحيرة والارتباك الذي ساد سكان العالم الإسلامي، فإذا هم آمنوا بوجوب استخدام العلم الغربي على آخر طراز وجب على زعمائهم وقادتهم أن يقضوا على القديم في ذلك ويعمموا الأساليب الجديدة من غير تردد.
هذه ناحية، وناحية أخرى يجب أن يلفت إليها العالم الإسلامي، وهي ناحية المرأة المسلمة، فالمرأة الأوربية تعد بحق أساسًا كبيرًا من أسس نهضتها؛ إذ هي التي تربي الأبناء وتبعث الحياة في الجيل الجديد من الرجال والنساء، المرأة هي التي تنظم الحياة الاجتماعية وهي المشرفة على البيت وهي بلسم الهموم وهي عماد الثقافة، فما لم ترتقِ، وما لم تحرر، وما لم تتعلم، لم يكن هناك أمل كبير في جيل صالح جديد، فماذا على قادة المسلمين لو وجهوا مجهودًا كبيرًا للمرأة؛ يعلمونها، ويرقونها، ويحررونها، والإسلام في صميم تعاليمه يساعد على ذلك، ويحث عليه؛ وإنما وصلت المرأة المسلمة إلى ما وصلت إليه من ضعف وانحطاط برغم الإسلام لا بسبب الإسلام.
•••
لو أخذ العالم الإسلامي كل العلم الغربي وكل ما وصل إليه الغرب من تجاربَ واعتبر هذا جسمًا من الأجسام يتقمص الروح الإسلامي الصافي النقي: من اعتقاد بإله واحد بث في هذا العالم قوانينه، وألف بين سكانه، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وأمر معتنقيه أن يكونوا رحماء فيما بينهم، لا عصبية لجنس ولا دم، ولا تفاضل بينهم بالنسب ولا بأي سبب آخر إلا العمل الصالح والنية الصادقة؛ لو مزجت هذه التعاليم الإسلامية الصحيحة بهذا العلم الصحيح لأنتجت من غير شك جيلًا من الناس من خير الأجيال خلا من مادية الغرب وجفافه، ومن خرافات الشرق وأوهامه، ولكان جيلًا يصح أن يكون جيلًا نموذجيًّا للشرق والغرب معًا، ولحقق هذا الجيل ما ذكرنا في صدر المقال من اكتسابه خير ما في الهرمين والتوفيق بين المعسكرين.
إن أهم مظهر للعالم الإسلامي اليوم هو مظهر استمداده من الغرب، ولكن عيب هذا الاستمداد أنه مصحوب بالتردد والبطء؛ فنأخذ بعض العلم وندع بعضًا، ويقدم قوم على الأخذ ويحجم آخرون، فتجد الآلة الزراعية على آخر طراز أمريكي، وبجانبها الساقية والشادوف، وتجد المدرسة على آخر طراز، والكتاب على نمط القرون الوسطى، وتجد المرأة المسلمة تلبس الثياب الأوربية كما وصل إليه آخر بدع، والمرأة المسلمة المحجبة التي لا يظهر منها إلا عيناها، وهكذا من مظاهر الاضطراب والارتباك؛ وكثيرًا ما يكون استمداد العالم الإسلامي من العالم الغربي متجهًا إلى المظاهر لا إلى الأصول والجواهر، فنؤثث مدرسة على النمط الأوربي ونضع منهجًا على النمط القديم وهكذا، كان الواجب يقضي بأن نكون في نقل العلم الأوربي والتجارب الأوربية حازمين مسرعين كما فعل اليابانيون، فننقل طرق الزراعة الحديثة بحذافيرها بمنتهى القوة؛ حتى نقضي على كل الأساليب القديمة، وهكذا الشأن في الصناعة والتجارة وغيرها.
ربما كان للمسلمين بعض العذر في تحفظهم في استقبال المدنية الغربية؛ لأن هذه المدنية من علمٍ وأفكارٍ وتجاربَ وصلت إلى العالم الإسلامي — للأسف — مع صوت المدافع والقنابل والفتح والاستعمار، فكان طبيعيًّا أن ينفروا من كل ذلك جملة من غير تفكير طويل وأناة وتنقية لما يؤخذ وما يترك، أما وقد ذهب صوت المدافع، وجاهد أكثر المسلمين حتى وصلوا إلى الاستقلال، وهدأوا مما عراهم أول الأمر من دهشة، فيجب أن يميزوا بين علم لا بد أن يؤخذ، ومدفع ينبغي أن يقاوم.
وقد أصبح برنامج المسلمين اليوم واضحًا أمام المدنية الغربية؛ وهو ما كررنا قوله من فتح صدورنا للعلم الغربي واستيعابه بكل قوة وبكل سرعة وأن نجعله شاملًا نافذًا على الجميع، لا أن نؤسسَ مؤسساتٍ جديدةً على العلم الجديد بجانب مؤسسات على التقاليد القديمة، كما يجب أن نحتفظ بديننا الصافي، فيكون لنا من ذلك كله علم ودين، كما لنا جسم وروح، والله الموفق.