حول الإنسان (٢)
مهما كان عالم المادة في الحياة قويًّا وعظيمًا، ومهما كان عقل الإنسان عاجزًا وضعيفًا، فإن عقل الإنسان شاعر بعجزه، وعالم المادية شاعر بقوته، ولذلك كان عقل الإنسان العاجز العالم بعجزه، أرقى من الطبيعة القوية الجاهلة بقوتها.
إن شعور الإنسان بضعفه وعجزه وعيوبه هو الذي حفزه على أن يكمل نفسه ويرقيها ويسير بها إلى الكمال؛ ونحن إذا تتبعنا تاريخ الإنسان حتى في عصوره الحديثة فقط وجدناه يقفز قفزات واسعة في سبيل الرقي، لقد شهد القرن التاسع عشر تقدم الإنسان العجيب في تغلبه على المادة، فاستخرج الفحم من أعماق الأرض وصنع من الحديد والفولاذ آلات وأدوات لا عداد لها؛ لتحقيق الأغراض الإنسانية، واكتشف قوة البخار والكهرباء واستخدمها في تحسين حياته، واستطاع بهما أن يسهل الانتقال وينير البيوت والشوارع ويكثر الإنتاجات الزراعية ويحسنها، واستتبع ذلك قلة في الجرائم، هذا إلى ما لا يحصى من اختراع أدوات الترف والترفيه.
وكان من نتائج استيلاء الإنسان على قوى الطبيعة وإخضاعها لإرادته ما نتج عن ذلك من تحسن صحته؛ فقد استطاع أن يتغلب على كثير من الأمراض؛ وقد تسابقت الأمم الحية بمراعاتها للأمور الصحية، فاستطاعت أن تقلل من نسبة وفيات الأطفال، وأن تزيد في متوسط أعمار السكان، وبنيت المساكن الصحية للفلاحين والعمال، وقل عددهم في هذه البيوت الجديدة فاستطاعوا أن يعيشوا عيشة أسعد وأرغد، وشرع كثير من القوانين التي تحمي العمال من أصحاب رءوس الأموال، وقللت ساعات العمل؛ حتى يستطيع العامل أن يجد فراغًا لتثقيف نفسه، أو للترفيه عنها، أو الاستمتاع بسائر مُتَع الحياة.
وتغلب الطب على كثير من آلام الإنسان؛ فكم خفف البنج من آلام في حجر العمليات وسهل على الأطباء والمرضى إجراء العمليات في يسر وسهولة، بعد أن كان المرضى يلاقون أشق العذاب وأعظم البلاء!
وارتقى الإنسان في عقليته فاستطاع أن يصل في فهم حقائق العالم إلى ما لم يصل إليه من قبل، وتقدم في القرن الأخير في فهم الذرة وتكونها إلى حد لم يكن يحلم به الأقدمون، واكتشف من قوانين الطبيعة والكيمياء ما عجز عنه الأسبقون، وتقدم في فهم حقائق النفس البشرية، وغطت مذاهبه الفلسفية الحديثة على الفلسفة اليونانية والرومانية؛ وعلى الجملة فقد نال حظًّا وافرًا في ناحيته العقلية، كما نال هذا الحظ الوافر في تسلطه على المادة الطبيعية.
وتقدم الإنسان كذلك في إنسانيته، فنراه قد ألغى عذاب السجون، والضرب في المدارس، وتعذيب المجرمين، وكان آباؤنا الأسبقون يتخذون من أصحاب العاهات والآفات موضعًا لسخريتهم وضحكهم، فأصبحت هذه الآفات والعاهات موضعًا لرحمتنا وعطفنا، وإذا ابتليت أمة بحادث من حوادث الزلزال أو الحريق أو العواصف أسرعت غيرها لنجدتها، إلى غير ذلك من ضروب الإنسانية، وإن كان هذا الشعور الإنساني لم يرقَ الرقي المادي ولا الرقي العقلي.
ويتساءل بعض الفلاسفة اليوم السؤال الآتي:
أما وقد رقى الإنسان هذا الرقي الباهر في هذا العصر الحديث، فما الذي ينتظر منه في مستقبله؟ وماذا يجب على القادة حتى يوجهوه نحو الرقي؟ وإلى أية جهة يوجهونه؟ أما برنارد شو فقد أجاب عن هذا السؤال بأنه يتمنى أن يتجه التفكير إلى إطالة العمر، وخاصة عمر العقلاء والحكماء والفلاسفة، وتمنى أن يطول عمرهم أضعاف ما يعيشون، وأن يتعاون العلم والأطباء وغيرهم على اكتشاف ما يطيل أعمارهم؛ لأنه عز عليه أن يبذل الفيلسوف والعاقل والحكيم أعمارهم في التجارب؛ حتى إذا بدأت في النضج وأشرفت على نفع الإنسانية، أتت المنية فاخترمتهم قبل أن ينتفع العالم بتجاربهم ونضجهم، فلو عمر هؤلاء طويلًا لكانوا خيرًا عظيمًا للإنسانية.
وقال الأستاذ جود: إنه يتمنى أن يتجه العالم نحو ترقيته في أبحاثه الروحية؛ من تنويم مغناطيسي، وقراءة للأفكار والآراء بواسطة الإيحاء، ونحو ذلك من العالم الروحي، فيقول: إنه بعد أن تقدم الإنسان في العالم المادي عليه أن يتجه هذا الاتجاه نحو العالم الروحي، وإنه سيكون لهذا نتائج باهرة فنستطيع إذا تقدمنا في هذا العلم أن نقرأ أفكار الناس وآراءهم من غير تلفيق، وأننا إذا تقدمنا في هذا بطل الكذب والنفاق والرياء ولم يعد لها مكان، وأسست الأخلاق على أسس جديدة. ويقول: إن بعض المعاهد في أمريكا تقدمت تقدمًا كبيرًا في هذا النوع من ناحية قراءة الأفكار، وقراءة المغيبات، والإيحاء الروحي ونحو ذلك.
وأنا لا أرى رأي شو ولا رأي جود، فلو عاش الحكماء والفلاسفة والعقلاء عمرًا أطول لساعدوا حقيقة في تقدم العالم، ولكن في نفس الطريق الذي يسير فيه العالم وهو طريق المادة والعلم والعقل، ولست أوافق جود على تفسير الروحانية بهذا المعنى الذي فسرها به من قراءة الأفكار والمشاعر الخفية، إنما يجب أن يوجه العالم إلى الروحانية بمعنى آخر، وإن شئت فقل إلى الإنسانية.
لقد عجزت المدنية الحديثة إلى اليوم أن تجعل الإنسان ينظر إلى الإنسان على أنه أخوه؛ بقطع النظر عن فروق الجنسية والدم واللغة والدين وما إلى ذلك، إن الذي نوده في المستقبل أن يتجه العالم إلى الإنسانية مجردة عن اعتبار القومية والوطنية، فيأخذ القوي بيد الضعيف من أي جنس وبأي لون، ويعين من يحتاج إلى العون من أي دين كان ومن أي وطن كان، ويعلم العالمُ الجاهلَ ويطب الصحيحُ المريضَ، ويسود الشعور العام في العالم بأن الإنسان أخو الإنسان؛ فتنقطع الحروب، ويحل الوئام محل الخصام، ويسود في العالم السلام.
هذا هو ما يجب أن يتجه إليه القادة في رسمهم صورة المستقبل، وإلا فما قيمة التقدم المادي والتقدم العقلي إذا كان الإنسان دائمًا بين حرب مضت وحرب ستأتي، وفناء في حرب واستعداد لحرب، ليست المدنية تقاس بكثرة المخترعات ولا بعمق الفلسفات، إنما تقاس بما تبعث في النفوس من طمأنينة، وعطف عام، وإنسانية شاملة.
لقد صور هذا المعنى تصويرًا باهرًا شاعرٌ عربي صوفي قديم، هو الإمام محيي الدين بن عربي؛ إذ يقول:
لقد ظفر محيي الدين بمعنى لم تظفر به المدنية، ولعلها لا تظفر به إلا بعد مئات من السنين، وبعد أجيال وأجيال.