اليهود في أمريكا
قد كتب الله على نفسه أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ وليس الصالحون من صلوا وصاموا ثم ناموا، إنما الصالحون من ضموا إلى عبادة ربهم رعاية حقوقهم وواجباتهم
لعل من الخير أن يعرف قراء العربية تفاصيل كثيرة عن مركز اليهود في العالم؛ لأن ذلك يلقي ضوءًا على الحوادث التي تقع بين العرب والصهيونيين في فلسطين، وتوضح موقف الدول منهم ولِمَ تناصرهم؛ ولعل الكتاب يكثرون من بحث هذا الموضوع والكتابة فيه؛ لأن مسألته مسألة اليوم وأزمته أزمة الساعة، ولنبدأ اليوم باستعراض لموقف اليهود في أمريكا؛ لأنها أكبر دولة تؤيدهم في السر والجهر، وفي السياسة والمال.
وتاريخ اليهود في كل أمة تاريخ طويل، في بلاد العرب وبين المسلمين، وفي إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وروسيا وألمانيا وإيطاليا، وأخيرًا في أمريكا، فهم حيثما وجدوا سببوا حركة حولهم وشعور تخوُّف منهم، وحذر من أعمالهم؛ وأكبر سبب في ذلك أنهم لا يذوبون في الأمم التي يعيشون فيها، فاليهودي الإنجليزي يهودي أولًا، وثانيًا، وثالثًا، وربما كان إنجليزيًّا رابعًا، وكذلك اليهودي الألماني والأمريكي … إلخ، وهم لا يقتصرون على المحافظة على شخصيتهم وجنسيتهم من ناحية الدين، بل هم كذلك في ناحيتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فهم دائمًا يكونون أمة داخل كل أمة.
هذا تاريخهم قبل النصرانية وبعدها — قبل الإسلام وبعده — في عالم الشرق وعالم الغرب، وقد وضعوا فلسفتهم الاجتماعية والدينية على أساس هذه الفكرة، فكرة الانفراد والانفصال وعدم الذوبان في الأمم التي يعيشون فيها، وتكوينهم نواة منفردة وسط المحيط الذي يعيشون فيه، على نمط لم يعرفه التاريخ لأي مذهب ديني أو اجتماعي آخر، وقد فسر بعضهم هذا بأنه «مركب نقص» دعا إليه شعورهم بقلة عددهم، ولكن هذا تفسير لا يكفي؛ لأنَّ كثيرًا من المذاهب الدينية والاجتماعية كان معتنقوها أقل عددًا، ومع ذلك لم ينفصلوا هذا الانفصال ويعتزلوا هذه العزلة ويستقلوا بأنفسهم هذا الاستقلال.
ومن أجل هذا الانفصال وجد عند الأمم التي يعيشون فيها نوع من الكراهية لهم، كما يُكره من الجماعة الرجل النَّفور الذي يعيش لنفسه فقط؛ وكان هذا الكره متبادلًا، يقتصر أحيانًا على ما في النفس، ويتحول أحيانًا إلى عسف وعنف، فلما تحولت الدولة الرومانية إلى دولة نصرانية، وسادت هذه الديانة كان اليهود فيها موضع الكره والعسف في كل أقطار المملكة الرومانية، ولما جاء الإسلام عاملهم الرسول أول الأمر معاملة إحسان وإكرام، ولكن سرعان ما تبين ميلهم إلى الوحدة والانفصال وتدبير المؤامرات لبذر بذور الشقاق بين المسلمين؛ فكان الخصام وكان القتال بين المسلمين وبني قريظة وبني النضير من اليهود، ونزلت لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا.
وهكذا كان الحال بعدُ بين اليهود والنصارى، واليهود والمسلمين، وإن كان المسلمون أحسن معاملة وأوسع صدرًا وأكثر احتمالًا، فطالما عانى اليهود أشدَّ العناء من معاملة النصارى لهم، وكثيرًا ما حرموا عليهم الملكية واضطروهم أن يسكنوا في أحياء خاصة، ومنعوهم من استعمال حقوقهم المدنية.
واشتهر اليهود حيثما حلُّوا بحب المال وما يتبع ذلك من مهارة في التجارة والمعاملات المالية من غير رحمة، فإذا أقرضوا استخدموا كل الوسائل لإيقاع المقترض منهم في الشباك، ثم امتصوا دَمَه من غير رأفة؛ كانوا كذلك في المدينة بين العرب؛ بيدهم الذهب، وبيدهم صناعة الحلي الذهبية، وهم الذين يقرضون بالربا أضعافًا مضاعفة، وكذلك كانوا في أوربا، ولسنا ننسى التصوير البديع الذي صورهم به شكسبير في رواية «تاجر البندقية»، من أجل ذلك قوبلوا من الأمم التي يعيشون فيها بالكراهية والنفور والحذر، وهذا ما زاد اليهود حبًّا في تكتلهم وانطوائهم على أنفسهم وتكوينهم وحدة خاصة بهم.
ولم يستطع اليهود أن يستردوا كثيرًا من حريتهم إلا عند الانقلاب الصناعي الذي حدث في أوربا وسيادة الروح الديمقراطية والنظام الديمقراطي وانتشار الدعوة إلى الحرية والإخاء والمساواة؛ ومع ذلك بقي كثير من الجفاء بين النصرانية واليهودية، وبقي تكتل اليهود وانفصالهم عن مجتمعهم إلى حَدٍّ كبير، وأثار اليهود الضغينة من جديد؛ لأنهم حتى بعد الانقلاب الصناعي تسابقوا مع المسيحيين، وجدُّوا في أن يكون لهم منزلة ممتازة وسلطة قوية في الصناعات أيضًا مع بقاء تكتلهم ومساعدة بعضهم بعضًا ضد من يسابقونهم من النصارى.
ونعود إلى موضوعنا فنقول: إن اليهود لم يكونوا كثيري العدد في أمريكا قبل منتصف القرن التاسع عشر، ثم زادت هجرتهم إلى أمريكا من ألمانيا وسائر الممالك الأوربية على أثر الحركات الثورية التي حدثت في أوربا بعد سنة ١٨٤٨، ومن سنة ١٨٨٠ إلى الحرب العالمية الأولى هاجر إلى أمريكا آلاف من يهود بولندة وأوكرانيا والبلقان، ونزل أكثرهم في المدن الكبرى على ساحل البحر الأطلنطي، وفي شيكاغو وما حولها؛ وفي سنة ١٩٤٠ بلغ عدد اليهود في نيويورك مليونين ونصف مليون، وهو نصف عدد اليهود في أمريكا إذ ذاك، وقد زاد عددهم بعد، فبلغ نحو ستة ملايين.
وما هاجر هذا العدد من اليهود إلى أمريكا حتى وضحت الظاهرة المزمنة، وهي الصراع الاقتصادي بين اليهود والمسيحيين، وكان النظام الرأسمالي في أمريكا مرتعًا خصبًا لليهود يجولون فيه ويسودون ويسيطرون؛ ومن أجل هذا شاع بين الأمريكيين أن اليهود لا يتجهون وجهة قومية، ولكن وجهة يهودية مالية بحتة عمادها السيطرة على البنوك؛ ومن العجيب أنهم اتهموا أيضًا بمناصرة الشيوعية ونشر التذمر والقلق والاضطراب في الطبقات الدنيا من العمال وأمثالهم؛ وفسر بعض الأمريكيين ذلك بأن اليهود يلعبون على حبلين، فيناصرون الرأسمالية ويناصرون الشيوعية، وهم يستفيدون من هذا وذاك، وهم الرابحون إذا نال النصر والظفر هذا أو ذاك، وهذه هي بعينها الألعوبة التي لعبها الصهيونيون في فلسطين، وهذا الموقف الغريب من اليهود في لعبهم على الحبلين وانتصارهم للنقيضين، كان أحد الأسباب التي حملت هتلر على اضطهادهم وتشريدهم والتنكيل بهم.
ويهود أمريكا قد حافظوا على الصفة البارزة في يهود العالم، وهي تكتلهم وانطواؤهم على أنفسهم وتكوينهم أمة في الأمة، ومن أبرز ما فيهم أيضًا ميلهم إلى الحركات اليسارية الاقتصادية والسياسية، ومن عجيب الأمر أن قد أجرى بعض الباحثين الأمريكيين تجاربهم على عدد من الطلبة في الجامعات الأمريكية، فثبت لهم بالبحث أن طلبة اليهود أقل تمسكًا بدينهم من الطلبة المسيحيين، وأسرع إلى اعتناق مبادئ الإلحاد، وقام الأستاذ كارلسون ببحث ٢١٥ حالة من طلبة جامعة شيكاغو، في الصفوف العليا، فوجد أن طلاب اليهود أشد اعتراضًا على مبدأ تحريم الخمر، وأنهم أقل إيمانًا بالله من أمثالهم من الكاثوليك والبروتستنت، وأنهم أيضًا أشد تحمسًا لمبدأ ضبط النسل والشيوعية والدعوة إلى السلم، وأن الطلبة الكاثوليكيين أشد تحفظًا، والطلبة البروتستنيين وسط بين هؤلاء، وهؤلاء، ومما لاحظه الأمريكيون أيضًا، مهارة اليهود — بجانب مهارتهم المالية — في الدراسات الجامعية، وخاصة الطب والقانون والتعليم.
وقد أدى كل ما ذكرناه من مسلك اليهود في الصناعات، والسياسة والمال، والجامعات، إلى تنافس شديد بين المسيحيين الأمريكيين واليهود الأمريكيين تنافسًا سبب الخصومة والعداء، وكان لذلك مظاهر كثيرة؛ فبعض الجامعات الأمريكية تحرم الطلبة اليهود من الاشتراك في نواديها والمنظمات الاجتماعية فيها، وبعض الطلبة يعير بعضًا إذا صاحب فتاة يهودية، مما اضطر بعض اليهود إلى ترك التعلم في بعض الجامعات؛ فرارًا من الضغط الاجتماعي، وهم يلمزون اليهود بأنهم عيابون ظنانون أنانيون لا يتعاونون إلا مع أنفسهم، وكثيرًا ما كان اسم اليهودي كافيًا لحرمان صاحبه من الدخول في الجامعة أو حرمانه من منصب الأستاذية، أو نحو ذلك، ولذلك لجأ بعضهم إلى تغيير أسمائهم واستعارة أسماء مشتركة بين المسيحيين واليهود؛ للاستفادة من هذا الغموض في أعمالهم الخاصة.
واليهود الأمريكيون مع تكتلهم مختلفون من حيث طبقاتهم الاجتماعية، ومن حيث عقائدهم الدينية، ومن حيث الأمة التي ينتسبون إليها؛ من ألمانية أو بولندية أو نحو ذلك، فاليهودي الغني من الإسبان أو البرتغال يعد نفسه أعلى اليهود نسبًا وأعظمهم جاهًا، ويليه الغني من الألمان، ولكن لكثرة عدد الألمان من اليهود وكثرة غناهم ربما عدوا أعلى طبقة.
وهؤلاء بما كسبوا من ألمانية متفوقة متعجرفة يحتقرون اليهودي الروسي والبولندي.
ولهذه الخلافات الاجتماعية والعنصرية أثر كبير في نشوب الخلافات المتعددة بينهم، ولكنهم مع خلافهم بعضهم وبعض يتكتلون تكتلًا قويًّا إذا حزب الأمر وعرضت منافسة بين اليهود وغيرهم؛ فهم إذ ذاك يكونون كتلة واحدة قوية، ويقفون وقفة واحدة أمام غيرهم، ومهما يكن أمرهم فقد أصبحوا في أمريكا قوة كبيرة بتسلطهم على منابع الثروة والقوة والدعاية، فهم أرباب البنوك وأرباب السينما وأرباب الصحافة، وبذلك كان سلطانهم في أمريكا سلطانًا كبيرًا.
فهل يتخذ العرب من هذا كله درسًا فيكتلوا أنفسهم، ويوحدوا كلمتهم، ويقووا مراكزهم في السياسة والمال وعدد الحرب والدعاية، ويفتحوا أعينهم لكل ما يجري في العالم مما يتعلق بهم وبمستقبلهم، ويدعموا حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والخلقية بدعامة العلم الحديث؟ أو يظلوا متفرقين والعدو مجتمع، متصدعين والعدو ملتئم، قابعين في بيوتهم والعدو ينشط في كل الميادين؟ يسيرون سير الجمال والعدو يقفز بالطيارات، مكتفين بالدعوة بأن الحق معهم، والحق لا يغني ما لم تدعمه القوة، وقد كتب الله على نفسه: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ وليس الصالحون من صلوا وصاموا ثم ناموا، إنما الصالحون من ضموا إلى عبادة ربهم رعاية حقوقهم وواجباتهم، وعرفوا كيف يسوسون الممالك ويدبرون أمورها على خير وجه وأقوم طريق، وتسلحوا بكل ما يقتضيه الزمان من سلاح مادي ومعنوي، أولئك هم الصالحون الذين يرثون الأرض، أما من عداهم فيرثون الذل والمسكنة في الدنيا والقبور في الأخرى، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم.