من الأدب العربي (١)
من أظرف ما روت كتب الحديث حديث أم زرع، وقد رواه المحدثون عن عائشة، وهي قصة لعلها كانت قصة شعبية عند بعض العرب سمعتها عائشة فروتها كما سمعتها، وتدور القصة على أن إحدى عشرة امرأة من نساء العرب ضمهن مجلس، وجرى بينهن ذكر الأزواج، فتعاقدن أن تصف كلٌّ زوجها ولا تكتم من أخباره شيئًا، فكان المجلس بذلك معرض أزواج؛ منهن الراضية والساخطة، ومنهن المادحة والقادحة، ومنهن الفصيحة البليغة، ومنهن دون ذلك، وأيًّا ما كان؛ فالقصة تمثل نظر نساء العرب إلى أزواجهن، وتمثل الصفات الممدوحة والمذمومة في بيئتهن، ونكتفي بما استحسناه من وصفهن ذمًّا كان أو مدحًا؛ فبعضهن كانت تافهة لا قيمة لوصفها، وبعضهن أخلت بالوعد فخافت من وصف زوجها.
وذمت أخرى زوجها بأنه جشع شره، إن أكل أو شرب أتى على كل ما أمامه، وهو مع ذلك لا يسد حاجتها منه: «إن أكل لفَّ، وإن شرب اشتفَّ، وإن اضطجع التفَّ».
وذمت ثالثة زوجها بأنه عيي، أحمق، سخيف العقل، يتخيل كل داء عند الناس داء فيه، طويل اليد؛ يضرب ويكسر، وذلك إذ تقول: «زوجي عَيَاياءُ طبَاقاء، كل داء له داء، شجَّكِ أو فلَّكِ أو جمع كلًّا لكِ».
هذا نوع من أنواع الساخطات القادحات، أما من مدحن، فقالت إحداهن: إنه حسن الرائحة، طيب الملمس، وكَنَّتْ بذلك عن طيب سيرته في الناس وحسن عشرته؛ إذ قالت: «زوجي، الريح ريح زَرْنب، والمس مس أرنب».
وقدرت أخرى زوجها من ناحية المعنى فوصفته بأنها تسكن إليه وترتاح في جنابه، وتشعر بالطمأنينة؛ إذ كان زوجًا لها وكانت زوجة له، لا تشعر من مصاحبته بسأم أو ملل، وعبرت عن ذلك تعبيرًا لطيفًا فقالت: «زوجي كلَيْل تهامة، لا حر، ولا قُر، ولا مخافة ولا سآمة».
ولاحظت أخرى في زوجها معنى لطيفًا، وهو أنه لطيف العشرة في البيت، خشن الملمس خارج البيت، لا يَسأل عما افتقده في البيت، فقالت: «زوجي إن دخل فَهِد، وإن خرج أَسِد، ولا يَسأل عما عَهِد».
ومدحت زوجة زوجها فقالت: «زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد». فوصفته بالشرف وطيب الأصل، والرفعة في قومه، وأنه طويل القامة، كثير الكرم، كثير الضيوف، وأنه اتخذ بيته قريبًا من مجتمع القوم، ولا يفعل ذلك إلا كريم؛ لأنهم يأخذون منه ما يحتاجون إليه في مجالسهم.
ومدحت زوجة زوجها بأنه كثير المال، وقد أعد المال لقصاده، فقالت: «زوجي مالك، له إبل كثيرات المَبَارك، قليلات المسارح، إذا سمعنَ صوت المِزْهر أيقنَّ أنهنَّ هوالك»، وتريد بالجملة الأخيرة أنه تعود أن يلقى ضيوفه بالمزاهر، (والمزهر هو العود يغنى عليه) وقد تعودت إبله أنها إذا سمعت صوت العيدان والمعازف أدركت أنهن سينحرن لا محالة.
ويروي الحديث أن رسول الله لما سمع هذه القصة من عائشة قال لها: كنت لك كأبي زرع لأم زرع.
وفي هذه القطعة الأدبية مصداق للحياة البدوية، من إبل وخيل وصهيل ونقيق، وفيها أمثلة لما يذم من الأخلاق من بخل وعيٍّ وحمق وشره، وما يمدح من كرم ونحر للضيفان، وسعة صدر، وحسن عشرة، وفيها مثل من أمثلة ما يعجب المرأة العربية من الرجل، وما لا يعجبها … إلخ.
ونقف عند هذا الخبر قليلًا لنفكر: هل من المعقول أن يجتمع نساء كهؤلاء، فتقول كل زوجة على البديهة هذا اللفظ المزوق في هذا السجع المنمق، من مثل: عياياء طباقاء، ومن مثل: إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف … إلى آخر الأسجاع، أو أن قصاصًا لطيفًا سمع بعض الحكايات المألوفة فوضعها في هذه الصيغة البليغة؟
تُرى؛ لو اجتمعت إحدى عشرة امرأة حضرية في مجلس في القاهرة أو دمشق أو بغداد فماذا كن يقلن إذا ذممن، وماذا يقلن إذا مدحن؟ ستختلف اللغة كل الاختلاف، وستختلف المعاني أيضًا كل الاختلاف، فلا يكون في اللغة بطيبعة الحال جمل ولا خيل ولا صهيل، ولا طويل النجاد ولا كثير الرماد؛ لأن كل بيئة لها حكمها، وكل زمان له لغته ومعانيه، وأكبر الظن أنه إذا اجتمع إحدى عشرة امرأة حضرية فمن الصعب أن يسود النظام والإصغاء؛ حتى يسمعن رأي القائلة في وصف زوجها، ومن الصعب أيضًا أن يلتزمن الصدق، فسيكون منهن المتزيدة التي تسرف في مدح زوجها، أو ذمه؛ حتى تخرج عن المعقول.
وهب أننا افترضنا الصدق والنظام فستكون هناك معان للذم جديدة، ومعان للمدح جديدة، خلقتها البيئة الجديدة، وسترى بعضهن يشكون أزواجهن من السهر خارج البيت إلى ما بعد منتصف الليل في سكر أو قمار أو مغازلة نساء أو كيف من الكيوف، وهو معنى لم يتعرض له حديث أم زرع، وقد يشترك بعضهن مع نساء البدو في الوصف بالبخل وسوء العشرة؛ وإذا مدحن فقد يشتركن أيضًا في المدح بالكرم وإغداق النعم عليهن ونحو ذلك.
ولكن مما لا شك فيه أن المدنية ستوحي لبعضهن بمعان جديدة؛ فقد تصف الحضرية زوجها بأنه أباح لها الحرية في كل ما تقول وتفعل، كما أباحت له الحرية في كل ما يقول ويفعل، وما يدرينا؟! لعل امرأة حضرية أخرى تصف زوجها الحضري بأنه استنوق فصار الناقةَ وصارت الجملَ، وأصبحت الذئب وأصبح الحمل.
ولعل هذا الحديث يوحي لنا بوصف أحد عشر رجلًا يجلسون فيصفون زوجاتهم، ويتعاقدون على الصدق في القول، إذًا لكان مجلسًا ظريفًا يكمل مجلس أم زرع، ولعلنا نفعل.