التجديد والمجددون
حركات التجديد في عصرنا الحاضر أسرع منها في كل عصر مضى؛ لأن العالم أصبح وحدة، والفروق في الأزمنة والأمكنة قد قضي عليها، وما يحدث في أمة ينتقل عنها إلى أقصى العالم في سرعة البرق … وحسبك في ذلك تطور الشرق في القرن الأخير …
من الأحاديث الطريفة ما روي عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها»، وقد أخذ العلماء يبحثون في رأس كل مئة سنة عن هذا المجدد الذي يصدق عليه الحديث، فقال بعضهم إنه عمر بن عبد العزيز على رأس المئة الأولى، والشافعي على رأس المئة الثانية، وابن سريج أو الأشعري على رأس المئة الثالثة، وأبو حامد الإسفرائيني على رأس المئة الرابعة، والخامس الغزالي، والسادس الفخر الرازي، والسابع ابن دقيق العيد … إلخ. ويعجبني في هذا الحديث طرافته من حيث معناه وتقريره لفكرة تغير التشريع بتغير الزمان، ولكن لم يعجبني من الفقهاء تزمتهم الحرفي في تحديد مجيء المجتهد على رأس كل مئة بالحساب الدقيق، كما لم يعجبني فيهم تعصبهم المذهبي واعتقاد الشافعية أن المجدد يجب أن يكون شافعيًّا أبدًا، وهكذا.
والواقع أن فكرة التجديد لا يمكن أن تقاس بالمتر؛ فقد يحدث من الأحداث ما يستوجب التجديد في زمن قصير، وقد يحدث منها ما يستوجب التجديد في زمن طويل، وليس التجديد مقصورًا على الدين، فكل مرفق من مرافق الحياة يتجدد: الدين، والعادات والتقاليد، والأدب والغناء، والنظريات السياسية والعلم، وكل شيء في الحياة يتجدد؛ لأن هذه الأشياء كلها وليدة الزمان، والزمان في تجدد مستمر وحركة دائبة؛ فكم من الفرق بين الأدب الجاهلي والأدب الحديث! وكما قال الجاحظ: «كم من الفرق بين قول امرئ القيس:
وقول علي بن الجهم:
وفي كل شيء تجد هذا التغير: بين البيت قديمه وحديثه، والملابس قديمها وجديدها، وفن العمارة قديمه وجديده وقد ينضم إلى الفكرة أفراد الأعمال ما لا يأتيه الفرد العادي منفردًا في حالة وعيه، والموسيقى قديمها وجديدها؛ وهكذا، وكل تغيير في مرفق من هذه المرفق العالم العالم يسمى تجديدًا.
ولكن ما هو التجديد وما هي قوانينه؟ إن التجديد من ناحيته النفسية معناه مرونة العقل لإحلال الأوضاع الجديدة محل الأوضاع القديمة، أو تعديل القديم ليتفق والجديد، ومن ذلك يتضح أن التجديد يتخذ أحد شكلين: إما القضاء على القديم بالوسائل الثورية، وإما أخذ طرف من القديم وطرف من الجديد ومزجهما مزجًا متناسبًا بوسيلة سلمية هادئة، وقد أشار روسو في القرن الثامن عشر إلى أهم مظاهر التجديد؛ إذ وصفه بأنه «الأخذ بمبادئ الإنسانية والمبادئ العقلية والتسامح الفلسفي، وإحلال ذلك محل الأوضاع القديمة وتقديس السلطات والتعصب الضيق النظر».
وللتجديد قوانين تشبه القوانين الطبيعية في دقتها واطرادها وعدم تخلفها، وإن كان لا يزال بعض هذه القوانين غامضًا معقدًا.
تبدأ فكرة التجديد عند فرد أو أفراد قلائل، وتأتيهم هذه الفكرة من شدة شعورهم بسوء الحاضر، فيدعون إليها، ويؤلفون الحجج العقلية والشعورية للبرهنة على صحتها، وقد يحدث أن تقبل هذه الفكرة وتنتشر وتتسع كما تتسع الموجات؛ حتى تعم الشعب بأجمعه؛ ولكن كثيرًا ما يحدث أن تقاوَمَ الفكرة، ويدعو إلى مقاومتها أنها قد تسلب بعض أصحاب المصالح مصالحهم، وتفوت على المتمسكين بالقديم منافعهم، كما يحدث عادة عند اختراع آلات للنقل تحل محل أدوات النقل القديمة، وكما يحدث عند الدعوة إلى منهج في التعليم جديد يخالف منهجًا في التعليم قديمًا أو نحو ذلك، وقد يدعو إلى اضطهاد الدعوة الجديدة خوف أصحاب السلطان منها؛ لأنها تذهب بجاههم أو سلطانهم، إذ ذاك يقف أصحاب المصالح المهددة وأصحاب السلطات المقررة في سبيل هذه الدعوة، فيضطر الداعون إلى مقابلة المقاومة بالمقاومة ومحاربة الفكرة بالفكرة، وقد يستدعي الأمر محاربة العنف بالعنف، فينقسم الناس إلى معسكرين: معسكر يناصر القديم، ومعسكر يناصر الجديد، والغلبة للقوة، ولسنا نعني القوة المادية فحسب، بل المادية والمعنوية معًا.
وقد يجد دعاة التجديد أنفسهم أمام تيارين متناقضين، فيضطرون إلى منازلتهما جميعًا، كالذي حدث في الاشتراكية؛ إذ رأى أصحابها أنهم مضطرون إلى منازلة فكرة الشيوعية المتطرفة، وفكرة الرأسمالية الجامدة.
ثم إن هناك ظروفًا تساعد على نجاح الفكرة الجديدة؛ منها أن يعم الشعب الملل، والإحساس بسوء الحال، والطموح إلى حال خير من حالهم، ونظام خير من نظامهم، وعدل يحل محل ظلمهم، فتسري الدعوة إلى التجديد وإلى التغيير سريان النار في الهشيم، ويقرب من هذا أن تكون الدعوة إلى الجديد قريبة من أذهان الشعب، محركة لعواطفهم، محققة لآمالهم، أما إن كانت الدعوة تسبق زمنها بوقت طويل، ولا تلتقي مع عواطف الناس وعقليتهم الحاضرة فقلَّ أن يُكتب لها النجاح.
ومن المشاهد أن هناك جماعات تكون أسرع قبولًا لفكرة الجديد، وجماعات أخرى أشد مقاومة للتجديد، فإذا كانت الجماعة من الجماعات التي تكونت حديثًا، ولم تقيد بقيود ثقيلة من الأوضاع، كما هو الشأن في أمريكا، كانت أقرب إلى اعتناق فكرة التجديد، وكذلك الشأن إذا سادت فيها حرية الرأي، وحرية الصحافة، وحرية الخطابة، والتسامح الفكري والديني، كما هو الشأن في إنجلترا، أما إن كانت الأمة بدائية تقدس الآباء وما صدر عنهم كالذين قال فيهم الله تعالى: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ، أو كانت الأمة متدينة دينًا جامدًا لا تسمح فيه باجتهاد ولا تعمل فيه عقلًا، ولا تقيسه بالمصلحة العامة، فهناك يكون الجمود، وسد الآذان، وإغماض العيون عن كل دعوة إلى التجديد.
ومن العجيب أن نرى بعض العادات الجديدة تنتشر في سرعة، وبعضها لا تنتشر مطلقًا؛ أو في بطء شديد! فسفور المرأة المصرية كان عادة جديدة سرعان ما انتشرت حتى كادت تعم الشعب بأجمعه، ولكن لبس السيدات للبنطلون وللكورسيه ولعب الرجال للبياردو لم ينتشر، فهل سبب هذا أن العادة الجديدة إذا نبعت من صميم الشعب، ومن الطبقة الوسطى والدنيا كانت أعم، وإذا نبعت من الطبقة الأرستقراطية لم تعم؟ أو أن السبب في ذلك يرجع إلى المواءمة وعدم المواءمة، وتكاليف البدعة الجديدة كثرة وقلة.
وللأزمات فضل كبير على التجديد؛ فالأزمات الحربية مثلًا قربت بين أمم ما كان يظن أن يقرب بعضها من بعض، وحملت على التفكير في مثل عصبة الأمم وميثاق الأطلنطي وهيئة الأمم المتحدة ونحو ذلك، وإن كانت ولدت تفكيرًا ولم تتحقق عملًا؛ والأزمات الاقتصادية كوقوع طائفة كبيرة من الناس في الفقر والمرض والجهل، كثيرًا ما تحمل الأمة على التفكير في نظام الثروة وضرب الضرائب ووضع الخطط لمقاومة الفقر والجهل والمرض، وهكذا.
وحركات التجديد في عصرنا الحاضر أسرع منها في كل عصر مضى؛ لأن العالم أصبح وحدة، والفروق في الأزمنة والأمكنة قد قضي عليها؛ وما يحدث في أمة ينتقل عنها إلى أقصى العالم في سرعة البرق؛ ولذلك نرى حركات التجديد في الأفكار والنظم السياسية والنظم الاجتماعية والاقتصادية تغزو العالم بأسرع من غزو الحروب؛ وحسبك في ذلك تطور الشرق في القرن الأخير وقبوله أفكارًا كثيرة جديدة من المدنية الغربية في الماديات والمعنويات ما كان يقبلها في العصور الماضية.
وما مظاهر القلق والاضطراب في العالم اليوم إلا مظاهر حرب بين جديد وقديم، وإن شئت فقل بين قديم ظهر فساده، وجديد لَمَّا يتضح ولَمَّا يحدد، ومن المشاهد أن مرافق الحياة في كل شعب متفاعلة ميالة بطبعها إلى إيجاد الانسجام بينها، فإذا دخل التجديد في مرفق منها فسرعان ما تنفعل لذلك سائر المرافق؛ كحوض الماء يصب فيه ماء بارد وماء ساخن، فسرعان ما يكتسب البارد سخونة والساخن برودة؛ حتى يكون منهما ماء في حرارة واحدة.
قد كان ذلك قديمًا في كل شعب، أما اليوم فالعالم كله على هذا الحال يتفاعل ويتفاعل ثم ينسجم وينسجم، والطبيعة دائمًا تميل إلى وحدة الوجود.