مذكرات الأستاذ محمد كرد علي
نشر الأستاذ محمد كرد علي جزأين من مذكراته ضمنهما ترجمة حياته، وهي حياة طويلة حافلة؛ فقد عاش الأستاذ في أوساط مختلفة، ورحل رحلاتٍ كثيرةً في الشرق والغرب، وانغمس في السياسة واكتوى بنارها، واشتغل بالصحافة مدة طويلة، والصحافة من أكبر المدارس في معرفة الحياة وألوانها، وصادق كثيرًا من رجال الأدب والسياسة والعلم والمال والأعمال، وخبرهم وأطال عشرتهم، وعمِّر بحمد الله عمرًا طويلًا؛ فقد ذكر في مذكراته أنه في عشر الثمانين، وتقلب في مناصب كبيرة حتى كان وزيرًا أكثر من خمس سنوات، فالمذكرات مظنة الإفادة والإمْتَاع.
وقد صاحبت الأستاذ كرد علي مدة طويلة، جالسته في مجمع فؤاد الأول في مصر، واستمعت إلى آرائه وبحوثه، وجالسته في لجنة التأليف والترجمة يوم كان يغشاها، وفي مجمع دمشق أيام كنت أزورها، وكونت فيه رأيًا بعد طول الخبرة، هو أنه واسع الاطلاع على الكتب العربية، عليم بمصادر الموضوعات المختلفة وبخزائن الكتب، وهي شيمة أخذها عن أستاذه الشيخ طاهر الجزائري؛ فقد كان رحمه الله بحاثة في الكتب، عليمًا بخفاياها، حسن التقدير لغثها وسمينها، وقد أفاد الأستاذ كرد علي العالَم العربي بما ألفه في هذه الناحية ككتابه «خطط الشام»، وبما نشر من كتب من مثل: رسائل البلغاء، وأخبار أحمد بن طولون.
ولكنه إذا عدا هذا الطور فتعرض لبحث مبتكر أو لنقد لما قرأ، أو تعقيب على قول لم يعجبني كثيرًا، لا في آرائه، ولا في أسلوبه، فآراؤه لا تصدر عن أفق واسع ولا نظر شامل ولا عمق كاف، وأسلوبه متعثر ليس فيه رونق أو صفاء، ونكاته ونوادره تستجلب الضحك عليها لا الضحك منها، وكنت لا أرتاح لكثير من تصرفاته، فهو إذا لقي أحدًا من معارفه عانقه وبالغ في مدحه في وجهه حتى يخجله، وأثنى على تآليفه وكتبه؛ ولو لم يكن له تأليف ولا كتاب، والله أعلم بما يقوله من ورائه.
وجاءت مذكراته هذه مصداقًا لما أقول، من قلة في الذوق، وسخافة في الحكم، وتقويم ما ليست له قيمة، وتحقير ما له قيمة.
وهؤلاء المصريون الذين كان يلقاهم فيعانقهم ويشيد بذكرهم، قد انقلب عليهم انقلابًا عجيبًا؛ لسبب عجيب أيضًا!
أسوق لذلك مثلًا لطيفًا، فقد كتب في الجزء الثاني مقالًا عنوانه: «كتاب إلى حبيب»، كتبه إلى معالي محمد حلمي عيسى باشا، يصب فيه نقمته على أدباء مصر، ويسبهم ويقدح فيهم أفظع القدح، لماذا؟ لأنهم لم يقرظوا كتبه ولم يشيدوا بذكره أو نحو ذلك من توافه الأسباب، اسمعه يقول: «وماذا أقول في مجلاتكم وصحفكم و«أحمد حسن الزيات» صاحب مجلة الرسالة بعد أن كان يكتب لي أنه كان لَقًى فرفعته، تنكر لي بأخرة وأعمته التجارةُ وجمعُ الأرباح، ونسي أصحابه ومن عاوَنُوه على اكتساب الشهرة». «وصديقي أحمد أمين كأكثر المشتغلين بالعلم في مصر وغير مصر «أشغل من ذات النحيين»، ما سمعت منه كلمة طيبة لا باللسان ولا بالقلم منذ عرفته، وأنا — شهد الله — ما تركت بابًا من أبواب الدعاية له منذ ظهوره في التأليف، سأله في الجامعة أحد تلاميذه من الحلبيين عن رأيه فيَّ، فقال: تسألني رأيي في بلديِّك؟ إنه أعرف المعاصرين بالمصادر». «وهناك في مجمع فؤاد الأول من هم عجيبة الزملاء، هناك رئيسه أحمد لطفي السيد باشا الفيلسوف، وكثيرًا ما نوهت به، وأردت إخواني في المجمع العلمي العربي من أول تأسيسه أن يختاروه عضوًا مراسلًا فانتخبوه، وما تنازل أن يحييهم بكلمة شكر فيما أذكر، ولم يغلط خلال خمسين سنة أن يقابل جميلي بمثله، كأنه يعتقد أن ما أقوم به نحوه هو واجبي، وأنه من عالم غير هذا العالم، وشتان بين ثقله وخفتي، وفرق بين جنسيتي وجنسيته، هو مصري وأنا شامي». ثم أبان سبب سخطه عليه، فذكر أن لطفي باشا دعاه وزملاءه إلى نادي محمد علي، فلحظ لطفي باشا أن بين الأعضاء الأجانب رجلًا له لقب وزير؛ فدعاه إلى الجلوس في مقام التكرمة، وترك كرد علي.
ونقم على المازني وهيكل لمثل هذا السبب فقال: «إن رصيفيَّ المازني وهيكل ما أضاعا قط كلمة في التعرض لعملي وعمل إخواني في الشام، انتخبهما مجمعنا عضوين مراسلين، فلم يتنزلا أن يكتبا له سطرًا، وكيف يرتكبان هذا الإثم؛ والمازني دأب حياته يكتب المقالات للصحف والمجلات، ودأب يستوفي المكافآت عليها، وهيكل أصبح بقلمه وحزبه ممن يدير دفة السياسة المصرية، وأي نفع يأتي من كرد علي وصحبه؟!».
وأغرب من ذلك كله قسوته على الأستاذ محمود شلتوت، أتدري ما السبب؟ إنه سبب يستوجب الاستغراق في الضحك من غير شك، قال — حفظه الله — «كان الشيخ محمود شلتوت لي صديقًا قديمًا، عرفته في دار آل عبد الرازق الأكارم، ولما اضطهده الشيخ الظواهري في الأزهر كنت من أول الحانقين عليه، ولما نفس خناقه وأعيد إلى منصبه فرحت له فرحًا كثيرًا، أتدري ماذا كان مقامي عند عضو جماعة كبار العلماء؟ كان منه أن أهداني كتابًا له وكتب على ظهره: «آية الإخلاص لصاحب العزة فلان». هذا ما جناه الأستاذ شلتوت وما استحق من أجله من الأستاذ كرد علي اللومَ والتعنيف والتأنيب؛ حتى ختم ذلك بقوله: «إن المباينات بين أرباب العمائم وأرباب الطرابيش قديمة لا تحتاج إلى بيان»، وهكذا وهكذا من أمثال هذه الأحكام العجيبة للأسباب الغريبة.
ألا يدري الأستاذ أن الحكم على الأشخاص إذا كان ميزانه مدحًا لكتاب أو عدم مدحه أو الإفراط في الألقاب أو التقصير فيها، أو نحو ذلك من توافه الأمور، كان حكمًا سخيفًا لا يقام له وزن، وكان أشبه ما يكون بحكم الأطفال؛ إذ يحبون شخصًا؛ لأنه يضحك في وجوههم أو يقدم لهم قطعة من الحلوى، ويكرهون آخر؛ لأنه عبس في وجوههم أو لم يقدم لهم حلوى، أما الرجال العظماء أمثال الأستاذ فميزان الأحكام عندهم يجب ألا يكون الأحداث الشخصية الصغيرة، وإنما قيمتهم الحقيقية وصفاتهم الذاتية.
ولو حكم على جمال الدين الأفغاني ونابليون وبسمارك، بل لو حكم على الأنبياء والمرسلين بميزان الأستاذ هذا لكانت النتيجة غريبة عجيبة، فليس منهم إلا من عبس ولم يقرظ، وانتقد أحيانًا في مرارة، وعاقب أحيانًا في شدة، ومع كل هذا لم تدخل هذه الأعمال كلها في الميزان الصحيح للحكم عليهم؛ لأنها توافه لا يأبه بها إلا التافهون، ومن أجل هذا النظر التافه لم ينل أحد من إعجاب الأستاذ محمد كرد علي في مصر ما نالته جمعية «البعكوكة»؛ فقد كتب في محاسنها صفحات ثناء وإعجاب لم ينلها أحد من الكبراء ولا العظماء ولا المؤسسات العلمية والأدبية.
ثم في الكتاب مصداق لقلة الذوق، فهو يصف المشتغلين بالعلم في مصر وغير مصر بأنهم أشغل من ذات النحيين، وأحيل الأستاذ الكبير على أي كتاب في الأمثال أو على لسان العرب في مادة «نحي»؛ ليعلم مضرب المثل، وليعلم أيضًا أنه لا يصح أن يستعمله في مثل هذا الموضع إلا من تجرد من كل ذوق.
ويشاء أدبه أيضًا بعد أن مدح لجنة التأليف وذكر فضلها عليه في أنها طبعت له ثلاثة كتب، وأعادت طبعها، وعاملته معاملة حسنة، شاء أدبه بعد كل هذا أن يصفها في ثنايا المدح بأنها «عصابة» ولكن لا بأس، فالذوق شيء ليس في الكتب.
ويحاول الأستاذ في مذكراته أن يظهر بمظهر الوطني الكبير، والمصلح العظيم، والأخلاقي المثالي؛ ولكن لا يلبث أن يخونه قلمه فيكشف عن نفسه، ويذكر مثلًا أنه عمل وزيرًا مع حقي بك العظم، والشيخ تاج الدين الحسني خمس سنين وسبعة أشهر في ظل الانتداب الفرنسي، ثم هو يطلق قلمه فيهما بالنقد واللذع والتجريح، ويصفهما بضعف الشخصية والمحسوبية والخضوع للسلطة الفرنسية خضوعًا تامًّا مطلقًا، وتنفيذ أوامرها مهما كانت ضارة بالبلاد … إلى آخر ما قاله فيهما، والرجل الأخلاقي المثالي لا يبيح لنفسه أن يشغل الوزراة أكثر من خمس سنين مع مثل هذين الرجلين لو صدق قوله فيهما، إن الرجل الأبي الشجاع يرفض أن يعمل مع من يعتقد أنه يضر البلاد مهما ادعى أنه يريد الإصلاح، وأنكى من ذلك أنه يذكر أنه كان يشتغل معهما رغم أنفهما ولم يكن يحميه في الوزارة ويضغط عليهما في إبقائه إلا السلطة الفرنسية! أيرى الأستاذ أن حب الفرنسيين لبقائه كان صادرًا عن غفلة منهم، فيظنوا فيه أنه يشايعهم وهو في الحقيقة يناهضهم؟! أو أنهم يعلمون حقَّ العلمِ حقائق الرجال ومن ينفعهم ومن يضرهم، وأنهم لولا ما يجدون فيه من خدمة كبيرة لهم ما أبقوه لحظة ولانتهزوا فرصة غضب رؤسائه عليه فأخرجوه من الوزارة مغتبطين مسرورين؟!
الحق أنه قد تم في عهد وزارته أكبر مصائب سورية وهو تقسيمها إلى دويلات أربع، وتمزيقها إلى وحدات متعددة، لكل دويلة علم ولكل دويلة إدارة، وما تحرك الأستاذ ولا حدثته نفسه بالاستقالة رغم كل هذا، وإنما بقي مطمئنًا راضيًا عما يجري حتى نحى الفرنسيون الوزارة كلها.
وقد كان الأستاذ — كما ذكر في مذكراته — يُدْعى عند رئيس الوزارة الشيخ تاج الدين الحسني؛ ليؤنس الذين يدعوهم الرئيس من سيدات الفرنسيين وسادتهم؛ كما كان يدعى لاستقبال المندوب السامي في بيروت عند حضوره من فرنسا، فيلبي الأستاذ هذه الدعوات راضيًا مغتبطًا فخورًا، وهكذا وهكذا مما تتكشف عنه المذكرات.
وآخر ما كنت آمله فيه أن يتحرى الصدق فيما يقول، ولكن خاب أملي في هذا أيضًا؛ فقد رأيته يذكر عني حادثتين أشهد بالله أنهما كاذبتان؛ كما يذكر كثيرًا من الأحداث عن أشخاص متعددين في مصر والشام يكذبونها وينكرونها.
وأسوأ ما في هذا أنه يشكك القراء في كل ما صدر عنه حتى في كتابه تاريخ خطط الشام، والحضارة الإسلامية، فمن يدري! لعله استباح لنفسه من خلق الأحداث ما استباحه في الرواية عن الأحياء، وبهذا لم يكن أساء إلى نفسه فقط، ولكنه أساء إلى المؤرخين جميعًا، ولعل كثيرًا ممن ورد ذكرهم في الكتاب واتهموا بالجهل أحيانًا، والجاسوسية أحيانًا، والرشوة وقلة الذمة أحيانًا، لم يكن فيهم شيء من هذا، وإنما نشأت من سوء ظن الأستاذ، أو اختراع خياله، أو فساد حكمه على الأشياء.
وعلى الجملة فهذه المذكرات لم تصدر إلا بخذلان من الله كبير، فالله يعفو عنه ويغفر له.