برناردشو
إرلندي دخل إنجلترا طالبًا للقوت، ثم تبين أنه دخلها غازيًا فاتحًا، وما زال يجاهد ويحارب حتى توج ملكًا على الرأي العام.
وناشئ في بيت منحل؛ فقد كان أبوه على حد تعبيره «رجل أعمال نظريًّا، وسكيرًا عمليًّا». وتلميذ خائب في مدرسته، يهزأ بالدراسة وبثرثرة المعلمين، وجمود أساليبهم، وسخافة تعاليمهم، فكان له من بيته المنحل، ودراسته الفاشلة غذاء صالح وذخيرة كبيرة لنقد الحياة الاجتماعية والدعوة لإصلاحها.
مُنِحَ ذكاءً حادًّا كالبلور في صفائه وقسوته، فبدأ شهابًا لامعًا يعجب ولا ينفع، ثم نما وكبر حتى صار شمسًا تدفئ وتنفع.
من أعجب ما فيه رحمته وقسوته معًا، وامتزاجهما فيه مزجًا غريبًا، فهو يرحم الحيوان كأبي العلاء المعري، فيعف عن أكله، ويعيش على النبات، بل يتمنى أن لو وسعت رحمته النبات أيضًا فلا يحرم الشجر ثمارها، ولا الثمرة بذورها، ولا النباتات جذورها، وهو مع ذلك يقسو على الناس في نقدهم ولذعهم، وإقلاق راحتهم، وتحطيم أوثانهم، ولكن لعل قسوته عليهم من رحمته بهم، فهو يرحمهم من سخفهم فينقدهم، ومن خمودهم فيلذعهم، ومن نومهم فيوقظهم، ومن جمودهم الذهني فينشطهم، ولذلك كان من طبيعته أن يهاجم فكرة الناس ولا يهاجم الناس، ويقاتل الرأي الفاسد ولا يقاتل أصحابه، ويحمل حملة شعواء على فكرة الحرب ولا يثور على المحاربين، ويحمل حملة شعواء على الأدب السخيف ولا يتعرض للأدباء.
سما فوق العادات والتقاليد؛ فلم تقيده عادات الطفولة؛ إذ لم يكن سعيدًا، ولا عادات المدرسة والجامعة؛ إذ كانت فاشلة، ولا عادات المجتمع؛ إذ لم يجد فيها ما يحترمه ويوقره، فتحرر من أغلال الأوضاع والتقاليد، ونظر إليها من طيارة فوجدها رممًا بالية، وأشياء مستقذرة، وأغلالًا للعقول، وقيودًا للتفكير، وأصنامًا تعبد من دون الله، فتنزل عليها بمعوله يحطمها في قسوة، ويحرقها في جرأة، ويصوغ عباراته في نقدها صوغًا أنيقًا متقنًا بارعًا، فتجري في الناس مجرى المثل، ويضحكون منها؛ وهم إنما يضحكون من أنفسهم.
وينفذ بصره الفاحص إلى حقائق الأمور ولا يلهيه زخرفها الظاهر، ولا طلاؤها الخادع، فإذا وقف على الحقيقة المؤلمة أعلنها على الناس في صراحة وجرأة، يقارن بين المدنيين على آخر طراز وبين المتوحشين من سكان الكهوف ويعقد الشبه بينهما في شكل يدعو إلى العجب والإعجاب، ويسخر من الأمريكيين؛ إذ يُضطرون الزنوج إلى مسح أحذيتهم ثم يدللون على انحطاطهم بأنهم مساحو أحذية، ويرى الأدباء قد غلوا في الإعجاب بشكسبير واتخذوه صنمًا يعبد، وجعلوا أدبه المثل الأعلى، وقاسوا أدبهم بأدبه فما انطبق عليه كان عالي القيمة، وما بعد عنه ضعفت قيمته، فهاج على شكسبير وكسر صنمه، وأنزل من قيمته، وقال عبارته المشهورة: «إن يكن شكسبير أطول مني فإني أقف على كتفه»، واتخذ هجومه عليه من ناحية أن شكسبير في أدبه سوداوي متشائم، يرى الحياة باطلًا من الأباطيل، والأدب في نظر «شو» هو ما بعث الحياة، وبعث الأمل فيها، وبعث على الاستمتاع بها، والاستزادة منها.
ومن أجل ذلك اتجه في أدبه ونقده إلى تقويم ما له قيمة حقيقية، لا شكل براق، فهو يزدري الخفيف من الروايات والقذر من النكات، ولا يُقَوِّمُ من الروايات إلا ما كانت ذات وزن، ولا من النكات إلا ما كانت عميقة ذات ذكاء.
•••
حدد برنامجه أن يكون ثائرًا على المجتمع وأخطائه ثورة بطيئة دائمة محققة، وأن يكون مجددًا في أفكاره، مجددًا في أسلوبه، وفي رواياته، وفي حواره، واستدلاله، فناصر المرأة وطلب مساواتها بالرجل، ولم يسلك في براهينه سبيل من قبله من رفع شأن النساء حتى يتساوين بالرجال، بل رثى لحالة الرجال وطلب أن يتساووا بالنساء، وفي كل رواية من روايات «شو» الأولى حوار بين الرجل والمرأة؛ تُغْلَبُ فيه المرأةُ على أمرها؛ لتعترف بأنها حقًّا على مساواة مع الرجل.
وناصر حركة الكتابة الصوتية؛ أي كتابة ما ينطق من الحروف وحذف ما لا ينطق، فلا معنى لكتابة حروف لا ينطق بها، ولا النطق بحروف لا تكتب.
ولم يعجبه غرور العلماء في عصره وادعاؤهم علمهم بكل شيء، فأبان عجزهم وضعفهم، وأن ما جهلوا أكثر مما علموا، وأن بعض ما قالوا يعوزه الدليل الصحيح؛ ومما قاله في ذلك: «إذا قال لي الفلكيون: إن ثمة نجمًا بعيدًا عنا يرسل ضوءه فيستغرق وصوله إلينا آلاف السنين، فقولهم هذا كذبة بلقاء، يعوزها التمويه الفني».
ويقول عن هكسلي: «إنه عراف كبير»، ومع ذلك فشو مشغوف بالعلم، مطلع عليه اطلاعًا واسعًا، يستمد أدبه من سعة علمه.
•••
لقد بهر «شو» الناس بأشياء كثيرة: ذكاؤه النافذ الذي يصل إلى أعماق ما في الأشياء، ثم يخرجها بعد ذلك في شكل واضح بسيط جذاب، فهو جيد الإنتاج جيد الإخراج، قد يصل إلى فكرة لو عبر عنها الفيلسوف لخرجت منه غامضة مبهمة معقدة قد أغرقتها الاصطلاحات المألوفة، فيخرجها «شو» في جملة واضحة رائعة فتفهم وتضحك، ثم إلى ذلك قدرته الفائقة على النكتة، ونكتة «شو» قد يحسده عليها «فولتير» نفسه، أو كما نقول نحن يحسده عليها «جحا»، فهي ذات جذور فكرية عميقة، وإذا عرض لموضوع ليتنادر عليه استقصى كل نواحيه حتى كان كما قالوا: «إذا تنادر على خياط استنفد النوادر عليه إلى آخر نادرة عن الأزرار».
وأحيانًا يسرف فيزل ويأتي بما ينبو عنه السمع، فيكون له من ذلك كثير من الأعداء، ثم صوته الجذاب الذي يستطيع به أن يقول ما يسيء — بنغمة عذبة — فتقبل منه، ووقفته الخطابية البديعة التي يقفها من غير اكتراث، ويلقي برأسه إلى الخلف في خفة، ويترنح أحيانًا هازًّا كتفيه وهو يحمل وجهًا ذا حاجبين كثيفين، ولحية حمراء مدببة علاها الشيب.
إن «شو» في هيكله الذي وصفناه وفي نقده اللاذع، وفي رواياته الجديدة التي خرجت على الناس بشكل جديد وتأثرت بقوته في الحديث والحوار، والميل إلى الجد والاستخفاف بالتوافه، وشو في فلسفته التي تدعو إلى الحياة وتقويتها والإصغاء إلى العقل لا العادة والعرف، والإصلاح في غير خداع ولا مواربة، كل هذا جعله قبلة الأنظار، وزعيم الأدباء، والمثل الذي يحتذى.
•••
وقد أثر في الشعب الإنجليزي أثرًا كبيرًا من نواحٍ كثيرة؛ فقد استنزل الفلسفة والاقتصاد والمعاني السامية من السماء إلى الأرض، وجعل الشعب يفهمها، وجعل العلماء والفلاسفة يقلدونه في وضوحه، ويحذون حذوه في محاربة الغموض.
وهو إلى ذلك يركز المسائل العامة الفلسفية والعلمية في «برشامة» كما يركز السحاب المنتشر في قطرات المطر، فكان في أسلوبه هذا مثلًا للعلماء يحتذى.
وأكثر من هذا أنه حمل حملة شعواء على ما كان سائدًا في عصره من موجة التشاؤم فأبادها، وأحل محلها موجة التفاؤل وحب الحياة والعمل للحياة.
وإن كان يؤخذ عليه شيء؛ فإشاعته بين الناس التدجيل في الكلام، ممن وُهبوا ثرثرته ولم يوهبوا حسن ذوقه وخفة روحه، ثم ما قلده الناس فيه من الاستهزاء بالعادات المألوفة مهما حسنت، وبالقديم مهما جل، ولكن أي الرجال الكامل؟
ليت شعري لو كان «شو» في الشرق، ماذا كان يكون مصيره؟
فأول كل شيء من المحال أن يكون «شو» شرقيًّا، فشجر الأرز لا ينبت في خط الاستواء، والثلج يذوب في الحرارة، فإذا أمعنا في الخيال وتصورناه شرقيًّا فأكبر الظن أنه لم يكن شجرة مثمرة، بل ولا شجرة ناضرة.
لقد كانت تتعاون عليه القوى كلها؛ لتخنقه في مهده، أو تكمم فمه فلا يستطيع قولًا.
إنه في بلاده هاجم كل طائفة بلسان مقذع فأفسحوا صدورهم له، وقابلوا نقده بروح رياضية، وضحكوا منه فشجعوه بذلك على الاستمرار والاسترسال حتى بلغ القمة.
هاجم العادات وقال: «إن عيد الميلاد لعبة اخترعها الخمارون؛ ليبيعوا خمورهم» وهاجم الطبقات وخاصة طبقة الأغنياء في اشتراكية، وهاجم رجال الدين في أساليبهم، وهاجم رجال العلم في غرورهم، وهاجم الأدباء في اهتمامهم بسفاسف الأمور وعبادتهم للأصنام، وأخيرًا منع الرقيب إحدى رواياته؛ لخروجها عن اللياقة والحشمة فاتخذ الرقباء موضع سخريته؛ وقال: «إن الرقيب داعر، أما شو فإنه طاهر عفيف، وإن الرقيب بمنعه هذه الرواية قد جنى على الأخلاق، وإنه إنما يسمح بما يسمح به من الروايات لرذيلتها لا لفضيلتها، وإن جريمة شو في هذه الرواية ليست في أنه عرض في روايته لبنت من بنات الهوى، ولكن جريمته أنه لم يجعلها كلها هوى».
وهكذا وهكذا، فلم يسلم من لسانه شيء، ومع هذا قوبل بالإعظام والإكبار حتى من خصومه.
لو كان عندنا لتكاتفت كل الطوائف على خنقه؛ من أغنياء لا يطيقون كل ما في اشتراكيته، ومن أدباء خطرات النسيم تجرح مشاعرهم، ومن محافظين يضيقون ذرعًا بأي خروج عن العادات والتقاليد، ومن رجال سياسة ورجال إدارة لا ينظرون إلى الأمور إلا نظرًا حزبيًّا، وهو أكره ما يكرهه شو.
وعلى الجملة فلو كان «شو» في الشرق لانتحر أو انفجر أو لبس جلدًا غير جلده.