لماذا — ولأن
لماذا ترى الرجل عاقلًا حكيمًا، صادق الرأي في الحكم على الأشياء، صحيح التقويم لها، عادلًا في تقديرها؛ وذلك كله إذا كان الشيء الذي يحكم عليه أو يقدره غير متصل بذاته، ولا يمس مصلحة من مصالحه، ولا يناله منه خير أو شر؛ فإذا اتصل هذا الشيء بنفسه، أو كان يتوقع منه ضرًّا أو نفعًا، فَسَد حكمه، وساء تقديره، وفقد حكمته، وأصبح مَثَلُه مثلَ السفيه في الرأي، الكاذب في النظر، السيئ التقدير؟
لأن الإنسان في الأعم الأغلب لا يستطيع أن يجرد الأشياء عند الحكم عليها من عواطفه؛ وقد لاحظ الفلاسفة هذا الخطأ في الأحكام، فحاولوا تجريد الأشياء المحكوم عليها مما يتصل بها من العواطف؛ وأدرك هذا علماء المنطق، فرأوا أن الألفاظ في القضية قد يتصل بها شيء من العواطف يفسد حكمهم، فحاولوا أن يعبروا عن هذه القضايا بـ: أ، ب، جـ، د؛ حتى يكون حكمهم مجردًا فيكون أقرب إلى الصدق.
والدنيا مملوءة بالأحكام الفاسدة، والتقويم الفاسد، وكان سبب الفساد وسوء التقويم دخول المنفعة الشخصية في التقويم والحكم؛ حتى في القضية الواحدة، والمثل الواحد، ينظر إليه الإنسان في غيره فيصدر حكمه صحيحًا، فإذا اتصل هذا الأمر بشخصه نفسه أصدر حكمًا آخر، وتقويمًا آخر.
وهذا ما حدا بطائفة من الفلاسفة أن يقولوا: إن الإنسان لم يُمنح العقلَ لمعرفة الحقائق، ولكن لخدمة المصالح.
ومما يؤسف له أن مداخل العواطف في تقويم الأشياء والحكم عليها مداخل في منتهى الخفاء؛ وليس الكذب مقصورًا على الكذب على الآخرين، بل أشد منه خطرًا كذب الإنسان على نفسه؛ فهو يخدعها، ويظن أنه ينصحها؛ ويجور في حكمه، ويظن أنه يعدل، ولم يستطع أن يتحرر من هذا إلا القليل النادر.
وما سبب النزاع في العالم إلا الوقوع في هذا الخطأ، وما ملأ المحاكم بالقضايا إلا هذا الخطأ؛ فليست المحاكم والمجالس القضائية وغير القضائية مقصورة على الشريرين والباغين الذين يدعون الحق ويعلمون أنهم مبطلون، ولكن أكثر من هؤلاء المتخاصمون الذين يختلفون على الأمر الواحد، ويعتقد كل منهم أنه على حق؛ ذلك أن كلًّا منهم ينظر إلى المسألة من زاويته هو، لا من زاوية خصمه، والزاوية التي ينظر منها كل متخاصم عمل في تكوينها عقله ومنطقه وبواعثه وعواطفه، والخير الذي يرتجيه والشر الذي يهرب منه.
وهذه المصيبة الكبرى تطالعك كل يوم في الخلاف المالي بين الأشخاص والخلاف بين أعضاء المجالس؛ حتى في الهيئات التي تتكون من أرقى الناس عقولًا، وأكثرهم ثقافة، وأوسعهم إدراكًا؛ فإنك إذا فتشت عن أكبر سبب للخلاف بينهم وجدته في لعب العواطف والمصالح الشخصية الخفية في أعماق النفوس.
وهذا هو ما يطالعك كل يوم في الجرائد في أكثر ما تكتب يوميًّا؛ فالمسألة الواحدة تعرضها جريدة بشكل، وتحكم عليها بشكل، وتخالفها في كل ذلك الجريدة الأخرى؛ وكلا الكاتبين عاقل ممتاز، كان من الممكن أن يتفق مع صاحبه في نظره وحكمه، لو تجرد من عواطفه وهواه؛ ولكن تدخلت في حكمه على الشيء مصلحته الشخصية، أو مصلحته الحزبية، فلونت عرضه للمسألة، وحكمه عليها؛ حتى رآها أحدهما سوداء، والآخر بيضاء، وحتى عجب القارئ على الحياد من بعد ما بين الفريقين من الخلاف، وكيف لعبت المصالح بالعقول؛ حتى صارت موضع الهزء والسخرية.
بل هذا ما يطالعك أيضًا في شئون السياسة العامة؛ فخروج الروس من إيران صواب في نظر الإنجليز، خطأ في نظر الروس، وخروج الإنجليز من مصر صواب في نظر الروس، خطأ في نظر الإنجليز، والتعدي على أية أمة ولو صغيرة بتقسيمها خطأ في نظر جميع الأمم، ولكن تقسيم فلسطين صواب عند أغلب الأمم، ووجود منفذ على البحر الأبيض لروسيا خير لا بد منه في نظر الروسيين، شر لا بد من مقاومته في نظر الإنجليز والأمريكيين، وهكذا.
ذلك لأن العقل ليس هو الذي يحكم وحده، ولكن تدخلت العاطفة الوطنية والمصالح القومية، فلونت المسألة الواحدة عند كل فريق بلونٍ يخالف تمام المخالفة اللون الذي صبغه الفريق الآخر.
وهذا هو سر الخلاف بين الشرق والغرب، بل سر الخلاف بين الدول كلها الآن، وانقسام العالم إلى معسكرين، كما كان من قبل؛ بل هو سر الخلاف بين الممثلين لهذه الأمم، مع أن المفروض فيهم أنهم من أرقى الناس عقلًا، وأصدقهم حكمًا، وأعدلهم تقويمًا للأشياء؛ وإنما المسألة أن العقل وحده ليس الذي يحكم، وليس الذي يقدر، ولكن العامل الأكبر في الحكم والتقدير هو ما تراه كل أمة ومن يمثلها، مراعيًا ما يعود من الرأي على أمته من مصالح أو مضار؛ ولو أنك جمعت هؤلاء الممثلين، وجردتهم من عواطفهم لاتفقوا على رأي واحد في تقدير الأشياء وخيرها وشرها، وما يجب أن يُعمل، وما يجب أن يُترك، في أقرب زمن.
وإن شئت فقل إن الحروب في العالم وويلاتها سببها هذا الخطأ في الحكم من حفنة من قادة الرأي والسياسة، قدَّر كل زعيم أمة مصلحة أمته، وما ينالها في الحرب إن دخلت الحرب، أو السلم إن جنحت إلى السلم، ثم أصدر حكمه غير مُصْغ إلى عقله المجرد، وغير مقدر للحقائق كما ينبغي أن تقدر، وقد يؤثر في رأيه هوى شخصي، أو ناحية من نواحي ضعفه الخلقي، أو رغبته في المجد الوطني الكاذب، أو خضوعه تحت تأثير قوم من الرأسماليين الشريرين، أو نحو ذلك من شهوات أو مطامع ومطامح، يتأثر بها عدد قليل من القادة، فيوقعون العالم الإنساني كله في كوارث لا تقدر خطورتها.
ولو أتيح للعالم يومًا من الأيام أن يكون قادته من المناطقة أو الفلاسفة الذين يستطيعون أن يتجردوا في حكمهم على الأشياء من هوى أو مطمع أو مطمح، وأن يقدروا المسائل حسب قيمتها الذاتية لا حسب ما يغلفها من أعراض وأغراض، فإن كان ولا بد من اشتراك العواطف والمشاعر في الحكم، فالعواطف للإنسانية لا للوطنية، والمشاعر للعالمية لا للقومية، لنعم العالم بالسلم، وعاش في رفاهية، وكان الناس بنعمة الله إخوانًا.
ولكن أنى لنا ذلك؛ والقول ما قال بديع الزمان: «والله ما فسد الناس، ولكن اطرد القياس».