محنة العالم الإسلامي
يجتاز العالم الإسلامي اليوم محنة من أشق المحن وأقساها، تختلف في مظاهرها وتتحد في أهم أسبابها، العراق ومصر يرفضان المعاهدة التي تعرضها عليهما إنجلترا، فيضطربان من حين لآخر، وتقوم المظاهرات وتكثر الضحايا، وفلسطين تثور لما لحقها من ظلم، وما فرضته عليها الأمم المتمدنة من سلبها أخصب جزء فيها، ويثور معها العالم الإسلامي بأجمعه، والمغرب يجوع من فرنسا، ويئن تحت حكمها، فإذا تحرك للخلاص منها، عومل أقسى معاملة وأفظعها، وليس القسم المغربي الذي تحتله إسبانيا بخير مما تحتله فرنسا، وطرابلس تعاني ما تخيط لها إنجلترا وأمريكا وإيطاليا من شباك، وأندونسيا تشكو من هولاندة ما يشكو المغرب من فرنسا، من عسف وجور وفتك وانتقام، والباكستان تعاني الأمرَّيْن مما يحيق بها من جيرانها الهنود، ومن السياسة الإنجليزية العامة، وهكذا وهكذا، في كل قطر إسلامي مأتم، فمظاهر العالم الإسلامي كله قلق واضطراب.
وأهم سبب لهذا القلق والاضطراب أن العالم الإسلامي دب فيه الوعي القومي وتوالت عليه ألاعيب السياسة الأجنبية، ولم يكن يفهمها، ففهمها، وتوالت عليه الوعود أيام الحرب، وخلفها أيام السلم، فأدرك كذبها، ورأى بعد التجارب الطويلة أن الحجج العقلية لا تقنع السادة المستعمرين، وأنهم لا يفهمون من الأساليب إلا أساليب القوة ولا من الحجج إلا حجج القتال؛ ولم يعد يصدق لغة السياسة المزوقة، ولا أساليبها المنمقة، ولم يعد يخدعه ما كان يخدع به من قبل من تغيير لفظ الاستعمار بالانتداب، ولا لفظ الانتداب بالمشاركة والمساواة، أو نحو ذلك من أساليب تختلف ألفاظها ويتحد مدلولها.
ليست هذه أول محنة لقيها العالم الإسلامي من العالم الأوربي؛ فقد امتُحن من قبل بغزو أوربا له، وهجومها عليه، وتسليطها الحديد والنار على أقطاره؛ حتى سقطت في يدها؛ فقد كانت هذه محنة عظمى، ولكنها أصابته وهو نائم، فلم يشعر بها الشعور التام، ولم يقاومها المقاومة الواجبة، بل خضع لطغيانها، وامتثل لأوامرها؛ حتى إذا توالى عليه الطغيان، وتتابعت عليه الكوارث، أخذ يستفيق ويقاوم، ويشعر أن استعماره مذلة، واستغلاله عبودية، وأنه يجب أن يفك هذه القيود التي كبَّلته، ويتحرر من العبودية التي نكبته، وعلى الجملة فقد أدرك أنه إنسان يجب أن تُحترم إنسانيته، وأنه حر يجب أن تقدَّر حريته، فَقَلِقَ واضطربَ.
هذا من ناحيته، أما من ناحية أوربا؛ فقد استعذبت سيادتها، واعتزت بسلطانها، وبنت حياتها الاقتصادية والسياسية على الانتفاع بموارده، والاستفادة من تصريف تجارتها فيه، وتلذذت من امتصاص دمائه، ومضت فترة طويلة وهي تحقق أغراضها منه في سهولة ويسر؛ حتى ظنت أن هذا هو المنهج الأبدي، والطريق المعبد السوي، ولكن ما لبثت أن رأت العقبات تعترض حكمها على أشكال شتى، وجاءت الحروب فأشعرتها بالحاجة إليه ضد خصومها، فبذلت له الوعود تلو الوعود، تمنيه بمستقبله وحريته واستقلاله؛ غير أن الحرب ما تهدأ ويحل السلم؛ حتى يعز عليها أن تفرط في شيء مما تستمتع به، وأن تتنازل عن شيء من سيادتها.
هذا كان شأنها عقب الحرب العالمية الأولى، وعقب الحرب العالمية الثانية، وهذا هو الموقف الآن؛ قلق واضطراب من العالم الإسلامي؛ لأنه يريد أن يعتز بإنسانيته، ويريد أن ينتفع بما أودعه الله في أرضه، ويريد أن يشارك في بناء الإنسانية، ويريد أن يقف على قدم المساواة مع أوربا؛ إذ يرى أنه لا يقل عنها عقلًا وذكاء واستعدادًا، وقد شاركها من قبل في بناء الحضارة القديمة والحضارة الوسطى كما شاركت أوربا، بل أحسن مما شاركت، وتريد أوربا أن لا تتزحزح خطوة عما ألفت، ولا تتخلى عن شيء من سيادتها وسيطرتها وظلمها واستعبادها، وتدرك أوربا الخطوب المقبلة والحروب القادمة، فتود أن تخدع العالم الإسلامي خدعة جديدة بالأساليب والألفاظ والمعاهدات الناعمة، من غير أن تتنازل عن شيء حقيقي من سلطانها، ويدرك العالم الإسلامي هذه الخدعة، فلا يأبه بها، ولا يقع في شركها، تريد إنجلترا أن تصادق العراق ومصر، وأن تعقد معهما معاهدة، ولكن لا على أساس المساواة الحقيقية، بل على أساس المساواة الشكلية الوهمية، ولا تريد أن تترك شيئًا من سيادتها الفعلية، وإنما كل ما تريد أن تتركه شيء قليل من سيادتها الشكلية، وتريد فرنسا أن تصادق المغرب، ولكن على أساس أن يذوب المغرب في فرنسا، وأن يكون مزرعتها وحقلها ومستغلها دون أن ترد عليه شيئًا من حقوقه؛ وتريد هولندة أن تصالح الأندونسيين على أساس أن تمنحهم شيئًا من المظاهر مع الاحتفاظ بالجواهر؛ وهكذا شعور من العالم الإسلامي بالاعتداء والسيطرة غي المشروعة ولا المعقولة، وشعور من أوربا بحب الغلبة والاستغلال والسيطرة كما ألفت منذ عشرات السنين؛ لهذا كان القلق والاضطراب والاحتكاك الدائم والثورات والمظاهرات من جانب العالم الإسلامي؛ ولا حل لذلك إلا أحد أمرين: إما أن يموت الوعي القومي الذي تنبه عند العالم الإسلامي، ولكن لا أمل في هذا؛ لأنه يزداد يومًا بعد يوم على ضوء الحوادث، ولأنه من المستحيل أن يرضى العاقل يومًا ما أن يكون عبدًا أو يرضى الشاب أن يكون في سلوكه طفلًا؛ وإما أن يضطر الغرب إلى التنازل عن سلطانه، والتخلي عن سيادته، ويدرك أن مصادقة الإنسان للإنسان خير من استعباده، ومعاملته معاملة المثل خير من استغلاله؛ وإذا كان الحل الأول مستحيلًا، فالحل الثاني لا بد أن يكون، ولأن يكون قريبًا خير من أن يكون بعيدًا، ولأن يكون بالرضا والاختيار خير من أن يكون بالقهر والاضطرار، ولكن هل يدرك العالم الغربي هذا، ولمَّا يزل يكفر بكل شيء إلا القوة، ويغضي عن كل شيء إلا مصلحته الذاتية العاجلة التي يمليها النظر القاصر القريب، لا النظر الحكيم البعيد؟!
وشيء آخر هو أن العالم الإسلامي وقد أدرك أن الغرب لا يؤمن إلا بالقوة — إذ دلته التجربة تلو التجربة على أن كل أمة من أمم العالم الإسلامي تكتفي بالحجج العقلية لا يسمع لقولها، ولا يلتفت لمطلبها؛ حتى إذا لجأت إلى القوة دعيت للتفاهم، كما كان الشأن في أندونسيا والباكستان وفلسطين والعراق ومصر — يجب عليه أن يزداد من الحجج التي توصله إلى غرضه، دون الحجج التي تذهب مع الريح، وتطير في الهواء، وللقوة مظاهر متعددة وأساليب مختلفة، فنشر العدل في البلاد قوة كقوة السلاح، والاتحاد بين الزعماء وطبقات الشعوب قوة كقوة الدبابات، والإلحاح في طلب الحقوق كاملة غير منقوصة دون المساومة قوة كقوة الطائرات والغواصات، وهكذا كل ضرب من ضروب نشر الحكم الصالح في البلاد، واتحاد الزعماء، ومراعاة المصلحة العامة لا الخاصة، قوة معنوية لا تقل شأنًا عن جميع ضروب القوة المادية.
وشيء ثالث؛ وهو أن كل قطر من أقطار الشرق قليل بمفرده، كثير بإخوانه، وأن التعاون بين جميع الأقطار الشرقية يعود بالنفع العظيم على كل قطر، والعالم الإسلامي سائر في هذا الطريق، لقد أدرك بصحة نظره، وصدق شعوره، أن الأمم المستعمرة تتعاون، فيومَ تبدو حركة وطنية في المغرب تتحد فرنسا وأسبانيا وترسمان الخطط المشتركة للقضاء عليها، ويوم تريد هولاندة أن تبسط سلطانها على أندونسيا تجد من الدول المستعمرة ما يؤيدها، ويوم تريد إيطاليا أن تبسط سلطانها ثانية على طرابلس ترى من الدول المستعمرة تأييدًا لها، وهكذا؛ علمًا منهم بأن الاستعمار نظرية واحدة وفكرة واحدة وملة واحدة، إذا انهارت في جانب سرت عدوى الانهيار في الجوانب الأخرى، فإذا كان الاستعمار الظالم الباطل المخالف للطبيعة الإنسانية والقوانين البشرية يتعاون، فكيف لا يتعاون أصحاب فكرة الاستقلال، وهو العدل، وهو الحق، وهو الأليق بالإنسانية؟!
قد بدا هذا التعاون على شكل ما في فكرة الجامعة العربية، ولكن لا يزال في مبدأ أمره، وفي مستهل حياته، والتعاون الذي نرجوه تعاون أوسع من ذلك وأشمل وأعمق، تعاون يجعل الأقطار العربية والإسلامية كلها تخاصم فرنسا إذا ظلمت فرنسا المغرب، وتخاصم أمريكا إذا ظلمت أمريكا فلسطين، وتخاصم هولندة إذا ظلمت هولندة أندونسيا، تعاون يشمل الاقتصاد؛ فلا بترول يقدم لأمريكا من أي قطر عربي حتى تعدل عن ظلمها لفلسطين، ولا معاهدة تجارية مع فرنسا حتى تعدل عن ظلمها للمغرب … إلخ، وتعاون سياسي؛ فلا معاهدة مع دولة عربية إلا إذا علمت بها جميع الأمم العربية وأقرتها جامعة الدول في ضوء المصالح المشتركة … إلخ.
وهذا مطلب قد يبدو عسيرًا، وقد يصيب الأمة من الأضرار ما يصعب احتماله، ولكن ما دامت هذه اللغة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها المعتدي، فلا بد من استخدامها واحتمال أضرارها، ثم إذا هي نفذت لا تحتاج إلى زمن طويل؛ لقرب نتائجها، وسرعة الفائدة منها، وإذا كانت الأمم الغربية ترسم الخطط المحكمة المشتركة للاستعمار، فأحرى أن ترسم الدول المظلومة الخطط المحكمة المشتركة للاستقلال، وعجيب أن يصر الظالم على ظلمه ولا يمعن المظلوم في الدفاع عن حقه.