أدب الحرب (٢)
من أوضح خصال الأمم الحربية الاستهانة بالموت، وقلة الحرص على الحياة؛ لكثرة ما يرون من القتال، ووقوع أعينهم كل حين على صرعى الحرب؛ فلو فزعوا لرؤية القتيل، وبكوه البكاء الطويل؛ لفسدت حياتهم، وعظم خطبهم، وكان يدعوهم إلى الاستهانة بالموت في الجاهلية أنهم يخشون العار، أكثر مما يخشون الموت؛ فلو قعد العربي عن نجدة مستنجد، أو صراخ مستصرخ، أو لم يدفع الشر عن عرضه، أو وقع أسيرًا لخصومه؛ لكانت الطامة الكبرى، ولعاش ذليلًا، مطأطئ الرأس، يعير هو وقبيلته بأسوأ أنواع العار، فالموت في عزة أحلى عنده من الحياة في ذلة، وفي ذلك يقول المتلمّس:
وزاد الموت هوانًا عندهم أن الموت سبيل كل حي، فمن لم يمت في الحرب مات في السلم، وما الفرق بين ميت يموت كريمًا دفاعًا عن قبيلته، أو عن شرفه أو عن عرضه، وبين جبان يحمل العار، ويحرص على الحياة، ويعيش ذليلًا، إلا أيام أو سنون؛ والنتيجة المحتومة واحدة، وهي الموت؟! يقول عنترة:
وكثر شعرهم في هذه المعاني من استخفاف بالموت وكره للحياة الذليلة، واستفظاع للذلة والهوان، يقول قائلهم:
بل رأوا بالتجربة أن الشجاع ليس أكثر تعرضًا للخطر من الجبان، فقالوا إن الشجاعة وقاية والجبن مقتلة، وقالوا: إن من يقتل مدبرًا أكثر ممن يقْتَل مقبلًا.
وكان من أثر ذلك أن افتخروا بالموت في ميدان الحرب، وكرهوا أن يموتوا على الفراش حَتْفَ أنوفهم.
يقول شاعرهم:
فلما جاء الإسلام بقيت النفوس الحربية على طبائعها الموروثة؛ من حب للقتال، وخوف من العار، وزادهم استهانة بالموت عقيدتهم في الحياة الأخرى، وأن قتيل الحرب شهيد، كما طمأن نفوسهم الاعتقاد في القدر؛ فمن مات مات بالقدر، ومن عاش عاش بالقدر، وفلسفوا هذا المعنى، فقالوا: إذا قدر عليهم الموت فلا مفر، وإذا قدر لهم الحياة فلا موت، وقال قائلهم في ذلك:
وأكثروا من القول في هذا المعنى وأشباهه؛ ففخروا بالموت كما يفخر غيرهم بالحياة، قال قائلهم:
وقال آخر:
•••
وكان من أبواب أدب الحرب عندهم التوسُّع في وصف آلات القتال المستعملة، فأغنوا لغتهم بأسماء السيف وأوصافه وأجزائه وقرابه، والرمح ونعوته، والقوس ووترها وأصواتها وتركيبها، والسهم، والنصل، والترس، والبيضة، والدرع، فكان لكل أداة من هذه الأدوات أسماء مفرطة في الكثرة.
ثم بجانب هذا الغنى اللغوي؛ الغنى الأدبي، فوصفوا كل آلة من هذه الآلات أدق وصف وأحكمه؛ حتى لو جمع ما قيل في ذلك لبلغ مجلدات ضخمة، ولو عاشوا إلى زماننا هذا ببلاغتهم وأدبهم، لقالوا في المدرعات والغواصات والطائرات والقنابل الذرية ما لم يقله أحد اليوم.
يقول قائلهم في السيف:
ويقول آخر:
ويقول آخر:
إلى كثير من مثل ذلك.
بل اعتزوا بآلات القتال كاعتزازهم بأبنائهم، وسمى فرسانهم وشجعانهم آلات القتال بأسماء، كما يسمى الناس، واحتفظوا بها احتفاظهم بأرواحهم، وتوارثوها كما يتوارث المال العزيز، كسيف عمرو بن معديكرب؛ فقد سماه الصمصامة، وشاع ذكره وعظم أمره، وظل محتفظًا به منوهًا بذكره إلى أن تقدمت به السن وضعفت يده عن حمله، وكان وزنه فيما يقال ستة أرطال، فقال له سعيد بن العاص: «هب لي الصمصامة، فإنك قد ضعفت عن حمله!» فقال عمرو: «ما ضَعُفَتْ قناتي ولا جناني ولا لساني، وإن اختل جثماني، وهو لك!»، ثم قال:
وظل الصمصامة في يد سعيد بن العاص، ثم توارثه ولده طوال العهد الأموي، وصدر من الدولة العباسية، إلى أن اشتراه الخليفة الهادي بمال كثير.
وهكذا اشتهر كثير من آلات القتال، من خيل وسلاح بأسماء خاصة، حفظت على مر الأزمان، وذكرت على ألسنة الشعراء، وطال ذكرها في الأدب العربي.
وكما أكثروا من وصف السلاح وأدواته، أكثروا من وصف المعارك، من كثرة الجيوش وما تثير من غبار، وما تسد من أفق، وما يلمع فيها من سيوف، وما تبذل فيها من أرواح؛ وإذ كانت حروبهم في الجاهلية وفي صدر الإسلام حروبًا برية كانت أوصافهم في هذا العصر لهذه الجيوش البرية، فلما عظمت جيوشهم البحرية، كما عظمت جيوشهم البرية أخذ الشعراء يصفون الأسطول والمعارك البحرية، كما فعل البحتري في قصيدته المشهورة التي يقول فيها: