أدب الحرب (٣)
ومع أن العرب أشادوا بذكر الحرب، وتغنوا بوقائعها، وفخروا بالبطولة فيها، لم ينسهم ذلك أن يلتفتوا إلى الجانب السيئ منها، وهو ما ينال الناس من ويلات وما يصيبهم من كوارث؛ فأبان شعراؤهم شدتها، والأضرار التي تحيق بالناس منها، وتمنوا أن لم تكن، ولكنها سنة الدنيا، ولا بد من أن تربى الأمة تربية حربية ما دام في الدنيا ظلم واعتداء، ورأوا أن الظلم لا يُدفع إلا بالظلم، والحرب لا تُدفع إلا بالحرب، ولو عقل الناس لما ظلم الظالم، ولدفع عن ظلمه بالتفاهم؛ ومن خير ما ورد في ذلك المعنى أنهم شبهوا الحرب في أول أمرها قبل اندلاع نارها بغادة حسناء تتزين للناس، ويودها كل من رآها؛ لأن كل حزب يتصور الحرب قد وقعت، وقد انتصر فيها، ونال الغنائم من أسلابها؛ حتى إذا دخلوا في معمعتها، ورأوا ضحاياها، وشعروا بأخطارها، انقلبت هذه الغادة الحسناء عجوزًا شمطاء يفزع منها كل من رآها، ويعزب عن رؤيتها كل من شاهدها، سواء في ذلك المنتصر والمنهزم، فالضحايا من كل جانب، والغنائم مهما بلغت لا تساوي خسائر الأرواح مهما قلت، وفي ذلك يقول شاعرهم:
ودعاهم إلى طول التفكير في هذا أن النصر لا يعرف لمن يكون، مهما درست الظروف وامتحنت القُوى، فنتيجة الحرب تخفى حتى على الطَّبِّ العليم، ولا يدرك نتائجها إلا الخبير المجرب، الواسع النظر، العميق الفكر، وهو مع ذلك شاك في النتيجة؛ حتى إذا انتهت الحرب، رأى عواقبها الجهول والعليم، والغر والعاقل، يقول الكميت:
وأدرك العرب من مساوئ الحرب أن أضرارها لا تقتصر على المحارب، ولا تقف مهما كانت الحيطة على المقاتل، فأقل ما في الأمر أن قتيل الحرب له أسرة تكتوي بفقد راعيها، وتبتئس من فقدان عائلها؛ ولذلك كان من أقوالهم المشهورة (الحرب غشوم)، وفسروا غشمها بأنها تنال غير الجاني.
وربما كان من أقدم الشعراء، وأبرعهم في وصف ويلات الحرب زهيرُ بن أبي سلمى؛ حيث يقول في معلقته:
يقول إن الحرب قد ذقتم مرارتها، وعلمتم أضرارها، والحديث عن ذلك حديث صدق ويقين، لا حديث ريب وظنون.
أي متى تثيروها لا تحمدوا مغبَّتَها، وإذا شببتموها ضريت كما تضرى النار، أو كما يضرى الكلب العقور، فتحرق من فيها.
يقول: إن الحرب متى ضريت تطحن الناس كما تطحن الرحى ما يلقى فيها، وتحمل في أشد أوقاتها استعدادًا للحمل، فتلد توأمين، فهي تحمل في قوة، وتلد في قوة، تحمل وتلد الشر مضاعفًا.
أي إنها تلد أولاد شؤم، كلهم في الشؤم كأحمر عاد، ثم هي ترضع أولادها وتتعهدهم؛ حتى ينموا فيفطموا.
يريد أن هذه الحروب تغل من الشرور ما لا تغله أرض العراق الخصبة المنتجة للخيرات الكثيرة.
وهو تصوير بدوي طريف للحرب وويلاتها، وكثرة ما تنتجه من شرورها، وتسلسل ما يولد من أضرارها.
وهو قول ينطبق على الحرب في هذه الأيام كما كانت في أيام زهير؛ فالطبيعة الطبيعة، والشرور الشرور، وكلما تقدم الناس في أفانين الحرب كثرت شرورها، وازدادت كوراثها، وتوالدت مفاسدها، واتسعت الأضرار بغير جناتها.
وأدرك العرب معنًى لطيفًا، وهو أن ضحايا الحرب أرواح، وضحايا غيرها أموال، وأين الأموال من الأرواح؟! فقال قائلهم: «دافع الحرب ما استطعت، فإن النفقة في كل شيء من الأموال، إلا الحرب، فإن نفقتها من الأرواح».
وفي بعض القطع الأدبية معان لطيفة من الدعوة إلى السلم، فإن لم يجنح الخصم لها فالحرب، ومن خير ما قالوا في ذلك قول الشاعر:
فقد أدرك الشاعر في هذه الأبيات أن كل حزب مقضي عليه بالخسارة حتمًا، وأن النصر محتمل، ولكن الخسارة محققة، وغنم المال لا يساوي في شيء خسارة الأرواح، وقال: إنه لم ينصحه هربًا من الحرب، ولكن إدراكًا لعواقبها المحتومة، فلما بين له الرشد من الغي، وأبى صاحبه إلا الغي، نازله عن بينة، وكانت الدائرة على خصمه.
وهذا يرينا أن الناس من قديم؛ حتى العرب في جاهليتهم أيام كانت الغارات وسيلة من وسائل العيش، كانوا يرون أضرار الحروب ومفاسدها؛ وكان عقلاؤهم يتمنون أن لو زالت الحروب؛ ولكن ظلت هذه النزعة الصادقة خافتة لا تلقى سميعًا إلى يومنا هذا، والفرق الكبير بين الأمة الحربية وغير الحربية: أن الأمة الحربية الراقية تفضل السلم وتدعو إليه، ولكنها مع هذا تعد للحرب ما استطاعت من قوة، فإذا لم يُسْمَعْ صوتُ الحق فليسمع صوت السيف، أما إن هي استسلمت، ولم تأخذ عدتها، واعتمدت على العقل وحده، والحكمة وحدها، افترسها عدوها المسلح، كما يفترس الأسدُ الضاريُّ الحملَ الوديعَ.