في الهواء الطلق (٣)
كان خروجنا هذا اليوم إلى «ذهبية» على النيل؛ إذ بلغ الفيضان مداه، ووصل في المجد إلى منتهاه، فلما أخذنا مجلسنا قال صاحبي: ما أجمل هذا المنظر، ماء نجاشي متدفق، وزرع ونخيل، ومنظر — من الماء الذهبي وراءه الخضرة الممتدة إلى الأفق — رائع جميل، ومرأى لعين الشمس — وهي تغرب — مهيب جليل، ونسيم وادع هادئ عليل.
ولماذا نحرص على الاستقلال السياسي والاقتصادي، ولا نحرص على الاستقلال الفني والأدبي؟! هل يجب أن نتقيد في الغناء بغناء الموصلي أو عبده الحمولي؟! فلماذا لا نفعل ذلك في الأدب، فنرفض من التعبيرات الأدبية ما ينفر منه ذوقنا، ونبتكر ما يتفق ومشاعرنا؟! ومن أمثال ما نرفضه «النسيم العليل» و«العيون المراض».
•••
لا أذكر — بالضبط — كيف تنقل الحديث، ولكن أذكر أني وجدت أننا نتكلم في استقلال مصر ومشكلة فلسطين، وأن صاحبي انتهى في حديثه إلى أن يقول: «إن مصر ستنال استقلالها حتمًا، وإن فلسطين ستحل مشكلتها كما يقضي العدل حتمًا؛ لأن الحق لا بد أن يسود، وإذا تصارع الحق والباطل غلب الحقُّ لا محالة».
بل إننا نرى أن ما يسود العالم من الأباطيل أكثر ممَّا يسود من الحق، فأكثر أهل الأرض خاضع لعقائد باطلة وخرافات وأوهام فاسدة، ونظريات سياسية واجتماعية تدعمها الدعاية المختلفة المصطنعة لا الحق المتين، ولو غربلت ما عليه الناس من عقائدَ وعاداتٍ وأوضاعٍ وتقاليدَ وسلوكٍ وأخلاقٍ ومعاملةٍ، لرأيت ما فيها من الحق كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كحبة قمح تائهة في تل من تبن.
والدنيا كلها جارية على سنن واحد، وهو أن قليلًا من القمع بالقوة والتشريع الظالم تحميه القوة التنفيذية كافٍ لإماتة الحق، ثم إذا سار الناس زمنًا على ذلك ألفوا هذا الباطل وعدُّوا المنادي بالعدل والحق ثائرًا أو خائنًا أو زنديقًا أو مجنونًا، فأين — إذًا — غلبة الحق وانتصاره؟
وهذا الذي أقوله هو بعينه فكرة «بقاء الأصلح»؛ فليس حتمًا إذا أخذنا شجرتين أو حيوانين أو إنسانين معينين أن يموت أضعفهما ويحيا أقواهما؛ فقد يعرض عارض يميت القوي فيبقى الضعيف، ولكن مع هذا «بقاء الأصلح» صحيح عند النظرة الكلية.
وهذا — أيضًا — هو الذي يتمشى مع نظرية رقي العالم رقيًّا دائمًا وسيره إلى غاية، وذلك في كلياته دون جزئياته؛ فقد تنحط أمة بعد رقيها، ولكن العالم — من حيث هو كل — لا يتأخر أبدًا.
وشيء آخر أحب أن أقرره من الناحية العملية، وهو أن تراخي الأفراد والأمم في تأييد الحق؛ اعتمادًا على أنه بذاته سينتصر، تصرف سيئ باطل، يشبه من كل الوجوه التوكل على الله من غير أخذ في الأسباب، فالحق محتاج إلى قوة وراءه تدفعه وتحميه، والحق غير المسلح إذا وقف أمام الباطل المسلح انهزم، وظل في انهزامه حتى ينازل الباطل في مثل عدته وسلاحه؛ ولذلك لم تثبت النصرانية الأولى وتنتصر وتنتشر إلا بعد أن تسلحت، ولم ينتصر الإسلام في بدء حياته ويدخل فيه الناس أفواجًا إلا بعد أن تسلح، بل إنا نرى أن الحق — أحيانًا — يحتاج إلى أن يعتمد في حربه على شيء من الباطل كالذي قال معاوية: «إنا لا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل».
•••
وهنا دق الناقوس يدعونا للعشاء فقال صاحبي: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا صدق الله العظيم.
•••
وقضينا سهرة جميلة على ظهر «الذهبية»، عشاء لذيذ وسمر ممتع، يتخلله سماع موسيقى شجية، واختلاس نظرات للنيل، وقد سطع عليه القمر فلوَّنه لونًا فضيًّا رائعًا بعد لونه الذهبي الجميل في الأصيل، وانصرفنا بعد أن جددنا نفوسنا، هو إلى بيته في مصر الجديدة، وأنا إلى بيتي في الجيزة، وإلى اللقاء.