الحروف العربية والحروف اللاتينية
كان من جملة المشروعات التي وضعتها هيئة «اليونسكو» لدراستها هذا العام مكافحةُ الأمية في العالم ونظم التعليم الأساسي.
ومن مقتضى هذا — بطبيعة الحال — أن يشمل ذلك العالم العربي، فيُنظر في كيفية تخليصه من أميته، وفي مناهج التعليم الأساسي له.
والأمر يبدو بسيطًا واضحًا لو أن هيئة «اليونسكو» — وهي الهيئة الثقافية التابعة لهيئة الأمم — ركزت نفسها في التربية والتعليم ولم تتأثر بالسياسة، فما عليها إذا أخلصت النية إلا أن تدرس — فيما تدرس — الأمية في الأمم العربية، وتنصح بالوسائل لمكافحتها ومدى الإعانة التي تستطيع أن تقدمها، ولكنها ستصطدم حتمًا بالسياسة فتتأثر بها.
ذلك أن الاستعمار حليف الأمية ونصيرها ومؤيدها، وعدو التعليم وعدو مكافحة الأمية؛ وهذا هو تاريخ الاستعمار دائمًا، فإذا سمح المستعمر بالتعليم فتحت ضغط الرأي العام ومطالبته الملحة بنشر التعليم، ومع ذلك إذا سمحوا بشيء منه ففي حدود ضيقة ومع تقييد البرامج بما يفقدها روحها.
هذا هو تاريخ الاستعمار الإنجليزي لمصر والسودان، والاستعمار الفرنسي لتونس والجزائر ومراكش، والاستعمار الإيطالي لبرقة وطرابلس، والاستعمار الهولندي لأندونسيا.
فإذا أرادت «اليونسكو» مكافحة الأمية في الأمم العربية اصطدمت بالاستعمار.
إن مكافحة الأمية من القضايا التي تولد مشاكل عديدة مع الدول؛ لأنها تثير مسائل دقيقة جدًّا … من ذلك أنه في بعض الأقطار الإسلامية تكون الحروف العربية أداة لحب الفتح وانتشار الدين الإسلامي.
وقفت عند هذه الجملة طويلًا؛ لأنها صادرة من رجل خبير بالسياسة العالمية وبالسياسة الاستعمارية، وعلى الأقل بخفايا النيات الفرنسية وأساليبها في استعمار بلاد المغرب.
فأما «الفتح» فأي فتح يريد؟ لم نعهد أمة عربية مسلمة منذ قرون، فتحت قطرًا جديدًا غير عربي وغير مسلم، وإنما عهدنا أن الحروف اللاتينية هي التي اعتدت ففتحت آسيا وإفريقيا، واستخدمت النار والحديد لإذلال أهلهما وتسخيرهم للحروف اللاتينية، والعالم العربي كله يئن ويصرخ منذ قرن من الحروف اللاتينية وأهلها، فأي فتح يريد؟!
هو — في الحقيقة — لا يريد فتحًا بالمعنى الذي نفهمه من الكلمة، وإنما يريد أن الحروف العربية أداة للقراءة العربية وقراءة القرآن، وكلاهما لا يريد لأهله أن يخضعوا للأجنبي يحكمهم، ولا للحروف اللاتينية تستغلهم، وإنما يريد لأهله أن يتحرروا وأن يستقلوا وأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم؛ وهذا مطلب كريه عند الفرنسيين وأمثالهم من المستعمرين، فإذا أراد مسيو رينو بالفتح أن يفتحوا بلادهم ويخرجوا الفرنسيين منها فأي عار في ذلك؟! أعار أن توحي الحروف العربية بحب الاستقلال، وليس عارًا أن توحي الحروف اللاتينية بحب الاستعمار؟! إنه من العجب العاجب أن يصل إلى هذا الحد قلب الحقائق، والتلاعب بالألفاظ، وتسمية حب الاستقلال فتحًا، وتخبئة اسم الفتح عما يفعله الاستعمار.
إن هذه الكلمة القصيرة تكشف عن حقيقة نية أمم الاستعمار نحو التعليم، وتوضح سياستها التعليمية: فإيطاليا في طرابلس وليبيا حاربت الحروف العربية أقسى حرب، وأيدت الحروف اللاتينية أقوى تأييد، وفرنسا في تونس طبقت هذا المبدأ في إحكام، فأماتت اللغة العربية وأحيت اللغة الفرنسية؛ وكان مديرو التعليم — وهم فرنسيون — ينشئون المدارس للجاليات الأجنبية والمواطنين في المدن على نمط مدارس فرنسا وبرامجها؛ لينشئوا الأطفال جميعًا نشأة فرنسية خالصة لا تشوبها شائبة من القومية أو العربية، ووضعوا في أيدي الأطفال نفس الكتب الفرنسية التي تشيد بفرنسا وعظمتها؛ ولم يتزحزحوا عن ذلك قليلًا إلا بهيجان الرأي العام وإلحاحه في جعل اللغة العربية مادة من مواد التعليم؛ ولذلك نعجب أشد العجب من رؤية شبان متنورين من المغاربة يتقنون اللغة الفرنسية كلَّ الإتقان، ولا يحسنون التعبير عما في نفوسهم بلغتهم العربية، وعلى الإجمال كان محور السياسة الفرنسية إحلال الحروف اللاتينية الجميلة، محل الحروف العربية الملعونة.
هذه هي العقدة الأولى في نفوس المستعمرين، وأما العقدة الثانية فهي الدين الإسلامي، وهم يكرهونه أشدَّ الكرهِ؛ لأنه يثير العزة في نفوس معتنقيه، ويدعوهم للتحرر من يد الأجنبي.
وعلى هذا سارت إيطاليا في معاملتها لأهل طرابلس وبرقة؛ فقد كتب الدكتور مافريسي سنة ١٩٣١ يقول: «لا تدهشكم هذه الخطة التي سلكها الاستعمار الإيطالي، فإن للفاشيست غرضًا يرمون إليه؛ هو تحويل جميع أهالي البلاد التي وقعت بين براثنهم إلى إيطاليين بكل الوسائل، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، وهم لا يبقون على دين أهل البلاد التي تقع تحت عبوديتهم، ولا على لغتهم».
وقد صدق فيما قال، ولكن ليست هذه السياسة سياسة الفاشيست وحدها، بل هي السياسة العامة للاستعمار، وخاصة الاستعمار الإيطالي والفرنسي.
وأخيرًا؛ يتبجح كل هؤلاء بدعوى الحرية والإخاء والمساواة والحريات الأربع وحقوق الإنسان، كأن كل هذه الألفاظ لا مدلول لها إلا بشرط أولي؛ وهو ألا يكون المطالبُ بها عربيًّا ولا مسلمًا! والأمر لله.