الشيخ حسن البدري الحجازي
شخصية غريبة من شخصيات أواخر عصر المماليك في مصر، من أصل حجازي، وكان من علماء الأزهر، يدرِّس فيه عند الدكة القديمة، يألف العزلة، ويرضى بالقليل من وسائل العيش، ويقرأ كثيرًا في التصوف، ويضع فيه أرجوزة تبلغ نحو ألف وخمسمائة بيت، ومثله الأعلى في الحياة رجل تقي ورع يبعد عن الناس ويقرب من الله، تجرد من الأطماع ورضي بالقليل؛ وفي ذلك يقول:
وقد غلب عليه التشاؤم، فكان سيئ الظن بالناس، قل أن يرضى عن أحد، وهذا ما دعاه للعزلة.
وقد امتاز في هذا العصر بكثرة شعره، وعلى الأصح بكثرة نظمه، فكان النظم طيعًا في لسانه، ينظم في التصوف وفي المنطق وفي الفلسفة وفي النحو وفي الحديث؛ ولكن أهم من ذلك كله نظمه في نقد الناس وفي أحداث التاريخ المعاصرة، وهو بهذا يرينا صورًا متعددة من صور الناس في ذلك العصر، وعيوبهم الاجتماعية والأخلاقية، فإذا نظم في الأحداث التاريخية شرح الحادثة، وأبانها في وضوح وجلاء، ووصف الممثلين على مسرحها وأدلى برأيه في كل ذلك، وقد روى لنا الجبرتي بعض نماذج من شعره في هذه الأحداث، فكان إذا ذكر حادثة روى ما قاله (الحجازي) فيها.
وخلف لنا ديوانًا كبيرًا مرتبًا على حروف المعجم يعد بحق مصدرًا من المصادر التي تشرح الحياة الاجتماعية، كما أنه يقدم لنا صورة من صور الأدب في ذلك العصر، فشعره ليس بالجيد في أسلوبه، ولا بالغني في خيالاته، ولا بالمحكم في نسجه، ولكنه على كل حال صورة من أرقى ما أنتجه عصره، وربما كانت قيمته التاريخية والاجتماعية أكبر من قيمته الأدبية؛ وهو مع ذلك يمتاز بعدم التكلف والبساطة وصدق الوصف، كما أن أسلوبه في النقد لاذع حاد صريح، وهي ميزات في الأدب لها شأنها، فينقد مثلًا علماء عصره في التفافهم حول الغني وتمجيده واللياذ به والخضوع له، فيقول:
•••
•••
ويقول في المرائين من العلماء أيضًا:
•••
… إلخ.
وينقد الحارات البلدية وقذارتها وضوضاءها وسوء حالها؛ فيقول:
ويصوِّر لنا في شعره لوحة طريفة من الأقارب وسوء علاقاتهم، واحترامهم للغنيِّ منهم لغناه، واحتقارهم للفقير منهم لفقره، وتطلعهم لموت الغني؛ لينتهبوا ميراثه … إلخ.
ويصف ما جرى لمصر في حادث من حوادث نزاع المماليك، وما أصاب الشعب من خصومتهم وقتال بعضهم بعضًا؛ فيقول:
•••
وفي موضع آخر يقول:
وعلى الجملة فشعره يصور لنا عصره في كثير من نواحي الحياة الاجتماعية، كما يصور الأدب في ذلك العصر من حيث أسلوبه وموضوعه.
ولعل المؤرخين لو عنوا بديوان هذا الشاعر وأمثاله من الشعراء، وبالتراجم من مثل من ترجمهم الجبرتي في تاريخه، وعلي باشا مبارك في خططه، كما عنوا بكتب الفتاوى الفقهية التي كان الشعب يستفتي فيها فقهاء عصره في المسائل التي تحدث، من مثل (الفتاوى المهدية)؛ لكان لهم من ذلك مادة صالحة لتأريخ الحياة الاجتماعية، ولما وقع أكثرهم في الخطأ من اقتصارهم على مصادر الأحداث السياسية والحربية.