التعاون الثقافي بين الأقطار العربية
لقد تغير منهج الحياة ووضعت لها أسس جديدة، فبعد أن كان أساس الحياة التقاليد والعرف والعادة وأقوال السلف؛ أصبح أساسها العلم.
لئن كان التعاون بين الأقطار العربية في الشئون السياسية والحربية صعبًا معقدًا وطريقًا مملوءًا بالأشواك، فإن التعاون الثقافي أيسر وأسهل وطريقه ممهد، بل هو كالأصل للتعاون السياسي والاقتصادي والحربي؛ فما لم تتقارب العقليات وتتوحد النزعات ويتحد الغرض، فالتعاون السياسي والاقتصادي والحربي جد عسير، والذي يقوم بالعبء الأول في توحيد الأفكار والمشاعر والأغراض هو الثقافة، وما فرق بين الأمم وأوقع بينها الخصومات والنزاع وجرها إلى الحروب إلا اختلاف نزعاتها واختلاف مطامحها التي أتت من اختلاف مناهجها في التربية؛ وهذا ما دعا عصبة الأمم أولًا، وهيئة الأمم المتحدة ثانيًا إلى إنشاء فرع يعنى بالثقافة بين الأمم وتقريب المناهج وتوحيد الأغراض، ولم يفسد على الهيئات الثقافية في عصبة الأمم أولًا، وهيئة اليونسكو الحاضرة ثانيًا أمرهما إلا لعب السياسة بهما؛ ولو خليتا وشأنهما لأفادتا العالم فائدة كبرى، والمطمح الوحيد لعقلاء العالم الآن هو أن يكون في العالم هيئة قوية لا تخضع للسياسة؛ ولكن تسمو فوقها، ولا تخدم الدول الكبرى؛ ولكن تخدم الفكرة الإنسانية؛ وما لم توجد هذه الهيئة فسيظل العالم في نزاع دائم وشقاق متواصل وحروب مخربة.
وإذا كان من العسير أن تكون هيئة واحدة ممسكة بزمام الثقافة في العالم، فمن الممكن أن يقسم الاختصاص بين كتل متجانسة، وكل كتلة تضع خطتها للتعاون ورسم المنهج، وتتفاهم مع الكتل الأخرى في الأصول الأساسية لبناء العالم الجديد على أساس جديد.
والأمم العربية كتلة واحدة متجانسة، وحد بينها وبيئاتُها الطبيعية المتقاربة، وتاريخُها الذي مر عليها بأحداث متجانسة أو متشابهة، ولغتُها الواحدة، ودينُها الواحد غالبًا؛ فكل هذه عوامل قاربت بين عقلياتها وثقافتها وأغراضها ومطامحها، فيجب أن تتعاون في هذه الناحية الثقافية لتحقيق غايتها، ولم يعد في الإمكان أن تنفرد كل أمة عربية بنفسها وترسم خطتها الثقافية مستقلة عن غيرها بعد أن أصبح العالم يميل إلى التكتل لا إلى العزلة والانفراد. ثم إن كل أمة عربية لها نقط ضعف يمكنها أن تعالجها بما تستمده من غيرها من الأمم، ونقط قوة يمكن أن تفيد بها غيرها، وهي فوق ذلك إذا تكتلت ووحدت أغراضها كان لها من القوة ما يجبر العالم على سماع صوتها ورعاية حقها.
وقد تخلف العالم العربي عن العالم الغربي في ثقافته، فلم ينهض بتعليم أبنائه إلا من عهد قريب، وعندما بدأ نهضته وجد أن العالم الغربي قد سبقه بقرونٍ وبمراحلَ، فكان واجبًا عليه أن يعوض أزمان الخمود والسير البطيء بسرعة في السير ومضاعفة الجهد؛ حتى يقف بحذاء العالم الغربي يبني معه ويتقدم بالعالم معه ويبتكر كما يبتكر ويخترع كما يخترع، وهو مطلب عسير، لا بد فيه من تكاتف القوى ومن عقول جبارة لرسم الخطط واستنهاض الهمم والسير في الطريق القويم.
ليس يصح الآن أن تتفرق الدول العربية فتضع كل أمة منهاجها في التعليم وأغراضها من التربية، بل لا بد أن يكون لها غاية واحدة تضع كلها مناهجها على وفقها، فإن اختلفت في شيء فإنما تختلف في التفاصيل والتوسع في دراسة بيئتها الخاصة وشئونها الخاصة، أما الغرض فيجب أن يكون واحدًا، ليس من حق أية أمة عربية أن تعلِّم على نمط التعليم في القرون الوسطى، ولا أن تضع منهجًا مثله الأعلى حياة العرب في العهد الأموي أو العباسي، بل لا بد أن يكون منهجها وفقًا لما دل عليه العلم الحديث والتربية الحديثة، وإلا رجعنا إلى الوراء.
أمامنا ثروة كبيرة لما أنتجه العالم الغربي من أيام نهضته إلى الآن، وهي ما تسمى بأمهات الكتب، جدت كل أمة حية في ترجمتها إلى لغتها، والعالم العربي لم يحقق هذه الغاية ولم يقم بهذا الواجب إلا على نطاق ضيق جدًّا، وهو يسير فيه من غير منهج معروف ولا خطة مرسومة.
وكل أمة حية وضعت لها أنسيكولوبيديا، أو بعبارة أخرى (دائرة معارف) بل دوائر معارف، في كل شأن من شئون العلم دائرة، بجانب الدائرة الواسعة الشاملة؛ وهي من حين إلى آخر تجدد معارفها حسب ما وصل إليه العلم الحديث وتجدد نشرها، والعالم العربي كله إلى الآن ليس له دائرة معارف عربية واحدة، ولا يكون هذا إلا عن طريق التعاون؛ ولا يمكن وضع دائرة معارف عربية إلا إذا اتفق قادة العلم في الأمم العربية على وضع المصطلحات الحديثة للعلوم والفنون الحديثة، وهذا ما لم يتيسر إلى الآن.
أمام العالم العربي الآن أرض بكر؛ هي أرضه، في كل بقعة منها من المواد الخامة ما تتلمظ له أفواه الغربيين، وما يكفي لإسعاد أهلها جميعًا، ومع ذلك نتركه في يد غيرنا يستغلون القليل منه، ونترك الكثير ضائعًا مع ما بنا من فقر وعوز وحاجة، ولا يمكن علاج هذا الإهمال إلا بالتعاون العلمي بين المثقفين ثقافة علمية واقتصادية؛ حتى يضعوا الخطط لدراسة هذه الثروة وكيفية استغلالها والانتفاع بها بيدنا لا بيد غيرنا.
إن قوى المفكرين منا قوى لا بأس بها، يمكن الاستفادة منها، ويمكنها أن تحقق الأغراض التي نرمي إليها، ولكن كثيرًا منها قوى ضائعة، إما بمحاربة بعضها بعضًا، وإما باستقلالها بنفعها وعدم تعاونها مع غيرها، وإما بضعفها الخلقي بما ينتابها من كسل وخمود وتراخ وتوان؛ فإذا تعاونت وخرجت عن خمودها أمكنها على الأقل أن تحقق بعض غايتها.
في كل يوم من الأيام دليل واضح يقوم على وجوب هذا التعاون، وصيحة تنادي بأن العالم الغربي لا يسمح لأمة بالوقوف ولا بالتقهقر، وأن من لم يعمل كان عرضة لأن يُستعبد ويُستذل ويُستغل ويُداس بالأقدام؛ فكيف نسمح لأنفسنا أن نقف هذا الموقف الذليل، ولا نبذل كل جهدنا ونستخدم كل قوانا لتحطيم القيود التي كبلتنا أزمانًا طويلة، ثم نسير إلى الأمام في سرعة وإقدام؟!
لقد تغير منهج الحياة ووضعت لها أسس جديدة، فبعد أن كان أساس الحياة التقاليد والعرف والعادة وأقوال السلف، أصبح أساسها العلم، في كل شيء؛ في تربية الطفل، في الزراعة، في الصناعة، في الشئون الاجتماعية والصحية؛ فما لم نؤسس حياتنا الجديدة على هذا الأساس الجديد لا يمكننا أن نسير مع السائرين.
لو كنا في عزلة عن العالم لوجب أن نعمل ولوجب أن نرقى ولوجب أن ننهض، فكيف ونحن محاطون بالأعداء ينعمون بجهلنا، ويرتقبون أخطاءنا، ويعدون علينا كسلنا وخمولنا؟! ولا أمل في الخروج من هذه المآزق التي نقفها إلا بالتعاون الصادق في رسم الخطط وتنفيذها، وأولها الخطط الثقافية بجميع أنواعها.