التاريخ يعيد نفسه
جملة مشهورة، كثيرة الدوران على الألسنة، ولكن ما معناها وما مدى صحتها؟
أما إن أريد أن الحوادث نفسها بأشخاصها وزمانها ومكانها تعود مرة ثانية وثالثة، فهذا ظاهر البطلان، فمحال أن يعود الإسكندر أو نابليون أو تيمورلنك فيفتح فتوحه، ومحال أن يعود سقراط في أثينا ويعيد دروسه، ومحال أن يعود المتنبي إلى مصر فيلقى كافورها، أو إلى حلب فيلقى سيف دولتها، أو نحو ذلك، فالجملة على هذا المعنى سخافة ظاهرة.
أما المعنى المقبول والذي يظهر لي أنه صحيح، فهو أن كل حدث من أحداث الزمان نتيجة لمقدمات، فإذا تمت المقدمات ظهرت النتيجة لا محالة، وإذا تشابهت المقدمات تشابهت النتائج، وهذا الأمر يتكرر دائمًا على نمط مطرد؛ فكلما حدثت مقدمات من نوع خاص حدثت النتيجة بعينها، خذ لذلك — مثلًا — الثورات، فالثورة إنما هي نتيجة لمقدمات كثيرة، مثل حال سيئة اجتماعية تسود الشعب، ودرجة عالية من غليان الشعب، وزعماء يوقدون النار تحتها، ونحو ذلك من مئات العوامل، وهذه هي المقدمات، فإذا حدثت كلها ولم يتخلف شيء منها حدثت الثورة لا محالة، وقلنا حينئذ إن التاريخ يعيد نفسه.
قد يكون التعبير نفسه مضللًا، فالتاريخ لا يعيد نفسه بالمعنى الحرفي الدقيق للجملة، ولكنه يكرر نفسه أو يعيد مِثْله أو نحو ذلك من التعبيرات الدقيقة.
إن أحداث التاريخ — على هذا النظر — مثلها مثل كل القوانين الطبيعية، إذا حصلت أسبابها حصلت مسببانها، فإذا وجد الحديد ووجدت الحرارة تمدد الحديد لا محالة، وأمكننا أن نقول إن تمدد الحديد يعيد نفسه، كما نقول التاريخ يعيد نفسه، وكذلك كل القوانين الطبيعية المتصلة بالكهرباء والضوء والجاذبية والمغناطيسية … إلخ.
- (١)
أن الأحداث التاريخية لها أسباب كثيرة معقدة مشتبكة قد يخفى بعضها على العلماء المدققين؛ فالثورة الفرنسية لها أسباب لا تزال إلى اليوم موضع بحث الباحثين مع الاختلاف الشديد بينهم، ولكن مهما كان هذا الغموض وهذا الاختلاف فلا بد أن يكون هناك أسباب حقيقية إذا حدثت في أي زمن آخر حدث مثل هذه الثورة، فإذا لم تحدث فمعناه أن الأسباب لم تستكمل.
- (٢)
أن من ضمن الأسباب التي تنتج الأحداث التاريخية النفس الإنسانية، وهي حرة قد تعمل العمل في ظرف، ولا تعمله في الظرف نفسه، وإذًا لا يعيد التاريخ نفسه، وردُّنا على هذا أن من رأينا أن النفس الإنسانية مجبرة في شكل مخيرة؛ فهي بحكم قوانين الوراثة والبيئة وما إليهما لا يمكنها أن تفعل غير ما فعلت؛ فمحال أن يكون هارون الرشيد غير هارون الرشيد، ومحال أن يكون أبو العلاء المعري وأبو نواس غير ما كانا.
فإذا سلمنا بهذين المبدأين آمنّا بأن التاريخ يعيد نفسه على هذا المعنى، وهو أن المقدمات المتساوية تنتج نتائج متساوية، فإن اختلفت النتائج فسببه اختلاف منا في التقدير والحساب وحصر الأسباب وكميتها وكيفيتها، لا في القوانين الاجتماعية التي تشبه القوانين الطبيعية في عمومها وشمولها وصدقها الدائم.
إن هذا المعنى هو الذي سما به ابن خلدون على من سبقه من المؤرخين، فنظروا هم إلى المسائل الجزئية على أنها مسائل منفردة؛ مستقل بعضها عن بعض، ونظر هو إلى أن المسائل الجزئية راجعة إلى أصول كلية وأسباب عامة شاملة أبانها في مقدمته.
بل إن المؤرخ الذي ينظر إلى التاريخ على أنه علم، ويبلغ من ذلك مبلغًا راقيًا، يستطيع بفضل ما وصل إليه من حقائق العلم أن يكذب بعض ما يرويه المؤرخون؛ لأنه لا يتفق والقوانين الطبيعية للإنسانية، بل ويمكنه أيضًا أن يكمل النقص في أحداث التاريخ التي غفل عنها المؤرخون، كما يستطيع الخياط الماهر أن يتصور ثوبًا كاملًا إذا عثر على جزء منه، بل أكثر من ذلك يمكنه أن يتنبأ بأهم ما سيحدث قبل أن يحدث، لرؤيته الدقيقة لأسباب الأحداث في حين تكونها، وعلمه بأن هذه الأسباب ستنتج حتمًا نتائج معينة؛ قياسًا على الماضي، وإيمانًا بالقوانين الطبيعية.
وفي هذين اليومين قرأت الكتاب القيم الذي ألفه الأستاذ محمد عبد الله عنان وعنوانه: «نهاية الأندلس» قرأته وأنا أحمل في ذهني أيضًا صورة «فلسطين» وموقف العرب منها، وموقف العالم الأوربي والأمريكي منها أيضًا، واسمعه يقول: «ولم يك ثمة شك في مصير غرناطة بعد أن سقطت جميع القواعد الأندلسية الأخرى في يد العدو القوي الظافر، وليس من شك في أن الأواخر من ملوك غرناطة يحملون كثيرًا من التبعة في التعجيل بوقوع المأساة، فنحن نراهم يجنحون إلى الدعة والخمول ويتركون شئون الدفاع عن المملكة، ويجنحون إلى حروب أهلية يمزق فيها بعضهم بعضًا، والعدو من ورائهم متربص ومتوثب يرقب الفرص، وقد كان هذا شأن مملكة غرناطة وشأن بني الأحمر، ولا سيما منذ أوائل القرن التاسع الهجري أو أوائل القرن الرابع عشر الميلادي، ومنذ عهد الأمير علي أبي الحسن تبلغ الحرب الأهلية ذروتها الخطرة … وقد شاء القدر أن يكون السلطان أبو الحسن وأخوه الأمير محمد بن سعد المعروف بالزغل وولده أبو عبد الله محمد أبطال المأساة الأخيرة، حملتهم نفس الأطماع والأهواء الخطرة فانحدروا إلى معترك الحياة الأهلية، وشغلتهم الحرب الأهلية طول الوقت عن أن يقدروا حقائق الموقف وأن يستشعروا الخطر الداهم وأن يستجمعوا قواهم المشتركة لمواجهة العدو المشترك» إلخ إلخ.
وهكذا وهكذا؛ تقرأ في هذا الكتاب صفحاتٍ متعددةً، فكأنك تقرأ نكبة فلسطين وأسبابها ونتائجها؛ حتى لو أنك غيرت اسم فلان وفلان بفلان وفلان، وغيرت اسم إسبانيا بإنجلترا وأمريكا إلى نحو ذلك، رأيت أن التاريخ يعيد نفسه بالمعنى الذي ذكرنا.
ثم إنهم كثيرًا ما يذكرون أن التاريخ عظة وعبرة، وهذا صحيح أيضًا، ولكن عظة العامة وأشباههم من التاريخ غير عظة الخاصة وأشباههم منه؛ فالعامة يتعظون منه كما يتعظون من دروس الوعظ، يرون ملكًا زال وأبهة وغنى وعظمة فارقت أهلها، فيتعظون من ذلك ويقولون: «ما لشيء دوام»، أما الخاصة فعظة التاريخ عندهم أنهم يقرءون أحداث التاريخ العظمى ويتعمقون في دراسة أسبابها الأصلية، ويستخلصون من ذلك قواعد كلية عامة كقواعد الطبيعة والكيمياء وعلم الأحياء وعلم الاجتماع، ويتعظون من ذلك بمعنى أنهم إذا رأوا الأسباب تتكون؛ قرءوا النتائج قبل حدوثها وأنذروا بها قبل أن تكون، وطالب المصلحون منهم الأمة بأن تستأصل الأسباب قبل أن تحدث النتائج الخطيرة، فدفعوا الشر قبل وقوعه، إذا سمع الناس لقولهم وأصغوا لإنذارهم، وهذا منتهى العظة.