في ضوء المصباح
كتب الدكتور زكي نجيب محمود مقالًا في العدد الماضي من الثقافة؛ تطبيقًا على المذهب الجديد في الأدب، الذي يرى أن الأديب يجب أن يسجل مجرى خواطره كما تقع في شعوره، من غير أن يتخير منها شيئًا، ومن غير أن يفرق بين هام وغير هام؛ ولا مانع من أن تكون الأفكار غير مرتبة ولا خاضعة للمنطق؛ ولا مانع من أن تسجل الأفكار التافهة والمشاعر الوضيعة بجانب الأفكار القيمة والمشاعر الرفيعة؛ ولا مانع — كما قال — من أن يسجل الأديب شيئًا تافهًا جدًّا بجانب شيء جيد جدًّا، وأن يفكر في لحظة في السماء، ثم يفكر في لحظة أخرى في الأرض، كما فعل أحد زعماء هذه المدرسة؛ وهو (ت. س إليوت) من كلامه عن السماء أمطرت أو لم تمطر، ثم أعقب ذلك بقوله: إن الفطيرة عجنت ببيضة أو بيضتين.
وهو مذهب لا أراه صالحًا، وأسأل الله ألا يُبلى به أدباء العرب فيقلدوا هذه المدرسة ويزيدوا على عيبها الأصلي عيب التقليد، وقد بدأت طلائع هذا التقليد عند بعض كتاب القصص اللبنانيين والعراقيين.
إن الفرق بين هذا المذهب وما قبله من المذاهب، أن المذاهب التي جرى عليها الأدب إلى اليوم كانت تتصور الأدب على أنه سجل خير الأفكار وخير المشاعر في خير أسلوب، وهذا المذهب الجديد يرى أن الأدب هو سجل لخواطر الأديب عن نفسه أو غيره كائنة ما كانت، تافهة أو قيمة، وضيعة أو رفيعة، والرأي الأول أعقل وأعدل وأصح؛ لأن هذا المذهب الجديد يهدم فكرة التخير التي يمتاز بها الفن كما يمتاز بها فنان عن فنان، إن ميزة الفنان الكبرى هي في تخيره نماذجَ وألوانًا، وانسجام الألوان واختيار الأوضاع، فإذا عُدم هذا الاختيار عند الفنان لم يكن فنانًا، وكذلك ميزة فنان على فنان أنه أرقى ذوقًا في اختيار موضوعاته، وفي اختيار ألوانه، وفي تنسيق هذه الألوان؛ وأساس المدرسة الجديدة هدم فكرة الاختيار والتجويد، وعرض كل ما يجول بخاطر الأديب حيثما اتفق، فمثل من يتبع هذه المدرسة مثل من يضع أثاث الحجرة حيثما اتفق؛ من غير إعمال ذوق ولا فن.
ثم إن كل أديب مهما رقي، ككل إنسان تأتي عليه لحظات يفكر فيها أفكارًا سخيفة ويشعر مشاعر سخيفة، وتأتي عليه لحظات أخرى يسمو في أفكاره ومشاعره، بل قد تتقارب هذه اللحظات، فيمتزج السخيف بغير السخيف والرفيع بالوضيع من الأفكار والمشاعر، فأي خير للناس في أن يعرفوا ما سخف من أفكاره، وما وضع من مشاعره؟ إن فضل الأديب أن يسمو بالناس فيما يسمو به من أفكار، لا أن ينحط مع الناس فيما انحطوا فيه من أفكار، وإلا فلا معنى للتجويد، ولا لحصر الذهن، ولا الأناقة، ولا أي شيء من ذلك، ما دامت وظيفة الأدب كما تقول المدرسة الجديدة هي عرض كل الأفكار والمشاعر؛ بل إن واجب الأديب أن يستر بعض مشاعره وأفكاره إذا أحس بِضَعَتِهَا ونقصِها، كما يجب أن يستر كل إنسان مخازيه ومعايبه.
إن هذا المذهب في الأدب والفن على العموم يشبه مذهب العُرْي في الأجسام، فلا عورة ولا استحياء؛ وكما أن مذهب العري في الأجسام يذهب الروعة ويقضي على كثير من الشعور بالجمال، فهذه المدرسة تقضي على الأدب؛ إذ تجعله شيئًا عاديًّا تافهًا.
بل إني لأعجب من أصحاب هذه المدرسة، ومن بينهم الأديب ت. س. إليوت، كيف يجرون في أدبهم على سنن اختيار الأسلوب وتنميقه وتجويده، ولا يطبقون ذلك على المعنى، فلا يجودونه ولا يتخيرونه، والمعنى أليق بالاختيار وأحق بالتجويد.
إني أفهم أن يكون هذا المذهب مذهبًا في علم النفس، لا مذهبًا في الأدب؛ فالكاتب الذي يصف كل مشاعره، وتنقلاته في خطراته، وقفزه في أفكاره، يتيح لعالم النفس مجالًا كبيرًا في تحليل نفسه والوقوف على عيوبه وتحقيق شخصيته، أما الأديب فلا يهمه الوقوف على تفصيلات الشيء، وإنما يهمه الوقوف على ما فيه من جمال: لا يهم الأديب شجرة الورد، وكيف تنبت، وكيف تنمو، وكيف يتكون برعومها، وإنما يهمه من كل ذلك جمال زهرتها؛ فهذه المدرسة الجديدة تريد أن تعنى في الوردة بأشواكها، كما تعنى بجمال زهرتها، وبجذورها المدفونة في الأرض، كما تعنى بزهرتها المتفتحة المتطلعة للسماء، وهذا سوء إدراك لفهم معنى الأدب، وخلط بين العلم والفن، وقضاء على تذوق الجمال.
وكما هدم هذا المذهب التخير والانتقاء؛ فقد هدم فكرة التسلسل: تسلسل الأفكار، وتسلسل المشاعر وانتظامها كلها في سلك واحد، ورأى أن لا بأس من أن تكون القصيدة أو المقالة أو القصة مجموع طفرات قد لا يربط بينها رابط، بحجة أن هذا تمثيل للواقع؛ إذ الأديب قد يتنقل ذهنه تنقلًا غير منطقي، ولكن إهدار هذا التسلسل يضع من قيمة الأدب، وليس الغرض من الأدب أن نعرف ما يجول بخاطر الأديب بالدقة والضبط مهما كانت طفراته، ومهما كان شطحه، إنما نريد أن نعرف خير ما ينتجه الأديب إذا حصر ذهنه وحصر عواطفه وعرضها في شكل مفهوم؛ على أن هذا الشطح الذي دعا إليه هذا المذهب أوقع إنتاج أصحابه في الغموض، فكثير من شعر (ت. س إليوت) غامض لا يفهمه إلا القليل، والذين يفهمونه لا بد أن يكون عقلهم من جنس عقله، ومشاعرهم من جنس مشاعره، وشطحاتهم من جنس شطحاته؛ لأن هذه الشطحات والطفرة في الانتقالات تكاد تكون شخصية، والتسلسل والمنطق هو القدر المشترك بين الناس؛ فإذا سلسل الأديب أفكاره ومشاعره استطاع أن ينقلها إلى الناس، أما إذا لم يسلسلها فلا بد أن تنتظر عقلًا شطاحًا كعقل الأديب؛ ليتقابل معه في الفهم؛ وقد جربنا ذلك في شطحات الصوفية، فكثير منها عز على فهم جمهور الناس، ولم يفهمه إلا من ذاق ذوقهم، وشرد ذهنه شرودهم.
إن من أهم وظائف الأدب نقل المشاعر ونقل الأفكار؛ فالأديب لا يغني لنفسه، ولكنه يغني للناس، فإذا سجل كل شحطاته كان مغنيًا لنفسه، وباعد بينه وبين الناس، وكان خيرًا له ألا ينشر ما يكتب، وأن يغني في حجرته الخاصة.
هذا ما فهمته من القدر القليل الذي قرأته عن هذا المذهب، والذي عرض له الدكتور زكي نجيب محمود، ولعل بعض الكتاب أو الدكتور نفسه يشرحه شرحًا أوفى، ويعرض لنا نماذج من نتاج زعماء هذه المدرسة؛ ليتضح لنا المذهب على حقيقته.
أما رأيي في المقال الذي كتبه الدكتور زكي تطبيقًا على هذا المذهب، فهو كرأيي في المذهب نفسه:
مقال يعجبني من ناحية دلالته النفسية على كاتبه لا من ناحية جماله الأدبي؛ فقد فهمت منه ما تنطوي عليه نفس الكاتب من قلق وتبرم بالحياة، وتبلبل في المشاعر، وغلبة اليأس عنده على الرجاء، ودواعي الحزن على دواعي الفرح؛ وإصابته بصدمة نفسية استلزمت حزنه وقلقه، وهو يعجبني كطرفة جديدة لا كمذهب يتبع؛ يعجبني كلعبة الحاوي تسر ناظرها لأول مرة، ثم لا يُلتفت إليها فيما بعد، ولو أبيح هذا المذهب لرأينا الكثير من سخافات وغموض وإبهام يطلع علينا بها المشعوذون بدعوى أنها أدب على المذهب الجديد، كما صدعونا من قبل بما سموه الأدب الرمزي الذي لا معنى له ولا طعم له.