روح المجالس
لعلَّ للمجالس روحًا كالتي للأفراد؛ فقد تكون روح المجلس مرحة فكهة، وقد تكون متزمتة جامدة؛ ثم قد تكون أحيانًا خفيفة رقيقة، وأحيانًا ثقيلة غليظة؛ ثم قد تكون أحيانًا ضاحكة مستبشرة، وأحيانًا عابسة مكتئبة.
وروح المجالس كروح الأفراد، صعبة التعريف، غامضة التعليل، فمن أين تتكون؟ هل تتكون من روح الأفراد الذين يضمهم المجلس، فتكون روح المجلس حصيلة روح الأفراد؟ الظاهر أن ليس الأمر كذلك؛ لأنا نرى أن روح المجلس تتأثر أكثر ما تكون بفرد أو فردين؛ لامتيازهما بشخصية قوية، أكثر مما تأثر ببقية الحاضرين، فإنا نرى المجلس يحضره نابغة في الفكاهة فتكون روح المجلس فكهة ضاحكة؛ حتى ليضحك الحاضرون من أتفه شيء وأخف نكتة، ويضفي هذا النابغة على المجلس من روحه حتى تتلاشى كل روح ما عداه؛ وقد يكون في المجلس نابغة في العقل أو في التفكير فيصطبغ المجلس كله بروح العقل والتفكير مهما كان فيه من أشخاص قليلي العقل قليلي التفكير.
فليست روح المجلس حصيلة روح الحاضرين إلا إذا قلنا إنها تتكون من الحاضرين، ولكن لا بمقدار واحد، بل بمقدار ما لهم من شخصية قوية أو ضعيفة.
وتختلف روح المجلس كذلك باختلاف طبائع الحاضرين، فالمجلس إذا تكون من نساء فقط كان له روح خاصة غير روح المجلس إذا تكون من رجال فقط، وهما غير روح المجلس يتكون من رجال ونساء؛ وروح مجلس الصبيان غير روح مجلس الشبان، غير روح مجلس الشيوخ، فكل مجلس يستمد روحه من طبيعة نوع أفراده.
وشيء آخر: وهو أن روح المجلس ليست تعتمد على روح أعضائه فقط، بل على مزاجهم أيضًا، ولذلك نرى أن المجلس قد يضم أفرادًا معينين فيكون فكهًا مرحًا مرة، وعابسًا مكتئبًا مرة أخرى، والحاضرون هم هم، لم يزد عليهم ولم ينقص منهم، ولكن اختلف مزاجهم، فكان مرة مزاجًا فكهًا، ومرة مزاجًا عابسًا، فاختلفت روح المجلس باختلاف أمزجتهم.
ومن العوامل أيضًا في تكوين روح المجلس موضوع الحديث؛ فقد ينقل الحديث وقد يخف، فتكون روح المجلس ثقيلة أو خفيفة؛ وقد يكون موضوع الحديث خفيفًا لطيفًا فتخف روح المجلس وتلطف، وأكبر دليل على ذلك أن المجلس قد يتغير حاله وتختلف روحه مع بقاء الجالسين كما هم لم يزيدوا ولم ينقصوا؛ لتنقلهم في موضوعات مختلفة؛ فقد يثيرون موضوعًا فكهًا يستخرج الضحك من أعماق صدورهم فتستولي على المجلس روح فكهة ضاحكة، ثم ينتقلون إلى حديث ديني وقور فيتوقر المجلس وتتوقر الروح؛ وقد ينتقلون بعد ذلك إلى حديث آسف حزين فتحزن نفوسهم وتتغير روح المجلس إلى روح حزينة، وهكذا.
بل إن مكان المجلس وزمانه عاملان كبيران في روحه؛ فإذا كان المجلس في بستان على نهر والشمس ساطعة والجو جميل والمناظر فتانة، اكتسبت روح المجلس من هذا المنظر واصطبغت بصبغته، وعلى العكس من ذلك إذا كان المجلس في حجرة ثقيلة في أثاثها وخمة في هوائها، فإن هذا المكان يشع ثقلًا على الروح وانقباضًا في الصدر؛ وكذلك شأن الزمان، فالسمر لا يحسن إلا ليلًا، فإذا أنت عقدت مجلس سمر قبيل الظهر أو بعد الغداء كان المجلس أثقل ما يكون.
كذلك يتحكم في روح المجلس عددُ الحاضرين؛ فالمجلس من اثنين له روح غير روح المجلس من ثلاثة، وللأربعة روح غير روح الخمسة، فإذا زاد العدد زيادة مفرطة ضاعت الروح ولم يعد مجلسًا، بل كان جماعة.
ثم إذا كان المجلس مجلس (كيف) من الكيوف تحكم هذا الكيف في روح المجلس؛ فمجلس الشاي مثلًا يشعر شرابه بحاجتهم إلى الهدوء والطمأنينة والحديث الهادئ المطمئن، ويفسده صخب الأولاد، وحتى جلبة الموسيقى، وإذا وجد في مجلسه صاخب أو كثير الحركة أو عالي الصوت في الجدل أفسد روحه وأفسد طعمه، وعلى العكس من ذلك مجلس الشراب، تجمله الموسيقى والغناء، وتحييه الحركة والنشاط، وتبهجه النكتة، وتؤنسه الضحكة.
بل إن المناظر الطبيعية الجميلة تختلف روح مجالسها، فجلسة القمر تحتاج إلى هدوء وتفكير في الفلسفة أو تساقي الغرام، ومنظر البحر الهائج يعدي النفوس فتحتاج إلى مجلس هائج ونفوس متحركة؛ وكذلك قل في منظر الزرع والشجر أو قمم الجبال أو طلوع الشمس أو غروبها في البحر، فكل من هذه لا يناسبه إلا منادمة خاصة وحديث خاص، وإلا فسد الطعم وساء الذوق.
وكما تموت روح الفرد قد تموت روح المجلس؛ فقد ترى جماعة اتخذوا شكل مجلس، ولكنه مجلس بلا روح، كمجلس لا تعارف بين أصحابه، أو هم متعارفون ولكنهم متناكرون، أو هم متعارفون متحابون ولكن انقبضت صدورهم لسبب ما، فنفروا من الحديث ولجأوا إلى الصمت؛ فإن شئت فقل في هذا المجلس: إنه مجلس بارد، وإن شئت فقل: إنه مجلس ميت.
كل هذا أدركه من قبلنا، ولكن لم يعبروا عنه تعبيرنا؛ فقد أدركوا المعنى الجزئي ولم يدركوا ما نسميه اليوم روح المجلس، والأدب العربي مملوء بهذه النظرات؛ فكم قال عشاق الشراب في وصف النديم وشروطه وما يجب أن يكون عليه، وأبدع في ذلك أبو نواس أيما إبداع، وحذا حذوه الشعراء والكتاب؛ حتى لقد فضلوا لذتهم من النديم على لذتهم من الشراب إذا خلا من نديم؛ وما النديم في نظرنا إلا التماس لروح المجلس وما تبعثه من سرور يحيط بالشراب، ولولا هذا النديم الذي يخلق الروح ما التذ الشاربون من شرابهم هذه اللذة.
لقد أعجبتني حكاية ظريفة، وهي أن زوجة ساءها ما ينفقه زوجها كل ليلة في الخمارة، فطلبت إليه أن يشرب في بيتها وبيته، وعاهدته أن تعد له أحسن شراب وأنظف مائدة وأجمل أزهار، فقبل ذلك منها، وشرب في بيته على هذا الوضع ليلتلين أو ثلاثًا، ثم فر من ذلك وعاد إلى الخمارة وقال: «أين ضحك الندمان، وأين مماكسة الخمار؟!». وهو محق في ذلك؛ لأن لذة الشراب ليست في الشراب وحده، بل في الندمان وما يحيط به وبالندمان.
ولعلك شهدت جماعة يسمعون أسطوانة موسيقية لمغن مشهور أو مغنية مشهورة، فيطربون لها طربًا مختلفًا يزيد عند بعضهم وينقص عند الآخرين، وليس الطرب الشديد عند من يطرب يرجع إلى حاسته الموسيقية فقط، ولكن لأنه يذكر أنه سمع هذه الأسطوانة مرة في مجلس غني بالمناظر الجميلة والحركات الجميلة، فإنما هو يستوحي روح المجلس الذي سمع فيه هذه الأسطوانة فيزيده ذلك طربًا.
وأدرك العرب أيضًا اختلاف روح المجلس بقلة العدد أو كثرته، فقال إسحاق النديم في الندماء: «واحد هَمٌّ، واثنان غَمٌّ، وثلاثة نظام، وأربعة تمام، وخمسة مجلس، وستة زحام، وسبعة جيش، وثمانية عسكر، وتسعة اضرب طبلك، وعشرة ألق بهم إلى حيث شئت». واستعاض بعضهم عن النديم بالكتاب يقرؤه، أو الكتاب يؤلفه، كما حكوا عن ابن سينا والفارابي؛ فقد رووا أن كلًّا منهما كان يجلس إلى الشراب ويكتفي بمنادمة الكتاب.
وكانوا يستحسنون الشراب يوم الدجن، وفي البساتين أيام الربيع على مناظر الزهور الجميلة، وهكذا.
ومع ذلك كله فلا تزال روح المجالس يكتنفها الغموض، شأنها شأن روح الأفراد؛ فقد تتفتح روح الفرد وتنتعش وتغمر بالسرور من غير سبب واضح، وقد تنكمش وتنقبض ويعلوها الحزن والضيق من غير سبب واضح أيضًا، كذلك الشأن في روح المجلس، قد يجتمع إخوان على أصفى ما يكونون روحًا وتجانسًا وألفة، وتتهيأ جميع ظروف الزمان والمكان ويتنبأون جميعًا بمجلس سار ممتع، وإذا روح المجلس تنقلب ثقيلة بغيضة كريهة كأسوأ ما يكون، وقد يخلو المجلس من شروط صفائه ومجلبة سروره، ثم يكون مجلسًا سارًّا ممتعًا؛ كل ذلك لأسباب قد تعرف وكثيرًا ما تجهل.