في الربيع
يعز علي أن يأتي موسم الربيع ولا أكتب فيه، وكل عام أكتب ولم تفرغ معانيه، فالأفكار والمشاعر تتجدد كما يتجدد الربيع، وكم للربيع من معان يفنى الكتاب والشعراء ولا تفنى جدتها، وتعسًا لمن لم يهتز قلبه للربيع، ولم تبتهج مشاعره بجماله، ولم يجاوبه بعواطفه! إن من حرم العين الفنانة والأذن الموسيقية والشعور بجمال الأزهار والأشجار حرم الخير الكثير، ودل ذلك على أنه جامد القلب، غليظ العاطفة، مادي الحياة، كثيف الطبع.
ها أنا ذا اليوم في حديقتي الصغيرة والجو جميل والربيع ناضر والأزهار ضاحكة، فليكن حديثنا هذا العام في الأزهار:
إنها لا شك عالم وحده، كعالم الطيور وعالم الإنسان، تتعدد مناظرها ويتنوع جمالها، ويمكنك الحديث عنها من وجوه مختلفة؛ أولًا من ناحية رائحتها، ففيها قوي الرائحة كالفل والياسمين، ومتوسط الرائحة كبعض أنواع الورد والقرنفل، وضعيفها كالأقحوان، وعديمها ككثير منها، وليس يتوقف الجمال على الرائحة، فالرائحة تتصل بالشم، وهو أقل الحواس قيمة إذا قيس بالسمع والبصر، بل ربما سمت قيمة الزهرة إذا عدمت رائحتها؛ لأن الرائحة مقرونة بالنفع، فإذا تجردت من الرائحة كان تقويم الجمال للجمال، كالقطعة الموسيقية والغناء الجميل، فالغناء الجميل ذو المعنى يوزعك بين لذة العقل ولذة السمع، والموسيقى الجميلة ينحصر جمالها في جمال توقيعها، وعندي أن الجمال المحدد خير من الجمال الموزع.
ثم هذه الأزهار أمامي كأنها جمع من الفتيات الفاتنات المتنوعة السمات؛ هذه زهرة تلفت النظر في قوة إلى جمالها فتأسرك حتى لا تود عينك التحول عنها؛ جمالها ظاهر بين، واضح جذاب، كالفتاة التي تملك عليك قلبك ومشاعرك، قد لا تكون هذه الفتاة أجمل من في الجمع، ولكن لها من السحر والفتنة ما يبطل سحر غيرها، وهذه زهرة أخرى جمالها في وداعتها وهدوّها، كالفتاة لا تلهبك نارًا، ولكن تغمرك حنانًا.
وهناك في زاوية من زوايا الحديقة زهرة منعزلة مستترة لا يلتفت الناظر إليها إلا بالبحث عنها، كالفتاة الحيية الخجول، المنطوية على نفسها، العازفة عن عرض جمالها.
ثم هذه الأزهار يختلف وحيها باختلاف نقوشها وألوانها، فهذه زهرة توحي الطهر والعفاف، وهذه زهرة توحي النقاء والصفاء، وهذه زهرة توحي القوة والجبروت، وهذه زهرة توحي تفتح الرغبة، وهكذا.
للأزهار لغات ودلالات، تعجز عنها معاجم اللغات؛ إذ كيف تنجح اللغات في دلالات العواطف؟! إن اللغة وسيلة قد تكون جيدة في نقل الآراء والأفكار، ولكنها وسيلة جد فقيرة في نقل العواطف والمشاعر.
وللأزهار دلالتها الخاصة على ما يرتبط بها من أحداث وما تظهر فيه من مواسم، فأزهار الشتاء تدل على الشتاء، وأزهار الصيف تدل على الصيف، وأزهار الربيع تدل على الربيع، ولكل زهرة معنى عند صاحبها يوحي إليه تداعي المعاني؛ فمن رأى طاقة زهر في حفل بهيج ارتبطت هذه الطاقة ومنظرها بهذه الحفلة وبهجتها، ومن رأى زهرة على صدر فتاة جميلة ذكر الفتاة إذا رأى الزهرة، ومن رأى الزهرة في مكان ذكرته الزهرة بالمكان، وكذلك تدل الزهرة دائمًا على بيئتها وزمانها ومكانها وأحداثها.
والفنانون يختلفون في تقويم الأزهار اختلافهم في تقويم جمال الإنسان وجمال الطبيعة؛ وقد روي لنا الكثير عن اختلاف الشعراء في تمجيد بعض الأزهار؛ هذا يمجد الياسمين ويفضله على سائر الأزهار، وهذا معبوده النرجس، وهذا هواه البنفسج، وقرأت مرة عن فنان بغدادي استهواه الورد وجن به حتى كان إذا جاء موسمه انقطع عن عمله وخرج إلى حدائق الورد يتنقل فيها، ويتغزل في محاسنها، إلى أن ينتهي الموسم فينصرف إلى عمله.
هذه الأزهار منتثرة حولي في حديقتي، يتنوع جمالها وبهاؤها، من جمال بساطة إلى جمال تعقيد، ومن جمال لون إلى جمال نقش، ومن جمال صارخ إلى جمال خافت، ومن جمال معربد إلى جمال متستر، ومن جمال ناعم إلى جمال شائك، وكلها في تنوع جمالها منسقة منسجمة، كأنها موسيقى تنوعت آلاتها وتناغمت ألحانها.
وهذه الأزهار تخالفت أعمارها كما اختلفت أعمار كل حي؛ فزهرة سرعان ما تذبل، وزهرة تطول حياتها ويطول جمالها، ويكاد يكون أجملها شكلًا أقصرها عمرًا، كالشأن في الإنسان قلَّ أن يعمر نابغ ويهرم عبقري، كأن الطبيعة تغار من نبوغه أو عبقريته، أو كأنها تضن به عن أن يكون نعمة جيل؛ فتخترمه؛ ليكون مفخرة دهر.
إني لأضن بجمال الأزهار عن أن يقطفها قاطف أو يعبث بها عابث؛ وكلما رأيت باقة مجموعة ذكرت من جناها وجنى عليها، ولئن عذرنا الإنسان يجني على الحيوان والثمار؛ يتبلغ بها ويعيش عليها، فكيف نعذره في قطف الجمال وليس له كبير قيمة إلا في مكانه وعلى أغصانه؟!
وبقدر ما أبتهج بالجمال واكتماله، أرثى للجمال وذبوله؛ فأحزن لذبول الزهرة وتناقص القمر وشيخوخة المرأة، ولا يعزيني عن ذبول الزهرة إلا أنها تموت لتحيا، وتذبل لتزهر، وتتناقص لتكمل.
في جمال الأزهار معنى غامض كجمال النساء؛ فقد تبلغ الحسناء أقصى درجات الجمال، ثم لا تملأ قلبك ولا تسلب لبك، وإذا بمن دونها حسنًا وجمالًا تأسرك وتستولي عليك وتغمر مشاعرك، كذلك الشأن في أزهار حديقتي؛ هذه زهرة منتحية منعزلة، ليست أجمل الأزهار، ولكن هي أحبها إلى نفسي وأقربها إلى قلبي.
إن الشعور الحق بالجمال لا يتجزأ؛ فمن أحب جمال الأزهار أحب جمال النساء وأحب جمال الطبيعة، ومن لم يشعر بجمال الأزهار فقد الشعور بالجمال عامة، فإن رأيته وقد استهوته المرأة فهو استجابة للغريزة لا حب في الجمال.
إن الله خلق الإنسان والعالم ليتجاوبا ويتناغما، فإذا لم يهتز القلب لجمال الأزهار؛ ففيم خلقها؟! وإذا لم يبتهج بالسماء ونجومها؛ ففيم لمعانها وضياؤها؟! وإذا لم يتأثر بالطبيعة وجمالها؛ ففيم البحار وأمواجها، والمياه وخريرها، والجبال الشامخة وجلالها؟! فحيث وُجدَت العين الناظرة وُجد المنظور، وحيث كانت الأذن كان المسموع، وإلا كان سؤالًا بلا جواب، وعينًا تقرأ ولا كتاب.
ليت لستالين وترومان وبيفن وأمثالهم مشاعر يدركون بها جمال الزهر، ويفهمون بها وحيه، ويصغون بها إلى حديثه، ويأنسون بها إلى وداعته ولطفه، إذًا لتغير وجه الأرض وسادت الدعوة إلى السلام، وتغلبت بواعث الإنسانية، وإذًا لاشمأزوا من رائحة القنابل وحديث الذرات واعتمادات الحروب، ولفكروا فيما يسعد لا ما يشقي، وفيما يخلد لا ما يفني، ولكن عدموا الذوق فاستأنسوا بالبارود، ونسوا الزهور فنسوا أنفسهم، وعبدوا الشيطان فصدهم عن الجمال.
وأخيرًا ليت الزمان ربيع كله.