حول المدنية الحديثة
في صيف عام لا أذكره ذهبت إلى الإسكندرية؛ لأبحث عن بيت أصيف فيه، فكان مما عرض علي بيت كان يسكنه رجل إنجليزي، وقد تركه للإيجار؛ فاستعرضت غرفه، ولفت نظري غرفة صغيرة رأيت فيها قطة سوداء؛ فسألت عنها فقيل لي: إنها قطة ذلك الرجل الإنجليزي صاحب البيت وهي عزيزة عليه يعني بها، ويرعي شئونها، فلما ترك البيت أوصى بها خيرًا، ورتب لها من يقوم على أكلها وشربها والعناية بشأنها، فسألت: وأين ذهب الرجل صاحب البيت؟ قالوا: إنه ذهب إلى ميدان الحرب متطوعًا، فدار بخلدي هذا السؤال: كيف يعني بالقطة السوداء، ويحافظ على حياتها، ويرعاها حق رعايتها، ثم يذهب إلى القتال طوعًا ليسفك دم أخيه الإنسان، ويقتل من يستطيع قتله، ويجرح من يستطيع جرحه؟! أيمكن في الإنسان الواحد أن تنقلب عاطفة الرحمة التي يبلغ من سموها العطف على القطة، إلى عاطفة قسوة تقتل وتبيد، وتتقمص أحيانًا روح ملك فتفيض رحمة، وأحيانًا روح ذئب فتنهش وتفتك؟! كيف تتلون العاطفة الواحدة هذه الألوان المتناقضة؟!
وكم في المدنية الحديثة من متناقضات من هذا القبيل! إن المدنية التي يؤلمها الرقيق فتسعى جهدها إلى إلغائه، وتعقد المعاهدات للقضاء عليه، وتبذل الجهود الجبارة في البر والبحر للتخلص منه، لا يفسر عملها إلا بأنها تعشق الحرية لبني الإنسان جميعًا، وتكره الرق وتمقته؛ لأنه عدو الحرية؛ ولكن نرى هذه المدنية بعينها تسترق من الأمم أكثر مما تحرر من الأفراد، فهي من جانب يؤلمها الرق فتحرر، وهي من جانب آخر تؤلمها الحرية فتسترق، وإلا فما بالها هجمت على الشرق كله فاسترقته، ووضعت في رجله القيود، وفي عنقه الأغلال، ولم تمكنه من أي نوع من أنواع الرقي، وكان إذا طالب بحريته في التعليم، أو بحريته في استغلال موارده، أو بحريته في التسلح، أو بحريته في الخطابة والكتابة، قاومت ذلك كل المقاومة، وضغطت عليه كل الضغط، ولو أدى ذلك إلى استعمال الحديد والنار؟! فكيف تعشق الحرية وتمقتها، وتبكي عليها وتخنقها؟! هذا أيضًا ضرب من المتناقضات!
والمدنية الحديثة الآن تظهر العطف على الشرق، وتدعي أنه يؤلمها أن تراه متأخرًا، وتعلن أنها مستعدة للأخذ بيده والنهوض به، وأنها على استعداد أن تمده بالإخصائيين من رجال الزراعة والاقتصاد والمال؛ ليبحثوا حالته وينتشلوه من ورطته، ويعينوه بالأموال إذا اقتضى الحال؛ ولكن في الوقت نفسه، يرى أهل هذه المدنية ما تفعل فرنسا في المغرب من خنق للحرية، وحجر على التعليم، ومقاومة كل حركة وطنية بالقنابل والمدافع والطيارات، ويؤيدون ما يفعل الصهيونيون بالمسلمين من اغتصاب ديارهم، وتشريد مئات الألوف من سكانها، وتركهم يتضورون جوعًا، ويتحملون أشد أنواع العذاب؛ من قسوة البرد، ولهيب الحر، ثم لا تأخذهم رحمة، ولا يتحرك قلبهم لعطف، فكيف يعطفون عليهم في الأولى، ويعلنون أنهم يضعون الخطط للأخذ بيدهم، ومد يد المساعدة لهم، وينكلون بهم في الأخرى حتى كأنهم يريدون القضاء عليهم، ومحوهم من على وجه الأرض؟! أليست هذه متناقضات؟!
الحق أنهم في سلوكهم في الشرق يعيثون مع الذئب ويبكون مع الراعي، ويتظاهرون بالعطف ويضمرون البغض، ويعلنون المعونة ويبطنون الاستغلال، ولم يتحركوا حركتهم الأخيرة بدعوى الأخذ بيد الشعوب المتأخرة؛ إلا خوفًا من روسيا، وخوفًا من أن يؤدي سوء الحالة الاجتماعية في الشرق إلى إفساح المجال للمذهب الشيوعي، ولولا خوفهم على أنفسهم ما فكروا في الشرق إلا لاستغلاله ولا أمدوه بشيء إلا ليأخذوا منه أكثر مما أعطوا، أما الإنسانية أو الإخاء أو العطف على البائس الفقير أو تعليم العالمِ الجاهلَ أو مساعدة القويِّ الضعيفَ أو نحو ذلك من المعاني السامية؛ فآخر ما يمكن أن تفكر فيه المدنية الحديثة.
وتقرر هيئة الأمم مبادئ سامية في حقوق الإنسان ومساعدة كل أمة تريد أن تحكم نفسها، فإذا هبت أمة شرقية للمطالبة بتطبيق هذه القواعد سدت الهيئة آذانها وكأنها لم تصدر قرارًا ولم تضع مبادئ، بل إن الفعل الواحد قد تفعله روسيا فتقوم عليها الأمم الديموقراطية معنفة مشهرة، ثم تقدم على مثله أمة ديموقراطية، فلا نقد، ولا تعنيف، ولا تشهير، وكأن القضية الواحدة يحكم فيها بالنظر إلى من ارتكبها، فإن كان مرتكبها أسود كانت جريمة كبيرة، وإن كان أبيض لم تعدّ جريمة.
وتضع اليونسكو قرارًا بأن كل أمة لها الحق في أن تعلم أبناءها بلغتها، فإذا رفع المغاربة صوتهم عاليًا بأنهم محرومون في بلادهم من تعليم العلوم بلغتهم، وأن العلوم في بلادهم تعلم باللغة الفرنسية لا بلغتهم القومية العربية، وأن اللغة العربية تصلح كل الصلاحية أداة لتعليم العلوم كما هو الحال في الأقطار العربية الأخرى، لم يسمع لقولهم ولم يلتفت إلى ندائهم.
فالحق أن المدنية الغربية تسير على المبدأ القديم الذي حكاه القرآن عن اليهود بأنهم قالوا: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وأن الحق لا ينظر إليه في المدنية الحديثة على أنه حق في ذاته، ولا الباطل باطل في ذاته، وإنما الحق والباطل يقوم باعتبار من صدر عنه، مثلهم في ذلك مثل البدوي البدائي الذي سئل عن العدل والظلم؛ فقال: إذا أخذت جملًا من قبيلة غير قبيلتي فعدل، وإذا أخذ رجل من غير قبيلتي جملًا من قبيلتي فظلم.
وعلى الجملة فقد كل الشرق يصدق زعماء الغرب في دعاويهم منذ نادى الرئيس ولسن بمبادئه، وظنوا أن ويلات الحروب قرَّبت الزعماء السياسيين من فهم الأخوة والإنسانية، فلما كثرت أقوالهم وكذبتها أعمالهم في دعوى ولسن وأقوال عصبة الأمم وأقوال هيئة الأمم ومبادئ روزفلت وما إلى ذلك، لم يعودوا يصدقون هذه الأقوال وأخذوا يسمعونها على أنها أمثلة من النفاق لا تدل ألفاظها وجملها على معانيها الحقيقية، وإنما هي ألفاظ مزوقة، يُضحك بها على ذقون البله والمغفلين فترة من الزمان.
والآن إذا نشبت حرب أخرى — لا قَدَّرَ الله — وقيلت مثل هذه الأقوال ووضعت مثل هذه المبادئ وأعلنها الزعماء السياسيون؛ لم تجد من الشرق إلا ضاحكًا أو ساخرًا، وهذا شأن كل من يتوالى قوله، ولا يصدُق فعله.
وليس هذا سلوك المدنية الحديثة مع الشرق وحده، بل هو المسلك نفسه مع أمم الغرب بعضها وبعض، فمظهر النفاق والتناقض بين الأقوال والأفعال واضحٌ في كثير من التصرفات؛ فعندما أعلن موسوليني ضمَّه للحبشة وخرج من عصبة الأمم، أعلنت عصبة الأمم أنه يريد تغيير خريطة العالم بالقوة، واستنكرت فعله، كأنه وحده هو الذي فعل هذا، وكأن لم تفعل إنكلترا وفرنسا مثل عمله، فكانت كل حين تغير خريطة العالم بالقوة، وكأن موسوليني أتى بدعًا جديدًا، ولم يكن مسبوقًا بأمثلة كثيرة من الأعمال، فعلتها كل الدول الأوربية القوية قبله، فكأنهم لصوص استولوا على الغنائم ووزعوها بينهم واطمأنُّوا إليها، فلما ظهر لص جديد ثار عليه اللصوص القدماء واتهموه بالسرقة والغدر والخيانة!
وفي كثير من أحداث التاريخ كانت بعض الأمم تظلم وتعتدي وتلقي القنابل على البلاد المطمئنة الهادئة غير المسلحة، فيرتفع الصوت عاليًا من الأمم الأخرى بالاستنكار والاستفظاع والوصف بالوحشية، ومع ذلك يتبين أن هذه الأمم المستنكرة تمد الأمة المعتدية بالذخيرة والسلاح.
لقد استنكرت عصبة الأمم فعل إيطاليا بالحبشة، ومنعت عنها كثيرًا من المواد إلا البترول الذي يستخدم في الحرب، واستنكرت بعض الأمم رَمْيَ فرانكو القنابل على البلاد الآمنة في إسبانيا، ومع ذلك كانت هي التي تمده بالسلاح ولم تقطعه عنه، وهكذا، وهكذا من ضروب الاضطراب والتناقض والنفاق.
وعلى الجملة، فإن كانت المدنية الحديثة صناعة فنِعمت هذه الصناعة، وإن كانت علمًا وبحثًا واكتشافًا، فنِعم العلم والبحث والاكتشاف، وإن كانت سلوكًا وأخلاقًا من قادة السياسة وزعمائها فبئست هي.