بين الماضي والمستقبل
اعتاد الإنسان أن يقلل من شأن حاضره ويعلي من شأن ماضيه أو مستقبله، وسبب ذلك أن الحاضر هو الواقع وهو الملموس وهو المحسوس، وأما الماضي وأما المستقبل فيلعب فيهما الخيال ويسبغ عليهما كثيرًا من الجلال.
والإنسان هو الوحيد بين مخلوقات الأرض الذي يشعر بنفسه، ويشعر بالعالم حوله، ويستطيع أن ينظر من خارج نفسه إلى نفسه، وينظر من نفسه إلى العالم الذي يحيط به، فدفعه ذلك إلى كثرة السؤال: من أنا في العالم؟ ما علاقتي به؟ ما معنى هذه الحياة القصيرة التي يعقبها الموت؟ كيف كان العالم قبلي؟ كيف يكون العالم بعدي؟ … إلى كثير من مثل هذه الأسئلة.
وقد اشتركت الأساطير والفلسفة والدين في الإجابة عن هذه الأسئلة، وتطورت نظرات الناس إلى الماضي والمستقبل حسب اختلاف البيئة الاجتماعية، فكثير من الأمم قدَّسوا الماضي وعدُّوه هو العصر الذهبي، ورأوا أن العصر الذي يعيشون فيه عصر انحطاط وتدهور؛ ففي عهد الأساطير عند اليونان كانوا يعدون عهد (كرونوس) عصرًا ذهبيًّا، ويعتقدون أن الناس كانوا يعيشون فيه عيشة الآلهة أو ما يقرب من الآلهة؛ فلما تجاوزوا عصر الأساطير كانوا يعتقدون أن عصر المشرعين أمثال ليكورغ وصولون هو العصر الذهبي لليونان، وأن أملهم وطموحهم إنما هو في عودة ذلك العصر السعيد.
ثم جاءت النصرانية، وجاءت القرون الوسطى، واضطهد الناس أشكالًا وألوانًا، وفقدوا حريتهم، ووقعوا تحت نير الاضطهاد والاستعباد، فرأوا أن الحياة التي يعيشونها لا قيمة لها، ولا أمل فيها، فوجهوا نظرهم إلى الحياة الأخرى وحدها؛ حيث النعيم المقيم، والسعادة الأبدية، واعتقدوا أن العيشة الحاضرة ليست إلا فترة ضئيلة من الحياة تنقضي على أي شكل كان، فما هي إلا قنطرة يعبر عليها السائر إلى الآخرة.
حتى جاء العصر الحديث؛ ونهض الأوربيون نهضتهم، وتحرروا كثيرًا من ظلم حكامهم، وسلطة كنيستهم، وأصبحت حكومتهم في أيديهم، يسيرونها وفق رغباتهم، فتحول الناس من النظر إلى العصر الذهبي الماضي أو الحياة الأخرى بعد الموت، إلى النظر لحاضرهم في الدنيا ومستقبلهم فيها.
وأكبر عامل في عصر النهضة لهذا التحول هو العلم التجريبي الذي فتح مجال الأمل لتحسين الحياة الحاضرة التي نحياها، وبشر بأن في استطاعة العقل الإنساني بعلمه وتجاريبه أن يسيطر على البيئة التي حوله؛ لينظمها في تحقيق سعادته.
وأخذ ينظر إلى الطبيعة على أنها محكومة بقوانين ثابتة يمكن استكشافها، وأن من الممكن للإنسان أن يصادق هذه الطبيعة ويستخدمها في منفعته متى استكشف قوانينها.
وكفر المحدَثون بخرافات العصر الذهبي الماضي؛ وقالوا: إن عقولنا أنضج من عقولهم، وإذا كان زمنهم زمن الطفولة فزماننا زمان الشباب، وإننا بعقولنا نستطيع أن نصل إلى خير مما وصلوا إليه، وأن نقرأ كتاب العالم خيرًا مما قرأوه، ونفسره خيرًا مما فسروه، وإن هذه القداسة للقديم خرافة لا يصح أن يستنيم إليها العقل الحاضر؛ وعلى هذا الأساس عمل الناس على إصلاح حاضرهم والتغلب على مشاكلهم، ولم تعد الرهبنة أخلاقية راقية، وإنما الأخلاقية الراقية هي بذل الجهد في إصلاح الحاضر.
وشاع في الناس — على أثر ما شاهدوه من تقدم — الأمل في مستقبل باهر على ظهر هذه الدنيا ينعم فيه أجياله بالسعادة والهناء، وزادهم طمأنينة إلى حاضرهم ومستقبلهم ما شاهدوه من عجائب المخترعات، وزيادة الثروة، ونمو المدن، وتقدم وسائل النقل والمواصلات، وإمكان الوقاية من الأمراض وتحسن الصحة، ووسائل الراحة في الحياة البيتية، وغير ذلك.
وظلت هذه الآراء والأمل في المستقبل سائدة على العالم الأوربي؛ حتى صدمته الحرب العالمية الأولى، فأخذ يفكر من جديد: ماذا عسى أن يكون المستقبل والحروب بين الناس طاحنة، وويلاتها مرعبة؟! واشتد ضعف الأمل في المستقبل بالحرب العالمية الثانية وما أعقبها من اكتشاف القنابل الذرية، وتوقعهم حربًا شعواء تجتاح الأخضر واليابس، بل لعلها تقضي على المدنية بأكملها؛ وبذلك تزعزع الإيمان بالحاضر والمستقبل، وبعد أن كان العلماء الاجتماعيون يقولون بأن التقدم حاصل لا محالة، وأن الحاضر خير من الماضي، والمستقبل خير من الحاضر من غير قيد ولا شرط، إذا بهم يضعون القيود والشروط لسعادة الإنسان المستقبلة، ويقولون: إنما يسعد إذا سلك سبيل العقل والحكمة، ولكن أنى له هذا العقل وهذه الحكمة؟!
فإذا نحن نظرنا إلى العالم الإسلامي في ضوء هذا وجدنا أن العرب في جاهليتهم كثيرًا ما كان يرد على ألسنتهم النظر إلى الماضي وإكباره، والنظر إلى الحاضر واستصغاره، من مثل قول لبيد:
ومثل ما عند العرب من أساطير تشير إلى ضخامة أجسام الأقدمين، وطول أعمارهم، ونحو ذلك.
فلما جاء الإسلام احتقر الماضي العربي وسماه الجاهلية، واحتقر مبادئه وتعاليمه وأصنامه، ووضع أسسًا جديدة للحياة؛ عمادها — من حيث موضوعنا — النظر إلى الدنيا وإلى الآخرة جميعًا؛ ويتلخص هذا المبدأ في قوله عليه السلام: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا». لقد كره الإسلام الرهبانية واعتزال الحياة، وسمح لكل امرئ أن يعمل حسبما يُسِّر له، وأن يستمتع بالحياة كما يشتهي في الحدود المشروعة؛ فله أن يأكل أحسن المأكل، ويلبس أحسن الملبس، ويسكن أحسن المسكن، ولكن يراعي الله في تصرفاته، فلا يفرط فيفقد رجولته، ولا يسرف فيظلم غيره؛ ويجب أن يراعي في كل تصرفاته أن وراء الحياة الدنيا حياة أخرى يواجه فيها ربه؛ فيسأله عما عمل في حياته.
وقد بلور القرآن هذا المعنى بقوله: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا. ولذلك كان كثير من كبار الصحابة الذين لا يشك في فهمهم للإسلام حق الفهم والتزامهم لمبادئه؛ يستمتعون بالحياة الدنيا أحسن استمتاع؛ مع التزامهم حدود قوانين العقل والشرع، ويرون أنه من الممكن لهم أن يبلغوا الكمال من غير أن يميتوا شهواتهم، أو يتجردوا من ملاذهم، على عكس ما كان من المبادئ البوذية والمسيحية التي ترى أنه من المستحيل بلوغ الكمال إلا بإماتة الشهوات؛ وبذلك ساير الإسلام الغرائز الطبيعية، ولم يقضِ عليها؛ بل حَدَّ من سلطانها، وأوسع المجال أمام كل فرد أن يكمل نفسه حسب استعداده وحسب مزاجه وملكاته، فمن شاء فليزهد، ومن شاء الاستمتاع بالحياة فليستمتع؛ ومن شاء التوسع في مجال الحياة فليتوسع، ولكن يجب أن يكون كل ذلك في الحدود المشروعة، ومع مراعاة الآخرة.
ومن أجل ذلك أيضًا اتجه المسلمون في أول أمرهم إلى أن يعيشوا عيشة العزة، وأن تكون كلمتهم العليا، وكلمة غيرهم السفلى، وأن يتوسعوا في الفتح ما أمكن، لا للاستعمار المعروف اليوم في القضاء على الأمة المفتوحة واستغلالها في مصلحة الفاتح، ولكن لنشر الدعوة، وأن يكون لأهل البلاد من الحقوق والواجبات ما للفاتحين؛ فإن حصل خطأ في تاريخ الإسلام في سوء المعاملة؛ فالذنب ذنب المسلمين، لا ذنب الإسلام نفسه.
إلى جانب ذلك نظر الإسلام إلى العالم على أنه كتاب الله المفتوح، الذي تتناغم كل أجزائه وتنسجم؛ لأنها من تأليف إله واحد، وقد أودع فيها من القوانين ما يجب على الإنسان أن يتعرفها ما استطاع، لذلك هجم المسلمون الأولون على العلم الذي كان معروفًا عند غيرهم فاقتبسوه، سواء ما كان عند الفرس، وما كان عند اليونان، وما كان عند الهنود، وكل ما فعلوا أن صبغوا أن هذه المعارف بصبغة تتناسب مع لون الإسلام والعقيدة الإسلامية، من توحيد الخالق وعظمته وسلطانه؛ ولذلك بلغوا في هذه العلوم ما جعلهم أعلم أمة في عصرهم، ولو سارت الأمور على طبيعتها لاستمروا في درسهم وبحثهم، واكتشاف القوانين المبثوثة في العالم في نمو واطراد.
فالمسلمون بلغوا ما بلغوا من العلم بداعي دينهم، على حين أن الأمم الأوربية سارت إلى العلم على الرغم من كنيستها.
وفي هذه الأثناء كان المسلمون ينظرون إلى الماضي — أعني إلى عصر النبوة والخلفاء الراشدين — على أنه العصر الذهبي، وهم محقون في هذا من الناحية الدينية؛ لأن العصر الذهبي للإسلام من حيث منبع الدين ومن حيث اتباع تعاليمه كان في ذلك العصر، لكن ليس هذا عصرًا ذهبيًّا من ناحية العلوم والمعارف الأخرى.
فلما انحط شأن المسلمين — بما توالى عليهم من ظلم الحكام وفساد الحكم، وتملك زمام المسلمين من ليسوا مسلمين إلا بالاسم، وطال عليهم الأمد في ذلك — فقدوا عزتهم، وفقدوا تقويم حاضرهم، وأصبحوا لا يملكون إلا افتخارًا بالماضي وأملًا مشوهًا في الحياة الأخرى، واستخدم هؤلاء الحكام الظلمة علماء الدين في أن يبثوا بين العامةِ الزهادةَ في الحاضر، واحتقار الدنيا وشئونها والهرب منها، وتوجيه كل رغباتهم وآمالهم وسعادتهم إلى الحياة الأخرى، ولتكن الدنيا بعد ذلك ما تكون، لا بأس من قضائها في شقاء أو فقر أو بؤس، فهي قصيرة الأمد، وكانت هذه كلها دعوة ماكرة من ظلمة الحكام؛ ليستأثروا بالسلطان والجاه والغني والثروة، وغفلة من العلماء الذين تحمسوا لهذه الدعوة في سذاجة، أو خداعًا بعرض من الدنيا قليل.
نعم؛ إن في الإسلام ما يدل على أن الدنيا قنطرة الآخرة، وأن الحياة الأولى دار ممر لا دار مقر، ولكن مجموع تعاليم الإسلام تدل على أن الدنيا قنطرة لها قيمتها، ودار ممر؛ ولكن يجب أن يعمل لها وتوجه العناية بها، ويسودها العدل ما أمكن، وتقاوم الظلم ما أمكن، ويعيش الناس فيها أسعد ما يكونون ما أمكن، أما التعاليم الأخيرة فتقضي بأنها قنطرة لا قيمة لها، ودار ممر لا يؤبه بها، وفرق كبير بين التعليمين والمبدأين.
كان من نتيجة هذا الفساد أن عدم المسلمون النظر إلى حاضرهم، ولم يكن يروح عن نفوسهم إلا النظر إلى الماضي، والافتخار به، والاعتزاز بروايته، كالتاجر الذي أفلس فأصبح يقلب في دفاتره القديمة، وإلا النظر إلى المستقبل رجاء السعادة في الآخرة، ولعبوا بفكرة المهدي المنتظر، وتوسعوا في وصف نعيم الآخرة، وأصبحت الحياة حياة أحلام، ولم يسمعوا لقول الشاعر:
ولذلك لما هاجمت المدنيةُ الغربيةُ العالمَ الإسلاميَّ كانت عبارة عن مدافع تهاجم أحلامًا، وقوى مسلحة تلاقي أوهامًا، فلما بدأوا في النهضة — بعد أن أفاقوا من ضربة الاستعمار — بدأوا ينظرون إلى حاضرهم في الدنيا، ولكن رأوا حاضرهم ضعيفًا هزيلًا بجانب حاضر الغربي، فاعتراهم مركب النقص، واتخذوا الحضارة الغربية إمامهم يقتبسون منها لتحسين حاضرهم، مع إحساسهم بذلتهم.
وكان هناك فرق كبير بين المسلمين الأولين يوم كانوا يقتبسون من حضارة الفرس والروم، والمسلمين اليوم وهم يقتبسون من الحضارة الغربية؛ كانوا أول أمرهم يقتبسونها اقتباس المعتز بدينه، وعقليته، وقوته، وحاكميته، وهم اليوم يقتبسون وهم يشعرون بشيء من الذلة، والمحكومية.
والحق أن لا بأس من اقتباس العلم الغربي، بل هو واجب، فالحياة لا يمكن أن تكون سعيدة إلا إذا أسست على العلم، وعلى إصلاح الحاضر، وعلى النظر إلى الحاضر في الدنيا، والمستقبل في الدنيا؛ ولكن يجب أن يضاف إلى ذلك عند المسلمين محاربتهم لمركب النقص هذا، وشعورهم بأنهم يرثون من دينهم قوة روحية فقدها الغرب، وأنهم يستطيعون بفضل تعاليم الإسلام أن يلونوا العلم الأوربي لونًا روحيًّا خَيِّرًا يصح أن يستخدم في خير الإنسان، إن العلم الذي لا دين له ينتج القنبلة الذرية؛ لإهلاك الإنسانية، ولكن العلم الذي له دين ينتج اكتشاف قوانين الذرة؛ لخير الإنسانية.