الحكمة في الأدب العربي
تحديد معنى «الحكمة» من أصعب الأمور؛ شأنها في ذلك شأن الكلمات المعنوية العامة، كالحرية، والجمال، والعدل، وكل ما يستطيعه المعرف أن يذكر أهم الخصائص المميزة للكلمة.
لقد عرفها بعضهم تعريفًا تقريبيًّا فقال: إنها «نظرة — عميقة عملية مباشرة — إلى معاني الأشياء وأغراضها، تصدر عن ذكاء حاد نفاذ دقيق الملاحظة، يستمدها من تجارب الحياة ومن مخالطته العملية بالحياة اليومية»، ويسمى الرجل ذو النظرات هذه حكيمًا، وتسمى الكلمة المشتملة على هذه النظرة حكمة، ومن هذا قيل: «إن من الشعر لحكمة»، وقيل: «الحكمة ضالة المؤمن»، وأحيانًا يلحظ في «الحكيم» أنه يضيف إلى هذه النظرات الصائبة العملَ على وفقها، ومن ذلك قوله تعالى: وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وسمي لقمان حكيمًا؛ لأنه ينطق بالحكمة ويعمل بها.
•••
وأيًّا ما كان؛ فهناك فرق كبير بين الفلسفة والحكمة من وجوه؛ أهمها: أن الفلسفة تفكير منظم مبوب، تبنى مسائله على أساس منطقي يأخذ بعضه برقاب بعض، ويوضع لاحقه على أساس سابقه، أما الحكمة فنظرات لامعة خاطفة من هنا وهناك، وطابع الفلسفة طابع تحليلي، تأخذ الفكرة وتحللها وترجعها إلى أصولها وتبين نتائجها، وطابع الحكمة تركيبي يركز التجارب في جملة، ويجمع خلاصة التفصيلات في «برشامة»، ويعصر السحاب المنتشر، في قطرات المطر، والفلسفة تعتمد على التأمل، والتفكير العقلي، والقانون المنطقي، والحكمة تعتمد على الإلهام، والاستعداد الشخصي — مضافًا إلى ما ورثه من أمته — لاجتذاب المعنى العميق من الأحداث السطحية، واستخراج حبة الذهب من تل الرمال، واللؤلؤة الثمينة من أكوام الصدف؛ ثم إن الفلسفة أسلوب الخاصة وعقلية الخلاصة، فلا عجب أن يلفها الغموضُ وتعقدُ الأسلوب، أما الحكمة فثقافة شعبية يدركها الخاصة والعامة على قدر زكانتهم وأحيانًا تكون في شكل جمل مركزة رزينة جميلة، ويفسرونها بمقدار مواهبهم، ومن أجل هذا صيغت الفلسفة صياغة معقدة ثقيلة، وصيغت الحكمة صياغة خفيفة رشيقة.
إن شئت مثلًا للموازنة فاقرأ باب السياسة في كتاب «عيون الأخبار» لابن قتيبة، أو «العقد الفريد» لابن عبد ربه، وهو الباب الذي سمياه «كتاب السلطان»، ثم اقرأ فصلًا من فصول كتاب السياسة لأرسطو؛ تخرج بالنتائج التي ذكرتها؛ نظرات عملية، تجريبية، ملهمة، مفرقة، مركبة، مصوغة صياغة جميلة (في الأول)، ونظرات منطقية، تحليلية، تأملية، مرنة، معقدة (في الثاني)؛ فالأول حكمة، والثاني فلسفة.
•••
والأمثال يعد كثير منها ضربًا بدائيًّا من ضروب الحكمة، وهي والحكمة — عامة — تكاد تكون في كل جماعة، وكل أمة؛ بدوها وحضرها.
ولكن ما يلفت النظر ويبعث على التفكير غزارتها وكثرتها في الأمم الشرقية كالمصريين، والبابليين، والصينيين، والهنود، والعبرانيين، والعرب، بل أحزر — وإن لم أتيقن بعد — أن الأمثال والحكم اليونانية صدرت عن اليونانيين الذين كانوا في آسيا الصغرى، أكثر مما نبعت من اليونانيين في أوربا، فتلحظ الكثرة الوافرة من الحكم الهندية في مثل كليلة ودمنة، والعبرية في كثير من أجزاء التوراة، والمصرية فيما يرويه علماء الآثار المصرية من أمثال؛ ولعل الأمم السامية في ذلك أوفر حظًّا، ولعل العرب من بينهم أعلى شأنًا؛ فحكمهم تمتاز مع كثرتها؛ بلمعان الفكرة، وجزالة العبارة، وتركزها، وشدة العناية بالناحية الخلقية، كما يقرر ذلك بعض علماء المقابلة بين الأمثال.
وهذا يدعو — بحق — إلى التفكير في علة غزارة هذا النوع من الأدب في هذه الأمم الشرقية؛ ولعل مما يلفت النظر أيضًا ظهور الأديان العظيمة في مواطن الحكمة، فالأديان أقرب إلى الحكمة منها إلى الفلسفة.
قد يقال: إن كثرة غزارة الحكمة في الشرق، وتفوقه على الغرب، أن الحكمة — كما قلنا — تنبع من الإلهام، والفلسفة تنبع من المنطق والتفكير العقلي، والشرق معروف من قديم بأنه موطن الإلهام، فكان أكثر حكمة.
وقد يقال: إن مزاج الشرق تركيبي، ومزاج الغرب تحليلي، فازدهرت الحكمة في الشرق؛ حيث المزاج التركيبي، وازدهرت الفلسفة في الغرب؛ حيث المزاج التحليلي؛ ولكن التهجم في تعيين خصائص للأجناس أو للأقطار في منتهى الخطورة، ويجب أن يعالج بكثير من الحذر.
قد قال قوم: إن الحكمة خاصة البدائيين، وإنها المادة الأولى التي يبني عليها الفلاسفة فلسفتهم، فإذا وفق البدائيون للحكمة؛ أخذها الفلاسفة وحللوها ورتبوها وشرحوها وعللوها وأنتجوها، فكانت الفلسفة، ولكن لا أظن هذا صحيحًا، فالفلسفة غير الحكمة، وهما مختلفان في المنبع والمصب، ولكلٍّ طريقه، ولكلٍّ أدواته، وليست الفلسفة طبقة عليا بُنيت على الحكمة، ولكن الفلسفة والحكمة بيتان عاليان مختلفان.
•••
والحق أن الأدب العربي غني بالحكم غنى عظيمًا، ولئن تفوقت الآداب الغربية بالقصص، فالأدب العربي يتفوق بالحكم، وتعليل ذلك يحتاج إلى درس طويل.
وسواء في غنى الأدب العربي نثره وشعره في جميع العصور؛ ففي النثر نجد الخطيب قد يخطب وخطبته كلها ليست إلا حكمًا متراصة، وأبدع في الجاهلية كثير من أمثال أكثم بن صيفيّ، وتتابع التدفق في الإسلام من أمثال حكم الأحنف بن قيس، وما روي عن علي بن أبي طالب من الحكم، وما ملئت به كتب الأدب أمثال عيون الأخبار والعقد الفريد، حتى البُلْه، والمجانين، والحمقى، والمغفلون رويت لهم الحكم الرائعة.
وتنوعت مناحي الحكم تبعًا لتنوع مناحي الحياة؛ من حكم خلقية، ودينية، واقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وفنية، ومن الأسف أنها لم تدرس في الأدب العربي دراسة عميقة تكافئ ما لها من أهمية، كما تنوع شكل صياغتها؛ فأحيانًا تكون في شكل جُمل مركزة رزينة جميلة، وأحيانًا تكون في شكل قصص قصيرة، وأحيانًا في شكل حوار ظريف … إلخ.
والشعر العربي مليء كذلك بالحكم العظيمة من عهد لبيد وزهير بن أبي سلمى، وأبدع فيه أبو العتاهية حتى كانت له الأرجوزة الطويلة المعدودة بالمئات ليس فيها إلا حكم، ولا ننسى حكم المتنبي القوية الرائعة، ولا حكم المعري الزاهدة اللاذعة الحزينة … إلى كثير من أمثال ذلك مما لا يُعد ولا يُحصى، والذوق العربي العام يأنس بالحكم ويهتز لها، من حين شغف الناس بقصيدة زهير «ومن، ومن» إلى وقتنا هذا؛ حيث يصفق الجمهور لسماع أم كلثوم تغني بقول شوقي:
وتجد أكثر شعراء العرب يقطعون شوطًا طويلًا أو قصيرًا في موضوعهم، ثم يرتاحون عندما يختمون هذا الشوط بحكمة، ولا تجد لذلك نظيرًا في الأدب الإنجليزي — مثلًا — مما يدل على شدة تأثر الذوق العربي بالحكم.
وعلى الجملة فهذه الثروة العظيمة من الحكم في الأدب العربي جديرة بالدرس، والغربلة، والاختبار، ولفت الأنظار.