البطولة والأبطال
إن لكثير من الكلمات سحرًا لا تستطيع معاجم اللغة أن تقبض عليه أو تحدده، فكلمة «بطل» و«حرية» و«جمال» و«ديموقراطية» ونحو ذلك، كلمات قد أحيطت بهالات من نور تؤثر في النفس ولا يستطيع اللغوي أن يحددها، فإذا هو حاول ذلك ظهرت عليه علامات العجز والضعف والكلال.
وشيء آخر، وهو أن لكل لفظة تاريخًا كتاريخ الأشخاص والأمم؛ فقد توضع الكلمة لمعنى ثم يتطور المعنى بتطور العصور، فيضيف إليها كل عصر معنى جديدًا، فيبقى اللفظ على حاله ويتغير المعنى تغيرًا قريبًا أو بعيدًا، فمساكين هم أصحاب المعاجم الذين ينقل خلفهم ما ذكره سلفهم من غير مراعاة لما طرأ على اللفظ من تغير.
هذه كلمة بطل وبطولة … ماذا يعنى بها؟ وما الفرق بين البطل والعظيم والنابغة؟ وماذا كان يعنى بالبطل في العصور القديمة وماذا يعنى بها الآن؟ أسئلة محيرة لا تسعفك المعاجم في توضيحها.
إن البطل في كل عصر وعند كل أمة يستمد معناه من حالة الأمة والجماعة، ومن عقليتها، ومن عقيدتها، فاليونان في عصورهم الأولى كانت حياتهم مملوءة بالآلهة وأنصاف الآلهة، لكل قوة طبيعية إله، فخلعوا على البطل نوعًا من التقديس، ونسبوا إليه كل ما يتخيلون من وجوه الكمال، وقدسوه تقديس الآلهة، وعبدوه عبادة الآلهة.
والعرب في جاهليتهم لما كانت حياتهم حياة حرب، وكانت أكبر فضائلهم الشجاعة، وكان أفضل رجل في نظرهم من حمى العشيرة وذاد عنها، ونكل بالقبائل الأخرى وغنم منها، كان البطل في نظرهم هو الشجاع الفتاك بالخصوم، العليم بالحروب، السفاك للدماء، الذي يتمثل في عنترة العبسي وأمثاله.
ولما سادت العقيدة الدينية، في القرون الوسطى، في الشرق والغرب، وزاد بؤس الناس من ظلم الحكام وعسف الأغنياء والأمراء، ورأوا أن الدنيا لا تحقق مطالبهم ولا تضمد جراحهم، وجهوا كل همهم إلى الأخرى يتطلعون إليها، ويطمحون إلى النعيم فيها، ويحتملون العذاب في الدنيا للسعادة في الأخرى، ويصبرون على ظلم الحكام لما سيكون من عدل السماء، فكان المثل الأعلى للرجل هو الرجل المتدين الذي انقطع للدين واقترب إلى الله من طول عبادته وتطهير نفسه، فكان الأبطال إذ ذاك هم الأولياء والقديسين، وأقيمت لهم الأضرحة في كل مكان، والمساجد الفخمة، والكنائس الضخمة، وهرع الناس إليها يتقربون بها ويتمسحون بها ويستنزلون الرحمة والبركة بها.
ثم لما جاء دور العلم في المدنية الحاضرة، واهتم الناس بإصلاح دنياهم، وقدروا الرجال بما يظهر من آثارهم وما ينالون من الخير في الدنيا على أيديهم، تغير مقياس البطولة، فكان البطل هو رئيس الحكومة البارع الحكيم الحازم، أو المخترع الكبير، أو الفنان القدير، أو الفيلسوف العظيم، أو المحرر لوطنه، أو مؤسس الصناعات في قومه، أو نحو ذلك.
•••
وهكذا تطورت البطولة بتطور الزمان وتطور العقول وتطور الأنظار، ومن هذا نرى أن البطولة تكاد تكون مطمح أنظار كل أمة في كل موقف من مواقفها، فإذا تغير موقف الأمة تغير تقويمها للبطل والبطولة، فالبطل هو الذي تتبلور فيه آمال الأمة، وتتحقق فيه مطامحها، وتتخلص به من آلامها، والأبطال في الأمة يتفاعلون معها فهي تخلقهم وهم يخلقونها، وهي تكوِّنهم وهم يكونونها، وهي هم وهم يسمون بها.
ومحال أن تجد بطلًا لا يتناسب مع قومه، فمن الممكن أن تجد عنترة ينبغ من قبيلة عبس، ولكن من المستحيل أن ينبغ فيها فنان كبير أو فيلسوف كبير، ومن الممكن أن تجد في أمريكا الحديثة ولسن وروزفلت، ولكن ليس من الممكن أن تجد فيها جنكيز خان وتيمور لنك، فكل إناء ينضح بما فيه، والبطل ثمر لا بد أن ينتج من جنس شجرته، ولا ينتج من شجرة غير شجرته، فلا بد أن تتهيأ الأمة للبطل، ولا بد أن يكون البطل صورة قريبة للكمال من جنس صورتها، ثم إذا نبغ البطل فيها كان نورًا يضيء حياتها، وكوكبًا يلمع في ليلها، ومنهلًا يستقي منه كل شعبه، وروحًا يستمد القوة منه كل قومه.
•••
- الأول: أن يكون مصدر خير كبير لقومه، فإن اتسعت بطولته وزادت قيمته كان مصدر خير للإنسانية كلها، يستوي في ذلك أن يكون نوع بطولته سياسيًّا كتحرير أمته، أو اقتصاديًّا كإغنائها، أو علميًّا كأن ينبغ في علم من العلوم نبوغًا ظاهرًا أو يتغلب على داء يفتك بالإنسانية، أو فنانًا كبيرًا يسعد الناس بفنه من شعر أو أدب أو موسيقى أو تصوير، أو فيلسوفًا كبيرًا يكشف من حقائق الكون ما كان مجهولًا، أو نحو ذلك، فكل هذه الأشياء منابع للبطولة.
- الثاني: قوة الشخصية … فقد يصدر الخير الكثير من شخص، ولكن لا يكون بطلًا لضعف شخصيته؛ لأنه ملحوظ في البطل أن يكون قويًّا يحمل الناس على إجلاله وإعظامه والاقتداء به، إنه إذا كان مصدر خير وليس له شخصية قوية صح أن نسميه عظيمًا، ولكن لم يصح أن نسميه بطلًا، فكل بطل عظيم؛ وليس كل عظيم بطلًا.
- الثالث: ألا يأتي من الأعمال في حياته ما يفسد عظمته أو بطولته، فالنابغة إذا كان وطنيًّا كبيرًا، أو اقتصاديًّا كبيرًا، أو عالمًا كبيرًا، أو فيلسوفًا كبيرًا، ثم أتى بما يدل على خسته أو نذالته لم يصح أن يسمى بطلًا، و«بيكون» الذي قيل إنه: «أكبر فيلسوف وأخس إنسان» يصح أن يسمى فيلسوفًا، وأن يسمى نابغة، ولكنه لا يصح أن يسمى بطلًا؛ لأنه فقد منزلة القدوة وفقد الاحترام والإجلال، ولا بد للبطل أن يكون مثلًا يُحتذى ونورًا به يُهتدى.
أما متى ينتج البطل، وكيف يولد في الأمة؟ فشيء ما زال سرًّا غامضًا ولما يكشفه العلم والبحث، قالوا: «إنه يتبع الصحة الحسنة وجودة الغذاء»، فجاء البطل أحيانًا مريض الجسم تربى على سيئ الغذاء، وقالوا: «إنه ينتج من الأسرة الصالحة والأسرة المشهورة بالنبل والذكاء»، فجاء أحيانًا من أسرة وضيعة لم تُعرف بالنبل ولا بالذكاء وقالوا: «إنه يمكننا حدسه بما اخترعنا من مقاييس الذكاء»، فنجح البطل بعد أن سقط في امتحان مقياس الذكاء، وقالوا: «إنه لا بد أن يكون ذا طلعة بهية ووجاهة جلية»، فظهر البطل كما ظهر سقراط في قبح زري، ومنظر غير بهي، ولكن غطى جلال بطولته على زراية هيئته.
فالحق أن قوانين البطولة لم تُستكشف بعد، ولله في خلقه شئون.