سؤال وجواب
نحن الشباب المتعلم تغمرنا موجة من الحيرة والاضطراب والقلق، ننظر في كل ناحية من نواحي الحياة فينقبض صدرنا ولا ينطلق لساننا، سواء في ذلك حالتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية؛ وما يزيدنا أسفًا شعورنا بركود الأحوال، والخوف من سوء المآل، وقلة الرجال؛ ثم ننظر إلى أنفسنا فنجدنا مملوئين غيرة وحماسة وحبًّا للإصلاح، ولكنا لا ندري ماذا نعمل وكيف نعمل، فتخمد غيرتنا وتفتر حماستنا ويستولي علينا ما يشبه اليأس، ثم سرعان ما يجري الدم حارًّا في عروقنا؛ فننفض هذا الشعور اليائس البغيض ونستعد للعمل، ثم لا نجد ما نعمل، وهكذا أصبحت حياتنا ذبذبة بين اليأس، والرغبة في الإصلاح، وهي حال تستوجب الكرب، وتحرج الصدر، فهل عندكم من علاج؟!
الحق أن سؤالك حيَّر الكهول والشيوخ كما حيركم — أيها الشباب — وليس الأمر مقصورًا على قطركم، ففي كل حارة مأتم، وفي كل شارع جنازة، والمصائب موزعة، والكوارث مقسمة، والشرق كله في أزمة، أزمة اقتصاد، وأزمة أخلاق، وأزمة رجال؛ وقد دلت الحوادث على أن قادتنا أقصر باعًا وأضعف قوة، وأنهم يهزلون في الجد، ويلعبون يوم الروع، وقصاراهم أن يلفوا حول العُقَدِ ولا يحلُّوها، ويدعوها للزمن يحلها، والزمن يزيدها تعقدًا، وينتهزوا الفرص لجر المغانم لأنفسهم وأهليهم؛ ولو على حساب أمتهم، ثم لو كانوا منتحين ناحية من العالم وحدهم، لهم خيرهم وعليهم شرهم لهان الأمر، ولكن العالم حولهم متربص بهم، يفتح عينه كالصقر، فإذا رأى غفلتهم افترسهم، وإن أحس نومهم دارسهم وسار إلى الأمام على جثثهم؛ وما ظنك بقوم يتنازعون على التاريخ ولا يهمهم إصلاح الحاضر، أو يترامون بالتهم ولا يجتهدون في إزالة الأحقاد، أو يتركون النار تشتعل في البيت ويتخاصمون على ترقية فلان وتعيين فلان، أو يفرون من مواجهة الصعاب إلى مجادلات أفلاطونية، أو نحو ذلك من سفاسف الأمور؟! لئن ضاق صدرك — يا بني — لقد بكيت، وإن ألمت مما ترى فقد جزعت، ولكن لا بد أن أمسح الدموع وأتفاءل بكم، وأطرد الجزع وآمل في شبابكم، فحيرتكم علامة الحياة، وقلقكم دليل الغيرة، واضطرابكم آية الحب لبلادكم، وقوة الشعور بالألم بشير نهضتكم.
ربما كان سبب قلقكم وحيرتكم أنكم تريدون الإصلاح كاملًا لا ناقصًا، وغدًا لا بعد غد، وهذا ما تدعو إليه حماسة الشباب، ولكن تأباه طبيعة الأشياء.
مشكلة كثير من الشباب الصالح أنه ينطوي على نيات حسنة، ولكنه لا يحدد غرضه ولا يرسم الطريق إليه، ثم هو يستصغر نفسه وقوته إزاء العيوب الثقيلة التي يريد إزالتها، وإحلال النظام الصالح محلها؛ يضاف إلى ذلك أنه لم يرزق من القادة من يحدد له الغرض ويرسم له الطريق المستقيم، بل هو قد يصاب أحيانًا بقادة يضلونه ويغوونه، ويستغلون سذاجته، وطهارة قلبه؛ لخدمة شهواتهم، لا مصالح أمتهم.
إن الإصلاح — أيها الشباب — عسير؛ لأنه يحتاج إلى تغيير الروح السائدة في الأمة، والتي توجه الإدارة والسياسة والاقتصاد والتعليم، وهذه الروح متأصلة في الأعماق، متوارثة من عهد طويل، وتغيير الأرواح أصعب من تغيير الأشكال، ولكن يجب ألا تيأسوا، ويجب أن تعتقدوا أن في إمكانكم الإصلاح وإن لم يكن شاملًا كاملًا سريعًا؛ فمتى بدأتم في جيلكم؛ فسيسير خَلَفُكُمْ على منهجكم فيكملون الناقص، ويعدلون المعوج، ويغيرون من الروح، والتاريخ يدلنا على أن كثيرًا من أنواع الإصلاح في العالم كان فكرة نبتت في رأس فرد أو قليل من الناس، ثم كان من قوة الإيمان بها أن سادت الأمة، بل سادت العالم، هكذا كانت فكرة التسامح الديني، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، وحرية المرأة وتعليمها، وحقوق الإنسان، وكثير من مثل هذه الأفكار نادى بها أفراد قليلون، ثم اضطهدوا واضطهدت أفكارهم، ثم نجحت الفكرة وكادت تعم العالم.
إن الروح السائدة على المفكرين في الشرق اليوم هي روح النقد والهدم والشكوى من الحاضر، وقد يكون هذا حسنًا وجميلًا، ولكن يجب أن يكون بجانبها روح الإنشاء والتعمير والبناء، وأن نتعلم دائمًا أن نسائل أنفسنا ونقول: إذا نقدنا نظامًا؛ فما الذي نريد أن يكون بدل هذا المعيب المنقود؟ فإن هذا يحدد الغرض، ويسرع إلى الإصلاح، كلنا ينقد الحكومات في طريق سيرها، والمصالح في بطء أعمالها، والعدالة في نقصها، والمال في تبذيره في غير محله، والتقتير به في محله، والمحسوبية وفشوها، والإذاعة وسوء برامجها ونحو ذلك، ولكن كم منا وقف طويلًا أو قليلًا وتساءل: كيف يصلح هذا العيب؟ وما الجديد الصالح الذي يحل محل القديم البالي؟ وكيف العمل للوصول إلى هذه الغاية التي حُددت؟
أؤكد لك — أيها الشاب السائل — أن هذه الروح لو سادت فيك وفي إخوانك وحددت خطة البناء كما حددت خطة الهدم، وبُذل الجهد في عمل ما آمنتم به، لتغير وجه الأمة في كثير من الأمور؛ ولكن وجه النقص أنكم تألمون ألمًا عامًّا مائعًا غير محدود ولا مدروس، ولذلك يسرع إليه التبخر والفناء؛ فكم رأينا من شباب نقموا على الحاضر كما تنقم، وتمنوا الإصلاح كما تتمنى، فلما أُفْسِحَ لهم الطريق، وشغلوا مراكز حكومية أو غير حكومية؛ تمكنهم مما كانوا يدعون من إصلاح، لم يأتوا بأي إصلاح، وجرفهم التيار السيئ، بل وفيهم من كانوا أسوأ من سلفهم، وشرًّا على الأمة ممن كانوا هم ينقدونهم.
إن نقد الحكومة والمصالح والهيئات ونحو ذلك، إذا كان صادرًا عن مجرد الغرائز بالحب أو الكره، والميل أو النفور، والاستحسان أو الاستهجان، كان أليق بالحيوانات المتوحشة أو الإنسان البدائي؛ أما الإنسان المتمدن فيبني حبه وكرهه وميله ونفوره ونقده وتقريظه على الحجج المنطقية، والعلل العقلية، والبحوث العلمية، وهذا يسلمه إلى أن يبني إذا هدم، ويحيي إذا أعدم؛ فالشاب المثقف يجب أن ينقد نقدًا علميًّا، ويؤسس حياته، ويوجه نفسه، حسبما درس ونقد؛ وإذ ذاك لا يسمح لنفسه أن يشتغل صحافيًّا في جريدة لا يوافق على خطتها، أو ينتسب إلى حزب سياسي لا يرضى عن مبادئه، أو يقبل وظيفة، ثم يعمل ما عابه على أسلافه من تأخير في مصالح الناس أو قبول المحسوبية، أو يكون آلة في يد الرؤساء يسخرونه لقضاء مآربهم ولو خالفت العدالة والقوانين.
إن الشاب الصالح يرفض كل ذلك في إباء، ولو أدى إلى حرمانه من مرتب كبير، أو ترقية سريعة؛ فإن فعلت أنت وأمثالك ذلك أصلحتم من الأمة قدرًا لا يستهان به، وكونتم نواة لرأي عام صالح يجرف المفسدين والضالين.
قديمًا قالوا: إن الصبر عند الصدمة الأولى، فمتى انحنى الشاب في مستقبل حياته للتقاليد القديمة التي يمقتها، ومنى نفسه بالصلاح بعد الفساد، والاستقامة بعد الخنوع؛ فقد انهار كيانه وتقوض بنيانه، وخير لمن أراد أن يكف عن التدخين أو الخمر أن يكف بتاتًا من أن يتذبذب بين الشرب والإقلاع، وخير لمن أصيب بحب خائب أن يقطع حبله من أن يؤسس حياته على أوهام.
إن للشرق — أيها الشاب — فلسفة للحياة يجب أن تتغير، عمادها نظرة الأقوياء إلى أنفسهم دون الضعفاء حولهم، وانتهاز الفرص للإكثار من دخلهم والاستمتاع به، ولو من غير أداء واجب، ورضا الضعفاء عن حالهم من غير سعي في تحسينه، أو جد في تقويمه؛ ولا بد من تعديل هذه الفلسفة إلى فلسفة أخرى، عمادها أن الضعيف إنسان كالقوي له حقوقه، والعدالة حق مشترك لكل مواطن، وضرورات الحياة يجب أن تتوافر للجميع، والحكومات خادمة للشعب لا مسيطرة عليه، وإنما الذي يسيطر على الحكومة والشعب العدل والقانون.
قد كان مبلغنا — نحن الشيوخ — نحو هذه الفلسفة الجديدة أن نتصورها، فليكن مبلغ الشباب مثلك أن يحققها، والسلام.