الاتجاهات الحديثة لدراسة اللغة (٢)
الاتجاه النفسي والمنطقي والفلسفي
وتخصصت طائفة أخرى من علماء الغرب لدراسة اللغة دراسة فلسفية من حيث علاقتها بالنفس، ومن حيث علاقتها بالمنطق وغير ذلك؛ فقد رأوا — مثلًا — أن دراسة الكلمة ليست كدراسة أي شيء مادي كالعصا والكرسي والقلم والدواة، فهذه الأشياء ونحوها لا يحتاج في دراستها إلا لتحليل الشيء المادي نفسه، ومعرفة عناصره، وما يجري على الشيء الواحد يجري على أمثاله، أما الكلمة أو اللفظة فلها روح، لها معنى، فإذا قلت: محمد يقرأ، فلا بد لفهمها من ثلاثة أشياء: عقل القائل، وعقل السامع، والفكرة التي انتقلت من عقل القائل إلى السامع، وكذلك لا بد من لفظة هي التي نطق بها القائل وسمعها السامع، ومن ناحية ثالثة لا بد من الحقائق نفسها وهي حقيقة محمد وحقيقة القراءة والعلاقة بين محمد والقراءة، وبالإجمال لا بد من ثلاثة أنواع: الفكرة، واللفظة، والشيء ذاته المتحدث عنه، وعلى هذه الفكرة الأساسية البسيطة قاموا بأبحاث قيمة عميقة — هل كانت اللغة حادثًا فجائيًّا عارضًا في تاريخ الإنسان، أو نشأت عن قصد وتعمد؟ هل يمكن التفكير من غير ألفاظ؟ هل يمكن أن تكون لغة من غير ألفاظ؟ ما العلاقة بين اللفظ والمعنى؟ ما معنى المعنى؟ ما الذي يجعل لغة أرقى من لغة؟
إن اللغات القديمة كاللاتينية واليونانية تركيبية أكثر منها تحليلية، واللغات الحديثة تحليلية أكثر منها تركيبية، فهل الانتقال من التركيبية إلى التحليلية رقي أو تدهور؟ هل يمكن وضع لغة عالمية أولًا؟ وإذا أمكن فهل هو في صالح الجنس البشري أولًا؟ وهكذا من أبحاث لا عداد لها، وبعضها بل أكثرها لم يجد الإجابة الحاسمة عنه، وإني أدخل في باب عريض لو عرضت لحضراتكم ملخصًا للنظريات التي أثيرت حول كل موضوع.
واتجهت طائفة أخرى إلى العلاقة بين اللغة والمنطق؛ فاللغة ليست وظيفتها — فقط — نقل المعنى من ذهن إلى ذهن، ولكن لها وظيفتان أساسيتان: فهي إما إخبارية تنقل المعنى من ذهن إلى ذهن؛ ككلامنا العادي، وكصحيفة الحوادث الداخلية والخارجية في الجرائد، وكتب العلوم؛ في الرياضة والطبيعة والفلك وما إلى ذلك، وإما «ديناميكية» قوة محركة للعواطف، والناحية الأولى فعلية، والناحية الثانية شعورية للإخبار عن العواطف أو تهييجها، فإذا قلت: إن الإنسان حيوان ناطق، فهو من الضرب الأول، وإذا قلت: إنه حشرة، أو قلت: إن النساء ملائكة أو شياطين، فهو من الضرب الثاني.
وكان هذا أساسًا لبحوث كثيرة واسعة للتفريق بين القضايا الإخبارية والقضايا الديناميكية أو العاطفية وما تؤديه كل منها، وهل قضايا الأخلاق من النوع الأول والثاني، وبيان أن لغة الشعر من الضرب الثاني، وما يتطلب ذلك من ألفاظ خاصة وأسلوب خاص، وبيان الخطأ في استعمال اللغة الإخبارية محل العاطفية والعكس، كما أداهم هذا إلى البحث الواسع في معاني الألفاظ على هذا الأساس، وأثر القضايا المختلفة على العقل وعلى المشاعر، وكيفية بناء اللغة وتركيبها، وكيفية بناء الحقائق وتركيبها، وكيف يتلاقى بناء اللغة مع بناء الحقائق، ولماذا تتبع اللغة قواعد خاصة في بنائها دون غيرها، وهل لذلك سبب نفسي؟ … إلخ.
وناحية أخرى توجه إليها بعض الباحثين؛ وهي أن أهم بحث في الفلسفة نظرية المعرفة، أي كيف نعرف الحقائق، ولهذا اتصال وثيق باللغة، فما لم يعبر عن الحقيقة لا يمكن أن يقال: إنها حق أو باطل، وقد ذهب بعض الفلاسفة المعاصرين إلى أن أكثر مشاكلنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية يرجع إلى استبداد الألفاظ بنا، وتحجرها، وضياع الحقائق وراءها، وفلسفة اللغة كفيلة بإظهار هذا؛ ثم بحثت هذه الطائفة أيضًا في الرمزية، وفي نظرية أن كل لغة ليست إلا رمزًا للحقائق والأشياء والمعاني، وإن كانت تختلف الموضوعات في مقدار الرمزية فيها، فلغة الشعر ولغة الدين ولغة ما وراء الطبيعة أكثر رمزًا، وبحثوا — خاصة — في لغة ما وراء الطبيعة ورمزيتها؛ إذ بدون شرح الرمزية فيما وراء الطبيعة يصبح الكلام فيها ضربًا من الخيال، وسبحًا في الأوهام، لا يدل على حقائق ثابتة معينة، وهكذا.
الاتجاه الاجتماعي
هناك اتجاه ثالث وهو الاتجاه الاجتماعي، ذلك من حيث إن اللغة نظام اجتماعي؛ كالأسرة، والدين، والحكومة … إلخ، لها أثر كبير في حياة كل جماعة وكل أمة، فهي واسطة الاتصال بين كل شخصين وكل جماعة، وهي التي تمد الإنسان بالمعلومات والمعارف التي وصلت إليها الأجيال السابقة والحاضرة، وهي التي ترقي الإنسان وتتعهده بالرقي من حين طفولته إلى حين وفاته — ومن عوامل رقي الأمم وانحطاطها لغتها، فأدب كل أمة قويًّا أو ضعيفًا يطبع الناس بطابعه، ولو نزل غريب ببلدة وكان يعرف لغتها واطلع على جرائدها ومجلاتها وكتبها المؤلفة في عصرها الحاضر وأساليب أحاديثها — لاستطاع أن يحكم لها أو عليها حكمًا صادقًا بدرجة رقيها أو انحطاطها؛ فاللغة هي التي تصور رغبات الأمة، وعواطفها، ودينها، وعقليتها، وشهواتها، وكل شيء فيها، وتنقل ذلك من الفرد إلى المجموع ومن المجموع إلى الفرد، فيتفاعلون كما تتفاعل عناصر الكيمياء، وبدون اللغة (وأعني باللغة كل وسائل التفاهم من إشارة، وإيماء، وكلام) يكون الإنسان بجانب الإنسان كالحجر بجانب الحجر، إنما يربط بينهما اللغة وهي التي توحد بين الجماعة في المشاعر والأفكار؛ ولذلك تجتهد كل أمة حية قوية أن تنشر لغتها في أوسع مدى، ممكن علمًا منها بأن ذلك من وسائل التفاهم، وسهولة التعامل، وعظم التقدير، وخاصة من الضعيف للقوي.
هذه الناحية التي عرضتها عرضًا بسيطًا كانت مجالًا لطائفة من العلماء بحثوا فيها كثيرًا من المسائل اللغوية الاجتماعية بحثًا مستفيضًا: ما الذور الذي تقوم به اللغة في مجال الرقي العقلي؟ إن اللغة نتيجة طبيعية من نتائج الحياة الإنسانية، فكيف تستمر الحياة في تغذية اللغة من بداوة إلى حضارة، ومن حضارة أولية إلى حضارة راقية حتى تساير الإنسان في نموه ورقيه؟ لقد راقبوا اللغة مراقبة دقيقة في نشوئها ورقيها، وعرفوا كيف نمت بنمو الحياة، وكيف تدرجت من تعبير عن العواطف إلى لغة عمل وأمر ونهي، إلى لغة علم وأدب وهكذا، وسجلوا في ذلك نتائج قيمة في هذا التطور.
واللغة مع أنها من نتاج الحياة وخاضعة لها؛ فيها صفة المحافظة والتخلف والميل إلى الوقوف، لا تندفع مع الحياة وتسايرها إلا بدفعة من أبنائها الأقوياء.
ثم اللغة تختلف معاني كلماتها باختلاف الأفراد والطبقات مهما جهدت المعاجم في تحديد معانيها، وتختلف عند العامة والخاصة؛ فكل لغة ليست لغة واحدة، وإنما هي في الحقيقة لغات، وقد يكون للكلمة معنى عند بعض الجماعات في مستوى عقلي خاص، فإذا انتقلت الكلمة إلى جماعة أرقى عقليًّا تطور معناها، وبالغ بعضهم فقال: إن لكل إنسان لغته كما له وجهه، وعلماء اللغة ميالون إلى مراعاة وجوه الاتفاق أكثر من مراعاة وجوه الخلاف، ومراعاة التعميم أكثر من مراعاة التخصيص.
إن كل جمعية حية تعمل للانتفاع بلغتها وتسييرها في خدمتها وتبذل جهدًا كبيرًا لتكميلها من النقص وجعلها صالحة للحياة المتجدة.
وكذلك بحثوا بحثًا مستفيضًا في علاقة اللغة بالمدنية، أكلما رقيت المدنية رقيت اللغة؟ وأداهم ذلك إلى الوقوف عند المدنية ما معناها، واللغة ما معنى تقدمها، إلى كثير من أمثال ذلك.
فإذا نحن نظرنا إلى اللغة العربية في ضوء ما عرضنا تولانا الجزع من تخلف لغتنا عن مسايرة حياتنا؛ فالمعاجم التي هي سجل للكلمات المستعملة الصحيحة لا تفي بحاجاتنا ولا نصفها، ووقفت عند العصر العباسي، بل إن واضعي المعاجم في تلك العصور أبوا أن يدخلوا فيها كلمات كثيرة وردت في كتب الأدب والعلوم مما كان يستعمله العلماء والأدباء العباسيون، وأغمضوا عيونهم عن الأشياء المادية والمعنوية التي خلقتها الحضارة العباسية، وأبوا أن يعترفوا إلا بالألفاظ البدوية، وما استعمل قبل الاختلاط بالأعاجم، وغفلوا عن أن اللغة تابعة للحياة؛ يجب أن تنمو بنموها، وأن الأمة إذا تقدمت لا يصح أن تكون أسيرة لآبائها قبل أن يتقدموا، وأن ما يملكه البدائي في خلق اللغة، يجب أن يملكه وأكثر منه المتحضر العالم، ولعل ما أداهم إلى هذا الموقف إيمانهم بالنظرية الساذجة، وهي أن اللغة توقيف لا وضع، وأنها خلقت دفعة واحدة وانتهت، وقد كان عمل الأقدمين في قصر ما يأخذون عن القبائل التي لم تختلط بغيرها عملًا جليلًا من ناحية فهم اللغة العربية في أصلها، وفهم الكتاب، والسنة، والشعر القديم، ولكن قصر مؤلفي المعاجم أنفسهم على هذا خلط بين غرضين: فالغرض الأول معرفة اللغة في أصل استعمالها، والغرض الثاني تسجيل ما يصح بتكلم الناس، وفي الغرض الثاني تكون لغة الحضر أوفى وأنفع في الاستعمال من لغة الوبر، فبحثنا اللغوي الاجتماعي البسيط سيؤدي بنا حتمًا إلى المناداة بدفع اللغة أن تقفز من العصر العباسي إلى يومنا، وأن تفسح صدرها لحاجاتنا وأن تتطور لتكون في خدمتنا، وأن يقر أهلها بأن رجال لغتها لهم الحق أن يعرِّبوا كلمات، وأن يخلقوا كلمات، وأن يشتقوا كلمات؛ حتى يواجهوا موقفهم الحاضر؛ فلا تتخلف عقليتهم كما تخلفت لغتهم.
كما سيتضح من أول بحث لغوي اجتماعي أن تقدم الأمة تقدمًا حقيقيًّا مستحيل، ما لم تتقدم اللغة وتستخدم في مصلحتها، وتملأ كل فراغ موجود الآن؛ من أسماء الماديات والمعنويات، وما ولدته القرون الأخيرة من أفكار ومخترعات، كما سيتضح أن الأمة لا ترقى إذا كانت لغتها لا تصلح إلا لخاصتها دون عامتها؛ فالعصر الذي نعيش فيه ديمقراطي، لكل فرد الحق في أن يتعلم وأن يتثقف، وواجب الحكومات فيه أن تعلمه وتثقفه، ولا يمكن تثقيف الشعوب وتعليمها إلا بمرونة اللغة وتبسيطها، وجعلها صالحة للشيوع والذيوع، وحمل المعاني والأفكار والعلوم حملًا قريب المنال.
•••
ثم آخرون من اللغويين الاجتماعيين اتجهوا في بحثهم إلى الناحية الاجتماعية الروحية؛ فللكلمات والجمل روح فعالة في النفوس، غير معانيها التي في المعاجم، والفرق بين المعنى المعجمي، والمعنى الروحي؛ كالفرق بين النحوي في نظرته إلى تركيب الجمل وعوامل الرفع والنصب والجر والجزم، وبين الفنان الذي يتذوق جمال الكلمات وجمال الأسلوب، وهذه الناحية الروحية للغة هي التي استخدمها ومهر فيها المتصوفة في أساليبهم، ورجال الدين في وعظهم وإرشادهم وأمرهم ونهيهم وترغيبهم وترهيبهم، ورجال الشعر في خيالهم، ورجال الخطابة في خطابتهم، وكما كان في كل ناحية من النواحي مهرجون ومزيفون، كان مزيفو هذه الناحية المشعوذين بالرقى والتعاويذ وأسماء الجن التي لا معنى لها، وهي — مع ذلك — تؤثر بروحها الضالة في النفوس الضعيفة.
عكف هؤلاء الذين اتجهو هذا الاتجاه الاجتماعي الروحي على البحث في الدور الذي تقوم به اللغة في الأديان، وفي الشعر، وفي العلم، وما للغة من ناحية باطنية تخلقها عواطف الفرد والأمة، وناحية ظاهرية يتفاهمون بها في معاملتهم ومحادثاتهم، وأن هناك صراعًا دائمًا بين الناحيتين، وهذا قادهم إلى البحث في لغة الأمة وأثرها في عواطفها وعقلياتها.
وعلى الجملة فقد كان من مباحثهم — أيضًا — اللغة الشفوية في المحادثة، واللغة المكتوبة، والفرق بينهما من حيث التأثير النفسي، واللغة والبيئة الطبيعية والاجتماعية التي نشأت فيها، واللغة والدين، والناحية العملية والناحية الميتافيزيقية للغة، واللغة والشعور القومي، واللغة والشعر … إلخ.
وإذ كان هذا البحث حديثًا فقد وصلوا فيه إلى نظريات لا تزال مجالًا للأخذ والرد ولم تستقر بعد.
•••
لعل في هذا العرض السينمائي عبرة، فلغتنا العربية العزيزة علينا، والتي تكوننا ونكونها، والتي يبلغ عدد المتكلمين بها نحو سبعين مليونًا، تتطلب من أبنائها البررة مجهودًا جبارًا في مثل هذه النواحي التي ذكرت.
تتطلب معجمًا واسعًا تستغل فيه كل الدراسات التي عملت في اللغات المختلفة، وخاصة اللغات السامية والفارسية، لمعرفة أصل الكلمة، ومم أخذت، وكيف تطورت على مر الزمان ، معجمًا لا يقف عند كلمات العرب الأقدمين، ولا كلمات واستعمالات العباسيين، بل نجتذبه حيث وقف على بُعْدِ ثمانية قرون، إلى حيث نحن، وحيث نحيا، وحيث نستعمل، وحيث نفكر.
وتتطلب اللغة العربية دراسة نفسية وفلسفية واجتماعية على النحو الذي ذكرت، وتتطلب من رجال التربية أن يقولوا بعد البحث والتجارب كيف نعلم لغتنا على خير وجه، وكيف نتغلب على صعوبتها.
إن اللغة العربية تتطلب منا ذلك، وليس إصلاح اللغة العربية من هذه الجهات ينتج تقويمًا للقلم واللسان فقط، بل هو — أيضًا — إصلاح للأمة في تفكيرها، وفي خلقها، وفي عقليتها، وفي مشاعرها، إن تعليم عدد قليل من الأمة لغات أوربية يقرءون فيها، ويستنيرون بها؛ قليل الأثر في حياة الأمم، إنما الأثر الأكبر للغة القومية التي تكون فكر الشعب بأجمعه، وترفعه أو تضعه، وتحيي عقله وشعوره أو تميته، وليست الأمة تصلح بنقل بعض أفرادها إلى حيث النور، ولكن بنقل النور إلى حيث الأمة كلها؛ حتى يتبدد الظلام.
والله ولي التوفيق.