وظيفة الدين في المجتمع
لنتصور مدينة من المدن عاش أهلها من غير دين، لا مساجد ولا كنائس ولا شعائر، ولا اعتقاد بإله ولا بيوم آخر، ولا جزاء من ثواب أو عقاب، ولو ساروا في حياتهم وفق العقل، فماذا يكون شأنهم؟ وهل يكونون سعداء؟!
إني أتصوَّرهم يعيشون عيشة جافة شقية، أُفقهم في الحياة ضيق محدود بعمرهم القصير في الحياة الدنيا، إذا مرضوا أو أصيبوا بفقد عزيز عليهم جزعوا أشد الجزع؛ إذ لا حياة بعد هذه الحياة، في نظرهم، وإذا تقدمت بهم السن شعروا بفراغ لا يملؤه شيء، وجمهورهم لا يجد سندًا للأخلاق، فالفضائل والرذائل ليس عليها مكافأة إلا في هذه الحياة، فمن استطاع أن ينجو من عقوبة القانون أو عقوبة الرأي العام، ارتكب من الجرائم ما استطاع؛ إذ لا وازع له من دين أو ضمير، فعاشوا من أجل ذلك كله عيشة تعيسة لا يلطفها الأمل، ولا تريحها الطمأنينة.
إن الإنسان يتكوَّن من عقل وشعور، ولا يستطيع أن يعيش بدونهما، أو بدون أحدهما، ولا بد من إمدادهما بالغذاء الدائم، وغذاء العقل العلم، وغذاء الشعور الدين، والحياة على أساس العقل وحده والعلم وحده حياة خالية من عطف ورحمة وإنسانية، وفي ذلك البلاء المبين، وإذا كان الإنسان قد خلق وله عقل يتغذى بالعلم، وشعور يتغذى بالدين، يتبين لنا أن التدين من طبيعة الإنسان، كما أن العقل من طبيعته، ولهذا لازم التدين الإنسان منذ عرف تاريخه، بدويًّا أو حضريًّا في كل الأقطار والأقاليم، مهما اختلف مقدار رقيه، ومهما اختلفت أشكال عبادته ومعابده.
والدين يكوّن جزءًا هامًّا من مدنية كل شعب وحضارته، ويؤثر أثرًا كبيرًا في حركاته السياسية والاجتماعية؛ حتى في المدنية الغربية الحديثة مع إيمانها التام بالعلم وانطباعها بطابعه، لا يزال للدين الأثر البالغ في منازعها السياسية والاجتماعية، فعلاقة أمم النصرانية بعضها ببعض، وعلاقتها بغيرها من أهل الأديان الأخرى وفهمها الحقوق والواجبات والمبادئ التي تسيرهم في مجتمعهم وهكذا، كلها متأثرة بالدين، ومهما تنازع العلم والدين ودعا دعاة منهم إلى الإلحاد فإن الدين يمس قلوب الناس حتى الملحدين، وهم يأبون أن تتخلى قلوبهم عنه؛ لأن هذا هو فطرتهم وطبيعتهم، ومن تجرد منه أحس القلق والاضطراب إحساس مَن شُوِّهت طبيعتُه.
أساس الدين الإيمان بقوة فوق المادة، وفوق أن يدركها العقل، وأنها المدبرة للعالم، السائرة به إلى نهاية المنبع الذي تصدر عنه الأخلاق التي تنظم حياته من حيث هو فرد، ومن حيث هو عضو في مجتمع.
وفي هذا اتفقت كل الأديان تقريبًا وإن اختلفت في تفاصيلها وشعائرها.
هذا الدين على هذا الوضع كان سببًا في تقوية الروابط بين الجماعات والأمم، فكل جماعة تدين بدين، يؤلف بينها الدين، ويوثق بين أفرادها، ويشعرهم بالوحدة ويكون أساسًا بينهم للترابط والتعاون؛ وهذا سبب — من غير شك — يسلمهم إلى الرقي؛ كذلك كان الأمر بين أهل الديانات القديمة كديانة قدماء المصريين والصينيين، ثم بعد ذلك في اليهودية والنصرانية والإسلام، فإذا نحن عددنا من الروابط المدنية بين أفراد الأمة الواحدة اللغة والجنس والإقليم، وجب علينا أن نعد من أهمها رابطة الدين، وكما كانت كل رابطة من هذه الروابط سببًا في تقدم الجنس البشري، فكذلك كانت رابطة الدين.
ثم إن الدين أهم باعث على الأخلاق، فهو يدعو إلى الأخلاق دعوة حارة، دعوة ممزوجة بالعاطفة، ممزوجة بالإيمان، قد يدعو العقل والفلسفة والعلم إلى الفضيلة من حيث هي حق ومن حيث هي نافعة، ولكن دعوة الدين إليها أقوى؛ لأنه يسبغ عليها من روحانيته، ويربطها بالثواب في الدنيا والآخرة، ويربط بينها وبين الضمير فيجعلها مطلوبة لذاتها، ومطلوبة لثوابها، ولذلك كانت دعوة الدين إلى الأخلاق مناسبة للخاصة والعامة، بينما دعوة الفلاسفة والعلماء للفضيلة لا تناسب إلا الخاصة، ثم الفرق بينهما كالفرق بين ما يصدر عن العقل من نظريات علمية هادئة باردة، وبين ما يصدر عن القلب من حب ممزوج بالحرارة والقوة والحماسة، ولذلك كان تغيير وجه البشرية صدر عن رجال الدين أكثر مما صدر عن الفلاسفة ورجال العلم، بل إن الدين يمد الفلسفة والعلم والفن بروح منه، ويجعلها أقرب إلى إدراك الحق والجمال.
الدين هو الذي أنشأ المعابد تهتز فيها ولها قلوب الناس، وتتحرك عواطفهم في لذة واشتياق إلى هذا المعبود الذي فوق الطبيعة، وهو الذي حرك العواطف لإنشاء معاهد البر والإحسان والملاجئ والمستشفيات، فخفف بؤس البائسين وعوز المحتاجين، والدين هو الذي حرك نفوس الفنانين، فصاغت عواطفهم أروع الآثار الفنية من مساجد وكنائس ومعابد، وهز نفوس الأدباء، فأنتجوا لنا روائع الأدب الصوفي، والشعر الديني، والابتهالات التي تفيض بالعواطف وتسيل عذوبة ورقة، والدين كان عماد التربية والتعليم بفتح المدارس ونشر التعليم، وكانت الدراسة الدينية باعثة على الدراسة الدنيوية، وكان مثارًا للبحث والجدل، وبعث العقول على التفكير، سواء في تأييد العقائد أو تفنيدها، مما بث في العقول حياة لولاه لخمدت، واعتبر ذلك بالثروة الكبيرة في التأليف الديني وما حوله عند كل الأمم المتحضرة، واعتبر ذلك أيضًا عند المسلمين؛ فقد كان جمع اللغة لفهم القرآن، ودراسة النحو والصرف لتقويم اللسان للقرآن، ووضع علوم البلاغة لفهم إعجاز القرآن، وهكذا.
والدين هو الذي يتجلى في أسمى مظاهر الإنسانية ولا سيما في أوقات الشدائد، من عطف على الفقراء، ومواساة الجرحى والمنكوبين، ومن أصيبوا بزلزال أو بركان أو حريق أو غرق، فإذ ذاك تتحرك النفوس للنجدة يحدوها الدين.
فلنتصور — إذًا — ما يكون شأن الإنسانية إذا فقدت كل هذه النظم والمؤسسات والعواطف والمشاعر والأخلاق، إن العالم بلا دين عالم بلا قلب، إنه جفاف، إنه نظريات هندسية لا روح لها.
نعم … حدث في التاريخ أضرار كثيرة باسم الدين كالغلو في العصبية الدينية، وما نشأ عنها من تعذيب، وسفك دماء، واضطهاد، وكانتشار الخرافات في بعض الأديان، وكضيق النظر واضطهاد العلم والعلماء، والجمود على بعض النصوص إلى درجة التحجر؛ ولكن أكثر هذه الأضرار يرجع إلى فساد يعتري المتدين، أكثر مما يرجع إلى الدين نفسه … وإلى سوء فهم بعض رجال الدين أو مكرهم، أكثر مما يرجع إلى الدين نفسه.
وبعد؛ فالدين نعمة على المجتمع الإنساني، وهو طبيعة من طبيعة الإنسان، وخير الأديان ما سما بالعاطفة، وأوسع المجال للعقل، وبنيت تعاليمه على خير الفرد، وخير الإنسانية.